أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 21















المزيد.....

أسير العبارة (رواية)- 21


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2885 - 2010 / 1 / 11 - 00:25
المحور: الادب والفن
    


مضت أشهر عديدة لم يتح لي خلالها رؤية ياسر كوكو. كنت قد قررت في أعقاب نوبة البكاء تلك أن أقطع صلتي به نهائيا. فعلت ذلك من دون أدنى تأنيب ضمير. "الناس تغادر المراكب الغارقة". لم أكشف له في ما تبقى من ذلك المساء سر بكائي. تركته يصارع قدره وحيدا. لم أخبره حتى بمأزق وجوده في هذا العالم. استجمعت شتات نفسي بصعوبة. واصلت معه الرحلة إلى "بورتج بليس". لكأن شيئا لم يحدث. كان المنفيون الغرباء يتحدثون حديثا فاترا مليئا بمرارة بدت لي غريبة عن لؤم الفلبينيين في أماكن العمل. كنت أنظر إليه من آن لآخر نظرتي إلى رجل ميت. كان قد شرع يحدثهم في ذلك المجلس عن رغبته في إقامة مشروع تجاري صغير في السودان. كنت أعرف أنه يسعى إلى شراء ماكينة لتصليح الأحذية. سأله عادل سحلب بتثاؤب وضجر إن كان قد أقام دراسة جدوى أم لا. قال له قم أنت بالدراسة لنفسك وأترك لي مهمة الشراء لنفسي. أعجبني رده برغم شبح المأساة. تقبل عادل ما بدا مهينا لمثله في صمت. كان يدرك تماما أن كل ما كسبه في الماضي من معارف وثقافة ودهاء سياسي قد آل في ظل لغة لا يعرف حتى أبجديتها إلى شيء لا جدوى منه. كان ياسر يطيب له في أحيان كثيرة أن يمازحه ضاربا على كتفه كزميل في مهنة هامشية أخرى مؤكدا له في كل مرة أنهما لو ظلا معا في الوطن لما ألقى عليه مجرد تحية عابرة. كان عادل سحلب يعمل في مطعم فخم متخصص في الدجاج المشوي يدعى "سويس شاليه" كغاسل للأطباق. مطعم يؤمه عادة المتقاعدون من البيض وبعض المحتفلين بمناسبات خاصة. مطعم مزدحم تسع قاعته لأكثر من خمسمائة زبون يتم خدمتهم في لحظة واحدة. كان يقف يوميا لمدى ثماني ساعات وسط أرتال من الأطباق والملاعق والشوك والأكواب المتسخة وقد غمرته أبخرة حارة تتسرب من الغاسلات الآلية على مدى ساعات خدمته. كان يعود إلى شقته بقدمين متورمتين ورأس محترقة ونصف دزينة من بيرة باردة تسمى "مولواكي آيس". يسند ظهره إلى كنبة في الصالة. يمدد قدميه على استقامتهما. يغمض عينيه ويبدأ يرتشف من علب البيرة مباشرة. يظل على هذا الحال نحو الساعة قبل أن يمسك سماعة الهاتف ويتسقط أخبار المنفيين الغرباء. لقد بدأت أدرك شيئا فشيئا أن عادل سحلب ضرب خصوصيته التي كان يتمتع بها في القاهرة كسياسي واعد لسبب بسيط: لقد كان في حاجة دائمة لرفيق سكن يقرأ له الفواتير والمكاتبات الحكومية ويذلل له بعض الصعاب في تعامله مع البنوك ومؤسسات أخرى. لقد بدا لي في كثير من جلسات السُكر التي جمعتني به على نحو خاص أوضمن آخرين أن إعادة قصة علاقته مع مها الخاتم هي الشيء الوحيد الذي ظل يستند عليه كعلامة من الماضي السعيد على تفوقه ودهائه.
في ذلك المساء الجليدي، فتح لي الصيني باب الشقة منحنيا، شعرت وكأني في بداية مسرحية هزلية، كان قرار بقائه ساقيا في ذلك النادي الليلي قد اقترب كثيرا. خلعت لوازم الشتاء الثقيلة عند المدخل المعتم. كنت أتبعه عبر طرقة صغيرة مفروشة بسجادة شرقية حمراء باهتة إلى الصالة. هناك رحب بي عادل سحلب مشيرا لي بالجلوس على مقعد قبالته. الصيني جلس بيننا في صمت متوسطا المائدة الصغيرة. كان على المائدة مطفأة زجاجية متوسطة الحجم وولاعة فضية وُضعت بعناية فوق عُلبة "بنسون آند هديجز" لم يفض غلافها الشفاف بعد وزجاجتا "فودكا" و"ريد ليبل" وكأسان طويلتان ضامرتان عند المنتصف ضيقتان عند القاعدة المصقولة المصمتة وآنية تحمل قطع ثلج في شكل مربعات صغيرة. لم ينس الصيني لبراعته تقسيم تفاحتين حمراوين إلى أربعة أجزاء اتخذ كل منها شكل زهرة اللوتس وقد أحاطها داخل آنيتها ببرواز في هيئة قلب قام بصنعه من زيتون أخضر محشو وكان هناك زجاجة مياه معدنية قال عادل سحلب أنهما أحضراها لي على وجه الخصوص أما هو فكان لا يطربه عند مكابدة الحنين سوى أبيات أبي نواس:
أثْـنِ على الـخَمْـرِ بآلائِهـا وَسَمِّهـا أحـسَـنَ أسْمـائِهَا
لا تـجْعَـلِ الماءَ لَها قاهـراً وَلا تُسَلّطْهـا على مَـائِهَا

