أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - كاظم حبيب - هل سيتعلم القطب الأوحد من دروس العراق وأفغانستان؟















المزيد.....


هل سيتعلم القطب الأوحد من دروس العراق وأفغانستان؟


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 591 - 2003 / 9 / 14 - 05:05
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


 

كانت فرحة الشعب العراقي عظيمة وغامرة بسقوط نظام الاستبداد والعنصرية والمقابر الجماعية ونهاية فترة عصيبة من تاريخ العراق السياسي الحديث دامت أكثر من أربعة عقود, نهاية أشرس دكتاتورية عرفتها المنطقة في القرن العشرين, ولم يكن خطر هذا النظام ورأسه على الشعب العراقي فحسب, بل على البلدان المجاورة والمنطقة بسبب أطماعهما التوسعية وذهنيتهما العسكرية وعدوانيتهما وروحهما الانتقامية. ولم يكن سقوط النظام وحده قد جلب الفرحة للشعب العراقي, بل تحرر الشعب, بعربه وكرده وتركمانه وآشورييه وكلدانه, من السجن الكبير وتمتعه بالحرية والديمقراطية التي حرم منها عشرات السنين. وليست المظاهر الجديدة مثل حرية النشر والصحافة والتظاهر والإضراب والاحتجاج والتنظيم الحزبي والمهني وبروز جديد لمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية سوى البداية على طريق استكمال الحياة الدستورية والمؤسسات الديمقراطية واستعادة العراق لسيادته واستقلاله الوطني.  
وكانت فرحة الشعب الأفغاني هي الأخرى كبيرة جداً حين تم إسقاط نظام طالبان-القاعدة في أفغانستان, نظام القرون الوسطى والتخلف والدوس على كرامة الإنسان, وخاصة المرأة, والبؤس والتعصب الديني الأهوج والدم. وليس من شك في أن المجتمع الأفغاني, بالرغم من تخلف الوعي السياسي والاجتماعي فيه, فأنه يتطلع لأن يعيش في ظل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وأن يستعيد استقلاله وسيادته الوطنية ويتخلص من فلول النظام المنهار والجماعات المتطرفة والإرهابية.

والإشكالية في هاتين التجربتين تبرز في حقيقة أن هذين النظامين لم يسقطا تحت ثقل نضال شعوبهما وقواهما السياسية الديمقراطية, بل عبر حرب خارجية شنت ضدهما. ولهذا الواقع استحقاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية التي تواجه شعوبهما حالياً. كما أن التجربتين تؤكدان جملة من الدروس التي يفترض أن تؤخذ بالاعتبار في العلاقات الدولية وخاصة من القطب الأوحد في العالم, خاصة وأن البلدين ما زالا يعيشان ظروفاً مشابهة لظروف الحرب والمعاناة كبيرة جداً وقاسية على الشعبين والعمليات التخريبية والإرهابية مستمرة ومتصاعدة رغم ادعاء البعض بغير ذلك.
 
