أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد أيوب - في ذكرى حرب حزيران















المزيد.....


في ذكرى حرب حزيران


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1938 - 2007 / 6 / 6 - 12:35
المحور: سيرة ذاتية
    


مقتطفات من السيرة الذاتية
استمر عملنا التنظيمي كالمعتاد، اجتماعات سرية ونقاشات وأبحاث ودراسات وقراءة للكثير من الكتب وتقديم ملخصات لها، فقد التزم أفراد كل خلية أو حلقة أو رابطة بأن يقرأ كل منهم كتاباً على الأقل كل شهر إضافة إلى استماعه إلىالملخصات التي كان يعدها بقية أعضاء المنظمة الحزبية، وقد ساعدت هذه القراءات على تنمية مداركنا وصقلت موهبة الكتابة عند من كانت لديهم الرغبة في الكتابة، استمرت الأمور على هذا المنوال إلى أن تأزمت الأمور بين مصر والأردن، وقام الملك حسين باتهام جمال عبد الناصر بأنه يختبئ وراء قوات الطوارئ الدولية ويحتمي بها؛ مما جعل عبد الناصر يتصرف بمنطق ردة الفعل، لقد ابتلع جمال عبد الناصر الطعم الذي أعد جيداً فأمر بتجميع قوات الطوارئ الدولية في قطاع غزة وقام بإغلاق مضائق تيران وبذلك أتيحت الفرصة الذهبية لإسرائيل التي اعتبرت إغلاق المضائق بمثابة إعلان للحرب من طرف مصر ضدها، لأن فتح مضائق تيران كان شرطا من شروط الانسحاب الإسرائيلي من سيناء عام 1956 م .
توترت الأوضاع كثيراً وتم إعلان حالة التأهب القصوى في الجيش المصري وبدأنا في تنظيم فرق الدفاع المدني ودعوة الناس إلى إطفاء الأنوار ليلاً أو تغطية المصابيح باللون الأزرق، كما جرى العمل على تنظيم فرق المقاومة الشعبية والدفاع المدني على قدم وساق، وفي يوم الخميس الأول من يونية سنة 1967م دق إبراهيم المناصرة باب منزلي في عصر ذلك اليوم وقال لي إنه يحمل لي رسالة من وزارة الحربية المصرية، نظرت إليه بريبة وحذر وسألته : وما علاقتي بوزارة الحربية المصرية ؟ فقال : الرسالة موجهة إليك لتقرأها وتنفذ ما فيها ثم تقوم بنقل الرسالة إلى قيادة الحركة !
أنكرت أي صلة بيني وبين الحركة فكان رده أن الظرف خطير ولا وقت لهذه المماحكات فالحقيقة معروفة لديهم في القاهرة وهم يعرفون من أنت كما يعرفون موقعك التنظيمي، ثم أردف قائلاً : وفي النهاية أنت حر في اتخاذ القرار الذي تراه مناسباً ولكنك ستتحمل المسئولية أمام نفسك وأمام الله وأمام المسئولين والناس بعد الحرب، تناولت الرسالة منه ووضعتها في جيبي إلى حين انصرافه .
