أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - موضوعات للحوار في الذكرى الأربعينية لثورة تموز عام 1958















المزيد.....


موضوعات للحوار في الذكرى الأربعينية لثورة تموز عام 1958


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 527 - 2003 / 6 / 28 - 14:11
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


                           

تمر علينا في هذا العام الذكرى السنوية أل 45  لثورة الجيش والشعب في تموز عام 1958. فإلى جماهير وقادة الثورة وكل المشاركين فيها, وإلى كل من سعى وما يزال يسعى إلى إرساء قواعد الحرية والديمقراطية وحقوق القوميات وحقق الإنسان والأخوة والعدالة الاجتماعية والسلام في العراق يتوجه كل الاحترام والتقدير والذكر الطيب.  ولتنير دروس العقود المنصرمة لنا جميعاً مسيرتنا الراهنة صوب الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني العلماني والفيدرالية والاستجابة لمصالح الشعب الأساسية والحفاظ على الثروة الوطنية وإنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية.


1

مارست الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي سياسات رجعية مناهضة للديمقراطية ومصالح الشعب ومضمون الدستور العراقي ذاته, الذي كان ينص على جملة من الحقوق المدنية والديمقراطية, وإصدار مجموعة كبيرة من القوانين الرجعية التي حدَّت أساساً من مفعول الدستور وقننت حرية الفكر والعقيدة والرأي السياسي والنشر والصحافة وحرية التنظيم السياسي والمهني, وحرية الإضراب والتظاهر. كما مارست أساليب القمع لمكافحة قوى المعارضة السياسية والرأي الآخر والمخالف. ولم يترك النظام الملكي, بسبب علاقات التبعية للسياسة البريطانية على نحو خاص, أمام الشعب أية فرصة أخرى لتحقيق التغيير الديمقراطي من خلال الحياة السياسية البرلمانية الحرة وممارسة السبل السلمية, سوى ممارسة الأساليب المسلحة التي يمكن أن تصل إلى حد استخدام العنف لمواجهة عنف الدولة.

2

تسنى لبعض فصائل من الجيش العراقي, الذي أسيئ استخدامه أكثر من مرة لقمع وثبات وانتفاضات ومظاهرات الشعب والحركات الفلاحية المناهضة للإقطاع والتي كانت تطالب بالحرية والديمقراطية والأرض والعمل وتأمين مصالح الشعب الأساسية وزج بأعداد غفيرة من المناضلين في السجون أو سلبتهم نعمة الحياة, أن تنهض للإطاحة بالنظام الملكي الإقطاعي وتقيم النظام الجمهوري في العراق. لقد حفر النظام الملكي قبره بيديه بسبب تلك السياسات التي مارسها منذ بدء تكوين الدولة العراقية الحديثة وتفاقمت تدريجا وأصبحت لا تحتمل من قبل الشعب وقواته المسلحة.
 

3

وعبَّر نجاح حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على السلطة في بغداد في الرابع عشر من تموز من عام 1958 عن دور وأهمية التكامل والتفاعل الإيجابي المثمر بين نضوج الظروف الموضوعية لعملية التغيير السياسي والاجتماعي وبين الاستعداد الواعي للقوى المنتفضة وتنسيقها وتناغمها النسبي مع حركة الجماهير الشعبية الواسعة المعارضة للسلطة الملكية - الإقطاعية - الكومبرادورية وللهيمنة الأجنبية غير المباشرة حينذاك. كما عبَّر في الوقت نفسه عن أهمية التحالفات السياسية- الاجتماعية التي كانت قد نشأت قبل ذاك في توفير المستلزمات الضرورية لنجاح مثل تلك الانتفاضة , وبخاصة نشر الوعي السياسي وفضح سياسات الحكم الملكي وتأمين التفاف أوساط واسعة من الشعب حول الحركة وقيادتها السياسية, رغم التباينات التي كانت قائمة في ما بين تلك الأحزاب والقوى على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية, أو التباين بينها وبين القيادة العسكرية للحركة. ومنذ الوهلة الأولى لانتصار الحركة المسلحة سعت الجماهير الشعبية الواسعة إلى التدخل الفعلي لحسم الموقف لصالح الانتفاضة وإلى فرض وجودها وثقلها السياسي على القيادة السياسية الجديدة وإلى محاولة تحويل تلك الانتفاضة العسكرية المسلحة إلى ثورة شعبية تتبنى مضامين سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة تستجيب لطبيعة المرحلة ومضمون المهمات الداخلية والعربية والدولية التي ناضل من أجلها الشعب, وكان من الممكن تحقيقها, إذ إنها كانت تعبر بشكل عام عن المصالح الأساسية والحيوية للقوى الاجتماعية والسياسية المساهمة في العملية الثورية.