إن الدرس الأول والأساسي على الصعيد الدولي يتلخص في أن الحرب ليست الوسيلة السليمة والمناسبة لمعالجة المشكلات الدولية والإقليمية, أو الإجهاز على نظم دكتاتورية شرسة مثل النظامين اللذين سادا في العراق وأفغانستان. فالحرب ليس من شأنها معالجة المشكلات بقدر ما يمكن تعقيدها وخلق مشكلات إضافية لا حصر لها. كلنا يعرف بأن نظام طالبان – القاعدة, الذي سقط في الحرب جاء بفعل تعاون وثيق بين الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الأخرى. وأن هذا النظام كان منذ البدء معروفاً بسلفيته وتطرفه واعتماده المذهب الوهابي الأكثر تشدداً وتخلفاً حتى مما هو سائد في السعودية ذاتها حيث نشأ فيها المذهب الوهابي (نسبة إلى محمد عبد الوهاب), وأن هذه القوى تعززت مواقعها بفعل المساعدات المالية والعسكرية من قبل تلك الدول حتى سقوط الاتحاد السوفييتي. بعد ذاك غيرت الولايات المتحدة مواقفها من هذه المجموعة الإرهابية المتطرفة التي مارست الإرهاب في أفغانستان والجزائر ومصر وفي العديد من الدول العربية وتمارسه اليوم في الفلبين واندونيسيا وفي غيرها من البلدان العربية وغير العربية, وهي التي نظمت عمليات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 مستفيدة من غفلة أجهزة الأمن والمخابرات الأمريكية التي لم تُعاقب حتى الآن على إهمالها وتقصيرها, مما يدفع ببعض الناس إلى التشكيك في مدى معرفة أو ضلوع بعض العناصر أو الأجهزة الأمريكية في تلك الجريمة البشعة.
حددت قوى طالبان – القاعدة هدفها المركزي في الرحلة الراهنة, وفق آخر تسجيلات قادة هذا التنظيم الإرهابي, إثارة المشكلات بوجه الإدارة الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان وفي مناطق أخرى أيضاً ومنها تأجيج الوضع في مجمل الشرق الوسط وفلسطين. ويبدو لي بأن الولايات المتحدة عاجزة حتى الآن عن مواجهة هذه النشاطات لأنها لم تتحرك بالصيغة والوجهة والتنظيم والتنسيق المطلوبة لمواجهة هذه القوى السلفية المتطرفة والإرهابية وبالتعاون الكامل والمخطط مع مختلف بلدان وشعوب العالم. كما أن الولايات المتحدة مارست سياسات داخلية أمنية مشددة ضد العرب والمسلمين في أعقاب الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 قد أثارت الاستياء الكبير وحفزت قوى أخرى للالتحاق بقوى القاعدة, في وقت كان يرغب أغلب العرب والمسلمين في تمييز أنفسهم عن قوى طالبان والقاعدة وشجب نشاط مثل هذه الجماعات.
أما في العراق فقد لعبت شركات النفط الاحتكارية والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا دوراً كبيراً ومتميزاً, كما تظهره الكثير من الوثائق التي صدرت بعد مرور ربع قرن أو أربعين عاماً على تلك الأحداث, في مجيء البعث والقوى القومية اليمينية الشوفينية إلى السلطة في عام 1963 عبر تشجيع وتأييد ومساندة الانقلاب الدموي ضد حكومة عبد الكريم قاسم, ومن ثم المجيء الثاني للبعث إلى دست الحكم وبالتعاون مع حلفاء آخرين للولايات المتحدة في القصر الجمهوري والاستخبارات العراقية في عام 1968 في انقلاب القصر والمخابرات ضد عبد الرحمن عارف المعروف باتجاهه القومي واعتماده على الجماعات القومية الناصرية. وكان في الإمكان الخلاص من هذا النظام من خلال تقديم دعم حقيقي وفعال لقوى المعارضة العراقية في وقت مبكر, إذ كان في مقدورها العمل الجاد للخلاص من الدكتاتورية دون حرب ولكن عبر انتفاضة شعبية وعسكرية. ولكن الولايات المتحدة كانت تريد إنهاء هذا النظام بالحرب ووقعت فعلاً. وها نحن نعيش ذيول هذه الحرب.
إن الدرس الثمين الذي ينبغي أن تستخلصه الإدارة الأمريكية وكذا الشعب الأمريكي, الذي ساند الحرب وأيدها, هو الآتي: إن الحرب ليست الوسيلة الملائمة أبداً لمعالجة المشكلات الدولية والإقليمية والمحلية أولاً, وأن الحرب إذا ما بدأت لا يمكن إيقافها وفق رغبات الأفراد ثانياً, وأن الضحايا والخسائر المالية والحضارية ستكون فادحة وكبيرة ثالثاً, وأن المشكلات التي تنجم عنها لن تكون قليلة, بل كبيرة ومعقدة رابعاً, كما يصعب أخيراً تقدير العواقب الناجمة عن كل ذلك, إذ أن الانتصار في الحرب لا يعني بأي حال كسب السلام!

