أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - أفكار حول الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق















المزيد.....



أفكار حول الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 531 - 2003 / 7 / 2 - 03:53
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    



"رؤية حوارية"

       
المدخل: 1
أولاً: المشكلات الراهنة التي تواجه الاقتصاد والمجتمع في العراق 1
ثانياً: مستلزمات وشروط البدء بعملية إصلاح اقتصادي واجتماعي في العراق 3
ثالثاً: رؤية أولية لعملية التنمية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق 5
رابعاً: مناقشة مع بعض الملاحظات النقدية لمقال "أفكار حول الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق" 15

 سأحاول في هذا المقال أن أعالج عدداً من المسائل الأساسية التي تحتل أهمية خاصة في المرحلة الراهنة من تطور العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري, رغم المعاناة الكبيرة من عواقب استمرار وجوده وممارسة سياساته العدوانية في الداخل وإزاء الدول المجاورة قرابة 35 عاماً.
المدخل:
يستوجب تحقيق الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق البدء بامتلاك صورة واقعية وتفصيلية عن الحالة الراهنة والبحث في تأمين مستلزمات هذا الإصلاح المتعددة الجوانب, إضافة إلى الاستفادة الواعية من إجراء عملية تقييم وتقويم جادة لتجارب السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة خلال العقود المنصرمة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة من جهة, والبرامج والتصورات التي طرحتها الأحزاب والقوى السياسية العراقية المختلفة لتحقيق التنمية الوطنية في العراق, سواء أكانت تلك البرامج ذات اتجاهات رأسمالية أم اشتراكية أم إسلامية, من جهة أخرى. إن أهمية هذه الملاحظة تنشأ من طبيعة السمات التي ميّزت السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة قبل ثورة تموز عام 1958 والتي كانت بعيدة عن التعبير عن المصالح الحيوية للاقتصاد والمجتمع في العراق واغترابها عن حاجات المجتمع, في حين أنها كانت قريبة ومعبرة عن مصالح بريطانيا واحتكارات النفط الدولية والفئات الإقطاعية والكومبرادورية المحلية. ولم تستطع حكومة عبد الكريم قاسم إرساء دعائم سياسة اقتصادية واجتماعية جديدة ومستقرة, رغم الملامح الإيجابية التي تجلت فيها لفترة قصيرة جدا, حيث بدأت بعدها ممارسة سياسات غير عقلانية ناشئة عن ذهنية عسكرية استبدادية وإرادية لا تعبر بصورة مناسبة عن  حاجات الاقتصاد الوطني والمجتمع. وخلال العقود التي أعقبت سقوط قاسم, وخاصة الفترة التي اقترنت بمجيء البعث ثانية إلى السلطة, ساهمت السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة في تعميق وتشديد اختلالات وتشوهات الاقتصاد العراقي والبنية الاجتماعية والتفريط بالثروة الوطنية وفي توسيع فجوة التمايز الطبقي. إن هذا لا يعني عدم حصول تطور ما في العراق, ولكنه كان بطيئا وغالبا ما كان في الاتجاه غير الصحيح. أما برامج الأحزاب السياسية العراقية, رغم تنوعها وتعددها, فقد انطلقت في الغالب الأعم من موقعين أساسيين هما: المعارضة وإدانة كاملة لسياسات الحكومات المتعاقبة من جهة, وطرح البدائل الأيديولوجية أو العقائدية, سواء أكانت رأسمالية أم اشتراكية أم إسلامية, التي لم تأخذ بنظر الاعتبار وبالشكل المناسب أوضاع العراق الملموسة أو إمكانيات وحاجات العراق الفعلية. وهذا لا يعني أن تلك البدائل لم تكن تتضمن جوانب صائبة وعملية ومعبرة عن مصالح الشعب, ولكنها كانت في المحصلة النهائية تجسد الرغبات الذاتية لتلك الأحزاب والقوى أكثر مما تعبر عن الواقع القائم. إن هذا الاستنتاج لا يعني بأن على القوى والأحزاب السياسية أن تتخلى عن أفكارها ومعتقداتها أو أيديولوجياتها لكي تطرح برامج أكثر واقعية وعملية وعلمية, بل يفترض فيها, كما أرى, أن تلتصق أكثر فأكثر بواقع المجتمع ومصالحه, أي أن تأخذ بنظر الاعتبار الإمكانيات المتوفرة وحاجات الجماهير الواسعة والواقع الإقليمي والدولي المحيط بالبلاد, إضافة إلى أهمية معرفتها الجيدة بحركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة وضرورة استخدامها منهجاً علمياً سليماً للتحليل والاستنتاج ورسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية. أي أن لا تكون برامجها منطلقة من عملية تنافس غير واقعية أو مزايدات غير مبررة ومضرة, بل من واقع العراق وإمكانياته وحاجاته الفعلية وآفاق تطوره.
في المقدمة التي كتبها السيد محمد باقر الصدر لكتابه القيم "اقتصادنا" وردت فكرة جوهرية وذات أهمية ملموسة لمن يعمل في مجال السياسات التنموية. تنص الفكرة على ما يلي: "ومن الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذين يدرسون اقتصاد البلاد المتخلفة وينقلون إليها المناهج الأوربية للتنمية دون أن يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ومدى قدرة هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمة" . أرى بأن هذه الملاحظة قيمة جدا, إذ إنها تشير إلى عوامل عديدة يفترض عدم نسيانها بما فيها الجوانب الثقافية والعادات والتقاليد الإنتاجية والاستهلاكية..الخ. ولكن, وكما أرى, يفترض أن تستكمل هذه الفكرة على الأقل بفكرة أخرى جوهرية, وأعني بذلك: أن يأخذ كل من الاقتصادي والسياسي بنظر الاعتبار العصر الذي يعيش فيه والتحولات الكبيرة جدا التي يشهدها العالم على مرّ السنين والمنجزات العلمية والتقنية التي تتحقق يوميا للبشرية فيه وواقع العلاقات الاقتصادية الدولية الراهنة والقوانين الاقتصادية الموضوعية التي تتحكم إلى حدود بعيدة باتجاهات التطور العامة. واستنادا إلى هاتين الفكرتين, وأخذا بنظر الاعتبار تجارب الماضي والسياسات والبرامج التي جرى العمل بها أو النضال من أجلها في الفترات المنصرمة, أحاول عرض رؤية أولية اجتهادية حول الموضوع المطروح للمناقشة.
 