4

وإذا كان النهوض الشعبي الواسع والمزاج الثوري الذي عرفته البلاد في أعقاب الانتفاضة العسكرية قد حسم الموقف لصالح الحركة, فأنه لم يقدر على تجاوز الواقع الفعلي الذي تبلور بسرعة فائقة وبرّ‍ز مجموعة من التناقضات تسببت تدريجا في نشوب صراعات ونزاعات سياسية ذات خلفية اقتصادية واجتماعية حادة ومهلكة. وساهم هذا الواقع في الحد من قدرات الدولة والمجتمع على تحقيق التغييرات العميقة المنشودة وعرقل مسيرة الثورة الديمقراطية ثم وفر مستلزمات انتكاستها وتراجعها وثم انهيارها الفعلي حتى قبل سقوطها على أيدي انقلابيي شباط في عام 1963.
ومن عاش أحداث تلك الفترة يستطيع أن يشَّخص بوضوح بروز فعل متميز للتناقض بين طبيعة القيادة العسكرية التي تسلمت الحكم وأشركت معها في السلطة مجموعة من المدنيين من ممثلي بعض الأحزاب السياسية وبين طبيعة ومنحى حركة الجماهير الشعبية الواسعة التي كانت الثورة قد فجرت قدراتها المكبوتة ولم يعد ممكنا فرض الحجر عليها في الحدود الضيقة التي كانت تريدها لها ذهنية القيادة العسكرية. أي إن الثورة قد واجهت ابتداءاً تناقضاً بين الذهنية العسكرية ذات الاتجاهات التسلطية وفرض الطاعة العمياء والطبيعة الاستبدادية, بغض النظر عن أشخاصها, وبين حركة الجماهير ذات المضمون الديمقراطي التي عرفت لأول مرة في تاريخها السياسي الحرية بمعناها العملي. ولا يغير من حقيقة الأمر أن ممارسة تلك الحرية قد اقترنت بجملة من الأفعال العفوية والفوضوية غير المشروعة والتي لا يمكن القبول بها أو تبريرها رغم معرفتنا التامة بأن مثل هذه الأفعال غالبا ما كانت تلازم مثل هذه الانتفاضات العسكرية والحركات الجماهيرية الناشئة عن الكبت والقهر الطويلين اللذين عانت منهما الجماهير الواسعة إذ كان يصعب حقا تجاوزها في مثل تلك الأحوال. وقد تبلور هذا التناقض بشكل أكثر وضوحا في المهمات التي واجهت الثورة والتي طرحتها الجماهير على السلطة السياسية الجديدة لتحقيقها وبين القيادة العسكرية - السياسية التي كانت لديها تصورات وإمكانيات أو حتى استعدادات محدودة في الاستجابة إلى مثل تلك الأهداف.
5

ومما زاد في الطين بلة أن الحكم الجديد لم يمس أجهزة الدولة التي كانت قائمة منذ العهد الملكي بالتغيير سوى مجموعة النخبة الحاكمة والتي كانت في الجوهر تعبر عن تناقض بين الحداثة والطابع المدني الذي أريد للدولة العراقية أن تكون عليه وبين الطابع الإقطاعي والعشائري الضيق للعلاقات الاجتماعية والسياسية التي سادت البلاد وطبعت نشاط المؤسسات القائمة. وهذا التناقض الصارخ أعاق عملياً حركة الدولة "الجديدة" والمجتمع نحو الأمام باتجاه الاستجابة لحاجات المجتمع المدني الديمقراطي وتنفيذ مضامين القوانين التي أصدرتها قيادة الدولة. لقد ساهم جهاز الدولة المناهض في بنيته للتحولات الجديدة المنشودة قد أعاق تطور قدرات الدولة والمجتمع على تأمين مستلزمات بناء المجتمع المدني السلمية والديمقراطية ومعالجة مشكلات الاقتصادية والاجتماعية ونزاعاته السياسية. لقد كان على جهاز الدولة الملكي الإقطاعي وفق ذهنيته ومواقفه وأساليب عمله البالية والرجعية أن ينفذ مهمات التحولات الرأسمالية الحديثة والتقدمية التي طرحتها طبيعة المرحلة الجديدة, ولم يكن هذا ممكناً وقاد إلى طريق مسدود.