ولا شك في أن الدرس الثاني المهم جداً هو أن سياسات فرض الحصار الاقتصادي على الشعوب بحجة فرض الحصار على الحكم لإضعافه وإسقاطه يقود إلى إجراء تغييرات جذرية في سلوك المجتمع وتصرفاته وأخلاقياته, وهو ما نشاهده اليوم بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب العراقي. فالحصار لم يؤذ النظام طيلة ثلاث عشر سنة, بل ألحق أفح الأضرار الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالشعب العراقي وساهم مع استمرار الاستبداد والقمع الوحشي في وقوع ردة محزنة في الوعي السياسي والاجتماعي للغالبية العظمى من بنات وأبناء هذا الشعب وإصابة الكثير منهم بأمراض نفسية وعصبية وعلل اجتماعية لا حصر لها. إن فترة الحصار الاقتصادي الدولي على العراق التي اقترنت بسيادة الاستبداد والقسوة والقمع والقتل المتواصل تسببت في إهانة كرامة الإنسان العراقي وفقدان ثقته بنفسه, كما دفعته إلى الغوص في الغيبيات والسحر والشعوذة للنجاة بنفسه أو لتأمين لقمة عيشه وعيش أفراد عائلته...الخ. 

أما الدرس الثالث فيتحدد عبر الأصوات التي بدأت ترتفع ليس من النواب الديمقراطيين فحسب, بل ومن النواب الجمهوريين وفي أوساط متسعة من الشعب الأمريكي, في أن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة جيداً لفترة ما بعد الحرب, وأنها ارتكبت الكثير من الأخطاء في هذا الصدد. لقد كان استعجالاً لا معنى له حين أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بأن الحرب على النظام العراقي قد انتهت في الأول من أيار/مايس 2003, في حين كانت العمليات العسكرية ما تزال مستمرة, وهي مستمرة حتى الآن. أي أن الرغبة في إعلان نهاية الحرب لإرضاء الشعب الأمريكي عبرت عن رغبة ذاتية للرئيس الأمريكي وليس عن واقع موضوعي قائم. وهذا الإعلان المبكر قد اضعف اليقظة والحذر عند القوات الأمريكية والبريطانية وعند المجتمع العراقي فزاد في الطين بلة. وها نحن نعيش أسلوباً جديداً في الحرب ضد الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق, وبتعبير أدق ضد حرية وكرامة والمستقبل الديمقراطي للشعب العراقي: حرب أضرب وأهرب. ولا تخاض هذه المعارك بجماعات النظام السابق وحده, بل كذلك بقوى القاعدة الزاحفة نحو العراق من بلدان شتى وخاصة من البلدان العربية وعبر إيران. وفي هذه الأيام طلب الرئيس الأمريكي بوش من الكونغرس الأمريكي الموافقة على صرف مبلغ قدره 87 مليار دولار أمريكي لصرفها على العمليات العسكرية في أفغانستان والعراق. وفي الاستجواب الذي تم يوم 9/9/2003 مع نائب وزير الدفاع الأمريكي فولفوفتس في الكونغرس حاول الأخير أن يميز بين انتهاء الحرب واستمرار العمليات العسكرية التي اصطدمت برفض هذا التفسير من جانب السيد كندي, النائب الديمقراطي وغيره.

إن الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة في العراق جسدت رغبة الإدارة الأمريكية على إبراز العضلات, إضافة إلى أهداف أكثر أساسية, والإعلان عن قدرة التقنيات الأمريكية الحديثة على تحقيق الانتصار السريع في أي حرب تخوضها القوات الأمريكية. وهذا التقدير صحيح, ولكن الانتصار في الحرب لا يعني كسب السلام. كما أن الحرب وما بعدها ليستا معركة تقنيات فحسب, بل هي أيضاً معركة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية, وهو الذي, كما يبدو لي, لم تدركه الولايات المتحدة كما ينبغي, واعتبرت النصر في الحرب سيخيف الآخرين في الدول الأخرى ويخضعهم لقيادتها وهيمنتها.