         أولاً: المشكلات الراهنة التي تواجه الاقتصاد والمجتمع في العراق

تواجه المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة مجموعات من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة منذ عشرات السنين والتي تفاقمت خلال العقود الثلاثة المنصرمة, إذ  يمكن تلخيصها فيما يلي:
• المشكلات السياسية: وجوهرها يتلخص في سقوط النظام السياسي الاستبدادي الشمولي الذي تميز بالجور والعدوانية الشرسة نحو الداخل والخارج. لقد ساهمت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية في توفير مستلزمات فرض الدكتاتورية في العراق والمصادرة التامة لكل شكل من أشكال الحرية والديمقراطية, وممارسة انتهاكات فظة ومريعة لشرعة حقوق الإنسان, وخاصة حق الإنسان في الحياة والكرامة, والحقوق القومية للشعب الكردي والحقوق الإدارية والثقافية للأقليات القومية أو حقوق الأقليات الدينية, وكان الحكم الدكتاتوري وسياساته الرئيسية والأساسية هو العامل الأول وراء ما عاني منه الشعب العراقي خلال السنوات المنصرمة, إضافة إلى دور الحصار الاقتصادي الدولي في تعميق العواقب الوخيمة لتلك السياسات, كما أنها, ورغم زوال النظام, ما تزال تؤثر بعواقبها على المسيرة الراهنة. وتشكل الفوضى الحالية ومحاولات التخريب وإشاعة عدم الاستقرار من العوامل المعرقلة لمسيرة البلد اللاحقة والتي يفترض وضع حدٍ سريع لها.
• أما المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فهي نتاج متوقع للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي مارستها الطغمة الحاكمة في العراق. فحصيلة هذه السياسات لا تتجلى في التشوهات والاختلالات الشديدة في التوازنات الاقتصادية والمالية والنقدية الكلية وفي البنية الاجتماعية فحسب, بل وفي الخراب الاقتصادي الشامل الذي يعاني منه الاقتصاد العراقي والبؤس الشديد الذي يعيش فيه الشعب حتى الآن. ولعبت موارد النفط المالية الكبيرة دورا رئيسيا في التغطية على كل عيوب وقصور وسوءات تلك السياسات وعدّلت من ميزان المدفوعات والميزان التجاري وزودت الميزانية العامة وميزانية التنمية بالموارد الضرورية لتسيير شؤون البلاد. ولعبت عوامل أخرى في تعميق النتائج الكارثية لتلك السياسات, مثل الحروب الداخلية والخارجية العدوانية التي خاضها النظام, ثم العقوبات الاقتصادية الدولية الجائرة التي فرضت على الشعب العراقي قربى 13 سنة قبل رفعها في ربيع عام 2003, وتراجع شديد في موارد النفط المالية وضعف دور بقية القطاعات الاقتصادية في إنتاج الدخل القومي, وخاصة القطاع الزراعي. فالإنسان العراقي واجه:
• تعطل الكثير من مشاريعه الاقتصادية الإنتاجية والخدمية وعجزها عن تأمين مستلزمات استغلال الطاقات الإنتاجية المتوفرة فعلا, وخاصة في مجال النفط الخام والزراع.؛    
• خراب البنية التحتية وعجزها عن الاستجابة لحاجات الاقتصاد والمجتمع.
• التفريط بالموارد المالية الشحيحة المتوفرة لتلبية مصالح الطغمة الحاكمة وبناء قصور الطاغية وتأمين الحماية له وتعزيز قدرات أجهزة الدولة العسكرية والقمعية.
• توجيه موارد مالية وطاقات بشرية كبيرة جدا لا تنسجم مع حاجات البلاد وقدراته الفعلية على التسلح وإقامة مشاريع الصناعة العسكرية, بما فيها أسلحة الدمار والقتل الجماعي, إذ أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية قد اقترنت بذهنية عدوانية وتوسعية شرسة, شكلت الأساس المادي لكل الخراب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي عاني منه الشعب العراقي طوال الفترة المنصرمة وحتى الآن.   
• عجز الإنتاج المحلي والخدمات عن إشباع حاجة المجتمع إلى السلع الاستهلاكية الأساسية, وخاصة الغذائية والدوائية, إضافة إلى شحة الموارد المالية والرقابة الدولية التي قامت بها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا, إذ وقفتا حائلا في طريق سدّ النقص الكبير عبر إلغاء أو تأخير قوائم المواد التي كان يراد استيرادها من الخارج.
• التضخم المتفاقم للأسعار نتيجة الفجوة الكبيرة جدا بين العرض والطلب على السلع والخدمات وتدهور كبير في سعر الصرف للدينار العراقي نتيجة ضخ كميات كبيرة من العملة المحلية, وخاصة غير المغطاة بالذهب أو الإنتاج الفعلي في البلاد إلى الأسواق المحلية. 
• البطالة الواسعة التي تصل نسبتها في الوقت الحاضر إلى أكثر من 65 % من إجمالي القوى القادرة على العمل, إضافة إلى وجود بطالة مقنعة واسعة الانتشار, خاصة بعد حل الجيش وتسريح افراده, وهو عمل صائب وكان ضرورياً.
• ارتفاع حجم المديونية الخارجية والتعويضات التي يفترض أن يدفعها العراق بسبب الغزو والحروب الداخلية والخارجية التي خاضها النظام العراقي طيلة ثلاثة عقود والتي تبلغ اليوم بحدود 500 مليار دولار أمريكي.
• ونشأ نتيجة كل ذلك نقص شديد في الموارد المالية الضرورية لإعادة الإعمار والبناء الاقتصاد. ولكن الموارد الشحيحة المتوفرة ما تزال توجه لأغراض تخدم أغراض النظام العدوانية ضد الشعب العراقي أولا وقبل كل شيء.
• وتجلت نتائج التدهور المتفاقم في الهياكل الارتكازية, سواء في مجالات التعليم والصحة والطاقة ومياه الشرب والنقل وغيرها, في جملة من الظواهر السلبية الحادة, منها ظهور أمراض جديدة وارتفاع حجم الإصابات بها ونسبة الوفيات العالية بين السكان, وخاصة بين الأطفال حتى سن الخامسة, إضافة إلى حالات الجنون وأمراض الأعصاب والأمراض النفسية المعقدة والكوابيس التي ما يزال الناس يعانون منها, وخاصة بين الأطفال, رغم سقوط النظام, والتسرب المتواصل من مختلف مراحل التعليم وجدب الحياة الثقافية خلال أكثر من ثلاثة عقود, إضافة إلى الهجرة الواسعة لعدد كبير جداً من الكوادر العلمية والأدبية والفنية والعمال المهرة ...الخ نحو الخارج.
• واقترنت بكل ذلك وصاحبته جملة من الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يصعب الفكاك منها بسبب وجود عوامل تتسبب بها وبإعادة إنتاجها وتوسعها ومنها: تزايد وجود ونشاط عصابات الجريمة المنظمة, وعلى رأسها المافيا السابقة النظام ومرتزقته, وأعمال اللصوصية والسلب والنهب والمتاجرة بالجنس, نساء ورجالا, والمتاجرة بأعضاء الإنسان وبالتراث الحضاري للعراق القديم والإسلامي, وكذلك الرشوة والفساد الوظيفيين والعهر الواسع النطاق والسوق السوداء وتهريب العملة الصعبة والسلع وحاجات الناس الأساسية وبيع المكتبات الخاصة للمثقفين العراقيين. وجدير بالإشارة إلى أن هذه الظواهر التي انتشرت في فترة وجود النظام ما تزال قائمة حتى الآن بعد أن أطلق النظام قبل سقوطه بفترة عدداً يصل إلى 40 ألف من المحكومين بجرائم مختلفة, وخاصة السطو والسرقة والتزوير والنهب والقتل.   

وباختصار شديد فأن الاقتصاد العراقي كان وما يزال يعاني اليوم من نقص كبير جدا في الموارد المالية, وخراب البنية التحتية وتوقف كثرة من المشاريع الاقتصادية الإنتاجية والخدمية عن العمل, ونقص شديد في أدوات الاحتياط, وقلة العائدين من المهجر, وخاصة الكوادر والكفاءات العلمية والفنية والمهارة العمالية, إضافة إلى ديون خارجية عالية واستقطاعات تعويضية خفضت إلى 5 % ولكنها ستبقى تلتهم جزءا من موارد العراق المالية, إضافة إلى سياسات الصرف والتبذير غير المسؤولين التي مارستها الدولة الدكتاتورية على العسكرة والقمع الداخلي وعلى القصور البذخية لرأس النظام المقبور ورهطه. وما تزال العلاقات الاقتصادية الدولية معطلة إلى حدود غير قليلة, بما فيها المبادلات التجارية والمالية والفنية والعلمية والثقافية. ورغم تزايد عرض السلع فما تزال قدرة الأسواق المحلية ضعيفة على الاستجابة لحاجات الطلب الداخلي على السلع والخدمات. ورغم انخفاض ملموس في أسعار السلع والخدمات إلا أن الارتفاع السابق لها كان جنونياً وتجلى في نسب التضخم السنوية العالية وتدهور سعر صرف الدينار العراقي وقوته الشرائية, وتراجع كارثي في مستوى معيشة الغالبية العظمى من السكان وتفاقم البطالة في البلاد. إنها التشوهات والاختلالات في التوازنات المختلفة, إنها المشكلات التي تحتاج إلى حلول سريعة وعملية, حلول على المدى القريب والمتوسط والبعيد, ولكن لا يمكن بأي حال تصور حل عملي للمشكلات القائمة دون إعادة الأمن والاستقرار للبلاد, ودون البدء بتشكيل حكومة وطنية عراقية وتحمل مسؤوليتها المباشرة في عملية إعادة إعمار ما خربه النظام وما دمرته السياسات والحروب الفائتة. كما يفترض أن نعيد النظر بقرار تصرف سلطة الاحتلال بسبل التعامل مع الموارد المالية العراقية, وخاصة موارد النفط المالية.

ثانياً: مستلزمات وشروط البدء بعملية إصلاح اقتصادي واجتماعي في العراق

إن الواقع القائم في العراق يطرح السؤال التالي: ما هو السبيل لتحقيق الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ووضع العراق على طريق التنمية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال يفترض أن تنطلق من الإشكاليات التي تواجه الاقتصاد والمجتمع حاليا, إذ تقع مسؤولية معالجتها على أكتاف الشعب والقوى السياسية العراقية التي ناصبت النظام العداء وعملت لإسقاطه. أي على كاهل تلك القوى التي تلتزم بمصالح الشعب وحقه الكامل في التمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعيش الكريم, والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية:
• العمل من أجل استتباب الأمن بعد أن أسقط النظام الاستبدادي, والعمل من أجل تمتع الشعب بحرياته وحقوقه الديمقراطية, بما فيها حقه في إقامة المجتمع المدني الدستوري والديمقراطي الفيدرالي والعلماني, إنه الشرط الأساسي والمركزي لكل إصلاح اقتصادي واجتماعي واقعي وعملي يراد تحقيقه في العراق, ويمكنه أن يُخرِج العراق من أزمته المستفحلة ومن دوامة الفوضى والاحتلال. ولا يمكن لمثل هذا الهدف أن يتحقق دون الاتفاق على المهمات وبلورة الآليات المناسبة من جانب القوى السياسية العراقية التي ترى ضرورة ملحة في تعجيل عملية إعادة البناء والتنمية؛
• تشكيل حكومة وطنية مؤقتة وواسعة التمثيل تأخذ على عاتقها وضع دستور ديمقراطي يستند إلى أسس المجتمع المدني المتحضر وشرعة حقوق الإنسان ويقر مبدأ الفصل بين الدين والدولة, مع إبداء كامل الاحترام لكل الأديان والاعتراف بحقها في أداء طقوسها بكل حرية وتأمين مستلزمات ذلك, على أن يعرض مثل هذا الدستور على الاستفتاء العام بعد إقراره من الشعب, وإجراء انتخابات عامة حرة وديمقراطية نزيهة تحت إشراف مراقبين من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بحيث تتاح الفرصة الفعلية للناخبين حرية اختيار ممثليهم. ولا شك في أن مثل هذا التوجه يتطلب وعياً عاليا بالمسؤولية من جانب جميع أطراف الحركة الوطنية العراقية واستعدادا لرسم سياساتها وعلاقاتها ومواقفها الجديدة باتجاه الاعتراف المتبادل بالبعض الآخر والتعددية السياسية والممارسة الحضارية للحوار والصراع والتداول الديمقراطي والبرلماني للسلطة السياسية.
• الرؤية الواقعية للقضية الكردية والتعامل الواعي والواقعي معها ومع حقوق وواجبات الأقليات القومية والدينية في العراق لصالح وحدة وتضامن وتفاعل وتقدم الشعب كله. وهذا يعني بالملموس إقامة فيدرالية كردية وأخرى عربية وحكومة مركزية, مع تمتع الأقليات القومية في الفيدراليتين بحقوقهم المشروعة, سواء الثقافية منها أو الإدارية, ومشاركتهم في الحكم على مستوى المركز.            
• إن رفع الحصار الاقتصادي عن العراق كان الخطوة الأولى على طريق طويل لتوفير مستلزمات الاستيراد والتصدير التي تعطلت خلال السنوات الأخيرة منذ صدور قرار الحصار, ومواجهة عواقب تلك السياسات والحصار على الشعب العراقي. ويتطلب هذا الأمر تأجيل دفع الديون والفوائد المترتبة عليها وكذلك التعويضات المفروضة على العراق إلى أجل غير مسمى, إضافة إلى رفع القيود مع السعي من أجل إلغاء أغلبها إن تعذر إلغاء كل الديون, إذ يصعب على العراق تحقيق التنمية مع وجود تلك الديون التي تراكمت بفعل حروب النظام وسياساته المعادية لمصالح الشعب.
• توجيه كل طاقات الاقتصاد والمجتمع, القطاع الخاص (المحلي والعربي والدولي) والقطاع المختلط وقطاع الدولة, لصالح عملية إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد العراقي وفق برنامج يأخذ بأوليات إعادة الحياة للمشاريع الاقتصادية والبنية التحتية المعطلة.
• العمل من أجل الحصول على دعم عربي ودولي من أجل تحقيق المهمات التي تفرضها عملية إعادة الإعمار والإصلاح الاقتصادي, أي إيجاد الأرضية الصالحة للتعاون العربي والإقليمي والدولي على أسس من الاحترام والمنفعة المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. إن على الولايات المتحدة, باعتبارها دولة محتلة رسمياً أن لا تعطل تعاون العراق مع الدول الأوروبية التي رفضت الحرب, أو تحتكر عملية إعادة الإعمار ومشاريع التنمية الجديدة وبأسعار احتكارية, إذ يفترض أن تأخذ الصيغة الشرعية في طرح مناقصاتها على الصعيد الدولي والتنافس في الحصول على عقود بشأنها وفق أفضل وأقل الأسعار. كما يفترض أن تعهد هذه العملية كلها إلى الحكومة العراقية التي يفترض إقامتها بسرعة.