بعد انصراف الرجل فتحت الرسالة وقرأت ما فيها ، فاجأتني الرسالة التي طلبت مني ومن الحركة أن نتولى مهمة توزيع السلاح على من نثق بهم من أفراد المقاومة الشعبية وأن علينا أن نبدأ المقاومة بمجرد سقوط قطاع غزة تحت الاحتلال على اعتبار أن قطاع غزة ساقط عسكرياً ، كما حددت الرسالة يوم الاثنين الخامس من يونيو موعداً متوقعاً لاندلاع الحرب ، توجهت على الفور إلى جباليا لتسليم الرسالة إلى قيادة الحركة للعمل بما جاء بها، كان الوقت ضيقاً، لكن التدريب الذي تلقاه معظم الناس ساعدنا على التغلب على عنصر الوقت، اتصلت بالسيد محمد عوض مرزوق حاكم خان يونس الإداري، كان الرجل متحمساً للمعركة، وقد كانت الاجتماعات تعقد في مكتبه بصورة ليلية، كنا واثقين من النصر، كما كنا على اعتقاد راسخ بأننا سنكون البادئين بشن الحرب، وقد داعبت عقولنا الأماني بأن ندخل تل أبيب قبل ظهر اليوم الذي تندلع فيه الحرب، امتنعنا عن الحديث عن الرسالة التي وصلتنا حتى لا نؤثر على معنويات الناس والمقاومين المتحمسين، ولكن تطورات خطيرة حدثت بين يوم وصول الرسالة ويوم اندلاع الحرب، فقد أذيع أن سيارة جيب عسكرية مصرية ضلت طريقها في سيناء ودخلت الحدود الإسرائيلية في يوم الأحد 4 / 6 / 1967 م، ألقي القبض على الأفراد الخمسة الذين كانوا داخل السيارة واستولت إسرائيل على الوثائق والخرائط التي كانوا يحملونها، وفي هذه الفترة بين 1/ 6 إلى 4 / 1967 سادت حالة من التخبط والارتجال في خان يونس، فقد كانت قوات الجيش تجمع الناس لحفر الخنادق، فإذا ما تم حفر هذه الخنادق جاء أحد المسئولين ليعترض على الخنادق المحفورة ويأمر بحفر خنادق جديدة حتى كل الشباب وتعبوا وأحبطوا، كما كانت وجبات الطعام لا تصل لأفراد الجيش بصورة منتظمة، وتم جمع الشباب من الشوراع لينقلوا إلى معسكرات استقبال لتوزيع السلاح عليهم ونقلهم إلى بعض المواقع الأمامية، كانت تربطني علاقة وثيقة بالأخ محمد خميس أبو زيادة عضو الحركة الذي كان ضابطا برتبة ملازم أول ، وقد زرته في مساء أحد الأيام في بيته وتوجهنا معا إلى كتيبة القيادة في خان يونس، كان أحد الجنود مكلفاً بحراسة البوابة، نادى الجندي علينا طالباً منا تعريف أنفسنا، ذكر محمد اسمه ورتبته فأدى الجندي التحية وسمح لنا بالدخول ، استغربت الأمر وسألت محمد خميس :
- كيف يسمح هذا الجندي لشخص مدني أن يدخل معك دون أن يتأكد من هويته .
اكتفى محمد بالابتسام وتوجهنا إلى بدالة التليفونات ليتصل بالعريش، وقد ظل يحاول الاتصال عدة ساعات إلى أن فقد الأمل بإتمام الاتصال فعدنا أدراجنا ، قلت له :
- لنفترض أنك كنت تريد طلب نجدة أو أي شيء مستعجل فما النتيجة التي تتوقعها، إن ما يجري على أرض الواقع لا يبشر بنصر أكيد كما نتوقع .
كانت حملة التجنيد الإجباري قد طالت العديد من كوادر الحركة، فتم تجنيد عضو الحركة الصديق محمد نبيل حسان والأخ عبد الفتاح الباز وهو من أقرب أعضاء الحركة إلى قلبي ، كان يعملان ضمن خلايا المعسكر وكنت أعتمد عليهما في كثير من الأمور، كنت أزور عبد الفتاح الباز في كتيبة القيادة كل ليلة تقريباً ، بينما نقل نبيل حسان إلى معسكر الاستقبال، كان موظفا يعمل في مدارس وكالة الغوث التي قامت بفصله من عمله، كما فصلت جميع موظفيها الذين تم تجنيدهم إجبارياً، كان موقف الوكالة مستهجناً وموضع شك .