أما الدرس الرابع الأكثر أهمية فيبرز في قرار الولايات المتحدة فرض الاحتلال على العراق, وبالتالي التصرف كدولة محتلة إزاء الشعب. وكان هذا القرار على خلاف كامل مع التصريحات الأمريكية بأنهم جاءوا إلى العراق محررين لا محتلين. لقد فوجئ الشعب العراقي بهذا القرار وصدوره عن مجلس الأمن الدولي, وبالتالي وفر أرضية صالحة للنشاط المعادي لها على اعتبار أنها دولة أجنبية محتلة ولها أهداف كثيرة في العراق والمنطقة. وتصرفت الإدارة الأمريكية في ضوء قرار 1483 لسنة 2003 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بصورة غير عقلانية على عدة محاور أساسية باعتبارها دولة محتلة ولم تفهم تطلعات ونفسية الشعب العراقي الحقيقية:
1. رفض عقد مؤتمر وطني عام تحضر له القوى السياسية التي قاومت النظام الاستبدادي والتي كانت في العراق أصلاً أو أجنحتها التي عادت من الخارج إلى العراق لتقرير ثلاث مسائل جوهرية, وهي أ) مناقشة مستقبل العراق والموقف من الاحتلال وتحديد المهمات؛ ب) انتخاب هيئة رئاسة تأخذ على عاتقها تسيير الأمور في البلاد مع انتخاب حكومة عراقية مؤقتة لهذا الغرض؛ ج) انتخاب هيئة مختصة تأخذ على عاتقها وضع مسودة الدستور الدائم والتهيئة للانتخابات القادمة. وبالتالي كان هذا الإجراء سيضفي شرعية أكبر على الهيئات التي أسست فيما بعد بدون عقد مثل هذا المؤتمر.     
2. عدم تسليم إدارة الشؤون السياسية والأمنية الداخلية بأيدي عراقية مما عقد مهمة قوات الاحتلال وجعلها في مرمى قوى صدام حسين ورهطه ومحالفاته الجديدة, وبالتالي تسنى لها تعبئة الرأي العام العربي والإسلامي ضد قوات الاحتلال.
3. كانت الولايات المتحدة تريد إدارة شؤون العراق مباشرة من قبل سلطة الاحتلال دون العودة إلى العراقيين أو إلى تسليم الحكم لهم. وقد برز هذا واضحاً في ترأس السيد باول بريمر وفد العراق إلى المنتدى الاقتصادي الدولي في الأردن والذي حصد الاستياء والاحتجاج الواسعين ولم يتكرر ثانية. ولم تدرك الإدارة الأمريكية بأن هذا الموقف يحدث فراغاً سياسياً وأمنياً كبيرين, وأنها غير قادرة على أداء هذا الدور وإملاء هذا الفراغ, لأنها قوة احتلال. وبالتالي تأخرت في تشكيل المجلس والحكومة وكانت النتائج سلبية جداً.
4. وعندما وافقت على تشكيل مجلس للحكم الانتقالي دون انتخابات أضعفت شرعيته, وحجبت عنه الكثير من صلاحياته ومهماته. وبالتالي اصطدمت برفض الشعب لهذه الوجهة السياسية.

أدى كل ذلك إلى إضعاف مكانة واسم مجلس الحكم الانتقالي ومصداقيته واتهامه بكونه معين من قبل سلطة الاحتلال. لقد فرطت الولايات المتحدة بكل ذلك وأحدثت فراغاً سياسياً ملموساً أدى بدوره إلى تحركات واسعة للقوى المضادة, وتصورت الولايات المتحدة بأنها قادرة على ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة بعد زوال العوامل التي تسببت في بروز هذه الظواهر بسبب قدراتها العسكرية! وكان هذا الموقف خطأ ملموساً وكبيراً لم يصحح حتى الآن كما ينبغي.

