أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - من أجل أن لا ننسى ما فعله الاستعمار البريطاني والنظام الملكي في العراق على مدى أربعة عقود















المزيد.....



من أجل أن لا ننسى ما فعله الاستعمار البريطاني والنظام الملكي في العراق على مدى أربعة عقود


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 523 - 2003 / 6 / 24 - 17:58
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


 

تأسست في عام 1993 في المنفى البريطاني (في لندن) حركة سياسية جديدة أطلق عليها أصحابها اسم "الحركة الملكية الدستورية". تبنت هذه الحركة الدعوة إلى إحياء "الملكية الدستورية" في العراق, وترأسها السيد علي بن حسين بن علي بن الحسين (شريف مكة) بان خالة املك الراحل فيصل الثاني الذي لقي حتفه مع سقوط الملكية في ثورة 14 تموز/يوليو 1958.
التزمت هذه الحركة منذ تأسيسها حتى الوقت الحاضر بعدة اتجاهات نشير إليها في أدناه:
1. الدعاية المكثفة والمستمرة حول النظام الملكي الذي حكم العراق من عام 1921 حتى عام 1958 باعتباره كان خير نظام للشعب العراقي, حيث عاش العراق في ظل الحرية والديمقراطية والاطمئنان والسعادة, التي ضاعت بعد غيابه.
2. وهي تؤكد أهمية التحالف الذي قام في حينها بين العراق وبريطانيا وما أنجزه الطرفان للشعب العراقي من خدمات كبيرة ومهمة, سواء أكان ذلك في فترة الانتداب 1920-1932 أم في فترة الحصول على الاستقلال 1932-1958.
3. الدعوة إلى إعادة النظام الملكي الدستوري إلى العراق لضمان سيادة الحياة الدستورية والحرية والديمقراطية والحياة البرلمانية, والعمل من أجل تنصيب المطالب بعرش العراق, السيد علي بن حسين, ملكاً على العراق.
4. ووقفت الحركة الملكية الدستورية ضد النظام الدكتاتوري في العراق ودعت إلى إسقاطه وتبنت وجهة النظر الأمريكية – البريطانية التي التزمت بشن الحرب للخلاص من صدام ونظامه, كما وقفت في حينها إلى جانب استمرار الحصار على العراق.
5. وفي الكثير من النشاط الدعائي سعى أقطاب الحركة ودعاتها إلى تبييض وجه فترة الهيمنة البريطانية على العراق وسياسات النظام الملكي, باعتبار النظام الملكي كان النموذج الرائع والمناسب للعراق الذي يفترض أن يعتمد فكرة ومضمون اللبرالية الجديدة.
سأعالج في هذا المقال المكثف مسالتين, وهما: 1) طبيعة السيطرة البريطانية وحقيقة العهد الملكي في العراق, و2) طبيعة ومضمون الدعوة إلى ممارسة فكر وسياسة اللبرالية الجديدة في العراق.
 
1. طبيعة السيطرة البريطانية وحقيقة العهد الملكي في العراق
يمكن الاتفاق التام مع الرأي القائل بأن النظام العراقي الاستبدادي المخلوع الذي قاده الدكتاتور المطلق صدام حسين كان أشد وطأة ودموية على الشعب العراقي وأكثر عدوانية وشراسة في محاربة المعارضة السياسية مما كان عليه العراق في فترة الاحتلال البريطاني المباشر وغير المباشر والعهد الملكي, كما يمكن تأييد الرأي القائل بأن جمهرة الضحايا التي سقطت في فترة السيطرة البريطانية وتولي العائلة الهاشمية في مكة عرش العراق, من جراء سياسات تلك الفترة لا تشكل سوى نسبة ضئيلة جداً جداً من إجمالي ضحايا النظام البعثي الصدامي المقبور. ويمكن القبول أيضاً بأن فترة السيطرة البريطانية والملكية الإقطاعية قد تميزت بإقامة الأحلاف العسكرية والتآمر على البلدان المجاورة, ولكنها لم تصل إلى حد شن الحروب الدموية على الجيران والغوص في دماء الناس في عهد تولي عائلة صدام حكم البلاد. وعدا ذلك يمكن القبول بالكثير من مثل هذه المقارنات. ولكن هل مثل هذه المقارنات مقبولة أو صحيحة أساسا؟ وما الهدف الرئيسي من محاولات من هذا النوع؟
لا يمكنني القبول بمثل هذه المقارنات, كما أجدها خاطئة من حيث المبدأ, خاصة إذا علمنا بأن الهدف منها هو إشاعة جو من "الحنين" لماض كان فاسدا ومجحفا ومريرا, وكان السبب وراء أغلب ما عاني منه الشعب العراقي خلال الحقبة التي أعقبت سقوط النظام الملكي. وكان العهد الملكي القاعدة التي نشأت عليه كل الأوزار والأوضاع المزرية اللاحقة. وغالبا ما يشير دعاة الماضي البريطاني والملكي "النظيف" في العراق إلى ثلاث مسائل مهمة هي:
1. قيام بريطانيا بوضع دستور مدني وإرساء نظام ملكي دستوري في العراق؛
2. جعل ولاية الموصل (الموصل والسليمانية وكركوك وأربيل) جزءا من العراق الملكي؛
3. حل مشكلة الأرض بإجراءات الخبير البريطاني داوسن والتي سميت ب "قانون اللزمة" و "تسوية حقوق الأراضي" لعام 1932.
رغم مرور أكثر من ثمانية عقود على الحرب العالمية الأولى وعلى بدء الاحتلال البريطاني للعراق, فأن شعوب المنطقة, ومنها الشعب العراقي, لم تنس الاتفاقيات والمناورات الاستعمارية الدولية, وخاصة البريطانية والفرنسية, لتقسيم مناطق السيطرة العثمانية بين النفوذ الاستعماري البريطاني والفرنسي, الذي كشفت عنه الوثائق السرية التي نشرتها أول حكومة سوفيتية في أعقاب ثورة أكتوبر الاشتراكية في عام 1917. وفي هذا يمكن العودة إلى عشرات الكتب الأجنبية والعربية والعراقية التي بحثت في هذه الفترة, ومنها كتاب السيد عبد الرزاق الحسني الموسوم ب "تاريخ الوزارات العراقية" و "تاريخ العراق السياسي الحديث", ثم كتاب الدكتور غسان العطية الذي بحث في الفترة 1908-1921 والموسوم "العراق نشأة الدولة 1908-1921" الصادر في عام 1988 والكثير من الكتب والدراسات الأخرى. كما لم ينس الشعب العراقي الطريقة الوحشية والدموية التي جابهت بها بريطانيا العظمى وقوات الاحتلال انتفاضة النجف في عام 1918 وانتفاضة السليمانية في عام 1919 وثورة العشرين (1920) العراقية, وما أعقب ذلك من إجراءات تعسفية قاهرة لمعاقبة الثوار وإعدام بعضهم وإبعاد البعض الآخر وتسمين الأعوان من إقطاعيين وغير إقطاعيين. وما تزال كلمات الشيخ شعلان أبو الجون, الذي أدى اعتقاله وثم تحريره من المعتقل القشة التي قصمت ظهر البعير وفجرت شرارة ثورة العشرين, ترن في آذان العراقيات والعراقيين دافئة وصافية ودقة في حديث له مع السير وليم ويلكوكس حين قال الأخير لأبي الجون في أعقاب قيام الدولة العراقية وتشكيل أول حكومة عراقية في العهد الملكي الجديد: ماذا تريدون شيخنا أكثر من ذلك, أصبح عندكم الآن حكومة وطنية. أجابه الشيخ شعلان أبو الجون بحسه الوطني المرهف والصادق: أي يا محفوظ عندنا الآن حكومة وطنية, لكنها ترطن" . أي إنها حكومة من صنعكم وتخدم مصالحكم.
والشعب العراقي ما يزال يتذكر كيف تبخرت كل الوعود التي أعطيت للشريف حسين بن علي وذهبت أدراج الرياح في خضم المصالح الاستعمارية البريطانية. وحصل نفس الموقف المخزي والنكث بالوعود التي أعطيت حينذاك إلى قادة الشعب الكردي في كردستان.
ولا شك في أن الإدارة البريطانية في العراق وضعت الدستور العراقي, وهو دستور مدني متقدم بالقياس إلى واقع العراق الريفي والقبلي في تلك الفترة. ولكن هذا الدستور المدني المتقدم والمؤسسات التي أقيمت في ضوئه لم تمارس أعمالها كما يفترض أن تمارسه مؤسسات وطنية عراقية, بل سعت الإدارة البريطانية إلى تشويه ذلك الدستور بالممارسة العملية من خلال جملة من السياسات منها:
•  تعيين مستشار بريطاني بجوار كل من الملك ورئيس الوزراء والوزراء وغيرهم من المسؤولين الكبار وفي المحاكم لتوجيه "الاستشارة والنصح" إلى إولئك المسؤولين لتسيير شؤون البلاد, وكانت مصلحة بريطانيا هي التي ينبغي أن تسود في الممارسة العملية. ولم يكن المسؤولون سوى أدوات لتنفيد تلك السياسات. ومن هنا انطلق الشاعر معروف الرصافي بقوله:
هذي كراسي الوزارة تحتكم      كادت لفرط حيائها تتقصف
أنتم عليها والأجانب فوقكم     كل بسلطته عليكم مشرف
أيعد فخراً للوزير جلوسه      فرحاً على الكرسي وهو مكتف؟
أو قول الشاعر:
المستشار هو الذي شرب الطلا      فعلامَ يا هذا الوزير تعربد    
•  إعاقة تغيير العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في العراق, بل تم تكريسها وتطبيق قانون دعاوى العشائر بجوار القانون المدني العراقي, وإعاقة تطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية, أساس المجتمع المدني.
• إصدار قوانين تمسخ الدستور وتعطل مواده الأساسية ومضمونه الديمقراطي عمليا بالتعاون بين سلطات الاحتلال والمستشارين البريطانيين وبين الحكومة العراقية على امتداد فترة الحكم الملكي.
• تزوير الانتخابات البرلمانية وفرض تعيين رؤساء الوزارات والوزراء ورسم سياساتها للحكومات العراقية المتعاقبة والتي أزعج بعضها حتى الملك فيصل الأول, الذي نصبه البريطانيون ملكاً على العراق كحليف ثابت وأمين لهم, واعتبرها مخلة أكثر مما ينبغي بسيادة العراق واستقلاله ووحدته الوطنية. وقد حصد ثمار مواقفه إزاء بريطانيا وهي في منتجعه في سويسرا, إذ جاء خبر وفاته من هناك.        
• محاربة الحياة الحزبية والديمقراطية السليمة وتشكيل أجهزة الأمن الداخلية وقمع نضالات الشعب العراقي وقواه السياسية المختلفة, إضافة إلى الأمر بإصدار أحكام الإعدام بحق المناضلين العراقيين للمرة الثالثة في العراق في عام 1949  , وكانت المرة الأولى حين صدرت  أحكام الإعدام بحق المناهضين للهيمنة البريطانية في النجف في مايو/أيار من عام 1918, والمرة الثانية حين صدرت أحكام الإعدام بحق بعض قادة حركة مايس عام 1941 بعد فشلها, إضافة على قرارات الإبعاد وإسقاط الجنسية العراقية عن المناضلين ضد الهيمنة وسياسة الأحلاف العسكرية وضد التبعية لبريطانية.
• فرض الاتفاقيات الاستعمارية على العراق بالرغم من معارضة الشعب العراقي لتلك الاتفاقيات, ومنها معاهدة 1930 واتفاقيات الحصول على امتياز حقوق التنقيب عن النفط وتصديره وهضم مصالح الشعب العراقي إلى أقصى الحدود. وتحقق لبريطانيا كل ذلك من خلال استخدام ورقة ولاية الموصل للمساومة وتأمين التوقيع على تلك الاتفاقيات المخلة باستقلال وسيادة ومصالح البلاد, إضافة على تنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق, حيث أصبح الرجل مشلولاً وعاجزاً عن التأثير في أحداث البلاد وحائراً بين مصالح بريطانيا والعراق.
• وشجعت الإدارة البريطانية حكام بغداد, وخاصة قيادتي حزب الاتحاد الدستوري برئاسة نوري السعيد وحزب الأمة الاشتراكي برئاسة صالح جبر, وغيرهم من حكام العهد الملكي, على توجيه أجهزة التحقيقات الجنائية والشرطة والجيش نيرانها ضد المناضلين العزل والمتظاهرين الذين كانوا يطالبون بالديمقراطية ورفض المعاهدات والاتفاقيات المخلة بسيادة ومصالح الشعب العراقي وثرواته الأولية والمضرة بعلاقات التضامن والأخوة العربية, أو ضد الانتفاضة الشعبية التي رفضت العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر بعد تأميمها لقناة السويس في عام 1956, إضافة إلى توجيه نيرانها وقتل الكثير من العراقيين في سجون النظام حينذاك وأثناء عمليات الإضراب عن الطعام, كما حصل في مجزرتي بغداد والكوت المعروفتين للجميع, وكذلك إعدام مناضلين شجاعين في مدينة الحي بسبب مواقفهم التضامنية مع مصر ضد العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) عليها . 
• لقد أرست بريطانيا بسياساتها وتصرفاتها تلك أوضاعا غير ديمقراطية في العراق وأعاقت عمليا التطور الديمقراطي فكرا وممارسة وساهمت في تشجيع سياسات الاستبداد ومجافاة إرادة الشعب وحقوقه المشروعة وسيادته على أرضه. وهي التي لم تقدم أي اعتذار وتعويضات للشعب العراقي على ما ارتكبته من جرائم حتى الآن. ويفترض في الحكومة العراقية القادمة ومجلس النواب القادم مطالبة بريطانيا رسمياً بالاعتذار ودفع التعويضات المادية لعوائل كل الذين فقدوا حياتهم أو الذين تعرضوا للسجن والاضطهاد أو لصالح الدولة العراقية. ولا شك في أن الجرائم التي ارتكبها النظام الدكتاتوري في العراق لا تنفصل عن تلك الحقبة الزمنية ولا يمكن أن تنفصل عنها, خاصة وأن بريطانيا وبقية الدول الاستعمارية قد ساهمت حتى بعد ثورة تموز في التآمر على الحكومة الوطنية التي تشكلت في أعقاب ثورة تموز 1958 وعملت على تغيير الأوضاع واستغلال ضعف مستوى الوعي السياسي لصالح تمرير مشاريعها وتعميق الخلافات والصراعات بين القوى السياسية العراقية والتي نجد بقاياها ما تزال فاعلة حتى اليوم في صفوف القوى السياسية العراقيةً. وباختصار شديد أرسى الحكام البريطانيون في العراق الأساس المادي المعوج لإقامة مجتمع مدني مشوه مستفيدين في ذلك من التخلف العام السائد في البلاد, ومن وجود حكام حلفاء تدربوا في المدرسة العثمانية وأصبحوا حلفاء مخلصين لبريطانيا على حساب مصالح بلدهم وشعبهم. وهذا الأساس المشوه هو الذي ساهم بدوره في تشديد أو تعميق ظاهرة بروز الاتجاهات الاستبدادية في الحكم والحكام المستبدين.
لم تكن ولاية الموصل سوى واحدة من ثلاث ولايات, تشكل اليوم أراضي الدولة العراقية, (بغداد والبصرة والموصل), تابعة للدولة العثمانية, وكانت عموما تحت إشراف والي بغداد وضمن إيالة بغداد, رغم وجود ولاة مستقلين نسبيا لتلك الولايات, سواء أكان ذلك في العهدين العثمانيين الأول والثاني أم في عهد المماليك أو في العهد العثماني الثالث, أي بعد سقوط دويلة المماليك في بغداد في عام 1832/1833. وبدأت بريطانيا المساومة بشأنها مع فرنسا أولا, ومن ثم مع الحكومات العراقية المتعاقبة, والتي انتهت إلى اعتبارها جزء من العراق. ولكن الحكومة البريطانية فرضت شروطا قاسية جدا على الحكومات العراقية المتعاقبة قبل موافقتها على اعتبار ولاية الموصل جزء من العراق, دع عنك إنها نسفت ومسحت بالأرض تماما تلك الوعود التي كانت قد أعطتها في حينها للأكراد من أجل إقامة دولتهم الخاصة أو الحكم الخاص في المناطق التي تعتبر ضمن الأرض الكردستانية. لقد فرض على الحكام العراقيين الموافقة على وجود القواعد العسكرية البريطانية على الأرض العراقية (الشعيبة والحبانية) أولا والتي تضمنتها معاهدة 1930, التي اعتبرها العراقيون معاهدة استرقاقية. كما كانت الحكومة العراقية قد وافقت قبل ذاك على منح الاحتكارات الدولية عقود التنقيب واستخراج وتصدير النفط الخام بشروط استعمارية واحتكارية صرفة في غير مصلحة الشعب العراقي, إضافة إلى استمرارها في نهب التراث التاريخي للعراق من مناطق العراق الأثرية. وقد تم للحكومة البريطانية ما أرادته. وبعدها أصبح مهماً لبريطانيا أن تبقى ولاية الموصل تحت الحماية البريطانية في إطار الدولة العراقية الخاضعة لتلك الحماية والهيمنة, إذ كان فيها النفط. لقد كانت تلك شروط بريطانيا في سبيل قبول العراق في عصبة الأمم أيضا, فهل نسينا كل ذلك أم نتناساه اليوم لغرض في نفس يعقوب؟ فالقول بأن بريطانيا كانت السبب في بقاء ولاية الموصل ضمن الدولة العراقية ينبغي أن لا يقبل على عّلاته وكأنه هبة بريطانية للعراق. فمثل هذا يتجاوز حقيقة الوضع والأحداث التاريخية الفعلية حينذاك ويجافي الدور الاستعماري الذي لعبته بريطانيا في العراق أساسًا.
ولم يكن "حل" المسألة الزراعية في العراق وفق قانون تسوية حقوق الأراضي رقم (50) وقانون اللزمة رقم (51) لسنة 1932 اللذين صاغ بنود القانونين الخبير البريطاني داوسن, الذي جلب من الهند لهذا الغرض, لصالح التنمية الاقتصادية والتطوير الاقتصادي والاجتماعي في العراق أو لصالح الفلاحين, بل كان لصالح حفنة صغيرة من الشيوخ والإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية, وأغلبهم ممن ساوم على ثورة العشرين أو وقف ضدها أصلاً أو الذين رضخوا فيما بعد لإرادتها, حيث كافأتهم الإدارة البريطانية بذلك. فقد ساهمت تلك القوانين في مواصلة عمليات نهب الأراضي الزراعية التي كانت بحوزة صغار الفلاحين, التي بدأت في عهد الدولة العثمانية وخاصة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني, وتكريس ما حصل حينذاك, في حين كانت رقبة الأرض الزراعية, ومنذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب, للدولة. إليكم ما تقوله السيدة ورين وارنر, الخبيرة البريطانية بالشؤون الزراعية في الشرق الأوسط, بهذا الشأن: "لقد كانت تسوية تسجيل الملكية في العراق فعلا عملية انتزاع للملكية من المزارعين الذين يشغلون الأراضي, وضمها إلى ملكيات شيوخ العشائر الذين غدوا من كبار الملاك …" . لقد انتهت عمليات النهب تلك إلى نتيجة منطقية أشار إليها السيد الدكتور طلعت الشيباني حين كتب يقول عن توزيع الأراضي في العراق في عام 1952/1953 ما يلي: " …إن أكثر من 98 % من سكان العراق, وجلهم من سكان الريف في عام 1952 كانوا لا يملكون أرضا زراعية, في حين أن أقل من 2 % من السكان هم المالكون للأرض الزراعية" . ولكن صورة التوزيع تبدو أكثر سوءا وظلما عندما نجد أن هناك شخصا واحدا  كان يمتلك مئات ألوف الدونمات (الدونم العراقي الواحد = ربع هكتار) في العهد الملكي-البريطاني "السعيد" والمأسوف عليه, في حين كان مئات ألوف الناس لا يملك الفرد الواحد منهم سوى مساحة تتراوح بين أقل من دونم وأقل من 5 دونمات. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان 0,17 % من أصحاب الملكيات الزراعية يستحوذون على 59,4 % من الأراضي الزراعية المستثمرة في العراق, في حين كان 79,2 % من أصحاب الملكيات الزراعية الصغيرة لا يمتلكون سوى 6,7 % من الأراضي المستثمرة . وهذا الوضع الذي سعت ثورة تموز 1958 إلى تغييره لصالح الفلاحين والبرجوازية المحلية أو لصالح التطور الرأسمالي البرجوازي في البلاد وفق القانون رقم 30 لسنة 1959 الذي اعتبره البعض وبعد مرور ما يقرب من أربعة عقود على صدوره, أي في التسعينات, الطامة الكبرى التي تسببت في كل مصائب العراق الراهنة . لقد كانت تلك المجموعة من الإقطاعيين تستحوذ على القسم الأعظم من جهد الفلاحين على شكل ريع وتتصرف به بطريقتها البذخية وتفرط بالفائض الاقتصادي المتحقق في الريف العراقي وتترك جماهير الفلاحين تعيش على الطوى وتجبر على ترك أراضيها هربا من ظلم الإقطاعيين وسراكيلهم (السركال = وكيل الإقطاعي) وتحرياً عن عمل في المدينة يساعد على توفير الخبز لعائلاتهم الفقيرة ويسد الرمق. وكانت أجهزة الحكم الملكي تقبض على الكثير من هؤلاء الفلاحين الفقراء وتعيدهم إلى الإقطاعيين بحجة مديونيتهم لهم, وتتركهم تحت رحمة الإقطاعيين ليعانوا من ظلمهم واستغلالهم واضطهادهم الأمرين.
إن قانون الإصلاح الزراعي, وقبل ذاك ثورة تموز عام 1958, قد وجها معا ضربات قاسية للعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ولمصالح الإقطاعيين ونفوذهم السياسي وموقعهم الاجتماعي في الريف خصوصا وفي المجتمع العراقي عموما, كما كانتا ضربة موجهة لفئات البرجوازية الكومبرادورية حليفة الإقطاع والهيمنة البريطانية, إضافة إلى إلغاء حكومة الثورة لمعاهدة 1930 وتصفية القواعد العسكرية والخروج من منطقة الإسترليني, ثم محاولة تقليم أظافر مصالح الاحتكارات النفطية في العراق بالقانون رقم 80 لسنة 1961, وإقامة العلاقات الاقتصادية مع البلدان الاشتراكية وتحسين علاقاتها بالدول العربية والمبادرة بالدعوة إلى تشكيل منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبيك OPEC). ومن هنا يعتبر البعض المتضرر بأن تلك الإجراءات كانت الطامة الكبرى على الشعب العراقي, في حين يتناسى إنها قلصت من استغلال الشركات الاحتكارية الأجنبية ومن المصالح التي كانت تجنيها الفئات المستغِلة المتحالفة معها. وكانت السبب وراء تضافر جهود تلك القوى لوأد البدايات الأولى للديمقراطية التي أطلقتها ديناميكية ثورة تموز الشعبية, وساهم المستوى الفكري والسياسي الضعيف للأحزاب السياسية حينذاك على إنجاح عملية الوأد تلك والتي انتهت بالحالة التي عليه العراق حاليا. إن الفترة الراهنة والمقبلة التي سمحت, وستسمح لاحقا, بنشر الوثائق البريطانية السرية, كشفت وستكشف لاحقا, عن الكثير من الدور البريطاني الاستعماري في الأحداث التي عاشها الشعب العراقي قبل وبعد ثورة تموز عام 1958, إضافة على الدور الذي لعبته بقية الدول الرأسمالية الكبرى.
قال كارل ماركس مرة وهو يكتب عن دور الاستعمار البريطاني في الهند, بأن هذا الاستعمار الذي كانت مهمته الهيمنة واستغلال واضطهاد الشعب الهندي, كان يساهم, وبالرغم منه وبلا وعي منه أو بشكل أعمى, في تطوير بعض مجالات الحياة في الهند والخروج من عهود التخلف الشديدة التي كانت ترزح تحت وطأتها الهند حينذاك. وكان على حق في ذلك. وهذا يشمل بطبيعة الحال إقامة مشاريع البنية التحتية وتنشيط الأسواق الداخلية لتحسين مستوى استيعاب السلع البريطانية في الهند, أو إقامة المؤسسات الحكومية بما فيها الشرطة والبلديات, أو فتح المدارس والمستوصفات. أي بناء مؤسسات المجتمع المدني, إذ بدونها يصعب تحقيق مصالح الرأسمال الأجنبي في المستعمرات. ولم يكن في مقدور الاستعمار البريطاني تحقيق مصالحه دون ممارسة تلك الإجراءات,  سواء أكان ذلك في الهند أم في مصر أم في العراق أو في غيرها. وعليه فليس من الإنصاف اعتبار ما تحقق في الهند حينذاك بمثابة فضل للبريطانيين على الشعب الهندي, أو القليل الذي تحقق في العراق في الفترة الملكية - البريطانية فضلا لبريطانيا على الشعب العراقي, وهو الذي عاني الأمرين من هذا الاستعمار أو قبل ذاك من الهيمنة العثمانية المتخلفة وقدم ألاف الضحايا على هذا الطريق. ويبدو أن للبعض ذاكرة ضعيفة أو لا يريد أن يتذكر ذلك, أو أن حجم المصيبة تحت هيمنة البعث الصدامي كان كبيراً جدا بحيث تنسيه مصائب الماضي القريب, إذ أن الاستعمار البريطاني ذاته لا غيره أعاق إلى أبعد الحدود إقامة الصناعات الوطنية, وأعاق تطوير الصناعات النفطية والبتروكيماوية, وعرقل زيادة حصة عوائد العراق في نفطه إلى النصف من الأرباح المتحققة لسنوات طويلة حتى أجبر عليها في عام 1951, أو أعاق توسيع عمليات التنقيب عن احتياطي النفط في العراق, وبذلك أعاق تطوير وتغيير بنية المجتمع العراقي, لقد أعاق تطور البرجوازية الوطنية والطبقة العاملة في آن واحد. وكلنا يعرف سياسة مجلس ووزارة الإعمار, حيث هيمن عليهما الخبراء البريطانيون ووجهوا سياستهما الاقتصادية منذ بداية التأسيس المتتابع ابتداءاً من عام 1951.
وفي ضوء ذلك وغيره يحق لنا أن نتساءل: ما هو الهدف من محاولة الحديث عن الدور الناصع لبريطانيا والهد الملكي في العراق؟ يبدو لي, بأن الهدف منه يتوزع باتجاهات ثلاثة هي:
• تبييض وجه السيطرة الاستعمارية التي خضع لها العراق طويلا والتي استمرت ما يقرب من أربعة عقود وبعد أربعة قرون من هيمنة عثمانية مرعبة سابقة عليه.
• وتبييض وجه كل من تعاون مع بريطانيا حينذاك واغتنى على حساب المصالح الوطنية وخاصة فئات كبار الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية والكومبرادور التجاري والعقاريين وأولئك الذين شاركوا في التصدي لثورة العشرين, أو الذين حكموا العراق وساهموا في اضطهاد الشعب العراقي وحبس حرياته ومنع الديمقراطية عنه, إضافة إلى توجيه النيران إلى صدور بناته وأبنائه في وثبات وانتفاضات الشعب المختلفة.
• الدعوة الصريحة إلى ضرورة عودة الملكية وبقاء الولايات المتحدة الأمريكية وحلفتها بريطانيا العظمى في العراق بدعوى ضمان وحدته وتطوره ومستقبله.
يبدو لي بأن الوقت قد حان لاضطلاع من عرف النظام الملكي وعرف الهيمنة البريطانية على العراق وعاش المؤامرات ضده وعرف الاستغلال الذي تعرض له الشعب والنهب الذي تعرضت له ثروات العرق, أو الذي ذاق مرارة سجونه وتعذيبه سنوات طويلة, أن يساهم بحوار موضوعي هادف مع السادة الذين بدأوا وكأنهم اكتشفوا شيئا جديدا, بالترويج للهيمنة البريطانية والملكية والإقطاعية في الوقت الحاضر في محاولة يائسة لاستثمار كره الناس للنظام الذي حكم العراق طوال 35 عاماً وحقدهم عليه واستدرار عطفهم وتأييدهم لإقامة النظام الملكي. إنها محاولة غير مشروعة وغير مقبولة ما دامت تسعى إلى لوي رقاب الحقائق وتقديم الاستعمار البريطاني والملكية والإقطاع للناس, وللشبيبة منهم على نحو خاص, على طبق من ذهب, وكأن واحدهم يقول "ليس في الإمكان أبدع مما كان, وعلينا العودة إلى ما كنا عليه في العهد الملكي الإقطاعي" .
لا يمتلك الإنسان حق منع هؤلاء الناس من العمل السياسي ومن حقهم الدعوة إلى الملكية في العراق. فهذا الحق تضمنه لائحة حقوق الإنسان ومضامين الحرية والديمقراطية. ولكن ليس من حقهم في كل الأحوال تزوير التاريخ وتشويه الحقائق وتببيض من اسود وجهه بسبب ما تسبب به من مآسٍ كبيرة جداً للشعب العراقي في العهود السابقة. علينا أن نتذكر مع الداعين إلى الملكية الدستورية كيف جوبه الشعب الكردي عندما طالب بحقوقه العادلة في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي والضحايا الكبيرة التي سقطت بسبب السياسات القهرية للنظام الملكي. كما يمكن أن نتذكر ضحايا الآثوريين (الآشوريين) في الثلاثينيات والمجزرة الرهيبة التي نفذت بحقهم من قبل الشرطة والجيش في سميل, أو ضحايا الفرات الأوسط في أعوام 1935 و1936, أو أحداث 1941, 1946, 1948, 1952 أو الإضرابات العمالية في كركوك وميناء البصرة وسكك حديد بغداد والانتفاضات الفلاحية في كردستان وافرات الأوسط ... الخ. وكان النظام الملكي العراقي هو الذي أرسى دعائم الرؤية الطائفية في المجتمع العراقي بعد أن كان السعي للخلاص منها بسبب التآخي الذي برز في ثورة العشرين بين جميع سكان العراق قد أتى بعض أوكله. والنظام الملكي كان المسؤول عن تشريع قانون الجنسية والتمييز بين المواطنين على أساس التبعية العثمانية –جنسية أ-, والتبعية الأخرى _جنسية ب- التي أدت إلى تعرض مئات ألاف البشر من الأكراد الفيلية وعرب الوسط والجنوب إلى عمليات تهجير وقتل واسعة بسبب هذا التمييز الشوفيني.
إن السادة الذين يعملون من أجل إقامة الملكية في العراق ويعبئون أفراد العشائر إلى جانبهم, عليهم أن يقدموا أولاً وقبل كل شيء اعتذارهم الشديد للشعب العراقي على ما ارتكبه أسلافهم القدامى من اضطهاد وسجن وتعذيب وقتل وحملات عسكرية ظالمة ضد الشعب العراقي, إذ أن تزوير التاريخ وتشويه الحقائق لا يدلل على الندم والتعلم من تجارب التاريخ, وهو الذي يزيد في الطين بلة, كما يتجلى في خطب السيد المطالب بالعرش على بن حسين. لا يؤخذ الإنسان بجريرة أقاربه الذي قضوا نحبهم, ولكن يحاسب تماماً بسبب عدم تعلمه من دروس التاريخ من خلال نكرانه لذلك التاريخ الملطخ بالدم والبؤس والحرمان لملايين العراقيين أثناء فترة الحكم الملكي في ظل الهيمنة البريطانية المباشرة وغير المباشرة أو تشويه تلك الحقائق وذلك التاريخ.

2. طبيعة الدعوة إلى اللبرالية الجديدة في العراق    
تزداد الدعوة في أوساط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لممارسة سياسات الانفتاح الاقتصادي واللبرالية الجديدة في اقتصاديات بلدان العالم الثالث, ومنها العراق طبعا. وازداد عدد الدعاة العراقيين لمثل هذه السياسات الاقتصادية نتيجة انهيار منظومة البلدان الاشتراكية والتجارب الأخرى في الغالبية العظمى من بلدان العالم الثالث التي كانت تعتمد بشكل واسع وكبير على قطاع الدولة في تنمية اقتصادياتها ومجتمعاتها. هذه التجارب كانت غنية ويفترض أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند البحث الملموس حول كل بلد من البلدان النامية, إذ لا يحق لنا التعميم أو الإطلاق في هذا الأمر. وبالنسبة للعراق فقد كانت تجربة قطاع الدولة على العموم غير فعالة وغير ناجحة وأحيانا سيئة جدا, سواء أكان ذلك في العهد الملكي أم العهود التالية. ولكن العيب لا يكمن في وجود هذا القطاع ونشاطه ودوره, بل يكمن في عدد من النقاط الأساسية, ومنها: طبيعة الحكم وطبيعة سياساته الاقتصادية؛ طبيعة الأجهزة الإدارية التي كانت على رأس إدارات ونشاط قطاع الدولة, حجم هذا القطاع ومجالات نشاطه, طبيعة الرقابة المفروضة عليه, سياساته في الإنتاج والتسويق والتسعير, وكذلك سياسات التشغيل والأجور والمحفزات التي تمارسها أجهزة الدولة فيه, سياسات التكوين والتأهيل الإداري والفني, دور ومكانة القطاعات الاقتصادية الأخرى من حيث الملكية في العملية الاقتصادية, كالقطاع الخاص والقطاع المختلط وعلاقات التعاون والتنسيق بين هذه القطاعات. ولا شك في أن تجربة العراق التي بدأت مع قطاع الدولة في أوائل الخمسينات ومع تأسيس مجلس الإعمار ثم توسعها فيما بعد, حتى أصبح هذا القطاع يهيمن على نسبة عالية من النشاط الاقتصادي والخدمي في العراق في فترة حكم البعث الثانية, تشير إلى فشل كبير وخيبة في دوره وتأثيره, وإلى نهب كبير وشرس من الباطن ومن خارجه لأمواله. وهذه الحقيقة لا ترتبط بطبيعة هذا القطاع من حيث المبدأ, بل بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة والخطرة والمجافية لمصالح الشعب وموارد الدولة المالية التي مارسها الحكم "البعثي" الصدامي في العراق, ومحاولته الاستفادة من تحقيق السيطرة الكاملة تقريباً على الاقتصاد الوطني ليتسنى له فرض هيمنته الاقتصادية على الفئات الاجتماعية المختلفة والتحكم بالمجتمع وتمشية سياساته العدوانية والتوسعية. إن الأخطاء الفاحشة التي ارتكبت بهذا الشأن, بما فيها خطأ التوسع الأفقي بنشاط ودور قطاع الدولة وتقليص دور القطاع الخاص والمختلط, يفترض فيها أن تشكل درساً مهماً وحَصانة في عدم الوقوع بأخطاء أخرى من نفس النوع أو من نوع آخر في المستقبل, ومنها مثلا: تصفية قطاع الدولة والتحول إلى القطاع الخاص كلية حتى في مجال قطاع النفط الاستخراجي, إذ أن مثل هذه السياسة لا تعني في ظروف العراق وإمكانيات البلاد المادية وحاجات التنمية وظروف السكان المعيشية فيه سوى تعطيل عملية التنمية وتسليم السياسة الاقتصادية تماما للقطاع الخاص الذي لم ولن يعرف الرحمة في استغلال موارد الشعب وطاقاته واستغلال الفئات الأكثر كدحا في المجتمع. وتقدم اللبرالية الجديدة في الدول الرأسمالية المتطورة, بعد التخلي الكامل عن الوجهة الكنزية في السياسات الاقتصادية والمالية, وفي بلدان النمور الآسيوية, النتائج الواقعية المحتملة لمثل تلك السياسات والتي يفترض أن تؤخذ بنظر الاعتبار منذ الآن. فالاقتصاد العراقي, بعد المآسي التي عرفها نتيجة الحروب الداخلية ضد الأكراد, ومنهم الأكراد الفيليين واضطهاد وتشريد الأكراد الأيزيديين دينيا, وضد عرب الجنوب والوسط, والحرب الإقليمية ضد إيران وغزو واحتلال الكويت وحرب الخليج الثانية ومن ثم حرب الخليج الثالثة والتدمير الهائل للبنية التحتية, هو الآن بأمس الحاجة إلى قطاع الدولة والقطاع الخاص والقطاع المختلط في آن واحد, وهو بحاجة ماسة إلى رؤوس الأموال العربية والأجنبية أيضا وإلى قروض مالية كبيرة, كما هو بحاجة ماسة إلى دعم مالي وفني وتقني وإداري واسع النطاق من أجل إعادة إعمار العراق وتحقيق النمو المتسارع المنشود. ولن يعود العراق إلى حالته الطبيعية إلا بعد أكثر من عقد على أقل تقدير. ولكن كل هذا يحتاج إلى وجود حكومة وطنية وسيادة أجواء الحرية والديمقراطية الواسعة وإلى استقرار وأمن للمواطنين وللراغبين في استثمار رؤوس أموالهم في العراق, وهو الغائب حالياً رغم مرور أكثر من شهرين على سقوط النظام الدموي في العراق. إن اللبرالية ليست واحدة, بل تشكيلة واسعة ومتنوعة ومتباينة من السياسات والإجراءات. واللبرالية الجديدة التي يدعو لها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تخدم في أهم بنودها وإجراءاتها أولا وقبل كل شيء مصالح المؤسستين الماليتين والدول الرئيسية الممولة لهما, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية, ولكنها تصطدم بشكل شرس بمصالح شعوب البلدان النامية ومنها العراق. ومن هنا تأتي أهمية التعرف على سياسات الخصخصة التي تدعو لها هاتان المؤسستان والتي لا تعني سوى التصفية النهائية والتامة لدور الدولة وقطاعها الاقتصادي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية, وهي اتجاهات لا تنسجم, كما أرى, مع مصالح الاقتصاد العراقي ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي, وخاصة الكادحين منه, ولا مع مستقبل التنمية في العراق, وخاصة في ظروف سياسات العولمة الجارية. فاللبرالية الجديدة التي تدعو لها القوى المحافظة الجديدة تعتبر لبرالية متوحشة وبربرية لا تعرف المساومة على مصالح الرأسماليين ولا تتورع عن كل شئ في سبيل تحقيق أقصى الأرباح. إن علينا أن نقول ذلك في ظل سلطة الاحتلال وقوله بعد خروجها من العراق, إذ أننا نتحدث عن مصالح الشعب. ولكن هذا لا يعني أبداً أن نعطي قطاع الدولة الدور الأكبر والرئيسي في الوقت الحاضر. ولكن ينبغي له أن يحتفظ بالثروة النفطية وينمي من خلالها الاقتصاد الوطني والمجتمع العراقي, ويحافظ على توازن اجتماعي مناسب في مجال توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي أو الثروة الاجتماعية. فالدعوة إلى خصخصة قطاع النفط الخام لا تصب إلا في مصالح الاحتكارات الأجنبية وليست في مصلحة العراق في الوقت الحاضر ولفترة طويلة لاحقة. وليس من حق أحد اللجوء إلى ذلك إلا في ظل حكومة عراقية معترف بها وتطرح رؤيتها على الشعب العراقي ومؤسساته الدستورية لتقرر الموقف من هذه الثروة النفطية ومن النفط الخام العراقي وإجراء استفتاء شعبي بهذا الشأن. ومن حق القطاع الخاص في هذه المرحلة والمراحل القادمة أن يلعب الدور الرئيسي في عملية التنمية والبناء الاقتصادي مع الالتزام بما نطلق عليه بسياسة "اقتصاد السوق الحر الاجتماعي" الذي تمارسه بعض الدول الأوروبية. ماذا نعني بذلك؟ نعني باختصار ما يلي:
يفترض في راسمي السياسات الاقتصادية أن يأخذوا بنظر الاعتبار واقع المجتمع والمآسي التي مرّ بها وضرورة الأخذ بمفهوم ومضمون "اقتصاد السوق الحر الاجتماعي", أي بمعنى العناية بقدر أكبر بقضايا العدالة الاجتماعية وحياة وظروف العمال وتحديد ساعات العمل وضمان التأثير الإيجابي على علاقة تناسب سليمة بين الأجور وفائض القيمة وتأمين الضمانات الاجتماعية والصحية للعمال والمستخدمين . . . الخ, وعدم السماح للاستغلال الرأسمالي وسياسات اللبرالية الجديدة المتشددة من تشديد خناقها على أفراد المجتمع, والكادحين منهم على نحو خاص. ووضع آليات ديمقراطية مناسبة لمعالجة المشكلات التي تحصل بين نقابات العمال وأصحاب العمل أو أصحاب رؤوس الأموال. ويفترض أن يشمل هذا الأمر العراق كله. يمكن أن نشير فيما يلي إلى أهم تلك الأسس والمبادئ التي يفترض أن يتضمنها مفهوم اقتصاد السوق الحر الاجتماعي, كما أقرته ألمانيا قبل ثلاثة عقود والتزمت به لفترة طويلة ثم بدأت بنسفه من خلال تحولها إلى سياسة اللبرالية الجديدة في ظل الحكومة السابقة التي ضمت تحالف الحزبين الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي مع الحزب الألماني الحر, وفي ظل الحكومة الحالية التي تتشكل من تحالف الحزبين الاشتراكي الديمقراطي والحضر:
• حرية النشاط الاقتصادي وحماية الملكية الخاصة وتشجيع أصحاب الأعمال على استثمار رؤوس أموالهم في النشاط الاقتصادي والاجتماعي, أي في جميع فروع الإنتاج والخدمات.
• تمتع القطاع الخاص بالدور الأساسي في الحياة الاقتصادية ومنحه حرية الحركة وتحقيق الأرباح, إضافة إلى تشجيع أصحاب رؤوس الأموال على زيادة توظيفاتهم الرأسمالية الموجهة لزيادة إنتاج تلك السلع التي تساهم في تقليص الواردات وتتوجه نحو إشباع حاجات السوق الداخلي والخارجي. وهذا يعني تحويل الاقتصاد من حالة الاستهلاك إلى حالة الإنتاج لأغراض السوق وإغناء الدخل القومي بدلا من استهلاكه.
• ابتعاد الدولة عن التدخل في شؤون وقرارات ونشاطات القطاع الخاص ما دام ملتزما بالقوانين الديمقراطية المرعية ودستور البلاد.
• دعم قيام منشآت اقتصادية منتجة وفعالة وقادرة على المنافسة الحرة. ويتطلب هذا وجود أسواق حرة للعمل والقروض وسعر الفائدة والعملات الصعبة.
• تمتع المنشآت الاقتصادية بحرية تامة في مجال القروض وتشغيل الأيدي العاملة وتحديد الأسعار والأجور.
• ترك سياسة تكوين الأسعار لقوانين وآليات العرض والطلب في السوق.
• السعي لتعويم العملة أو تثبيتها بسعر صرف واقعي.
• عدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية التي يمكن للقطاع الخاص النهوض بها, وأيلاء اهتمام خاص من جانب قطاع الدولة لتلك القطاعات التي يبتعد عنها القطاع الخاص لأي سبب كان.
• فتح الأسواق المحلية وإزالة القيود أمام التبادل التجاري الدولي ...الخ.
• الموافقة على تقديم الدعم من جانب الدولة لتحديد أسعار السلع ذات الاستهلاك الجماهيري الواسع ولكن بحدود محسوبة جيدا, وتخدم الغالبية العظمى من السكان.
• السعي لإيجاد توازن معين في توزيع الدخول في المجتمع لضمان السلم الاجتماعي وتأمين جملة من الخدمات الاجتماعية والاتفاقيات بين اتحادات أصحاب العمل والنقابات لضمان توازن معقول بين الأسعار والأجور في ضوء نسب التضخم السنوية...الخ, دون تدخل الدولة.
• الاتفاق على قواعد وأسس أو آليات معينة لما يسمى ب "قواعد اللعبة الديمقراطية" في الدول الرأسمالية المتقدمة من أجل معالجة المشكلات والاختلافات أو حتى النزاعات في ما بين النقابات العمالية واتحادات الصناعيين والشركات الرأسمالية وأصحاب الأعمال حول قضايا الأجور وساعات العمل أو التشغيل والبطالة أو قضايا التقاعد والضمان الصحي والاجتماعي ومسائل الإنتاجية وزيادة الأجور والأمن الصناعي …الخ, وفق أساليب التفاوض الديمقراطي السلمي والتحكيم من أطراف تمثل الطرفين قبل إعلان الإضراب أياً كان نوعه. مع ضمان حق العمال في الإضراب عن العمل للوصول إلى الأهداف التي تسعى إليها النقابات العمالية.
وفي ما يخص العراق عموماً يمكن طرح السؤال التالي الذي يفترض الإجابة عنه: هل في هذا المشروع, أو في بعض جوانبه, ما يفترض أن يدرس من جانب الحكومات والمتخصصين والرأي العام للنظر في ما إذا كان فيه ما ينفعها, إذ لا يمكن القبول به جملة وتفصيلاً بسبب تباين الظروف بين البلدان المختلفة. ومن المعروف أن الدكتور لودفيك أيرهارد, مستشار ألمانيا الأسبق والرئيس الأسبق لحزب اتحاد الديمقراطي المسيحي كان أول من طرح فكرة اقتصاد السوق الحر الاجتماعي ونفذها منذ عام 1977. إنها أفكار يراد من العاملين في الشؤون الاقتصادية ومن الأحزاب والقوى السياسية والمنظمات المختلفة والرأي العام العراقي مناقشة الوجهة الأساسية لضمان التطور الاقتصادي والاجتماعي المعجل وضمان التشغيل الواسع ومكافحة البطالة المهيمنة والحفاظ في الوقت نفسه على العدالة الاجتماعية التي يمكن توفيرها في ظل الاقتصاد الحر الاجتماعي, أي في ظل سيادة الرأسمالية في البلاد. 

برلين في 22/06/2003                                               كاظم حبيب     

 

 



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل التمييز الصارم بين مواقف الشعب ومواقف أعداء الحرية وا ...
- قراءة في كتاب -دراسات حول القضية الكردية ومستقبل العراق- للأ ...
- انتفاضة السليمانية وثورة العشرين
- إجابة عن أسئلة تشغل بال مواطنات ومواطنين عرب ينبغي إعارتها ك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- تحويل بعض بيوت الله من منابر للتسبيح بحمد الدكتاتور إلى مراك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- الشفافية والمجاهرة حاجة ماسة في العلاقة المنشودة بين القوى ا ...
- من يقف وراء حملة التمييز بين مناضلي الداخل والخارج؟ وما الهد ...
- محنة الأكراد الفيلية في العراق!
- المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب
- إلى من تتوجه أصابع الاتهام في التخريبات الأخيرة والجارية في ...
- الدور الذي يفترض أن تلعبه قوى حركة التحرر الوطني الكردية في ...
- ماذا وراء أحداث الفلوجة وهيت؟
- من أجل مواصلة الحوار حول وحدة قوى اليسار الديمقراطي العراق
- احتلال العراق ليس نهاية التاريخ! المخاطر الراهنة على مستقبل ...
- نشاط قوى صدام حسين ما بعد سقوط النظام في العراق والخارج - ال ...
- الحوار المفتوح والشفاف هو الطريق الأسلم لتحقيق رؤية ناضجة حو ...
- نشاط قوى صدام حسين ما بعد سقوط النظام في العراق والخارج
- متابعة لمقال رؤية أولية حوارية لوحدة اليسار الديمقراطي العرا ...


المزيد.....




- أمطار غزيرة وعواصف تجتاح مدينة أمريكية.. ومدير الطوارئ: -لم ...
- إعصار يودي بحياة 5 أشخاص ويخلف أضرارا جسيمة في قوانغتشو بجن ...
- يديعوت أحرونوت: نتنياهو وحكومته كالسحرة الذين باعوا للإسرائي ...
- غزة تلقي بظلالها على خطاب العشاء السنوي لمراسلي البيت الأبيض ...
- ماسك يصل إلى الصين
- الجزيرة ترصد انتشال جثامين الشهداء من تحت ركام المنازل بمخيم ...
- آبل تجدد محادثاتها مع -أوبن إيه آي- لتوفير ميزات الذكاء الاص ...
- اجتماع الرياض يطالب بفرض عقوبات فاعلة على إسرائيل ووقف تصدير ...
- وزير خارجية الإمارات يعلق على فيديو سابق له حذر فيه من الإره ...
- سموتريتش لنتيناهو: إذا قررتم رفع الراية البيضاء والتراجع عن ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - من أجل أن لا ننسى ما فعله الاستعمار البريطاني والنظام الملكي في العراق على مدى أربعة عقود