أصبحنا نعاني من نقص في كوادر الحركة، لم يبق لدينا إلا كبار السن أو الذين يتم إعفاؤهم من التجنيد، وقد كنت ممن تنطبق عليهم شروط الإعفاء لكوني معيلاً وحيداً لأسرتي، ولكن ضابط المباحث إبراهيم محمد إبراهيم الذي كانت علاقته بالحركة غير ودية أصر على استدعائي للذهاب إلى معسكر التجنيد، كان يدرك جيداً أن شروط الإعفاء تنطبق علي ولكنه كان يرغب في أن يشل حركة التنظيم بنقل العديد من كوادره إلى معسكر الاستقبال، ولما قلت له أنني معفى من التجنيد الإجباري حسب الشروط المنشورة في الوقائع الفلسطينية ادعي بأن بطاقة هوية والدي قديمة تحتاج إلى تجديد، كان تجديد البطاقة يحتاج إلى عدة أيام مما يعطيه فرصة أكيدة لنقلي إلى معسكر الاستقبال في غزة وحلق شعري وحجزي إلى أن يتم تجديد هوية والدي، كان هذا الضابط متعاطفاً مع بعض أصدقائه من حزب البعث في الوقت كان يحاول فيه الإساءة إلى أعضاء حركة القوميين العرب، حاولت جهدي ألا أتركه يفرح بتحقيق ما خطط له فتوجهت إلى الصديق جودت الفرا وشرحت له ما حدث فقال لي: - اذهب على عجل وأحضر والدك وجهز له صورة مائية واختم طلب الهوية من مختار يافا.
كان أبي مريضاً ولكني أحضرته إلى المصور الذي كان يعمل أمام مركز شرطة خان يونس ، أخذ له المصور الصورة اللازمة بينما توجهت سيراً على الأقدام إلى مركز التموين وطلبت من المختار على عون أن يختم طلب تجديد الهوية ففعل الرجل دون أن يأخذ مني شيئاً، أصبح كل شيء جاهزاً لتجديد الهوية فتوجهت إلى الصديق جودت الفرا الذي أدرك بفطنته ما يهدف إليه هذا الضابط الذي لم يكن محبوبا ، أنجز لي بطاقة الهوية بسرعة فتوجهت إلى ضابط المباحث الذي فوجئ بتجديد البطاقة ، تغير لون وجهه إلا أنه اضطر إلى إتمام معاملة الإعفاء ولم يستطع أن يحقق ما خطط له .
كانت امتحانات المرحلة الإعدادية قد بدأت في يوم السبت 3/6/1967م ، كنت نائب رئيس اللجنة ، وكانت قد عسكرت في مدرستنا " مدرسة عبد القادر الإعدادية " مجموعة كبيرة من الجيش ، قدمنا لهم كل التسهيلات اللازمة وقمنا بتركيب دش خاص في حمامات المدرسة ليستخدمه أفراد هذه القوة ، كان من ضباط القوة الصديق الملازم خليل أبو توهة ، كما كان النقيب رمزي من قرية الشجرة قضاء حيفا من الضباط الذين جاءوا من سوريا ، بينما كان الملازم أول جهاد كلاب ممن قدموا من العراق ، كانت الآمال تحدونا بنصر وشيك، وفي مساء يوم الأحد التقى النقيب رمزي بأفراد المقاومة الشعبية وشجعهم على حماية الداخل حين يتقدم الجيش خلف خطوط العدو ، وقد أكد أنه لا أحد يعرف إن كانت المعركة ستبدأ غداً أو بعد غد ، لم يكن أحد من الحاضرين يعرف أن المعركة باتت وشيكة ، وزعنا مجموعات المقاومة الشعبية على المناطق الحساسة في المخيم كما طافت فرق الدفاع المدني تطالب السكان بإطفاء الأنوار خشية أن يقوم العدو بضربة مباغتة ، كما تم توزيع العديد من قوات الجيش في الشوارع الرئيسية ، كانت الخنادق تنتشر على حواف الطرق وجوانبها ، كانت الاستعدادات كبيرة، لم نكن نتوقع أن يقوم السفير الروسي بالاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر ليطلب منه ألا يكون البادئ بالحرب، وقد التزم الرئيس بما طلبه السفير منه بعد أن تلقى منه تأكيداً بأن الولايات المتحدة قدمت للاتحاد