تتوفر إمكانيات غير قليلة من الناحية الموضوعية لتحقيق التغييرات المنشودة في العراق وتأمين مستلزمات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إذ أن إمكانيات تغيير الواقع العراقي عملية ليست مستحيلة ولكنها ليست سهلة وتستوجب بداية واقعية وربما تستغرق فترة طويلة نسبيا. ويفترض أن نتمعن ابتداء في ثلاث مسائل أساسية لا بد من الإشارة إليها لتأمين الرؤية الواقعية لنشاطنا من أجل الإصلاح المنشود والتفكير بسبل معالجتها, وهي:
• الصراعات غير المبدئية المستمرة بين القوى السياسية العراقية وعدم اتفاقها على قواسم مشتركة في ما بينها يمكن أن تواجه سلطة الاحتلال ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي مشترك.
• رفض التدخلات الإقليمية في شؤون الأحزاب السياسية العراقية وتأثيراتها السلبية على اتخاذ مواقف موحدة من الوضع الجديد الناشئ في العراق.
• اعتبار الاحتلال حالة مؤقتة ينبغي أن يزول حال استتباب الأمن وحصول الاستقرار السياسي وقيام حكومة وطنية عراقية, إذ أن التفتت الراهن في القوى السياسية العراقية وضعفها العام وضعف علاقاتها بالجماهير الشعبية من جهة, والتسلح الكبير للقوى الصدامية وقوى الإسلام السياسي المتطرفة من جهة أخرى, يمكن أن تقود إلى مشكلات جديدة بما فيها وقوع معارك داخلية تزيد من تعقيدات الوضع ويخسر الشعب العراقي المكسب الكبير والبالغ الأهمية, وأعني به سقوط النظام السياسي الفاشي في العراق.
• إن قرار مجلس الأمن الدولي بشأن العراق لا يتضمن موضوع الاحتلال, وهو الأمر السلبي من حيث المبدأ لا من حيث الواقع الذي كان لا بد من استمرار وجود القوات التي شنت الحرب وأسقطت النظام, بفعل واقع الضعف الذي تعاني منه القوى السياسية التي ناصبت النظام العراقي العداء وسعت إلى إسقاطه, واحتمال عودة قوى صدام حسين إلى السلطة ثانية, فحسب, بل يتضمن جوانب أخرى مهمة من حيث تأكيده على أهمية احترام استقلال وسيادة العراق وتشكيل حكومة وطنية بأسرع وقت ممكن ومسؤولية قوات الاحتلال على الأمن وسلامة المواطنين, إضافة على مشاركة الشعب في تقرير مصيرهم ...الخ. وأبرز القضايا التي جاءت في قرار مجلس الأمن الدولي, إلى جانب رفع الحصار الدولي عن العراق, السعي إلى إعادة إعمار العراق وتوفير مستلزمات ذلك وأهمية مشاركة مختلف الدول في هذه العملية وأن تتحمل الأمم المتحدة مسؤولية في هذا الصدد, رغم خضوعها لمسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية.  
 
ثالثاً: رؤية أولية لعملية التنمية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق

تتوفر إمكانيات غير قليلة من الناحية الموضوعية لتحقيق التغييرات المنشودة في العراق وتأمين مستلزمات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إذ أن إمكانيات تغيير الواقع العراقي ليست عملية سهلة وتستوجب بداية واقعية وتعبئة الإمكانيات والقوى كلها على هذا الطريق. وهناك من المؤشرات ما يؤكد استمرار هذه العملية طيلة السنوات الخمس أو حتى نهاية هذا العقد على أقل تقدير. ويفترض أن نتمعن ابتداءاً في مسائل ثلاث أساسية لا بد من الإشارة إليها لتأمين الرؤية الواقعية لنشاطنا من أجل الإصلاح المنشود والتفكير بسبل معالجتها, وهي:
• الصراعات غير المبدئية التي ما تزال مستمرة بين مختلف القوى السياسية العراقية, رغم سقوط النظام وتوفر أجواء أفضل للعمل المشترك, وعدم اتفاقها على قواسم مشتركة في ما بينها يمكن أن تواجه بها سلطة الاحتلال ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي مشترك يتسم بالعقلانية والواقعية وروح المسؤولية. فكل منها له برنامجه وتصوره للدولة القادمة ويرفض القبول بالآخر, وهي إشكالية كبيرة تحتاج على بصيرة ثاقبة وحكمة نأمل أن تمتلكها الأحزاب السياسية العراقية في هذه المرحلة الجديدة من تطور العراق.  
• رفض التدخلات الإقليمية في شؤون الأحزاب السياسية العراقية وتأثيراتها السلبية على اتخاذ مواقف موحدة من الوضع الجديد الناشئ في العراق.
• اعتبار الاحتلال حالة مؤقتة ينبغي أن يزول حال استتباب الأمن وحصول الاستقرار السياسي وقيام حكومة وطنية عراقية, إذ أن التفتت الراهن في القوى السياسية العراقية وضعفها العام وضعف علاقاتها بالجماهير الشعبية من جهة, والتسلح الكبير للقوى الصدامية وقوى الإسلام السياسي المتطرفة من جهة أخرى, يمكن أن تقود إلى مشكلات جديدة بما فيها وقوع معارك داخلية تزيد من تعقيدات الوضع ويخسر الشعب العراقي المكسب الكبير والبالغ الأهمية, وأعني به سقوط النظام السياسي الفاشي في العراق وتوفر مستلزمات أفضل لبناء عراق ديمقراطي مستقل. 

لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي واجتماعي في العراق في الظروف الراهنة أن يتجاوز أربع حقائق مهمة, وهي:
_ إن البلاد ما تزال مخربة والبنية التحتية مدمرة والأوضاع النفسية للجماهير الواسعة محطمة, والقوى العدوانية لصادم ما تزال تعيث في مناطق من العراق فساداً, وسلطة الاحتلال ما تزال لا تريد فهم الواقع تماماً, وبالتالي, فأننا جميعاً بحاجة ماسة إلى رؤية شمولية وعلمية للعراق ولآفاق تطوره وفق منظورين قريب المدى وبعيد المدى.
- وأن البلاد تخضع للاحتلال الأمريكي – البريطاني, وأن الدولتين, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية, لها مشاريعها الخاصة في العراق والتي تتسع لتشمل المنطقة بأسرها والعالم. وأنها تريد ربط العراق بسياساتها العولمية اللبرالية الجديدة وبمصالحها على صعيد المنطقة والعالم, وأنها تتناقض في بعض أبرز أوجهها مع المصالح الوطنية للشعب العراقي. ويصعب على العراق حالياً وفي المستقبل الخلاص من هذا القيد الذي تسبب به نظام الدكتاتورية في العراق حتى قبل سقوطه بسنوات طويلة حين فقد العراق في ظله الاستقلال والسيادة الوطنية وقدرة التحكم بموارده المالية واتجاه تطوره.
- وأن أي إصلاح اقتصادي - اجتماعي في العراق لا يمكن إلا أن يأخذ بنظر الاعتبار وجود وتأثير ودور قوى الاحتلال أولاً وطبيعة السلطة القادمة والبرنامج الذي تتبناه ثانياً. أي هل سيكون البرنامج وطني عراقي مشترك تلتقي عنده جميع أو أغلب القوى السياسية العراقية التي تحوز ثقة الشعب, أم ستكون هناك قوى سياسية منفردة في السلطة ولها برنامجها الخاص, أو ستكون سلطة مؤيدة لوجود وسياسات الولايات المتحدة بالكامل في العراق. إنها وكما يبدو مسالة معقدة ولكن لا بد من خوضها.
- وأن أي إصلاح اقتصادي – اجتماعي يفترض أن يأخذ بنظر الاعتبار واقع وجود اتحادية فيدرالية في العراق, وهي اتحادية كردستان العراق, حيث يمكن أن تنشأ اتحادية عربية بجوارها وحكومة مركزية على مستوى العراق كله, حيث يتم في إطار ذلك تأمين التوزيع العقلاني للموارد المالية وخطط التنمية الإقليمية والمركزية في الجانبين الاقتصادي والبشري أو الإنساني وفق معايير يتم الاتفاق عليها بين الحكومة المركزية والحكومتين الاتحاديتين. حتى في ظل الحكم الاتحادي نحن بحاجة على نظام إدارة اقتصادية واجتماعية لامركزية بالنسبة على المحافظات بما يساعد على تطورها المعجل والمتناسق بين جميع المحافظات.
      
