أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - فراديس الاهوار















المزيد.....

فراديس الاهوار


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 7036 - 2021 / 10 / 3 - 00:43
المحور: الادب والفن
    


الجزء الاول
مقامات الطين والقصب
في زيارتي الاخيرة الى مدينة سومر والتي دفن بها حبل سرتي هناك ما بين تخوم زقورة أور وصلصال نهر الفرات تاق الحنين لزيارة فراديس الاهوار ومقامات القصب والطين !!
في البدء قصدت زقورة أور مهد الحضارات والتي تعد من أعرق وأقدم المعابد التأريخية، فقد شيدت في زمن أعظم ملوك أور سنة 2100 قبل الميلاد (أور نمو)، وربما كان أحد أسباب بناء الزقورة وتعني المكان المرتفع في اللغة الاكدية هي بغية أن تكون واحة مقدسة لاستراحة الآلهة حين يحطون من رحلاتهم السماوية أو بعد زيارتهم للآلهة الاخرى، وكذلك لغرض أن تكون معبداً يقيم به السومريون طقوسهم الدينية لا سيما للآلهة إنيانا آلهة القمر.
وتضمنت الزيارة أيضاً الوقوف لدى (المقبرة الملكية) التي دفن بها الملك (شولكي) وبيت (النبي ابراهيم) ومعبد (دب لال ماخ) وبيت (إنخيدوانا) وهي أول شاعرة في التأريخ البشري واِبنة الملك العظيم (سرجون الاكدي) وصاحبة المجاميع الشعرية (تراتيل المعبد السومري)... (وترنيمة لإنانا).
ثم عبرت الفناء نحو القوس المعماري الذي توقفت تحت هيبته ورمزيته الخالدة المستوحى شكله من تكوينات
صرائف القصب (صرياثا) والمضايف... فبعد أن يحش السومري أجمة القصب بمنجله، ثم يجمعها ويرشها بالماء ويزيل عنها القشور ويجففها، في حضرة (آتو) إله الشمس ويجمعها على شكل حزم ويشدها بحبال مصنوعة من أوراق البردي ومن حبال ( الگنبار) أيضاً، وحتى إذا جاء موسم بناء المضيف ينصب (البيرغ) حينها وتصدح الأهازيج الحماسية وتعلن الدعوة لفزعة الرجال الاشداء لتثبيت دعائم (شبات) المضيف المتقابلة والمتناظرة مع بعضها في حفر بالارض ومن إنحناءات الشبات تلك والمدعومة بالهطارات المثبتة في جوانب المضيف والتقاءها مع بعضها في السقف أكتشف حينها شكل القوس لاول مرة في التأريخ ... إنها الترانيم الروحية والبصرية والجمالية لدى السومري لمحاكاة إله السماء (أنو) وهو يحتضن زوجته (كي) إلهة الارض في أوروك المقدسة، وحين يهيم العشق في غيوم (أنو) يمطر حينها شبقاً في رحم زوجته فيولد البردي والنخيل ويفيض الهور والرافدين خيراً وسلاماً.
عمل البنّاء السومري تصميم القوس ليشيده من طابوق الطين المفخور وليكون أول قوس في فن العمارة مستلهماً إيقونة القوس من إنحناءات مضيف القصب، وبعدها تطور شكل القوس باشكال مختلفة حتى تأثرت به حضارات قديمة أخرى واستعارته في بناء مدنهم ومعابدهم، أما في العمارة الاسلامية فتنوعت تصاميمه الجمالية وابتكرت حينها أقواس أخرى منها: المدببة، والنصف دائرية، والمفصصة، والحدوية، المستوحاة من شكل حدوة الفرس.
القوس يشكل عنصر هندسي مهم في فن العمارة وهو تكوين منحني يرتكز على داعمتين أضافة لباقي التكوينات والعناصر المعمارية الاخرى التي تساهم وتدخل في بناء المساجد مثل التيجان، العقد، المحراب، القبة، المآذن، والمنبر.
وفي الصباح الباكر حين تتثائب الشمس في سريرها الدافئ تتجلى المضايف وكأنها كاتدرائيات ذهبية تسكب إنعكاساتها البراقة على سطح الماء الناعس المزدان بالزنابق وزهور الاهوار الملونة ونباتات (الگعيبة) ويبقى الماء يغط في سكينته حتى مرور مشاحيف الصيادين وهم يجدفون الماء بغرافاتهم ومراديهم ويطروا كواهين القصب والبردي والچولان والحلفا، بينما طيور (الخضيري والحذاف والغطاس) تغوص وتنط من تحت الماء تبحث عن فرائسها من الاسماك وتحت أقواس الصرائف كانت النسوة تحضر خبز (الطابگ) فوق أقراص الطين والاخريات يقمن بتمليح أسماك (المصموطة) وتعليقها بخيوط تحت أشعة الشمس حتى تجف ، بینما الرجال یجلسون القرفصاء ویحلبون ضرّاع الجواميس فی دلائهم، وفي أعماق هور (الچبايش) تنشغل هناك أحد العوائل بتحضير (البواري) فالصبايا والفتيان يشتركون مع أمهاتهم في حياكة (البارية) من أعواد (ليط )القصب، بينما مهمة الاب كانت تتخصص بجمع وجلب حزم القصب بمشحوفه الى (الچبشة) الجزيرة العائمة فوق الماء، فيبدو جميع سكان الاهوار رجالاً ونساء وأطفالاً وحتى الشيوخ يعملون بجد ونشاط وكأنهم خلايا نحل يتوزعين بمهام مختلفة!!