السوفييتي تعهداً بألا تكون إسرائيل هي البادئة بشن الحرب، ترى هل كان ذلك تواطئاً بين الدولتين العظميين أم أن الاتحاد السوفييتي خدع وصدق التعهد الأمريكي فانخدعنا نحن أيضاً، حصل استرخاء في تلك الليلة فظلت الدبابات المصريه في سيناء في مرابضها على الرغم من حالة الاستعداد القصوى، أقيمت حفلة غنائية في سيناء وسهر المشير عامر حتى الفجر، استيقظنا في صباح يوم الاثنين الخامس من حزيران وتوجه كل منا إلى عمله، توجهت إلى لجنة الامتحان دون أن آخذ بندقيتي معي كالمعتاد، لبست الزي العسكري فقط ولم أكن أتوقع أن يكون الطيران المصري قد تحطم معظمه وشلت فاعليته في الساعة السادسة من صباح ذلك اليوم، سارت الامتحانات كالمعتاد، وفي حوالي الساعة الثامنة والربع ، بعد بدء الامتحانات بقليل ، جاءني آذن المدرسة محمد حرب حمدان وأخبرني أن ناظر المدرسة السيد حسن البطة يمنعه من الخروج من المدرسة للتوجه مع فرق المقاومة الشعبية إلى شاطئ بحر خان يونس لإجراء بعض التدريبات، وقد تم في يوم الأحد سحب المدفعية المضادة للدبابات من الحدود إلى شاطئ البحر للغرض نفسه، طمأنت محمد حرب بأنه سيخرج وأنني سأكلم الناظر في الأمر، وإن أصر على الرفض سأحضر لك أمراً من الحاكم الإداري، وفجأة وصلت سيارة الحاكم قبل أن تتحرك مجموعات المقاومة إلى البحر، طلب منا أن يتم توزيع هذه المجموعات على الأماكن المحددة لها لأن الحرب قد بدأت، كانت الساعة تقترب من التاسعة صباحاً، وقع الخبر على الجميع وقوع الصاعقة، تفرق الجمع على عجل ليتجه كل منهم إلى الموقع المخصص له، وقد بدأت بعض الإصابات تصل إلى مستشفى ناصر، بدأت أتساءل عن كيفية وقوع هذه الإصابات، ولكني قررت الصمت، أبلغت الناظر خبر اندلاع الحرب وطلبت منه أن نجمع أوراق الامتحان وأن نصرف الطلاب بهدوء حتى لاتقع بينهم إصابات لأن الأمر يبدو أخطر مما نتوقع، بعد ذلك قررت العودة إلى البيت لإحضار بندقيتي، وبعد أن أحضرتها قابلت المرحوم أسعد الترتير الذي أخبرني أن الدبابات الإسرائيلية موجودة عند محطة فارس للبنزين الموجودة في وسط شارع جلال، استفزني ما قاله وهددته بألا يكرر ذلك على مسامع الناس، لم أكن أتوقع ذلك ولم أشأ أن أصدقه، كانت الإشاعات تتناثر في كل مكان، هناك دبابات في سوق الخضار، لقد تم هدم دكان مضيوف الفرا في أول سوق الجزارين، الدبابات الجزائرية دخلت خان يونس وعليها شعارات مكتوبة بالعربية، كانت الدبابات ترفع أعلاماً عربية وشعارت تدعو إلى تحرير المدن الفلسطينية، كانت الدبابات تتواجد داخل المدينة ولم يكن باستطاعة أحد أن يتأكد من هويتها ، مع اقتراب الظهر جاء الحاكم الإداري السيد محمد عوض مرزوق إلى أول المعسكر وسألني إن كان هناك شخص يعرف اللغة العبرية ليتأكد إن كانت هذه الدبابات إسرائيلية أم لا! رشحت له الفدائي حسن أبو مسلم الذي كان يعمل ضمن مجموعات الشهيد مصطفى حافظ ، ذهب الرجل ليعود ويخبرنا بأن طواقم هذه الدبابات هم من الجنود الإسرائيليين وليسوا من العراقيين أو الجزائريين كما يشاع، كان ذلك محزناً بالنسبة لنا ولكنا قررنا أن نقاتل لأننا كنا نعرف أن قطاع غزة في حكم الساقط عسكرياً ولم نكن نتوقع أن يكون الطيران المصري قد شلت قدراته وأن القوات المصرية في سيناء أصبحت فريسة سهلة لطيران العدو .