ومع الأخذ بنظر الاعتبار هذه الملاحظات يبقى السؤال المشروع يدور حول طبيعة السلطة التي ستقود البلاد خلال فترة الانتقال أولاً وفيما بعد ثانياً. فاذا جاءت حكومة تمثل قوى سياسية عديدة متحالفة أو متعاونة في ما بينها وتحترم وتمارس الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان وحقوق الشعب الكردي والأقليات القومية والدينية وتحترم وتلتزم بالعلاقات والمواثيق العربية والإقليمية والدولية, فأنها ستكون أمام خيار واحد لا يمكن الزوغان عنه, أي سيصبح لزاما عليها ممارسة نهج ديمقراطي صارم لا في مجال الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي يحتاجه العراق بشكل ملح وعاجل فحسب, بل وممارسة سياسة ديمقراطية وعقلانية نحو الدول العربية الشقيقة ودول الجوار وبقية دول العالم أيضا. ولكن, كيف سيكون الموقف من الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي يحتاجه العراق في المرحلة القادمة؟
عند اجتهاد الإجابة عن هذا السؤال ستبرز وجهات نظر عديدة تحمل في طياتها جملة من الاختلافات. وهي مسالة إيجابية وصحية إذا ما وافق الجميع على مبدأ خوض حوار ديمقراطي موضوعي, عقلاني ومسؤول, إذ من خلاله ومشاركة أوساط واسعة من فئات المجتمع يمكن الوصول إلى رؤية مشتركة أكثر قربا من الواقع, إذ يستحيل وضع سياسة تتطابق مع الواقع تمام التطابق. وفي كل الأحوال ليست أمام العراق خيارات كثيرة. وأحد أبرز خيارات الإصلاح الاقتصادي يصلنا من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتتبناه وتدعو له الدول الرأسمالية المتقدمة, إنه النموذج الموجه لبلدان العالم الثالث, إنه برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي. فما هي جوانب هذا النموذج, وهل هو مناسب لأوضاع العراق الملموسة, وما هو البديل المحتمل في حالة رفضه؟
 يطرح مروجو ودعاة هذا البرنامج بأن من شأن السياسات والإجراءات التي يتضمنها إيصال العراق إلى شاطئ التقدم والرخاء والسلام, ومنها بشكل خاص ما يلي: 
 1. تخلي الدولة الكامل عن التدخل في الشؤون الاقتصادية وترك المجال واسعا ومفتوحا للدور القيادي والرئيسي للقطاع الخاص وللمنافسة الحرة . إنها اتجاهات اللبرالية الجديدة التي لم تعد تقبل بأية مشاركة للدولة في العملية الاقتصادية وتدعو إلى تصفية تامة لقطاع الدولة تحت شعار "الخصخصة" الكاملة. أي أنها تسعى "إلى تحديد دور الدولة الاقتصادي في تنظيم التوازنات الاقتصادية والمالية الكلية داخلياً ومع الخارج" , إنها وبهذا المعنى ستترك انسياب الفائض الاقتصادي صوب القطاع الخاص فقط وتمنعه عن الدولة, وبالتالي, تساهم مع عوامل أخرى في تأمين انسياب القسم الأكبر من الدخل القومي لصالح أصحاب رؤوس الأموال . وبصدد العراق فأن شعار الخصخصة يمس قطاع النفط الخام أيضاً الذي يسيل له لعاب شركات النفط الاحتكارية وترفضه الأغلبية العظمى من الشعب العراقي ومن العاملين في الشؤون الاقتصادية العراقية.
2.  التخلي عن سياسات البرمجة الاقتصادية الحكومية والذي يعني في الوقت نفسه تخلي الدولة عن المشاركة في التأثير النسبي على سياسات التوظيف والتشغيل والأجور والأسعار ودعم الأسعار وترك ذلك كلية لقوانين أو آليات السوق دون تدخل الدولة .
3.  ممارسة سياسة الانفتاح الاقتصادي أو الاندماج الكامل والعاجل بالسوق الدولية والتي تعني بدورها الكف عن وضع أية قيود على حركة رؤوس الأموال والتجارة الخارجية وتصدير الأرباح, وكذلك التخلي عن التزاماتها بتنفيذ بنود قوانين العمل المحلية, وإلغاء القيود الجمركية النسبية لحماية الصناعة الوطنية الحديثة التكوين من حدة المنافسة الأجنبية غير المتكافئة, أي الدعوة للتخلي عن وضع وتنفيذ تعريفات جمركية وقيود وضرائب تحد من دخول أو خروج رؤوس الأموال والسلع, بغض النظر عن المصاعب الجدية التي تواجهها السلع المصنعة والمنتجات الزراعية للبلدان النامية في الولوج إلى أسواق الدول المتقدمة.
4.  .إجراء تغييرات واسعة في السياسات المالية والنقدية والضريبية, باتجاهات تقليص الإنفاق الحكومي العام وإلغاء الدعم الحكومي الذي يقدم للسلع والخدمات ذات الاستهلاك الشعبي الواسع. هذا من جانب, أما الجانب الثاني منها فيتمثل بمطالبة المؤسسات المالية الدولية حكومات هذه البلدان بزيادة الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات التي من شأنها إرهاق ميزانية الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود والدخل الواطئ وبقية الكادحين, في حين تدعو إلى إلغاء الضرائب المباشرة أو تقليصها إلى الحد الأدنى على الدخل السنوي للأفراد وعلى أرباح الشركات الرأسمالية, أي إنها تعمل من أجل التخفيف عن أصحاب المشاريع ورؤوس الأموال المحلية والأجنبية بحجة تحقيق نسبة أعلى من الأرباح التي تساعد بدورها على تأمين المزيد من التراكمات المالية لاستثماراتها في المشاريع الإنتاجية والتنمية البشرية التي تسهم بدورها, كما ترى, بزيادة فرص العمل الجديدة, في حين تزيد من أعباء العمال والكسبة والحرفيين وصغار الفلاحين والمستخدمين وصغار الموظفين والفقراء في المجتمع بشكل عام.
5.  إصلاح النظام المالي والمصرفي والنقدي وتعويم صرف العملة المحلية وتأمين استقرارها في ضوء العلاقة مع الدولار الأمريكي على نحو خاص.

إن الأهداف المعلنة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي من وراء هذه السياسات تتلخص في الوصول إلى إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات والميزان التجاري وتقليص الديون الخارجية وتحقيق معدلات استثمار ونمو اقتصادي أكثر ارتفاعا وتقليص البطالة والحد من ظاهرة ارتفاع الأسعار وتدهور أسعار صرف العملات الوطنية وتأمين دور قيادي للقطاع الخاص في عملية البناء الاقتصادي وإلغاء قطاع الدولة ودوره في الاقتصادات الوطنية وتسريع اندماج اقتصاديات هذه البلدان بالاقتصاد الرأسمالي الدولي أو في التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل.
إن هذه الاتجاهات في برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي لا تتميز بوحدانية الجانب والصرامة الشديدة, التي تستوجب مستلزمات غير متوفرة في البلدان النامية, ومنها العراق, فحسب, بل أنها لا تأخذ بنظر الاعتبار نقاط جوهرية يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
 إنها تسقط العلاقة العضوية القائمة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع التي يفترض أن تكون لصالح المجتمع , ولكنها في واقع الأمر تمارس سياسة طبقية صارمة, سياسة تحقق مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة ومصالح الفئات الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج والغنية على التوالي. فهي لا تتجنب الحديث عن الديمقراطية السياسية فحسب, بل تكثر من الحديث عن اللبرالية الاقتصادية وحرية المنافسة, وهي تضعف قدرة الدول النامية على المنافسة والبقاء في السوق الدولية لصالحها, إنها تنسى بكل معنى الكلمة أو تتناسى الديمقراطية وحقوق الإنسان لا في الحياة السياسية فحسب, بل وفي نشاط المؤسسات الاقتصادية والحياة النقابية, إذ ما يهمها يتركز في دمج اقتصاديات وأسواق هذه البلدان بالسوق الدولية وفتح الأبواب أمام نشاط احتكاراتها الدولية. إنها تطالب حكومات هذه البلدان بامتلاك الإرادة السياسية لتنفيذ البرنامج, والذي لا يعني سوى ممارسة سياسة الاستبداد الاقتصادي في تنفيذ سياسات اقتصادية لا تتبناها الغالبية العظمى من السكان ولا تخدم سوى مصلحة أقلية ضئيلة في المجتمع.
 إنها تنسى الواقع الذي تواجهه هذه البلدان وأهمية وضرورة وجود قطاع حكومي ديناميكي وفعال ومؤهل إداريا وتقنيا ومستقل في أداء جملة من مهمات العملية الاقتصادية, خاصة وأن بعضها يمتلك موارد مالية يمكن توجيهها للأغراض التنموية حيث يعجز أو يمتنع القطاع الخاص عن الولوج فيها, إذ أن الدولة بحاجة إلى جزء من الفائض الاقتصادي لتوجهه إلى تلك المشاريع التي لا تتوجه صوبها رؤوس الأموال الخاصة لأي سبب كان, أو من أجل تأمين الدعم الحكومي النسبي للتخفيف من أعباء شدة استغلال رأس المال؛
 إنها, وهي تدعو إلى تقليص الإنفاق الحكومي, تركز على تشديد الاختلالات القائمة حاليا التي تعمق من انقسام المجتمع إلى معسكرين, الأغنياء والفقراء, وتجهز على مواقع الفئات الاجتماعية الوسطى وتنهي عمليا وجودها على الخارطة الاجتماعية للسكان, ولكنها تسكت كلية عن, أو حتى تشجع على, شراء الأسلحة التي تحمّل ميزانية هذه البلدان موارد مالية كبيرة وتزيد من مديونيتها الخارجية وتشجعها على حل مشكلاتها الداخلية والإقليمية بالقوة وممارسة العنف والحروب, كما لا ترفض تزويد البلدان التي تقوم بعمليات التسلح المستمرة بالقروض, وتغفل تماما الأضرار الناجمة عن ذلك على العملية الاقتصادية وارتفاع المديونية الخارجية وتدهور الحياة المعيشية والاجتماعية للغالبية العظمى من السكان.
 إنها تقود إلى توسيع الاختلال الراهن في توزيع الدخل القومي وإلى تعميق الفجوة الدخلية والمعيشية بين الطبقات والفئات الاجتماعية وتؤدي إلى مزيد من البطالة وتخلق بؤر جديدة للتوتر الاجتماعي والصراع الطبقي والسياسي.
 إنها تهمل كلية البيئة وأهمية ومستلزمات حمايتها وتخليصها من التلوث المتفاقم في إطار عملية التنمية الوطنية.    
 وهي تهمل التطرق إلى سبل حماية الكفاءات الوطنية المتسربة باستمرار نحو الخارج بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية والخسائر الفادحة التي تتحملها من جراء ذلك.
 وهي تتجنب الإشارة ولو من بعيد إلى أهمية التعاون الإقليمي للدول المتجاورة لصالح التعاون والتنسيق الاقتصادي, إضافة إلى إهمالها موضوع تطوير البحث العلمي والتقني.