قلت في سري "ليس بيننا الصيني، ليست بيننا مائدة عامرة بمتع هذا العالم، بيننا جثة أهيل عليها تراب الذكريات تدعى مها الخاتم، وهذه ليلة القتلة الطلقاء".
"نُهدي هذا الفلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية (أحياء)".
طوال الطريق، إلى شقة عادل سحلب، ظلّ يشغلني أمر التفكير في تلك العبارة، أنا كائن العبارات وعاشقها المتيم. أسكن فيها، أوتسكنني لفترة طويلة، لا أغادرها إلا وقد صارت جزءا لا يتجزأ من تكويني الروحي والنفسي. "هل أنت حزينة، يا أماندا"؟. في تلك الليلة، لم تجب على سؤالي. طلبت مني فقط أن أملأ الكأس إلى حافتها. تجرعتها دفعة واحدة وأخلدت إلى صمت عميق أخذت تتفتق خلاله في داخلي تلك الجراح المتقيحة واحدة واحدة. حين نامت أخيرا، عنّ لي أن أرفع صوت التلفاز قليلا، كانت قناة الأفلام قد بدأت تعرض فلما عن مجريات الحرب العالمية الثانية، لا أتذكر اسم ذلك الفلم الآن، لا أتذكر حتى أحداثه، ولم تمض من مشاهدتي له سوى أيام قلائل، فقط أتذكر جيدا تلك العبارة التي ذيَّلت خاتمته، عبارة جاءت في أعقاب أحداث الفلم المصورة وأعقبت حتى تلك القائمة الطويلة بأسماء الأفراد والمؤسسات الذين شاركوا في ذلك الفلم. لقد بدت للوهلة الأولى مجرد عبارة هامشية مهملة. "نُهدي هذا الفلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية (أحياء)".
حين فرغت من تأملها أول مرة، أطلقت "أماندا" في نومها ضرطة مكتومة طويلة، بينما أخذت الأشياء تتضح وراء نوافذ غرفة النوم الزجاجية الواسعة، وكان التعب قد بلغ بي منتهاه. "الشهداء وقود الحياة المترفة للسادة الأماجد". يقول مسكوت العبارة. إذا فرض الأمر علينا في صورة حرب مثلا لا بد أن نخرج منه في نهاية المطاف منتصرين. هي حياة واحدة. الوغد، ميلان كونديرا، في "خفة الكائن التي لا تحتمل"، أشار بأسى إلى أن الحياة عبارة عن كرة قدم، ولكن "للأسف بغير تمرين". يعجبني التعامل مع الحياة كلُعبة. يبدو لي الآن أن مفردات غامضة، ومتسمة بالإغراء غالبا، مثل "التضحية" و"الفداء" و"الموت في سبيل الوطن"، ليست سوى حزمة أكاذيب اخترعها "السادة الأماجد". ربما لهذا شغفت لسنوات عديدة بعبارة ألبير كامي التي مثَّلت عصارة بحثه في أسطورة سيزيف "إن الإنسان وُلِدَ ليحيا، ولم يُولد ليموت، ولذلك فان أجمل ما في الحياة هي الحياة".
أدرك الآن، وعبر حدس ما، أن الكثيرين، ممن شاهدوا الفلم آنذاك، قد أغفلوا قراءة تلك العبارة ذات المضمون الانقلابي الخطير، لا لعجلتهم فقط، بل لأنها جاءت في أعقاب المشاهد المصورة. المفارقة، كما يوحي سياق العبارة هذا، أن جوهر الحياة "الصاعد"، أولبنة المعنى "المفتقدة"، أووجه الواقع "البديل"، يُوجد غالبا داخل هذه الأماكن اللامرئية. ما يبدو، للوهلة الأولى، هامشيا متباعدا، بل ولا قيمة له، ما هو في أحيان كثيرة سوى ذلك الجزء الضائع من هيكل سعادتنا، والذي نبحث عنه غالبا في غير موضعه.
هكذا بدأت أعي أخيرا ثراء الهامش، ذلك الحيِّز المستتر خلف رتابة العادة، المحتجب وراء المركز وبريقه.
في القاهرة، كنت حين أعبر ميدان التحرير، وأرى حسناء تتهادى على طريقة "واثق الخطو يمشي ملكا، أصرف بصري عنها، وأبحث على الفور حولي، لا لمانع أوعزوف ذاتي، بل لكي أراها من زاوية ذلك "الهامش"، من خلال عين أحد أولئك الجنود المعدمين الفقراء، الذين يحرسون ليل نهار مداخل البنايات الحكومية والتجارية الضخمة، ربما بدا في نظراتهم الحسيرة جمال أنبل وأبقى في الزمن من جمال تلك الفتاة.
حين أفعل ذلك، كنت أحس في قرارة نفسي، وكأن الكون بأجمعه سمفونية بالغة الاتقان، من وضع فنان قدير مثل بتهوفن، لا شيء زائد فيها، لا نشاز هنا أوهناك، لكل نغمة معنى، ولكل إنسان قيمة، هدف، وجود، وخيال يحقق ما حالت من دونه الأيام.
ثمة أفلام عديدة متقنة، مثل أفلام "ستيفن سبيلبيرج"، عالجت موضوعة الحرب أوالموت الجماعي بمهارة، لكن جوهر هذا الفلم وجماله يقعان في احتفائهما المدهش بثقافة الحياة "خارج" الفلم نفسه لا "داخله"، أي هناك، عند تخوم تلك العبارة الهامشية تحديدا: "نُهدي هذا الفلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية (أحياء)".
كنت أشعر، وأنا أطرق باب شقة عادل سحلب خلال ذلك المساء الجليدي، وكأن الفلم برمته لم يكن في نهاية المطاف، سوى مقدمة طويلة لا غنى عنها لقول تلك العبارة.




#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسير العبارة (رواية)- 22
- أسير العبارة (رواية)-23
- أسير العبارة (رواية)- 24
- أسير العبارة (رواية)- 17
- أسير العبارة (رواية)- 15
- أسير العبارة (رواية)- 16
- أسير العبارة (رواية)- 14
- أسير العبارة (رواية)- 2
- أسير العبارة (رواية)- 3
- أسير العبارة (رواية)-4
- أسير العبارة (رواية)- 5
- أسير العبارة (رواية)- 6
- أسير العبارة (رواية)- 7
- أسير العبارة (رواية)- 8
- أسير العبارة (رواية)- 9
- أسير العبارة (رواية)- 10
- أسير العبارة (رواية)- 11
- أسير العبارة (رواية)- 12
- أسير العبارة (رواية)- 13
- أسير العبارة (رواية)- 1


المزيد.....




- المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان
- تحديات المسرح العربي في زمن الذكاء الصناعي
- بورتريه دموي لـ تشارلز الثالث يثير جدلا عاما
- -الحرب أولها الكلام-.. اللغة السودانية في ظلامية الخطاب الشع ...
- الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي.. ما حكايتها؟
- -موسكو الشرقية-.. كيف أصبحت هاربن الروسية صينية؟
- -جَنين جِنين- يفتتح فعاليات -النكبة سرديةٌ سينمائية-
- السفارة الروسية في بكين تشهد إزاحة الستار عن تمثالي الكاتبين ...
- الخارجية الروسية: القوات المسلحة الأوكرانية تستخدم المنشآت ا ...
- تولى التأليف والإخراج والإنتاج والتصوير.. هل نجح زاك سنايدر ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 21