والدرس الخامس الذي يفترض أن يكون شاخصاً أمام الجميع هو أن العراق يمتلك الكثير من الكفاءات والقدرات العلمية والتقنية والاقتصادية والإدارية والثقافية...الخ, وأن من الأفضل للعراق تشغيل هذه القوى لإنجاز المهمات بالصيغة المطلوبة بدلاً من استيراد خبراء وفنيين من روسيا الاتحادية ومن بلدان شرق أوروبا, كما حصل في استقدام رئيس وزراء روسيا الاتحادية السابق في حكومة يلتسن الفاشلة اقتصادياً, وبعض الخبراء من أوروبا الشرقية لتقديم المشورة الاقتصادية للسيد باول بريمر. ومع إدراكي لطابع المساومة الأمريكية في هذا الاستقدام مع الحكومة الروسية, إلا أنه غير مبرر وغير مفيد. وفي الوقت الذي يجري استقدام هؤلاء ودفع مبالغ طائلة لهم, يستبعد العراقيون المختصون في مختلف الشؤون العلمية والاقتصادية والاجتماعية والفنية, أو يعاملون بطريقة تدفع بهم إلى ترك عملهم, كما حصل مع الدكتور عصام الخفاجي أو كما يحصل الآن مع 130 خبيراً عراقياً قدموا إلى العراق في أعقاب سقوط النظام. إن هذا الإهمال للخبرة العراقية وقلة احترام أو الاعتراف بالكفاءات العراقية, رغم معرفتهم الجيدة بشؤون وأوضاع وحاجات العراق يزيد الأمور تعقيداً ويساهم في توسيع الفجوة بين الشعب العراقي واختصاصيه من جهة, وإدارة الاحتلال والإدارة الأمريكية من جهة أخرى, ويذكرنا بالمثل القائل "مغنية الحي لا تطرب".
إن هذه المسألة ينبغي أن تعالج لا من الجانب الفني أو التخصصي فحسب, بل من الجانب النفسي, أي في مدى تأثير ذلك على المجتمع العراقي. والمعلومات المتوفرة لدينا هي أن الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع الخبراء والفنيين العراقيين وكأنهم غرباء عن الوطن, وأن الخبراء الأمريكيين هم أبناء هذا الوطن, هم السادة في دار العراقيين. فهل ينتظر من العراقيين الموافقة على مثل هذا التصرف؟ صحيح أن الولايات المتحدة قد كسبت الحرب, ولكنها لم تكسب الحرب ضد الشعب بل ضد النظام, وبالتالي فينبغي أن لا يكون التعامل على أساس المنتصر والمنكسر, إذ أن هذا يثير الشجون الكثيرة ويساعد أعداء الوضع الجديد على إثارة الناس ضد سلطة وقوات الاحتلال. 
وفي هذا الإطار تدخل الشكوى المرة للعراقيين من أسلوب التعامل الذي يمارسه الجندي الأمريكي مع الناس العراقيين, إنه أسلوب خشن وغطرسي مرفوض يفترض التوقف عنده كثيراً, إذ أن استمراره يقود إلى نتائج في غير صالح تحسين العلاقات بين الشعب والمحتلين بل في زيادة نقاط الاحتكاك والتوتر.
ويتبلور الدرس السادس من خلال التعارض بين الموقف الأمريكي-البريطاني وموقف بقية دول العالم التي رفضت الحرب من جهة, ويؤكد أهمية وجود قوة دولية تابعة للأمم المتحدة وتحت قيادتها لمواجهة الوضع الراهن في العراق من جهة أخرى, وأن الولايات المتحدة لوحدها عاجزة عن تحقيق الأمن والسلام المنشودين للشعب العراقي والمنطقة. إضافة إلى أن هناك مهمة جوهرية يتشبث بها الشعب العراقي تتلخص في ضرورة وضع جدول زمني لفترة الانتقال وإنجاز مهمات هذه الفترة وإنهاء الاحتلال مع انتقال السلطة شرعياً إلى بنات وأبناء الشعب العراقي واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية. إن الإصرار على غير ذلك والتشبث باستراتيجية أخرى سيقود إلى عواقب وخيمة للعراق وللولايات المتحدة في آن واحد.
والأمر الأكثر غرابة برز في تصريحات وزير خارجية الولايات المتحدة, كولن باول, في يوم 12/9/2003 في معرض رفضه تسليم السلطة أو المزيد من الصلاحيات والمسؤولية لمجلس الحكم الانتقالي والحكومة العراقية المؤقتة وفق مقترح فرنسا وألمانيا, حين أدعى بعدم وجود حكومة في العراق, وبالتالي لا يمكن تسليم الأمور والمسؤولية لأحد في الوقت الحاضر, وأن الحاكم الفعلي هو باول بريمر, في وقت كان الحاكم المدني العام لإدارة الاحتلال في العراق هو الذي وافق على تسمية أعضاء الحكومة, رغم عدم تسمية رئيس الحكومة حتى الآن. وهذا الموقف غير المسؤول من جانب وزير الخارجية يعبر بدوره عن ازدواجية الموقف الأمريكي من جهة وعن التخبط الذي تعيشه الإدارة الأمريكية في سياستها إزاء العراق من جهة ثانية والضغط المتزايد عليها دولياً, إضافة إلى الصراع الدولي الذي تواجهه حول العراق من جهة ثالثة, مما يدفعها إلى ادعاء ما لا يجوز الادعاء به. وفي الوقت الذي اتصل كولن باول نفسه بوزير خارجية العراق السيد هوشيار زيباري, وهو عضو في الحكومة المؤقتة وليس خارجها, مهنئاً إياه على قبول إشغال مجلس الحكم الانتقالي والحكومة العراقية المؤقتة مقعد العراق في الجامعة العربية مؤقتاً, ينكر على الحكومة العراقية وجودها أصلاً, وبالتالي يسعى إلى إضعافها ليمرر مخطط استمرار التحكم والهيمنة على الوضع في العراق بدلاً من البدء بتسليم المزيد من المسؤوليات لمجلس الحكم الانتقالي والحكومة العراقية المؤقتة.