6

وبعد أن بدأت الحركة الجماهيرية تفرض جملة من شعاراتها على السلطة السياسية وتتجلى في مجموعة من القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستويات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية, بدأت تلك التناقضات تجد تعبيرها الواضح لا في الشارع السياسي فحسب, بل وعلى صعيد السلطة السياسية وفي القوات المسلحة حيث احتدمت الخلافات بين مختلف الأجنحة العسكرية والمدنية, وخاصة الحزبية منها. وعندها أبتعد العمل السياسي عن الحلول الديمقراطية والمصالحة أو التحري عن سبل للمساومة وعن أرضية أو قواسم مشتركة, وأتجه تفكير وعمل الجميع نحو الحسم باستخدام أساليب القمع أو التحضير لانقلابات عسكرية لمعالجة المشكلات التي تفاقمت بين الأحزاب والقوى السياسية المحلية والتي لعبت القوى العربية والإقليمية والدولية, وخاصة شركات النفط الاحتكارية الدولية, دورا كبيرا وأساسيا لا في تأجيجها وقطع الطريق على معالجتها سلميا وديمقراطيا فحسب, بل وفي مدّ بعض القوى المتصارعة بالمزيد من الدعم والتأييد المادي والسياسي والإعلامي لتشديد نهجها الانقسامي داخل صفوف الشعب والقوات المسلحة.


7

لقد كانت أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية حينذاك تتطلب من القيادة السياسية للبلاد معالجة ست مشكلات أو مهمات أساسية, وهي:
1. إطلاق الحريات الديمقراطية بما فيها حرية التنظيم الحزبي والمهني وحرية الصحافة والتعبير والتجمع والتظاهر والإضراب, إضافة إلى إنهاء نشاط ووجود أجهزة الأمن أو التحقيقات الجنائية والكف عن الاعتقال الكيفي وتأمين تنظيم الحياة المدنية... الخ. وكانت هذه الوجهة تستوجب الالتزام بوضع واستفتاء الشعب على دستور دائم ديمقراطي دائم يستند إلى أسس وقواعد المجتمع المدني الديمقراطي والعلماني والحياة البرلمانية الحرة وتسليم السلطة إلى المدنيين ممن يحوز على تأييد أصوات غالبية الناخبين.
2. معالجة القضية الكردية على أسس الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الكردي ومنحه حق إقامة الحكم الذاتي أو الفيدرالية في إطار الجمهورية العراقية والاستجابة لمطالب الأقليات القومية الثقافية والإدارية المشروعة.
3. حل المشكلة الزراعية باتجاه تصفية العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في الريف وتأمين مستلزمات التطور الرأسمالي في الزراعة.
4. توفير مستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للتخلص من التخلف والتبعية وضمان السيطرة التدريجية على موارد البلاد الأولية وخاصة النفط الخام وموارده المالية, في خدمة التنمية, ومنها التنمية الصناعية, وزيادة التشغيل وتقليص عدد العاطلين عن العمل, وتحسين مستوى حياة ومعيشة الشعب, وضمان تطور معجل للقطاعين الخاص والعام والقطاع المختلط في المشاركة في هذه العملية.
5. إقامة علاقات تعاون وتنسيق وتضامن واسعة وشاملة مع الأقطار العربية ومع بقية بلدان منطقة الشرق الأوسط, وخاصة دول الجوار.
6. إقامة علاقات تعاون متعدد الجوانب وممارسة سياسة الحياد الإيجابي في السياسة الدولية وفي العلاقة مع الدول الكبرى, إضافة إلى التخلص من سياسة الأحلاف العسكرية والوجود العسكري الأجنبي في البلاد وإلغاء المعاهدات المقيدة لحرية البلاد وسيادته.
 