ومع ذلك, فليس كل ما هو مطروح في برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي خاطئ أو غير مناسب لبلداننا, ولكن فيه الكثير الذي يلحق أضرارا باقتصاديات ومجتمعات هذه البلدان, وخاصة تلك السرعة والشمولية والجذرية التي يراد بها تطبيق سياسات هذا البرنامج. ولهذا لا بد من التفكير بالطريقة التي نراها مناسبة للسير على طريق الإصلاح والتنمية دون أن تهمل الاتجاهات التي يطرحها هذا النموذج الرأسمالي الذي يستند إلى النظرية اللبرالية الجديدة في الفكر البرجوازي الحديث.
 
نواجه المجتمع والسلطة الجديدة التي يفترض أن تتشكل في العراق مهمات التخلص من عواقب سياسات النظام الدكتاتوري, وتستوجب على نحو خاص:
البدء السريع بعملية إعادة إعمار العراق وإعادة الحياة للمشاريع التي دمرتها الحرب الأخيرة أو عمليات التخريب التي قام بها أعان النظام السابق أو غيرهم من جماعات التخريب, ورفع وتسريع معدلات النمو الاقتصادي, وزيادة حجم الاستثمارات وتأمين توزيعها العقلاني, وتحسين تقنيات الإنتاج وزيادة فرص التشغيل ورفع إنتاجية العمل وتحسين نوعية الإنتاج, وتحسين مستوى دخول الأفراد والعائلات وضمان مستوى مناسب من العدالة الاجتماعية المتطورة, وتعجيل التنمية البشرية وتحسين مستوى الخدمات الاجتماعية وحماية البيئة, وتنشيط وزيادة كفاءة العلاقات الاقتصادية العربية والدولية .
ويمكن, أو يفترض, أن تتحقق هذه المهمات على مرحلتين رئيسيتين هما:  
المرحلة الأولى: وتتضمن عمليات إعادة الحياة للمشاريع الاقتصادية والبنية التحتية المخربة في الاقتصاد العراقي, والتي يمكن أن تستغرق فترة غير قصيرة, ولكنها تعتمد بالأساس على الشروط والأدوات الاقتصادية والمالية التي يمكن توفيرها واستخدامها لتعجيل إنجاز مهمات هذه المرحلة, وبالتالي تأمين الحد المناسب من الشروط الضرورية لعملية تنمية أو إصلاح اقتصادي واجتماعي واسع النطاق وعميق في المجتمع. ويمكن أن تستغرق هذه المرحلة خمس سنوات على أقل تقدير.
المرحلة الثانية: وهي لا تبدأ مع نهاية المرحلة الأولى بل يفترض أن تتجاور معها بعد فترة وجيزة من بدء المرحلة الأولى. ويفترض أن يتجه التفكير إلى استخدام جميع الأدوات الاقتصادية والمالية والإدارية والفنية أو التقنية المتوفرة والممكنة, إضافة إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية من العملية التنموية والإصلاحية المنشودة. ويبدو لزاما على من يسعى إلى تحقيق التنمية وتأمين الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق الاستناد إلى الاتجاهات التالية:
• اعتبار الاقتصاد العراقي جزءا من اقتصاد المنطقة والعالم, يتأثر بهما أكثر بكثير مما يؤثر فيهما حاليا, ولكنه قادر على الاستفادة منهما والتفاعل معهما. وهي ظاهرة ليست جديدة ولكنها متنامية, إنها جزء من الطبيعة الموضوعية للعولمة . ومحاولة عدم الاعتراف بهذا الواقع أو الهروب منه ستنشأ عنها نتائج سلبية وخسائر غير مبررة ومضرة, إذ يفترض أن تتوجه الجهود لمعالجة مسألة أساسية في هذا الصدد, وأعني بها: التحري عن أسلم السبل للاندماج بالسوق الرأسمالي العالمي بما يخفف من سلبيات هذا الاندماج في العولمة على اتجاهات تطور الاقتصاد العراقي, ويزيد من إيجابياته, بسبب طبيعة وسمات ومستوى تطور ومشكلات الاقتصاد العراقي.
• إن المهمة التي تواجه المجتمع العراقي تتلخص في عملية التحول التي لا خيار فيها من بقايا ومخلفات مرحلة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ومن آثارها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وكذلك العلاقات العشائرية, التي عادت من جديد إلى بنية المجتمع العراقي لتفعل فيه بسبب سياسات وسلوكيات النظام الرجعي المقبور ذاته, إلى مرحلة التطور الرأسمالي. وهذا يعني بأن عملية التحول الرأسمالي ستكون بالنسبة للعراق عملية تقدمية دافعة إلى أمام, إذ إنها ستساعد على الخلاص من العلاقات البالية والمجتمع الفلاحي العشائري أو شبه الإقطاعي المتخلف, رغم أن 76 % من سكان العراق هم من سكان المدن حالياً, حيث لعب النظام الدكتاتوري دورا كبيراً جداً في تكريسها خلال العقدين الأخيرين على نحو خاص. أي أن العلاقات الرأسمالية, ورغم طابعها الاستغلالي ستلعب دورا إيجابيا وفعالاً في تغيير بنية الاقتصاد والمجتمع وتدفع به نحو التقدم.
• ولكن يبقى على راسمي السياسات الاقتصادية أن يأخذوا بنظر الاعتبار واقع المجتمع والمآسي التي مرّ بها وضرورة الأخذ بمفهوم ومضمون "اقتصاد السوق الحر الاجتماعي", أي بمعنى العناية بقدر أكبر بقضايا العدالة الاجتماعية وحياة وظروف العمال وتحديد ساعات العمل وضمان التأثير الإيجابي على علاقة تناسب سليمة بين الأجور وفائض القيمة وتأمين الضمانات الاجتماعية للعمال والمستخدمين …الخ, وعدم السماح للاستغلال الرأسمالي واستبداد اللبرالية الجديدة من تشديد خناقهما على المجتمع, والكادحين منه على نحو خاص.
 وهذه الحقيقة تعني دون مواربة بأن المهمة التي تواجه شعبنا في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور ليست الاشتراكية بل التطور الرأسمالي وفق معايير اجتماعية وديمقراطية جديدة ومناسبة, تأخذ بالاعتبار مفهوما نسبيا متحركا نحو الأفضل للعدالة الاجتماعية, رغم المصاعب الكبيرة التي ستواجهنا على هذا الطريق, خاصة وأن الولايات المتحدة لا تعترف بهذا النهج الاقتصادي الموسوم باقتصاد السوق الحر الاجتماعي.
• والسياسة التي نطرحها تعني بتعبير أدق أخذ الوصفة التي تقدمها المؤسسات المالية والنقدية الدولية, أي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, والدول الرأسمالية المتقدمة بتحفظ كبير وتدقيق وتطويع مناسبين, ولكن دون إهمال, إذ أن اهتمام هاتين المؤسستين ينطلق من مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة أولًا وقبل كل شيء, فهذه الدول تهيمن عليهما وتسير سياساتهما وتوجه نشاطاتهما.
•  والتوجه نحو اقتصاد السوق الحر الاجتماعي لا يعبر عن رغبة ذاتية بقدر ما هو واقع موضوعي لا يمكن ولا يصح الهروب منه أو تجاوزه. فعبر هذا التوجه يمكن انتهاج سياسة اقتصادية تعتمد الحرية الاقتصادية أو اللبرالية وتقليص دور الدولة إلى الحدود المعقولة في الحياة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص ودوره, ولكن هذا لا يعني بأي حال إلغاء دور قطاع الدولة, وبمعنى آخر اعتماد النشاط الاقتصادي للبلاد على تمويل ونشاط القطاع الخاص المحلي والعربي والإقليمي, وكذلك على القطاع المختلط, إضافة إلى مشاركة مناسبة من جانب القطاع الحكومي, خاصة وأن العراق يمتلك موارد أولية تدر عليه موارد مالية غير قليلة يفترض أن توجه للتنمية المباشرة, وليس إلى دعم القطاعات الأخرى فقط. فالإصلاح الاقتصادي المطلوب لا يعني بأي حال الإجهاز التام على قطاع الدولة, بل يعني عقلانية مساهمته في التنمية الوطنية مع تنشيط وتفعيل أكثر للقطاع الخاص, إضافة إلى الانتباه إلى أهمية حماية مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة مثل العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين على نحو خاص وتأمين مستوى معين من العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية.
• ويفترض في الدولة أن تتعاون مع القطاعات الأخرى في طرح الاتجاهات الاستدلالية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وأن تساهم في النهوض بهذه العملية, دون أن تفرض قيودا على حركة ونشاط القطاع الخاص والمختلط أو تتدخل في القرارات الاقتصادية لمنشآت القطاع الحكومي. وبمعنى آخر على الدولة, وفي ظروف العراق الملموسة, أن تتحمل مسؤولية المشاركة الفعالة في وضع برنامج اقتصادي عملي مقبول من جانب مختلف القطاعات ومرن يتضمن توجهات أساسية منها على سبيل المثال لا الحصر: برمجة التوزيع الجغرافي للاستثمارات والمشاريع؛ برمجة التشغيل والتخلص من البطالة مع الانتباه للتحديث التقني المطلوب والإنتاجية ومشكلة التكاليف؛ تأمين علاقة مناسبة بين التنمية الصناعية والزراعية التي تعاني اليوم من أسوأ أشكال التشوه في العلاقة في ما بينها وفي كل منها ومع بقية الفروع والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية, وكذلك الربط العضوي بين سياسة تأمين معدلات نمو اقتصادية مناسبة وحماية البيئة من التلوث, والتأثير المناسب على معدلات النمو السكانية.