إن القرار الأخير الصادر عن الجامعة العربية سليم ويحتل أهمية فائقة. فهو قد اعترف لأول مرة بجرائم النظام السابق ضد الإنسانية وبشاعة إرهابه الدموي, رغم تأخر مثل هذا الاعتراف طويلاً, من جهة, كما أنه اعترف بحق مجلس الحكم الانتقالي إلى احتلال موقع العراق انتقالياً, كما هي طبيعة وصفة المجلس ذاته, وأن المجلس ملزم بالتعاون مع الأمم المتحدة على وضع جدول زمني لإنجاز مهمات فترة الانتقال وإنهاء الاحتلال. ونأمل أن يبذل العالم الجهود الحثيثة لمساعدة المجلس في تحقيق هذه المهمات, وقبل هذا وذاك إحلال الأمن والاستقرار والسلام في البلاد, ورفض الاعتراف بالقوى المخربة والإرهابية التي تعيث في البلاد فساداً وكأنها قوى مقاومة للاحتلال, إذ أن هذه القوى هي التي جلبت بسياساتها الاحتلال للعراق, وأن استمرار نشاطاتها التخريبية والإرهابية يطيل أمد الاحتلال ولا يقصره!

لا شك في أن التسرع في إجراء الانتخابات وفي الأجواء الراهنة غير معقول وغير مقبول, ولكن من الضروري تحديد فترة الانتقال والاتفاق عليها والبدء الجاد بتأمين مستلزمات ذلك, وعلينا أن لا ننسى بأن المعركة التي يخوضها الشعب العراقي هي ليست معركة عسكرية ضد الإرهابيين والمخربين والمتطرفين من مختلف الأصناف والتيارات وضد الاتجاهات الطائفية والتطرف الديني والمذهبي فحسب, بل هي معركة سياسية واقتصادية واجتماعية, وإعلامية بشكل خاص. وعلى الإعلام العراقي الديمقراطي أن يلعب دوره المحفز للمشاركة في مواجهة الظروف الراهنة والتصدي للمخربين والتعاون في مطاردتهم والكشف عنهم, إضافة إلى تأكيد أهمية العيش في ظروف الحرية والديمقراطية وسيادة حقوق الإنسان والمؤسسات الدستورية الديمقراطية. 

يصعب علي تصور احتمال اعتراف الإدارة الأمريكية بأخطائها. وقد برز هذا واضحاً في آخر خطاب للرئيس الأمريكي في نهاية الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/ أيلول 2003, وكذلك مضامين المؤتمر الصحفي لمستشارة الرئيس الأمريكي رايس في يوم 9/9/2003. وعندما يصعب عليهم الاعتراف بتلك الأخطاء, يصعب عليهم أيضاً التعلم من الدروس الأكثر أهمية, عندها ستكون العواقب وخيمة. ولكن الضغط السياسي والشعبي والدولي المتزايد على الإدارة الأمريكية سيفرض عليها الإذعان لإرادة المجتمع الدولي والرأي العام العالمي وإرادة الشعب العراقي في تسليم زمام الأمور السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية على مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة للتعجيل بإنجاز ما يفترض إنجازه خلال فترة الانتقال. يأمل الإنسان بأن القوى العاملة في إدارة سلطة الاحتلال, وخاصة السيد باول بريمر, الذي يواجه هذه المشكلات يومياً وبشكل مباشر, أن تعي هذه الدروس لأنها تواجهها يومياً, وبالتالي, يمكنها أن تقدم المشورة الصادقة للإدارة الأمريكية في الاستفادة من تلك الدروس للوقت الحاضر والمستقبل. ولا أدري إن كان ما نأمله من سلطة الاحتلال ورئيسها ممكن التحقق فعلاً!
إن بعض الدروس السابقة المهمة تعني بالملموس ما يلي:
1. منح مجلس الحكم الانتقالي مسؤولية إدارة البلاد فعلياً في المجالات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والأمنية وبالتنسيق التام مع إدارة سلطة الاحتلال وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 لسنة 2003.
2. منح الحكومة المؤقتة صلاحيات إدارة شؤون الوزارات دون تدخل مباشر في شؤون تلك الوزارات. وهذا لا يعني غياب التنسيق والتعاون لإنجاز المهمات.  
3. تنشيط دور العراقيات والعراقيين في مجالات حماية الأمن والتعرف على شبكات التخريب والإرهاب الراهنة, خاصة وأن عملاً مشتركاً يتم الآن بين قوى صدام حسين وتنظيمات القاعدة في العراق وفي بعض الدول العربية والإسلامية وبعض القوى القومية الشوفينية المتطرفة.
4. تأمين التعاون الدولي لإنجاز عملية إعادة إعمار البنية التحتية بشكل خاص بدلاً من الاعتماد على الشركات الأمريكية وحدها والتي تثير إشكاليات كبيرة على الصعيد الدولي والإقليمي والمحلي.
5. الموافقة الفعلية على مشاركة الأمم المتحدة في ثلاث مهمات أساسية في العراق في المرحلة الراهنة:
أ?. المساهمة في حماية الأمن ومكافحة القوى الإرهابية والمخربة,
ب?. المساهمة في العملية السياسية الجارية في العراق وبشكل خاص في مجال توفير مستلزمات إنهاء فترة الانتقال بتحقيق المهمات الموكولة بهذه الفترة وبالتعاون الوثيق مع مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة وسلطة الاحتلال. 
ت?. المساهمة في عملية إعادة إعمار البنية التحتية وضمان التعجيل بإنجازها, إذ أن لها تأثير كبير على ألأوضاع الاقتصادية والنفسية للسكان وعلى تقليص حجم البطالة الكبير في الوقت الراهن.
6. وضع جدول زمني واقعي ومناسب لفترة الانتقال وإنهاء الاحتلال واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية والتي ترتبط عضوياً بتصفية جيوب الإرهاب والتخريب, ووضع وإقرار الدستور وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة وتشكيل الحكومة الشرعية الجديدة ..الخ.
7. تنشيط الإعلام العراقي بثلاثة اتجاهات أساسية في المرحلة الراهنة:
أ?. الكشف المستمر عن طبيعة النظام السابق واستبداده وجرائمه وضحاياه وبأساليب مناسبة تعبر عن عنصريته وكراهيته للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتبذيره بثروة وأموال المجتمع وعدوانيته.
ب?. إبراز الجوانب الإيجابية في المرحلة الراهنة مع عدم نسيان نقد الجوانب السلبية والعمل من أجل التفاعل مع فئات المجتمع, وخاصة الفئات الكادحة والبرجوازية الصغيرة المدمرة وفئات المثقفين والطلبة بهدف التنوير والاستماع إلى مشكلاتهم وحاجاتهم اليومية.
ت?. أهمية مشاركة الشعب في إنجاز المهمات الراهنة ومواجهة المخربين والإرهابيين وسبل تشكيل فرق الدعم لعمليات إعادة إعمار العراق. كما يفترض إبراز المستقبل المشرق الذي ينتظر الشعب العراقي خلال فترة الانتقال وما بعد إرساء دعائم الحرية والديمقراطية والحياة الدستورية البرلمانية في العراق واستثمار ثروة البلاد لصالح تطور وتقدم المجتمع وإقامة أفضل العلاقات مع جيرانه وبقية بلدان العالم.