أما النسوة الاخريات فهن منشغلات بين أجمات البردي يخرطن بذور زهرة (الضرابيط) بأكفهن المزينة بالوشم من رؤوس البردي الذي يسمى لدى السومريين (أربتو) في (موسم الخرّيط) من أوائل شهر آيار ويجمعن الطحين الاصفر في وعاء (الچبيسة) المصنوع من عيدان نباتات الحلفاء وسعف النخيل، كي يحضروا منه حلوى خرّيط الاهوار التي توارثوها من أسلافهم السومريين حين كانوا يمنحوها كعطايا الى كهان المعابد تقرباً وخشوعاً للآلهة.
الاهواريون يدللون مفردات البيئة فيمنحوها أسماء تتناغم مع محيطهم وتصوراتهم وأغلب التسميات كانت جذورها وأصولها تعود الى (سومر وأكد)، فاقوام (المعدان والشروگية) يرتبطون بجواميسهم (الحلال) بعلاقة وطيدة حتى يعدوها من ضمن أفراد أسرتهم وينعتونها بتسميات مختلفة منها: (البرشة والحوگة والگورة والنصبة والشطحة)، أما وسائل النقل المائي لسكان الاهوار فيأتي المشحوف في المقام الاول والذي أكتشفت آثاره الاولى على النقوش السومرية في الالواح الطينية وقد دونت حينذاك بأن الملك (گلگامش) صنع قاربه من القصب وطلاه بالقير، ثم مخر عباب الاهوار والبحار بحثاً عن عشبة الخلود ولملاقاة (اوتنابشتم) قبطان سفينة الحياة وسيد ملحمة الطوفان وكذلك (سيدوري) الحكيمة صاحبة حانة البيرة والنبيذ.
ويبقى للمشحوف أسماء حسب استعمالاته وتصميمه وحجمه، فأطلقوا على القوارب تسميات أخرى مثل: الدانك والطرادة والگعد والشختورة.
شيدت حضارة سومر من الطين وكان السومريون كهان الصلصال وحراس القصب يصنعون من الطين أوانيهم وجرارهم وقيانهم وسدانات الرز وخوابي القمح والشعير وفخارية الحِب لتبريد وتنقية ماء الشرب، والمچفاة وهي الغطاء الطيني الثقيل لحفظ اللبن والحليب في الأواني الطينية، والواوة لخزن الملح، وتنانير الطين... وحتى الاطفال كانت العابهم مصنوعة من الصلصال، وعلى سبيل المثال هنالك لعبة ربما أختفت في السنوات الاخيرة تدعى (الوذاحة) وهي عبارة عن عتلة طينية صغيرة مفخورة وتحتوي على ثقبين يدخل من خلالهما خيطين يسحبان ويرخيان طرفيهما المعقودان بواسطة الابهامين كي تدور الوذاحة بسرعة فائقة، وكان الاطفال يعملون على تكوين شكل الوذاحة من الطين الحرّي ثم يجفف وبعدها يفخر في تنانير الامهات حين يسجرن النار لشواء الاسماك والخبز.
منذ الالاف السنين عرف السومريين أهمية (نفاش البردي) ومزجوه مع الطين لمنح جدران البناء وصناعة الاواني والجرار قوة التماسك والبقاء، ولا يخفى على أهل الاهوار طلاسم الطين ومنذ بدء الخليفة وأين يتواجد بنوعياته المختلفة، سواء في أعماق الاهوار أو على ضفاف فراديس الماء أو منابع الطين الحري قرب مزارع الرز، مثلما هم يعرفون أيضاً أنواع القصب وأسراره وأستخداماته ومقاماته.
حين نقش أجدادهم الاوائل بحافة القصبة المدببة أول حرف فوق الرقيم الطيني وأخترعوا أول عجلة من الفخار وسنوا دساتيرهم وقصصهم وطقوسهم وعلومهم على الواح الطين وشيدوا معابدهم وقبورهم من الطوب والِلبن، وزرعوا الشلب في رحم الطين وحتى أحزانهم وفجائعهم مسكونة بروح الطين فهي تتنومس بلونه ورائحته وطعمه ويشترك معهم في المآسي والفجائع، فحين يموت منهم عزيز قوم أو شيخ يقومون بتطيين رؤوسهم ووجوهم وثيابهم ويلطمون وينوحون وقد توارثوا هذا الطقس منذ بكاؤهم على مأساة تموز وحتى اليوم حين تمر عليهم مناسبة مصاب واقعة الطف التي استشهد بها الامام (الحسين)، فيبرحون حينها صرائفهم ويودعون جواميسهم وأهوارهم في أربعينية الشهادة قاصدين كربلاء رجالاً ونساء سيراً على أقدامهم الحافية.
بقيت طقوس الاحزان والموت لدى سكان الاهوار شعائر متجذرة بعمق ومتوارثة منذ القدم السومري حين كانت (الگوالات) يرتجلن أناشيد الرثاء والمديح وسط النسوة الناحبات واللاطمات على أمواتهن وحتى التهويدات والترنيمات التي كانت ترتلها الامهات لغرض تهدئة وتنويم الاطفال هو بوح شجيّ ينم عن عاطفة تشوبها القلق من المجهول ومن الاقدار والغربة والفقد، وما زالت ترنيمة الطفولة (دللوه يلولد يبني دللوه... عدوك عليل وساكن الچول) وكأن صدى الشجن السومري وتنهيدة الام والملكة السومرية (شلوكي سمتي) أمتد منذ سلالة أور الثالثة حين كانت ترضع وتناغي وليدها الوحيد والعليل لتتوارثها وتكملها ترانيم الامهات العراقيات بأحزانهن اليوم في الاهوار والقرى والبوادي والجبال والمدن حين يتناسل الحزن ويبقى أبدياً كأبدية الرافدين والاهوار والمضايف رغم الاهوال والظلم والتجفيف والابادة التي مرت على تلك الاقوام الرابضة فوق جراحها ووجودها وهي تكافح وتتحدى من أجل البقاء.