• حرية التجارة التي يفترض أن تأخذ بالاعتبار الاتجاهات الدولية الجديدة وما تقرر في دورات أوروغواي وغيرها, مع محاولة تأمين إمكانية التطور للسلع والخدمات المحلية بالشكل الذي لا يتقاطع مع التجارة الحرة ودور القطاع الخاص فيه, سواء في التجارة الخارجية أم الداخلية. ولا شك في أن اعتراضات الدول النامية هي التي أوقفت وإلى فترة لاحقة ما كانت تريد الولايات المتحدة الأمريكية فرضه في مؤتمر منظمة التجارة الدولية الأخير في سياتيل في واشنطن.
• ويتطلب التوجه إلى مشاركة مناسبة للقطاع الخاص في مجال استثمار الثروات الأولية, بما فيها النفط الخام, لتأمين تسريع معالجة إشكاليات الاقتصاد العراقي الراهنة, دون أن يقود ذلك إلى تقليص دور قطاع الدولة في مجال النفط الخام أو الكبريت مثلا أو الفوسفات.
• ويفترض أن تحتل مهمة التقليص المستمر للأيدي العاملة العاطلة أو توفير فرص عمل جديدة مكانة خاصة في المرحلة الراهنة بسبب البطالة الكبيرة وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمع. ويفترض أن يراعى في هذا الصدد تقليص حجم البطالة واختيار المستوى المناسب من التقنيات الحديثة لتأمين تشغيل متزايد تدريجا ورفع إنتاجية العمل وتقليص تكاليف الإنتاج في آن واحد. ولا بد من بذل الجهود لاستعادة الكوادر العلمية والتقنية والمهارات التي غادرت العراق والاستفادة القصوى منها في عملية التنمية والإصلاح الاقتصادي. ومكافحة البطالة يتطلب دعم إنشاء وتطوير المشاريع الإنتاجية والخدمية الصغيرة والمتوسطة التي تستثمر مزيدا من الأيدي العاملة ولا تحتاج إلى رؤوس أموال أو عملة صعبة كبيرة, ولكنها تساهم في معالجة العديد من المشكلات الاقتصادية.
• ويتطلب الإصلاح الاقتصادي إجراء تغيير واسع النطاق في النظام الإداري وأجهزة الإدارة الاقتصادية في البلاد وتحديثها وفق أسس علمية, تلعب فيها الديمقراطية واللامركزية والمسؤولية الفردية والجماعية والمشاركة في النشاط الاقتصادي دوراً مهماً فيها وفي قراراتها وتوجهاتها العامة.   
• وضع وتنفيذ سياسات مالية ونقدية وضريبية جديدة على أن تراعي واقع الفقر السائد والتباين في الدخول ومستويات المعيشة بما يخفف من جشع ورغبة أصحاب رؤوس الأموال في تحقيق أقصى الأرباح على حساب المجتمع, إذ أن سوء توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي يقود دون أدنى ريب إلى نتائج سلبية في مجمل العملية الاقتصادية ويخلق بذلك المزيد من الاختلالات الجديدة. إذن نحن أمام مهمة عقلنة وتقنين الإنفاق الحكومي وتأمين مصادر جديدة لإيرادات خزينة الدولة, وخاصة من العملات الصعبة, على أن لا تتم تلك العقلنة على حساب الكادحين من الناس ولصالح أصحاب رؤوس الأموال. كما أننا بحاجة إلى توظيفات رأسمالية لتحسين مستوى التراكم الرأسمالي من خلال العناية بالعلاقة العقلانية بين فائض القيمة أو الربح والأجر في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي.
• وملاحظة أخيرة تستوجب الذكر, بسبب دأب العديد من الباحثين تأكيد الموضوعة التالية وكأنها حقيقة ثابتة لا يرقى إليها الشك أو كأنهم يمتلكون الحقيقة كلها, وهو نفس المرض الذي ابتلت به قبل ذاك الأحزاب الشيوعية والعمالية في الحركة الشيوعية العالمية بشكل عام, إضافة إلى بعض الحركات الفكرية والعقائدية الأخرى, ومنها بعض الحركات الإسلامية الأصولية, ومفادها:
"إن فكرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية لم تعد قابلة للتطبيق, إذ أنها سقطت وإلى الأبد". وهذه الموضوعة المتعجلة ناشئة من مواقع فكرية وسياسية مختلفة وتستند إلى أحكام مسبقة قديمة ,إلى سقوط نظم اشتراكية الدولة في الاتحاد السوفييتي وفي أوربا الشرقية أو في غيرها. ولكن من الواقعية بمكان أن نشير إلى أن فشل وانهيار تلك التجارب لا يعني بأي حال انتصار الرأسمالية, بل يعني سقوط سياسات النظم غير الديمقراطية والشمولية التي مارست شكلا من "رأسمالية الدولة الاشتراكية البيروقراطية والأصولية المتيبسة والمشوهة" من جهة, ويعني أيضاً بأن الرأسمالية ما تزال تمتلك مبررات وجودها واستمرارها وقادرة على مواجهة جملة من تناقضاتها واختلالاتها ومصاعبها الداخلية ومعالجتها لفترة طويلة قادمة من جهة ثانية. إن النضال في سبيل العدالة الاجتماعية, حيث تبدو حلما في نظر البعض, يفترض أن تتحول إلى حقيقة واقعة في يوم ما, رغم أنها سوف لن تكون على شاكلة التجارب التي عاشها العالم أو عرف عنها, ولن تكون قريبة المنال كما رغبنا فيها, كما لن تكون شكلا واحدا كما تصورناها, كما لن تكون نقلاً لتجارب الآخرين, وبالتالي, ساهمنا في تشويه فكرتها ومضامينها الأساسية. فالرأسمالية ليست نهاية التاريخ كما يراها فرنسيس فوكوياما, كما أن العالم لا يواجه تحولا نحو صراع الثقافات أو الحضارات بدلا من صراع الطبقات, أو بدلا من صراع الأغنياء والفقراء في عالم تتسع فيه الفجوة الدخلية والمعيشية ويتفاقم الاستقطاب, كما يريد له صاموئيل هنتنكتون أن يكون في كتابه المعروف "صدام الحضارات", بل ستبقى الرأسمالية تعيش تناقضاتها وصراعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية القديمة والجديدة, وستبقى حبلى بالجديد المتقدم, كما ستكون حبلى بمضامين أكثر عمقا ووعيا للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية على المدى البعيد بالنسبة لأوساط واسعة من شعوب تلك البلدان. وعلينا أن لا ننسى بأن الديمقراطية في الدول الرأسمالية المتقدمة تعيش أزمة شديدة ويفقد السياسيون فيها مصداقيتهم أمام القسم الأعظم من شعوبهم, وهي حقيقة تعترف بها الغالبية العظمى من القوى الفاعلة في المجتمع. ولكن هذا لا يعني أن علينا أن نفتش عن بديل للديمقراطية البرجوازية, بل علينا تعميقها وتوسيع مضامينها, كما حصل حتى الآن بالنسبة على لائحة حقوق الإنسان التي تطورت بصدور الكثير من العهود والمواثيق المكملة لها.

رابعاً: مناقشة مع بعض الملاحظات النقدية لمقال "أفكار حول الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق"

الحوار ظاهرة صحية ومسالة مطلوبة جدا في المرحلة الراهنة, ولا يمكن أن يتم الحوار إلا من خلال الرأي والرأي الأخر, وبالتالي يمكن اعتبار ما بدأته في الندوة التي بادرت ودعت إليها رابطة الشباب المسلم في لندن ومن ثم نشر المداخلة التي قدمتها هناك في جريدة الزمان والمناقشة التي نشرها الأستاذ الدكتور خليل شمة في جريدة الزمان أيضا, دليل على حيوية وأهمية هذا الموضوع وعلى ضرورة مواصلته.
ابتداء أود الإشارة إلى ثلاث ملاحظات جوهرية لوضع الحوار على قاعدة صلبة وأمينة, وهي:
1. لم يخالجني شك بأن ما قدمته من أفكار وملاحظات ليست نهائية كما إنها ليست رؤية كاملة عن احتمالات الإصلاح الاقتصادي في العراق, إذ في ذلك عدم تواضع وقفز فوق الإمكانيات والواقع الذي ما نزال نعيش فيه؛
2. إن البحث في هذا الموضوع الشائك يفترض أن يأخذ بالاعتبار أن النظريات الاقتصادية لم توضع في فراغ, فهي مقولات أو تجريدات لواقع قائم في زمان ومكان معينين, وبالتالي فهي قابلة للتغيير والتعديل. إن هذا لا يعني بأي حال التصرف الكيفي, بل ضرورة فهم القوانين الموضوعية في ضوء الواقع المعاش في هذا البلد أو ذاك.
3. من المؤسف حقا أن محرر الزمان, الذي أخذ على عاتقه نشر مداخلتي, تصرف بشكل سيْ وغريب في آن مع العناوين الرئيسية التي وضعت لبعض فقرات البحث, بحيث لم تتطابق مع مضمون البحث ولا مع غاياته, وبالتالي اضطرتني إلى أن أوجه رسالة إلى السادة في جريدة الزمان أعلن فيها عن احتجاجي وأسفي على هذا التصرف غير المسؤول. ومن بين تلك القضايا "فكرتا الاشتراكية والعدالة الاجتماعية سقطتا وإلى الأبد" أو "سقوط الاشتراكية" وكأني قائلها, في حين كنت أشير إلى وجود من يدّعي ذلك. وإذا كان الزميل شمة قد قرأ المقالة بكاملها وليس العناوين وحدها لوجد الخلل القائم بين المضمون والعناوين التي وضعت للبحث. وكان قلقي يكمن في هذه النقطة, إذ أن البعض يكتفي بقراءة العناوين لا غير.
لا أدعي أن السيد شمة قد قرأ مقالتي على عجل أو أنه لم يحاول جاهدا الولوج إليها تماما, ولكن هكذا تبدو الأمور. وسأحاول فيما يلي أن أتابع جملة من أفكاره, إذ أنه قد طرح مجموعة من الأفكار دون أن يبذل الجهد لإقناعنا بصوابها أو بلورة الحجة المدققة عليها.