 13/9/2003     

 

 



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النص الكامل للحوار الصحفي مع الشرق الأوسط
- مرة أخرى مع الدعوة لإقامة الملكية في العراق!
- أحذروا الأعداء: هل يراد تحويل العراق إلى أفغانستان الفترة ا ...
- الصراع الطائفي محاولة مقيتة لتشويه وجهة الصراع الحقيقي في ال ...
- كلما تأخر تشكيل حكومة مؤقتة, اتسعت دائرة العنف والمطالبين با ...
- من أجل أن نترك وراءنا مظاهر الاستبداد والعنف والقسوة في السل ...
- ماذا يجري في العراق, ولمصلحة من, وكيف نواجهه؟
- الأهمية المتنامية لوحدة قوى الشعب في مواجهة تحديات القوى الف ...
- ما هي طبيعة الصراع حول شؤون ومستقبل الاقتصاد العراقي بين سلط ...
- الدروس التي يمكن استخلاصها من الحرب الأخيرة واحتلال العراق
- التركة الثقيلة لنظام صدام حسين الاستبدادي على المرأة العراقي ...
- الجولة الأخيرة واليائسة لصدام حسين وعصابته أو صحوة موت
- لمواجهة نشاط قوى صدام حسين بعد سقوط النظام - الحلقة الخامسة ...
- أفكار حول الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق
- العوامل المحركة للقضية العراقية والصراع حول السلطة في العراق
- كيف يفترض أن نتعامل مع فتوى آية الله العظمى السيد كاظم الحسي ...
- موضوعات للحوار في الذكرى الأربعينية لثورة تموز عام 1958
- لِمَ هذه الخدمات المجانية لدعم غير مباشر لقوى صدام حسين التخ ...
- هل الدور الجديد الذي يراد أن تلعبه العشائر العراقية في مصلحة ...
- من أجل أن لا ننسى ما فعله الاستعمار البريطاني والنظام الملكي ...


المزيد.....




- فرنسا: الجمعية الوطنية تصادق على قانون يمنع التمييز على أساس ...
- مقتل 45 شخصا على الأقل في سقوط حافلة من على جسر في جنوب إفري ...
- جنرال أمريكي يوضح سبب عدم تزويد إسرائيل بكل الأسلحة التي طلب ...
- شاهد: إفطار مجاني للصائمين في طهران خلال شهر رمضان
- لافروف عن سيناريو -بوليتيكو- لعزل روسيا.. -ليحلموا.. ليس في ...
- روسيا تصنع غواصات نووية من جيل جديد
- الدفاع الأمريكية تكشف عن محادثات أولية بشأن تمويل -قوة لحفظ ...
- الجزائر تعلن إجلاء 45 طفلا فلسطينيا و6 جزائريين جرحى عبر مطا ...
- لافروف: الغرب يحاول إقناعنا بعدم ضلوع أوكرانيا في هجوم -كروك ...
- Vivo تكشف عن أحد أفضل الهواتف القابلة للطي (فيديو)


المزيد.....

- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم
- افغانستان الحقيقة و المستقبل / عبدالستار طويلة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - كاظم حبيب - هل سيتعلم القطب الأوحد من دروس العراق وأفغانستان؟