غسان صابور
الحوار المتمدن-العدد: 4034 - 2013 / 3 / 17 - 23:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
رسـالـة وداع إلى صـديـق
هذا اليوم, وأكثر من أي يوم آخر, شعرت بالأسى والحزن والألم على بلدي المفجر المشتت المنكوب.. ســـوريــا. والسبب الرئيسي أن أحد المواطنين السوريين والذي أعرف أهله في سوريا وقسما من عائلته التي تعيش في فرنسا. هذا المواطن السوري والذي جاء من سوريا من حوالي ثلاثة أشهر, إلى فرنسا, هاربا من التفجيرات والأزمات القتالية التي تعيشها المدينة السورية التي يقيم فيها منذ خمسة وخمسين سنة, والتي كانت منذ بداية الأحداث, أكثر المدن السورية نكبة وقتالا وتفجيرا واغتيالات وقنصا ورعبا, وخاصة فقدان كل العنايات الطبية. وبما أنه مريض وبحاجة إلى علاج.. جاء إلى فرنسا لزيارة أخوته, وللعلاج...فـتـعـالـج وشفي تماما... وكان بإمكانه البقاء, كما بإمكانه الحصول على إقامة طويلة الأمد.. والعمل بالتجارة وغيرها...بالإضافة أن أخوته هنا يمكنهم مساعدته ماديا, للانطلاق من جديد.. ولكنه فضل العودة.. رغم أنه لم يعد يملك أي شيء في مدينته المهدمة, لا بيت, لا عمل, لا مورد ولا زوجة أو أولاد... ولكنه لم يستطع متابعة العيش هنا... إذ اجتاحته النوستالجيا أو الحنين لبلد مولده المتهدم, غالبا بلا كهرباء ولا ماء, ولا حياة .. سوى أصوات الرصاص والتفجيرات.. والتناحر بين الأطراف المتحاربة, من الجيش النظامي, وبين المقاتلين المختلفي الجنسيات الذين ملأوا البلد, بحثا عن الجهاد. حيث أصبحت سوريا منذ شهر آذار 2011 مكة الجهاديين والمرتزقة المحترفين من كافة أصقاع المعمورة.......
لم أكن أنتظر سفره على الإطلاق, وكنا على موعد لقاء مساء السبت القادم.. ومن لحظات اتصل بي من مطار ليون ليودعني, متمتما كلمات متقطعة, أنه وجد طائرة تنقله إلى مدينة حدودية من سوريا.. آملا وجود واسطة نقل إلى مدينة مولده.. حيث ولد وعاش حياته, رغم الضائقة والأخطار التي تعيشها هذه المدينة. قائلا بكلمات مخنوقة أنه رغم الرفاهية والأمن والسلوى والعلاج الذي يعيشه هنا بين أخوته, لا يمكنه أن يغادر وطنه وبلده وأهل هذا الوطن وشعبه... وأنه يختنق لعدم مشاركتهم ضيقهم ومعاناتهم. كل هذا بالرغم من أنه عاش كل حياته دون أي التزام سياسي بأي شكل من الأشكال. كغالب سكان سوريا, خلال الخمسين سنة الأخيرة وأكثر. لأنه ما من أحد يجهل أن أي نشاط سياسي أو فكري, كان ممنوعا ومشبوها, مهما كانت بساطته وسلامته وبعده عن التحرك الفعلي. حيث كان مبدأ الموالاة بشكل آني للحزب الواحد الحاكم, بانتساب رسمي أو غير رسمي, واجب طبيعي, كالولادة والانتساب الطبيعي إلى الأديان الممارسة في سوريا... دون أية إمكانية لاعتناق أي مذهب آخر.. أو اختيار عدم الارتباط بمذهب ديني.
كان إنسانا عاديا.. مثل غالب السوريين. يعيش باطمئنان (ولم أستعمل كلمة يحيا) يعمل ويجد ويبني عمله ومؤسسته بانتظام, كساعة سويسرية.. وهذا العمل الناجح المنتج, كان يشغل كل وقته وحياته. حتى أنه لم يترك له الوقت اللازم لاختيار شريكة حياة والزواج.. لهذا السبب ليس لديه أولاد. كان عمله وعماله هما عائلته وحياته وانشغالاته الوحيدة. وكانت التزاماته تجاه زبائنه وتأمين رواتب عماله, شاغله الوحيد, منذ تأسيس شركته.. وكانت شاغله وهمه وقلقه المتزايد أثناء مرضه ومجيئه إلى فرنسا.
لهذا السيب عاد هذا اليوم. عاد لأن له التزامات مع وطنه المتعب. لم يعد لأسباب حماسية أو سياسية أو مادية.. أو أشياء طبيعية أخرى مقبولة. إنما لأنه مواطن سوري عادي, يحب وطنه ومدينته وطبيعة معيشته. مهما كانت الأخطار والممنوعات والصعوبات.
قد يستغرب البعض لماذا أرى في حياد هذا الإنسان, وقبوله الصمت عما يجري في البلد, خلال السنوات الطويلة الماضية... أو لم يكن هذا أمر طبيعي؟؟؟... عدم التدخل بأمور طريقة الحكم والسلطة شيء طبيعي, لدى غالب مواطني هذا البلد؟؟؟... أو حتى لدى من تبقى مما يسمى الأنتليجنسيا التي تستطيع التفكير, واضطرت للمساهمة بالتأليه والتصفيق والمديح والموافقة والتطبيل والتعييش.. حتى تعيش؟؟؟!!!... وعودة صديقي هذا اليوم إلى بلده في سوريا.. في نظري عمل بــطــولــي........
لذلك, هذه الساعة المسائية, من أعمق أعماقي, يا صديقي بديع (اسم مستعار) أحييك, وأرفع لك قبعتي احتراما.. وأشعر أننا أنت وأنا, رغم الأيام القليلة التي عشناها معا هنا في هذه المدينة الفرنسية الكبيرة الرائعة, أن صداقتنا هذا اليوم, بعودتك, وصلت إلى ذروة الكمال والاكتمال. وأنني لن أنساك. وأنه لن يمكنني نسيانك ومتابعة أخبارك في بلدنا الحزين والمغمور بتسونامي من المآسي والأخطار والرعب والموت, بلا حدود ولا سبب شــرعي.. سوى مطامع الأغبياء والخونة. وسوف أحزن عليه وعليك إذا لم أجد وسيلة يومية للاطمئنان عنكما... آملا أن يعود إليه العقل والحكمة.. أن يعود إليه الأمان والسلام.. وخاصة أن تعود المصالحة الصادقة الأمينة بين السوريين والسوريين. وأن نبعد الحقد والبغضاء اللذين زرعتهما جماعات لا يمكنها العيش دون حقد وبغضاء... أن يعود لهذا البلد جماله وحضارته وتآخي شعبه الذي اعتدنا عليه منذ سنين طويلة, قبل تسلل البرابرة والتتر إليه...
بهذا وحده أطمئن عنك وعنه يا صديقي... ومن يدري.. قد نلتقي هناك بمقهى على شاطئ اللاذقية, أو بمقصف في حلب أو دمشق أو حمص.. مع كأس عرق بلدي... يعني حياة طبيعية...
من يدري؟؟؟... من يدري يا صديقي.. من يدري؟؟؟... من يدري كيف ستكون نهاية النهايات... بعدما رأينا الفظاعات والمآسي وتطبيق الدساتير والشرائع التي لا علاقة لها على الإطلاق بمطالب التغيير والحريات العامة, في جميع البلاد الأخرى التي اندلعت فيها انفجارات وانقلابات وثورات, سميت ــ ألف مرة خطأ ــ الربيع العربي!!!.........
وســـوريــانـا... ســوريانـا الحبيبة؟؟؟... ما مصيرها؟؟؟...
وللقارئات والقراء الأحبة كل مودتي وصداقتي ومحبتي.. وأطيب تحية مهذبة.
غـسـان صــابــور ــ ليون فــرنــســا
#غسان_صابور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