الموقف من النظرية

إحدى الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها الكثير من الأحزاب السياسية أو الشخصيات السياسية المستقلة وما تزال تعاني منها هو في تبنيها النقلي لا العقلي للفكر الاشتراكي أو الفكر الرأسمالي دون محاولة تقريبها من الواقع المعاش في هذا البلد أو ذاك حيث يراد تطبيق هذه النظرية أو تلك. وبالتالي فأن الفشل الذي أصيبت به الكثير من التجارب على طريق الرأسمالية أو على طريق الاشتراكية كان لا بسبب تلك النظريات, بل لثلاثة أسباب مهمة هي:
• الأصولية في الموقف من النظرية باعتبارها قضية ثابتة غير متغيرة, في حين إنها متغيرة باستمرار مع التغيرات التي تطرأ على الواقع المعاش في مجموعة من البلدان وعلى المحيط الذي يحيط بتلك المجموعة. أي أن النظرية قابلة للتعديل والتبديل بالارتباط مع المجتمع والتغيرات الحاصلة فيه وعليه. وبالتالي فلا بد من إعمال الفكر في الاتجاهات والسبل والأدوات التي يمكن اختيارها وممارستها, سواء كان الطريق المنتخب موضوعيا وليس إراديا, اشتراكيا كان أم رأسماليا. فالرأسمالية, وكذا الحال بالنسبة للاشتراكية تمر بمراحل ولا يمكننا القفز فوقها, كما رغبنا في ذلك من قبل وسقطنا على رؤوسنا, وعلينا احترام ذلك والتعامل معه بموضوعية. كما أن الرأسمالية ليست صيغة واحدة, رغم أنها من حيث الجوهر وعلى المستوى الدولي, أصبحت اليوم أكثر توحشا من أي وقت مضى. ولهذا أشرت في مقالتي إلى أن خيار الرأسمالية لا بد منه وهو حالة تقدمية بالقياس للواقع الذي يعيش فيه العراق, بقايا الإقطاعية والعشائرية وما إلى ذلك, ولكن كيف يمكن اختيار الصيغ المناسبة للتخفيف من أعباء استغلال ووحشية الرأسمالية كنظام اقتصادي محلي وعلى الصعيد الدولي.     
• وكان الخلل في طريقة قراءة النظرية ذاتها وفي تقدير طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع. وعلى هذا الأساس نشأ صراع غير مبرر بين مختلف القوى على الراديكالية في تطبيق الفكر الاشتراكي أو الفكر الرأسمالي. ففي الوقت الذي كان المجتمع يعيش مرحلة متخلفة في مجالي الوعي والممارسة, كانت المطالبة تتجه في الوقت نفسه إلى أقصى الحدود والفجوة بينهما كانت سحيقة وواسعة. ويمكن لتجارب مجموعة بلدان النمور الآسيوية الأولى والثانية أن تقدم الدليل على ذلك من اتجاهات تطورها خلال العقدين المنصرمين مثلا. كما يمكن لتجاربنا أن تقدم لوحة أخرى بهذا الصدد.
• ولعب الصراع الدولي بين الشرق والغرب, أو بين الدول الرأسمالية المتقدمة والدول الاشتراكية المتخلفة دورا كبيرا في فرض السياسات على الخيارات الاقتصادية. وكان لهذا الواقع ثمنه القاسي والغالي. فمن يرجع إلى دراسات نادي روما والأمم المتحدة سيجد بأن النماذج الرأسمالية والنماذج الأخرى على طريق التطور اللارأسمالي أو الاشتراكي كلها كانت فاشلة بالنسبة إلى بلدان الشرق الأوسط أو الكثير من البلدان الأخرى في أمريكا اللاتينية أو في أفريقيا. وهذا لا يعني خطأ في تلك النظريات, بل عدم انسجامها مع الواقع القائم في تلك البلدان.
من هنا أجد أن الملاحظة التي يطرحها السيد شمة بأن على المرء أن يقرر موقفه الحالي في التطور مع الرأسمالية أو الاشتراكية صحيح حقا, ولكن مع تحفظين هما:
- إن صيغ تطبيق الرأسمالية ليست واحدة بل توجد صيغ كثيرة تتخذ لا وفق المراحل فحسب, بل ووفق الإمكانيات والقدرات الفعلية والوعي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع, وليس للنخب الحاكمة أو القوى السياسية الراغبة في التغيير لا غير؛
- إن الرأسمالية لا تشكل نهاية التاريخ وأن فكرة العدالة الاجتماعية ممكنة لا على أساس الجانب المطلق منها والذي لا يمكن تحقيقه ومجرد خيال ورغبات, بل العدالة الاجتماعية النسبية التي يمكن الوصول إليها ويفترض التفكير فيها, إذا أردنا لهذا العالم أن يستمر ويتطور ويتخلص من الإشكاليات التي تدفعه إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وعلى المدى البعيد جدا.
يقول السيد شمة بأن النظرية الرأسمالية قد انتصرت على النظرية الاشتراكية تماما وانتهى الأمر. كم هو سريع هذا الاستنتاج الذي لا يتعلق بالعراق وحده, بل يمس العالم بأسره, فهو يردد نفس الفكرة التي طرحها في بداية العقد الأخير من القرن العشرين حين نشر كتابه "نهاية التاريخ, كما أنه يذكرنا بالأساليب التي كنا نتبعها سابقا في الحكم على الأشياء وإذا كان في السابق في موقع آخر فهو اليوم يمارس نفس الأسلوب من موقع آخر. لقد سقطت تجارب اشتراكية الدولة في الدول الاشتراكية السابقة لأسباب يصعب خوضها الآن, ولكنها دون أدنى ريب سقطت من الداخل أساسا لأنها لم تتوفر لها مستلزمات نجاحها من حيث الأساس المادي ومستوى تطور المجتمع وسيادة اللاديمقراطية والإرادية والاستبداد الذي مارسه الحزب الشيوعي الحاكم فيها, إضافة إلى تفشي جملة من الأمراض الاجتماعية الأخرى, وكذلك النشاط الدولي المعادي للنظم في هذه الدول.
لم يكن سقوط الدول الاشتراكية سقوطا لفكرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية, كما وأنها لم تكن انتصارا للنظرية الرأسمالية, ولكنه في كل الأحوال انتصارا للدول الرأسمالية المتقدمة. لا يحل الصراع بين الاستغلال والعدالة الاجتماعية على هذه الطريقة ولا على المدى القريب, ولهذا أشرت في البحث إلى أن الرأسمالية على الصعد المحلية والدولية ما تزال تمتلك مبررات وجودها موضوعيا, ومن هنا جاء أيضاً أن الاشتراكية ما تزال لا تمتلك مبررات حلولها محل الرأسمالية موضوعيا.
طرح السيد شمة في مجال النظرية أنه لا يستطيع أن يفهم كيف يمكن أن يكون في الرأسمالية تناقضات من النوع الذي أشرت إليه في قولي "بل ستبقى الرأسمالية تعيش تناقضاتها وصراعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية القديمة والجديدة وستبقى حبلى بمضامين أكثر عمقا ووعيا للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية على المدى البعيد". ويبدو لي أن الزميل الفاضل لم يفهم مسالتين في هذا الطرح وهما:
• إن الرأسمالية تعيش تناقضاتها باستمرار وما الأزمات بمختلف أشكالها إلا أحد صيغ التعبير عن تلك التناقضات, كما أن التناقض يبرز بين العمل ورأس المال على الأجور وظروف العمل وغيرها, وكذلك على المستوى الدولي بين بلدان الجنوب والشمال, بين الفقر والغنى …الخ. أفليست هذه تناقضات في الواحد, في الشيء الذي نبحث فيه؟ وإذا لم تكن كذلك فما هي أذن؟  
• وفي رحم الرأسمالية ينشأ الصراع وينمو داخل المجتمع القائم ويتطلع للأفضل, يرفض الاستغلال بصيغه الحالية ويرفض الهيمنة بصيغتها الجارية, يتطلع إلى مزيد من الديمقراطية وإلى مزيد من ممارسة حقوق الإنسان. أنظر إلى ما يجري في الولايات المتحدة ذاتها من صراع حول الديمقراطية. هذا القطب الأوحد لا يشارك في انتخاباته سوى 33-35 % من مجموع الناخبين, هذا البلد الكبير فيه أكثر من 40 مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر. ألا تجد أن بين هؤلاء من يتطلع إلى التغيير, بالرغم من الاختلاف في رؤية طبيعة التغيير. إن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بدأت مع الثورة البرجوازية في فرنسا في عام 1789 وتطورت في كومونة باريس ثم وجدت مفاهيم جديدة لها في ثورة أكتوبر في روسيا, وفي تطور حركات التحرر, وهي تمس اليوم قضايا مهمة أخرى مثل البيئة, فهل يعجز الإنسان عن أن يرى كيف يمكن وفي ظل الرأسمالية أن يفكر بالتغيرات الجزئية من جهة, وباحتمالات تغييرات أوسع وأعمق على المدى الأبعد من جهة أخرى. ليس ما أتحدث عنه وهماً, وإذا كان حلماً فالأمر مقبول أيضا, إذ أن الكثير من الأحلام قد تحققت للبشرية منذ بدء تاريخ البشرية المعروف لنا.
يبدو أن السيد شمة يعتبرني من القليلين الذين يلاحقون الأحداث في هذا المجال, وهو يريد أن يقول أنه من تلك القلة وإلا لعجز عن التقدير. ولكن لا أدري كيف لم يطلع على تجارب في هذا الصدد في عدد من البلدان الأوربية ومنها السويد وألمانيا منذ السبعينات على سبيل المثال لا الحصر. الكل يدرك مدى وحشية الرأسمالية وغّيها ورغبة الرأسماليين في تحقيق المزيد المستمر من الأرباح على حساب شعوبهم والشعوب الأخرى. وفي هذا الصدد تبلورت فكرة تأمين الضمانات الضرورية لمزيد من دور الدولة في تأمين مصالح أساسية للمنتجين والعاملين في مختلف المجالات في مقابل محاولات الرأسماليين تقليص تلك الضمانات. وقد ساعد وجود البلدان الاشتراكية في حينها على بلورة مهمات كبيرة على هذا الطريق وسارت الاشتراكية الدولية على هذا الطريق وما تزال نسبيا, إذ أن غياب تلك الدول دفع بها إلى التخفيف من هذه الوجهة لضمان مصالح الشغيلة. ولكنها ما تزال موجودة. هذه الإجراءات لا تلغي الاستغلال فهو أساس وجود الرأسمالية والرأسماليين, ولكنها تخفف من عبء الاستغلال من خلال وضع نظم للأجور والخدمات والتطبيب والإجازات والتقاعد …الخ. وهذه الإجراءات الخاضعة للصراع أيضاً وإلى الزيادة والنقصان هي شكل بسيط من أشكال ما يسمى بالسوق الاقتصادي الحر الاجتماعي, أي ضمانات اجتماعية للسكان من غير مالكي وسائل الإنتاج. إذن أنا لا أريد أن أجمل الوجه القبيح جداً للرأسمالية, ولكن أريد أن اقلل قدر الإمكان, ما دام وجود الرأسمالية ضرورة موضوعية لا نستطيع لها رداً, من استغلالها البشع للشغيلة, فهل في هذا عيب أم خيال خصب أم رؤية عيسوية للأمور, أم رؤية افلاطونية؟ وهل ينبغي أن نقبل بها كما هي ما دمنا غير قادرين على تغييرها؟ المنطق ذاته يرد على نفسه, إنه المنطق الشكلي في الحوار لا الحوار المادي الجدلي الذي يرى في الشيء "وحدة وصراع الأضداد".
يقول بأني في طروحاتي الفكرية هلامي أحاول أن أزاوج, وربما يريد أن يقول وبصورة غير شرعية, بين الرأسمالية والاشتراكية, عند الحديث عن عدد من القضايا ومنها على نحو خاص العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص. وفي النموذج الذي طرحه وضع مراحل عدة لهذه العلاقة والراسخ في العلم فقط يدرك مدى هذه الفترات التي لم يحددها. ولكن ألم يتحدث كينز عن دور قطاع الدولة في فترات معينة من تطور الرأسمالية, ألم تمارس الرأسمالية في الدول المتقدمة دورا معينا لقطاع الدولة في مجالات مختلفة وخاصة في أعقاب الحرب, وبعضها حتى الآن يمارس ذلك, أوليس من حقنا أن نمارس نفس الأسلوب لحاجة ماسة لكل القطاعات من حيث الملكية؟ ألم أتحدث عن القطاع الخاص المحلي والأجنبي والعربي والإقليمي والدولي للمشاركة في تخليص العراق من محنته الراهنة؟ هذا هو عين التطرف والأصولية الرأسمالية التي لا يمكنها أن تنجح لتخليص العراق من واقعه الراهن. لقد حاولت أن أشير إلى الخصوصية العراقية بشأن ثروات النفط والكبريت وربما غيرها أيضا, التي يمكن للدولة أن تشارك فيها, ولكن على أسس أخرى, كما يمكن للدولة أن تضع معايير لعمل القطاع الخاص على أن لا تؤثر على قراراته الأساسية. من يرجع إلى الرأسمالية في تطورها التاريخي سيجد مثل هذه الإجراءات في الكثير من البلدان المتقدمة حاليا, ولم يكن ذلك خللا في العملية, فلماذا نرى في ذلك خللا للعراق؟
برلين في 1/07/2003       كاظم حبيب         