 
8

بدأ الحكم الجمهوري السير على هذا الطريق عندما أصدر وتحت ضغط الشارع العراقي جملة من الإجراءات التي كانت تعتبر جزءا من تلك الأهداف والتي كان بدونها يصعب الحفاظ على الزخم الثوري للحركة وعلى تأييد الجماهير لها. ويمكن الإشارة في هذا الصدد, على سبيل المثال لا الحصر, إلى:
• الانسحاب الفوري من حلف بغداد (السنتو),
• الانسحاب من منطقة النفوذ الإسترليني.
• فرض انسحاب القوات العسكرية البريطانية من منطقتي الحبانية والشعيبة وإنهاء معاهدة 1930.
• إصدار قانون الإصلاح الزراعي الديمقراطي رقم 30 لسنة 1959.
• البدء بعملية تنمية وتصنيع جديدة وممارسة سياسة تجارة خارجية أكثر واقعية.
• إقامة علاقات جديدة وواسعة مع بعض بلدان المنظومة الاشتراكية, وبشكل خاص مع الاتحاد السوفييتي.
• الدخول في مفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية حول سبل استثمار النفط العراقي وحصة العراق فيه, وانتهت تلك المفاوضات, بسبب تعنت الشركات الأجنبية, إلى إصدار الحكم الجمهوري الجديد القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي صادر بموجبه أكثر من 99,5% من الأراضي التي كانت تحت تصرف شركات النفط الأجنبية والتي لم تكن مستثمرة حتى ذلك الحين عمليا, كما تم بموجبه تأسيس شركة النفط الوطنية.
• المبادرة إلى الدعوة لتشكيل منظمة البلدان المصدرة للنفط أوبيك OPEC.
• إصدار قانون العمل والعمال الذي تميز بمضامين ديمقراطية جديدة وعبر بمجمله عن التقدم الذي كانت تتسم به الحركة النقابية العراقية التي كانت قد نشأت في وقت مبكر في العراق, رغم قرارات المنع والتحريم والمطاردة التي تعرضت لها تلك الحركة النقابية.
• إصدار قانون الأحوال المدنية وضمان جملة من الحقوق المشروعة للمرأة العراقية.

9

 ولكن قيادة الدولة, بشخص رئيسها اللواء الركن عبد الكريم قاسم, قد تعثرت كلية في معالجة ثلاث مسائل مركزية, وهي:
1. موقفها السلبي الصارخ من الحياة الديمقراطية, وخاصة الحياة الحزبية والتعددية السياسية, وإرساء الحياة السياسية في البلاد على أسس دستورية وديمقراطية قويمة.
2. الموقف السلبي من حقق الشعب الكردي الذي تميز بالشوفينية والنظرة الضيقة إزاء الحقوق المشروعة للقوميات. وقاد هذا الموقف إلى صدام بين حكومة عبد الكريم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والحركة الكردية بشكل عام ودفع بقاسم إلى استخدام القوات المسلحة والطيران لضرب مواقع القيادة الكردية في بارزان ومواقع أخرى مما دفع بالملا مصطفى البارزاني إلى إعلان الثورة المسلحة على الحكم, ثورة أيلول/سبتمبر 1961.
3. الفشل في معالجة جادة وعقلانية للعلاقات العربية. ولم يكن سبب ذلك بالضرورة سياسة قاسم بقدر ما كانت سياسة الدول العربية, وخاصة تلك التي حملت راية القومية العربية والوحدة الفورية, وعلى رأسها مصر وسوريا من جهة, وتلك التي تضررت من سقوط الملكية, وخاصة الأردن والسعودية ودول الخليج العربي من جهة أخرى. إضافة إلى المطالبة غير العقلانية لعبد الكريم قاسم بدولة الكويت.
ونجم عن هذه المواقف تفاقم في الصراع الداخلي بين القوى السياسية في البلاد وفي داخل السلطة وخاصة بين مجموعات الضباط الأحرار, وما نجم عن ذلك من مؤامرات وفوضى سياسية.

10

ومع كل التقدير الكبير للدور الذي لعبه عبد الكريم قاسم مع بقية الضباط الأحرار في إعلان الانتفاضة العسكرية ضد الحكم الملكي ونجاحهم في انتزاع السلطة, إلا انهم عجزوا عن ممارسة الحياة الديمقراطية وعن إيجاد حلول عملية للصراعات التي بدأت تجتاح البلاد ولم يلعبوا دورا إيجابيا في البدء بوضع الدستور الدائم وإقامة دولة المؤسسات الدستورية والمجتمع المدني مما فسح في المجال للعمل السياسي والعسكري ضد السلطة الجديدة. لقد كان الوعي الديمقراطي لدى الضباط الأحرار, بغض النظر عن شخوصهم, ضعيفا وبعيدا عن فهم حاجات المجتمع وضرورات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الديمقراطي. ولم يكن هذا الوعي القاصر محصورا بالضباط الأحرار فحسب, بل شمل القيادات السياسية للأحزاب الوطنية حينذاك, كما شمل الشارع العراقي أيضاً. وهي مسألة مرتبطة عضويا بالمستوى الحضاري وبمستوى تطور العلاقات الإنتاجية وبنية الاقتصاد والمجتمع وبالوعي السياسي والاجتماعي, إضافة إلى واقع التركة الثقيلة لعهود الاستبداد والهيمنة العثمانية والبريطانية على العراق.
لقد أتسم قاسم, رغم بعض جوانب الوعي الديمقراطي العفوي والوطنية العامة, بالفردية الحادة والاستبداد بالرأي وبالممارسة السياسية. وهي حالة تبدو صارخة جدا لدى العسكريين بشكل خاص, ولكنها لا تنحصر فيهم. وهي مرتبطة بعوامل تاريخية وحضارية وتربية يومية في القوات المسلحة وفي المجتمع الريفي والعشائري وفي البيت والعائلة. وهذه الظاهرة بحاجة إلى دراسة خاصة ذات طبيعة اقتصادية -اجتماعية, واجتماعية – نفسية, إذ أنها لا تقتصر على العسكريين, بل شملت في حينها الغالبية العظمى من المدنيين, وخاصة قادة وكوادر الأحزاب السياسية. وهي موجودة بهذا القدر أو ذاك في غالبية أبناء المجتمع العراقي, وخاصة الذكوري منه.  

11

لقد أطيح بالثورة قبل أن يتسنى لها إنجاز جملة من أهدافها الأساسية أو أنها تركت الكثير منها على قارعة الطريق ينتظر الحل. ولم يكن في مقدور الانقلابات التالية معالجة تلك القطيعة مع الثورة فحسب, بل أدت إلى تعميقها وتوسيع الهوة بين المجتمع والقيادات السياسية التي انتزعت الحكم بشتى السبل, رغم ما بدا أحيانا أنها قد استعادت المسيرة وكان وهما كبيرا. ولم يكن الضحية في كل ذلك سوى الشعب العراقي ومصالحه وموارده الاقتصادية وتطوره المستقل. وما نعيشه اليوم بدأ في واقع الأمر مع تلك القطيعة مع الحياة الدستورية الديمقراطية ومع بدء الفردية والسلوك الاستبدادي في الحكم وفي مواجهة مطالب المجتمع العادلة, ومنها على نحو خاص مطالب الحركة القومية الكردية والأقليات القومية في العراق. لقد بدأ كل ذلك في العهد الملكي ومن ثم تواصل في عهد قاسم. وفي العهد الأخير ساهمت به كل القوى والأحزاب السياسية العراقية, رغم التباين في تحمل المسؤولية من جانب تلك الأحزاب. والاعتراف بذلك لا يعني جلد الذات بقدر ما يعني فهم الواقع واستيعاب التجربة والسعي لتداركها مستقبلا, فالتاريخ لم ولن ينته أيضا. لقد أصبح العراق والشعب العراقي لعقود أربعة ضحية للصراعات السياسية الدموية وللتدخلات الخارجية في الشؤون العراقية وللانقلابات العسكرية التي بدأت بانقلاب شباط الدموي وما نجم عنه أو اقترنت به من عواقب وخيمة على المجتمع والحياة السياسية والاقتصادية. وأبرز تلك العواقب وأكثرها تدميرا كانت وما تزال في محاولات انفراد حزب سياسي ومن ثم فرد واحد بالسلطة دون العودة إلى إرادة المجتمع , دون إرساء الحياة السياسية على أسس دستورية وديمقراطية. لقد أنتصر الاستبداد في البلاد على إرادة الشعب, أنتصر على الحرية والديمقراطية وعلى حقوق الإنسان, لقد أنتصر الظلم والقتل والاستغلال والجور والتعسف والرغبة في التوسع والعنف ورفض معالجة القضية الكردية على أسس عادلة على العدل والاعتراف بالآخر والتسامح والحياة الحرة الآمنة والازدهار وعلاقات الأخوة وحسن الجوار. لقد انتصرت الذهنية العسكرية والروح العنفية والشوفينية المقيتة في العراق طيلة العقود المنصرمة.
 12

إن السياسات الاستبدادية الغاشمة التي مارستها النخب الحاكمة في العراق منذ ما يزيد على أربعة قرون, عدا فترة قصيرة جدا لا تتجاوز شهور قليلة, دع عنك الفترة التي سبقت ثورة تموز عام 1958, قد أتت على كل المهمات التي كانت ثورة تموز قد بدأت بمحاولة تحقيقها وأصدرت التشريعات الأولية من أجل ذلك. إلا أن أكثر تلك الفترات سوادا ومأساوية في تاريخ الحكم العراقي يتجلى في حكم البعث الصدامي الراهن الذي زج البلاد والشعب في حروب عدوانية داخلية وخارجية وفي غزو همجي للكويت وشارك بذلك في توفير مستلزمات تنفيذ حلم الولايات المتحدة الأمريكية ليس في السيطرة على العراق فحسب, بل وفي فرض هيمنتهما التامة على منطقة الشرقين الأدنى والأوسط, بما فيها منطقة الخليج. فهي تهيمن اليوم على المنطقة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وإعلاميا وتتحكم بنفط المنطقة ومواردها الأخرى وتحتكر وتنشط عملية التسلح فيها وتحقق المزيد من المليارات من الدولارات الأمريكية على حساب مصالح شعوب وتقدم اقتصاديات ومجتمعات هذه المنطقة. لقد كان النظام العراقي الصدامي, شاء ذلك أم أبى, أداة أساسية في تحقيق هذه السياسة العولمية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية وهي التي تقرر اليوم بشكل خاص سبل معالجة القضايا المعلقة في هذه المنطقة من العالم.
 
13

تواجه الشعب العراقي في المرحلة الراهنة عدة مهمات مركزية لا يمكن الفصل بينها, فهي متداخلة أحيانا ومنفصلة عن بعضها أحيانا أخرى ولكنها متشابكة قطعا. إنها باختصار:
1.  الضغط الجماهيري المتزايد على الأحزاب السياسية لدفعها إلى تحقيق التعاون الواسع وفق الواقع العراقي الراهن وليس وفق التحالف الذي نشأ في الخارج قبل بدء الحرب ضد النظام العراقي, إذ لا بد من توسيعه ليشمل القوى الأخرى التي كانت في الداخل على نحو خاص.
2.  الضغط الجماهيري والسياسي المتزايد على قوات التحالف المحتلة لعقد المؤتمر الوطني العام المنشود ليضم جمهرة واسعة من العراقيات والعراقيين ليدلوا برأيهم في تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة التي يفترض أن تأخذ على عاتقها زمام المبادرة لمعالجة مشكلات البلاد الداخلية.
3.  تكوين لجنة خاصة واسعة لصياغة الدستور العراقي وفق الأسس الديمقراطية الحديثة ومبدأ العلمانية أو الفصل بين الدين والدولة, والفصل بين السلطات والحياة البرلمانية والتعددية السياسية, إضافة إلى مبدأ الفيدرالية في حكم الجمهورية العراقية.
4.  الحافظ على الثروة النفطية الوطنية في إطار قطاع الدولة وتأمين التنمية الوطنية الاقتصادية والإنسانية على أسس جديدة وتنشيط القطاع الخاص ليلعب دوره المركزي والفعال في عملية التنمية, إضافة على القطاعين العام والمختلط حيث ما تبين ضرورة وإمكانية ذلك.
5. الاتفاق على موعد مناسب لإنهاء الاحتلال واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته وتأمين مستلزمات الدفاع عن الجمهورية الديمقراطية من القوى الظلامية الدكتاتورية الصدامية والمتطرفة الأخرى.     
6. إقامة أفضل العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول العربية ودول الجوار وبقية بلدان العالم على أسس من المنفعة المتبادلة والاحترام المتبادل.

وهذه المهمات المتعددة لا تعني بأي حال وكأنها خاتمة المطاف بالنسبة للمهمات الأخرى التي تواجه المجتمع العراقي, ولكنها يمكن أن تكون الفاتحة للتطور اللاحق للجمهورية الخامسة في العراق, أن تفتح الطريق لوضع وتنفيذ برنامج مناسب يقره الشعب لإخراج العراق من الواقع المأساوي الذي يعيش فيه ومن أجل تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسير في طريق المجتمع المدني الديمقراطي الحديث. وهذه المهمات لا يمكن أن يتحملها حزب واحد أو مجموعة واحدة بل تتطلب تظافر جهود كل العراقيات والعراقيين المدركين لمسؤولياتهم إزاء الشعب ومستقبل البلاد. إنها مهمة الجميع. والطريق إليها سوف لن يكون سهلا ولا قصيرا بأي حال, ولكن لا سبيل غيره.

 برلين في 72/06/2003        كاظم حبيب



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لِمَ هذه الخدمات المجانية لدعم غير مباشر لقوى صدام حسين التخ ...
- هل الدور الجديد الذي يراد أن تلعبه العشائر العراقية في مصلحة ...
- من أجل أن لا ننسى ما فعله الاستعمار البريطاني والنظام الملكي ...
- من أجل التمييز الصارم بين مواقف الشعب ومواقف أعداء الحرية وا ...
- قراءة في كتاب -دراسات حول القضية الكردية ومستقبل العراق- للأ ...
- انتفاضة السليمانية وثورة العشرين
- إجابة عن أسئلة تشغل بال مواطنات ومواطنين عرب ينبغي إعارتها ك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- تحويل بعض بيوت الله من منابر للتسبيح بحمد الدكتاتور إلى مراك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- الشفافية والمجاهرة حاجة ماسة في العلاقة المنشودة بين القوى ا ...
- من يقف وراء حملة التمييز بين مناضلي الداخل والخارج؟ وما الهد ...
- محنة الأكراد الفيلية في العراق!
- المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب
- إلى من تتوجه أصابع الاتهام في التخريبات الأخيرة والجارية في ...
- الدور الذي يفترض أن تلعبه قوى حركة التحرر الوطني الكردية في ...
- ماذا وراء أحداث الفلوجة وهيت؟
- من أجل مواصلة الحوار حول وحدة قوى اليسار الديمقراطي العراق
- احتلال العراق ليس نهاية التاريخ! المخاطر الراهنة على مستقبل ...
- نشاط قوى صدام حسين ما بعد سقوط النظام في العراق والخارج - ال ...


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل فلسطينيين اثنين في جنين بعد مهاجم ...
- رئيسي يندد بالعقوبات الغربية المفروضة
- إزالة 37 مليون طن من الحطام المليء بالقنابل في غزة قد تستغرق ...
- توسع الاتحاد الأوروبي - هل يستطيع التكتل استيعاب دول الكتلة ...
- الحوثيون يعرضون مشاهد من إسقاط طائرة أمريكية من نوع -MQ9-.. ...
- -الغارديان-: أوكرانيا تواجه صعوبات متزايدة في تعبئة جيشها
- هجوم صاروخي من لبنان يستهدف مناطق في الجليل الأعلى شمال إسرا ...
- السيسي يوجه رسالة للعرب حول فلسطين
- الأمن المصري يضبط مغارة -علي بابا- بحوزة مواطن
- نائب نصر الله لوزير الدفاع الإسرائيلي: بالحرب لن تعيدوا سكان ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - موضوعات للحوار في الذكرى الأربعينية لثورة تموز عام 1958