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوريكة
- مقامات المدن والموسيقى
- مقامات الموسيقى والمدن
- مدينة الرياح وأساطير البحر
- مراكش/ رحلة في أروقة الگناوة
- مراكش وهارمونية الاطياف الحضارية / الجزء الاول
- حكايات من جزيرة الواق واق / الجزء 5
- حكايات من جزيرة الواق واق الجزء/ 4
- حكايات من جزيرة الواق واق / الجزء / 3
- حكايات من جزيرة الواق واق/ الجزء /2
- حكايات من جزيرة الواق واق
- مكابدات الرحّال / الجزء الأخير
- مكابدات الرحّال / الجزء السابع عشر
- مكابدات الرحال / الجزء السادس عشر
- مكابدات الرحال / الجزء الخامس عشر
- مكابدات الرحال / الجزء الرابع عشر
- مكابدات الرحال/ الجزء الثالث عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء الثاني عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء الحادي عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء العاشر


المزيد.....




- علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي ...
- استقبل الآن بجودة عالية HD.. تردد روتانا سينما 2024 على الأق ...
- -انطفى ضي الحروف-.. رحل بدر بن عبدالمحسن
- فنانون ينعون الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
- قبل فيلم -كشف القناع عن سبيسي-.. النجم الأميركي ينفي أي اعتد ...
- بعد ضجة واسعة على خلفية واقعة -الطلاق 11 مرة-.. عالم أزهري ي ...
- الفيلم الكويتي -شهر زي العسل- يتصدر مشاهدات 41 دولة
- الفنانة شيرين عبد الوهاب تنهار باكية خلال حفل بالكويت (فيديو ...
- تفاعل كبير مع آخر تغريدة نشرها الشاعر السعودي الراحل الأمير ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 158 مترجمة على قناة الفجر الجزائري ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - فراديس الاهوار