 

 

 

 

 


  قدمت هذه الدراسة لأول مرة في مؤتمر عقد في ربيع عام 2000 في لندن وأقامه الشباب المسلم بمناسبة الذكرى العشرية لاستشهاد السيد محمد باقر الصدر وأخته نور الهدى الصدر. وقد أجريت تعديلات وإضافات على الدراسة لكي تجيب عن الأسئلة التي طرحت فيما بعد وتأخذ بالاعتبار التغيرات التي طرأت على الواقع العراقي منذ تلك الفترة حتى الوقت الحاضر وأهمها: سقوط النظام الدكتاتوري عبر الحرب التي شنتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أولاً, واعتبار العراق بلداً محتلاً من قبل مجلس الأمن الدولي إلى أجل غير مسمى ثانياً. وهذا الأمران الكبيران الإيجابي منه والسلبي يطرحان على الباحث أخذ الأمر بنظر الاعتبار بسبب تأثيرات الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص على وجهة التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العراق من جهة, وصياغة الموقف الذي يرى الباحث ضرورة الأخذ في المسيرة اللاحقة من جانب القوى السياسية الوطنية العراقية ثانياً. ولهذا يطرح الموضوع للحوار بهدف بلورة الموقف المشترك للقوى الوطنية بصدد مستقبل الاقتصاد العراقي وثرواته النفطية. ك.حبيب
  الصدر, محمد باقر. اقتصادنا. دار التعارف للمطبوعات. بيروت. 1991. ص 13.
  ملاحظة: تستوجب الإشارة هنا إلى أن الدول الرأسمالية المتقدمة وخاصة في أوربا قد التزمت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنموذج كنز للتنمية والذي أعتمد على دور أكبر للدولة ونشاطها الاقتصادي وتأمين مستلزمات تطور القطاع الخاص من جانب الدولة أيضا. إلا أن البرجوازية الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا قد تراجعت عن هذه السياسة من خلا تصفيتها التدريجية لقطاع الدولة وتأكيد ضرورة تقليص تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية. وهذا الاتجاه في السياسة الاقتصادية هي الذي يطلق عليه بسياسة اللبرالية الجديدة والذي يتضمن عناصر عديدة أخرى بما فيها الكف عن دعم أسعار السلع والخدمات التي كانت وما تزال تمس مصالح الفئات الكادحة والفقيرة في المجتمع وتؤثر عليها سلبيا, وكذلك تقليص نفقات الدولة على مشروعات الخدمات الاجتماعية …الخ.  
  السعدي, صبري زاير د. الاقتصاد السياسي للتنمية والاندماج في السوق الرأسمالية العالمية. بحث منشور في مجلة المستقبل العربي. يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية. العدد (249) 11/1999. بيروت. ص 31.
  زكي, رمزي د. اللبرالية المستبدة. سينا للنشر. ط 1. القاهرة. 1993. ص 82-94.
  زكي, رمزي د. اللبرالية المستبدة.  نفس المصدر السابق. 
  قارن: السعدي, صبري زاير د. الاقتصادي السياسي…. مصدر سابق. ص 35. 
  السعدي, صبري زاير د. الاقتصاد السياسي للتنمية… مصدر سابق. ص 8.
  حبيب, كاظم. العولمة الجديدة. دراسة نشرت في مجلة "الطريق" اللبنانية. العدد 3 /1998. بيروت. ص 59-88.



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العوامل المحركة للقضية العراقية والصراع حول السلطة في العراق
- كيف يفترض أن نتعامل مع فتوى آية الله العظمى السيد كاظم الحسي ...
- موضوعات للحوار في الذكرى الأربعينية لثورة تموز عام 1958
- لِمَ هذه الخدمات المجانية لدعم غير مباشر لقوى صدام حسين التخ ...
- هل الدور الجديد الذي يراد أن تلعبه العشائر العراقية في مصلحة ...
- من أجل أن لا ننسى ما فعله الاستعمار البريطاني والنظام الملكي ...
- من أجل التمييز الصارم بين مواقف الشعب ومواقف أعداء الحرية وا ...
- قراءة في كتاب -دراسات حول القضية الكردية ومستقبل العراق- للأ ...
- انتفاضة السليمانية وثورة العشرين
- إجابة عن أسئلة تشغل بال مواطنات ومواطنين عرب ينبغي إعارتها ك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- تحويل بعض بيوت الله من منابر للتسبيح بحمد الدكتاتور إلى مراك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- الشفافية والمجاهرة حاجة ماسة في العلاقة المنشودة بين القوى ا ...
- من يقف وراء حملة التمييز بين مناضلي الداخل والخارج؟ وما الهد ...
- محنة الأكراد الفيلية في العراق!
- المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب
- إلى من تتوجه أصابع الاتهام في التخريبات الأخيرة والجارية في ...
- الدور الذي يفترض أن تلعبه قوى حركة التحرر الوطني الكردية في ...
- ماذا وراء أحداث الفلوجة وهيت؟


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - أفكار حول الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق