آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 5533 - 2017 / 5 / 28 - 16:35
المحور:
الادب والفن
"من المؤكد أن رقم خمسة مليارات فرنك لا تعني لكم شيئًا؟
طيب. فتعلموا إذن أن هذا المبلغ الذي اقترضته تركيا إلى يومنا هذا من القوى الغربية. والحال أنها لم تتسلم إلا ثلاثة مليارات. هل تعلمون لمَ؟ لإن المليارين المتبقيين ذهبا إلى جيوب الوسطاء الغربيين وإلى مختلف البنوك. وإذا أخبرتكم أنه وبغض الطرف عن هذا القرض, وضعت أغلب الأموال الأوروبية في مختلف مؤسسات البلد, في السكك الحديدية, والمرافئ, والمناجم, والتبغ. مهما بلغت قوة تخيلكم, ستعجزون عن إدراك حجم الاستثمارات التي تمثلها".
في رواية يريفان, يجري هذا الحوار بين مدير البنك الأمبرطوري العثماني, أبوانو, وأحد الفدائيين الأرمن الذي اقتحمه من أجل تسليط الضوء على قضيته في العام 1894, مذكرًا أياه:
ـ إن فرنسا, دولة حقوق الإنسان, فيرد عليه أبوانو:
ـ إن الاستثمارات هي ثمن دم الشعوب.
وبهذا النص الواضح, يسلط المؤرخ والروائي الفرنسي جيلبرت سينويه الضوء على الإبادة التي تعرض لها الأرمن في الفترة الحميدية، والاتحاد والترقي، في السلطنة العثمانية، خلال العقدين الأخيرين من سقوطها.
ما أجمل الأدب, عندما يتحول إلى شعاع نور, ينير للبشر قذارات السياسة والسلطة. إنه الأقدار على هز عرش السياسة, على الدخول في ممراتها المظلمة, وتعرية النفاق المحلي والدولي, وشبكة العلاقات التي تحكم علاقة رجال المال والسلطة, تماسكهما البرغماتي, دون أن يعنيهم قومية أو دين, أو قضايا عظيمة, بله عندما يحولون مصائر الناس إلى مجرد أرقام لحساباتهم المالية في البنوك والاستثمارات الما بعد وطنية.
يدخلنا سينويه, عبر روايته المعنون باسم يريفان, دون ملل إلى عمق المأساة الإنسانية للقومية الأرمنية التي تعرضت للزوال من أرضها التاريخية التي عاشت عليها آلاف االسنين, دون سبب واضوح. ففي سياق الرواية نكتشف أن الأحزاب الأرمنية, الطاشناك مثلا, كان إلى جانب الحكومة في قراراتها ومواقفها, ولم يبان أن هناك من هو ضدها. تسرد الرواية على لسان شخوصها أن هناك نوايا مبيتة, جرى الأعداد لها من قبل الحكومة العثمانية, بعد سلسلة هزائم السلطنة في أكثر من مكان, وخسارتها البلقان بالكامل, وهوسهم في بناء مشاريع جنونية بعيدة المدى, دولة طورانية تمتد من استانبول وتستمر لتلتحم بكل الدول الناطقة بالتركية, والتخلص من الأرمن الموجودين في وسط أحلامهم المريضة, في وسط الأناضول.
تدخل الرواية إلى حيوات الناس, بساطتهم, العمل, الحب, الانجاب, الزواج, التواصل الطبيعي بين البشر, الأرمن والأتراك والأكراد, الزيارات المتبادلة, الذهاب إلى الكنيسة, والأعراس والحفلات التي تجمعهم. وتدخلنا في تفاصيل العلاقات الدولية وتشابك خطوطها, الحرب العالمية الأولى, قرار الإبادة الذي اتخذ, قبل تسعة أشهر من تنفيذها. يبين سينويه, كيف يسحبون هويات الأرمن جميعًا, جوازات سفرهم, السلاح إذا كان موجودًا, وتعاملوا مع النواب الأرمن, الأربعة عشر بشكل طبيعي, إلى أن أخذوا القرار دون رحمة أو شفقة على طفل او امرأة أو شيخ, أدخلوا الجميع في قافلة تمتد من الأطراف الغربية للأناضول وبقية المدن التركية بدءا من استانبول أو غيرها, باتجاه سوريا والعراق.
في البدء أعدموا الرجال دون أن يرحلوهم, ثم ساقوا النساء والأطفال والشيوخ في قافلة مشيًا على الأقدام مسافة آلاف الكيلومترات, هناك من مات من الجوع أو العطش, أو التعب, ومن وصل إلى النهاية ولم يمت تم حرقه أو رميه في الأنهار أو اغتصابهم ثم قتلهم أو رميهم بالرصاص.
تعمل الرواية وفق محاور متعددة, متسلسلة, وكل محور على صلة بالذي قبله, بأسلوب شيق, بسيط ودون كلفة أو شرح طويل, بيد أن الترجمة سيئة جدًا, فالأسماء كتبت بالخطأ, وهناك عدم معرفة المترجم لخارطة الشرق, أسماء المدن والشخصيات, وأحيانًا يشوه الأماكن والأحداث.
من سخريات الأقدار, وفجاجته أن يتحاور أهم رجال تركيا, قبيل الحرب العالمية الأولى في الحمام, في أهم وأخطر مرحلة مرت على السلطنة. يتحممون ويدلكون, ويضحكون ويقررون أخطر القضايا المصيرية دون العودة إلى البرلمان أو الحكومة أو المجتمع أو وضعهم في الصورة. من خلال سياق الرواية نتعرف على ما قاله جمال باشا بصيغة سؤال:
ـ في أي معسكر سنقرر الالتحاق؟ ويكمل, الخزينة فارغة, وسائلنا في الاتصال محدودة, والحلفاء مسيطرون على البحار. يرد عليه طلعت:
ـ إننا نستعد لأن نوقع مع ألمانيا اتفاقية تحالف دفاعي. عليك يا جمال ألا تغفل أن السعي.. وراء تصورنا الوطني لشعبنا وحزبنا يدفعنا إلى إلى تدمير العدو والحصول على حدود طبيعية تمكننا من الوحدة مع كل أخواننا في العرق.
يقصد بالعدو هم الأرمن.
وتسلط الرواية الضوء على هيمنة رجل واحد على الدولة والمجتمع, وأخذه قرار خطير, هو الدخول في حرب الأمبرياليات العالمية لتقاسم النفوذ والمصالح, بدولة ضعيفة, عالم ثالثية, لا مكان لها بين الكبار, فورط السلطنة كلها في حرب دمرتها وسحقت أجزاء هائلة منها, كالدول العربية وقبلها البلقان, ثم إبادة قومية كاملة, ولو استمر الأمر على ما كان عليه, لاباد, الروم واليونانيين والأكراد.
الرواية تجعلنا نتعرف على الاستبداد السياسي المحكوم باستبداد ثقافي. وتكشف لنا مقدار رخص حيوات البشر عندما يتحكم بعض المجرمين بجهاز الدولة ويسيروها وفق أهواءهم وأراءهم المريضة.
جميع الشخصيات التي تناولتها الرواية حقيقية, والأسماء والتواريخ, مما يجعلها مرجع حقيقي لتجربة حقيقية..
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