قبل مجئ الحاكم الإداري كانت قد جاءت مجموعة من الطائرات من الجنوب، توقعت أن تكون هذه الطائرات مصرية فصحت بكل الحماس الذي يمكن أن يشعر به إنسان يتوق إلى التحرير، خرج هتاف الله أكبر مدوياً من أعماقي، ولكن العرق تصبب من جميع مسام جسمي حين انطلقت مدفعيتنا المضادة للطائرات نحو الطائرات القادمة من الجنوب، أين طائراتنا إذن؟ كان أحمد سعيد يهدر في المذياع : طائراتهم تتساقط كالذباب يا أخي، وراديو دمشق يردد : اذبح اذبح تربح ، وميراج راحت واختفت والميج فاقت واعتلت في حين كانت الميج مكسورة الجناح لا تستطيع الخروج من ملاجئها بعد أن تم تدمير كافة مدارج المطارات وتحطيم الطائرات التي كانت مكشوفة، شعرت بالحزن والأسى ولكني لم أفقد الأمل، فالوغى كر وفر كما أنشد فريد الأطرش بعد الهزيمة الشنيعة، لقد كان طعم الهزيمة مراً، كان راديو إسرائيل يطالب الجنود بالاستسلام ويردد أن قوات الجيش الإسرائيلي تتواجد على حافة قناة السويس، لم يكن باستطاعة عقولنا أن تتقبل ذلك فاعتبرناه من قبيل الدعاية لتثبيط الهمم .
كانت مكبرات الصوت التي يحملها الجيش الإسرائيلي تطالب الناس بالاستسلام، ولكن الناس أصروا على المقاومة ، انتشرت قوات الجيش والمقاومة الشعبية في كل مكان ونصبت الرشاشات في الشوارع، كانت ليلة باردة تلك الليلة أو لعله التوتر والخوف هما اللذان جعلانا نشعر بالبرد، لا أدري ! ومع فجر يوم الثلاثاء سمعت حركة في الشارع الخلفي الموازي لشارع البحر والذي يمر خلف مقهى أبي مسلم والدكاكين المجاورة، ناديت بعد أن سحبت أجزاء بندقيتي : من هناك ؟
- أنا الحاج مطاوع القدرة ؟
- إلى أين أنت ذاهب ياحاج ؟
- أريد أن أفتح الدكان .
- عد إلى بيتك يا حاج فالوضع خطير ، لا تعرض نفسك للموت .
استمرت المقاومة يوم الثلاثاء 6 / 6 / 1967م ، لكنها كانت مقاومة مرتجلة، توجهت إلى مقهى جلود حيث تمركزنا في الخنادق الموجودة هناك ، كنا على استعداد لإطلاق النار على أية مجموعة من قوات العدو تحاول دخول شارع البحر من الشرق، كنا مجموعة أذكر منهم الملازم أول جهاد كلاب وجندي مصري نحيف الجسم يحيط خصره بمجموعة من القنابل اليدوية، حضر إلى المقهى أحد الجنود وأخبرنا أن هناك دبابة إسرائيلية موجودة عند الجامع الكبير في وسط المدينة، وأن بإمكانه أن يهاجم هذه الدبابة لو توفرت لديه قنبلة يدوية، طلبنا من الجندي أن يعطيه واحدة من القنابل التي يتحزم بها ، رفض الجندي في البداية بحجة أنه يريد أن يدافع عن نفسه، وبعد لأي وافق على إعطائه واحدة، أخذها الرجل وغاب فترة عاد بعدها ليخبرنا أنه قام بتفجير القنبلة داخل الدبابة بعد أن ألقى القنبلة من فتحة البرج وأنه استطاع أن يأخذ ساعة الجندي الأقرب إليه، غادرنا الجندي ومعه الساعة التي تشهد على صحة ما قاله، وبعد فترة شاهدنا رجلاً بملابس عسكرية مرقطة مثل ملابس الصاعقة ، لم نكن نعرف شكل الزي الذي يلبسه الجيش الإسرائيلي، قام الملازم أول جهاد كلاب بتحريك أجزاء بندقيته محاولا إطلاق النار على القادم من الشرق، طلبت منه ألا يتسرع في إطلاق النار، فربما كان الرجل عربياً، قال جهاد : ماذا تقترح إذن ؟
قلت : بإمكانك أن تطلق طلقتين تحذيريتين لنرى كيف سيتصرف .
أطلق جهاد الطلقتين باتجاه الشرق ، رفع الرجل يديه وصاح بأعلى صوته : أنا عربي !
قال جهاد : تقدم .
تقدم الرجل وهو يرفع يديه، ولما اقترب منا قال : أنا النقيب غازي خريبة قائد الدبابة الموجودة بالقرب من بيت محروس فارس، لقد أطلقنا قذيفة واحدة من مدفع هذه الدبابة، وقد أصابت دكان القماش المقابلة لنا بعد أن تعطل المدفع ، وأريد أن أتوجه إلى قسم الصيانة في الإستاد الرياضي لآخذ بعضهم لإصلاح العطب، ابتسمت وقلت له: لا يوجد أحد في الاستاد فقد غادر الجميع المكان بعد القصف، كنت قد توجهت إلى منطقة مستشفى ناصر لاستطلاع الأمر بعد أن علمنا أن الطائرات الإسرائيلية قامت بإلقاء منشورات على المنطقة، طلبت أن يرافقني أحد الحاضرين ولكن أحداً لم يستجب لطلبي غير فوزي نصر الذي أصر على مرافقتي، كنت أخشى أن يصاب إصابة قاتلة إذا حدث قصف، وعندما اقتربنا من الإستاد الرياضي دوت قذائف المورتر الإسرائيلية، صحت : أرقد يا فوزي .
انبطحت وانبطح فوزي، تكرر القصف وتكرر الانبطاح، وأخيراً أصيب فوزي بالضجر فصاح : هو هووو ، انبطح يافوزي ، قم يافوزي، قرر فوزي أن ييمم وجهه شطر الشرق ليعود إلى مقهى جلود بعد أن أرعبه صوت الانفجارات التي أصابت مستشفى ناصر مما أدى إلى إصابة بعض الممرضين والأطباء وموت بعض الجرحى .
عدت أدراجي بعد أن يئست من الحصول على المنشورات لمعرفة ما فيها ، وصلت المقهى لأجد أن معظم الحضور قد انصرفوا من المكان، قلت للملازم جهاد أنني سأتناول طعام الغداء على عجل وأعود إليه، وعندما عدت لم أجد أحداً في المقهى ، رأيت أحد الجنود وهو يحمل بندقية آلية من طراز كلاشنكوف، اعتقد الرجل أنني من المجندين مثله ، تبادلنا الحديث واتفقنا على أن نتمركز في الخندق المقابل لمقهى جلود بالقرب من جامع بلال، وبينما نحن في الخندق قام هذا الجندي بلإطلاق صلية من بندقيته الرشاشة نحو الشرق وانقذفت المظاريف الفارغة من فوق رأسي، سألته عن سبب إطلاقه النار ولكنه لم يجب بل التزم الصمت، قلت له إنني لم أشاهد أحداً في الشارع، ظل الرجل على صمته ، لعله الخوف من المجهول، وفجأة سقطت قنابل المورتر من حولنا، أصابت إحداها قبة امسجد المعسكر " بلاب حاليا " وامتلأ المكان برائحة البارود والدخان الأسود، وقد أصيب خزان المياه الرئيسي الموجود في المخيم إلى الغرب من المسجد، ظلت القذائف تنفجر دون توقف ونحن لا نملك سوى الانبطاح في قعر الخندق بينما كانت سبابتاي مرفوعتان في وضع الشهادة، كنت لا أريد أن أموت دون أن أنطق بالشهادتين، وبعد أن هدأ القصف قررنا مغادرة الخندق، كان على بعد عدة أمتار إلى الجنوب خندق مسقوف، فكرت بالاحتماء فيه، وعندما اقتربت من فتحته ونظرت إلى الشمال حيث شارع البحر قررت عدم تنفيذ ما فكرت فيه، فقد شعرت أن وجودنا بداخله سيجعلنا فريسة سهلة لأية دبابة إسرائيلية عابرة، وقد حزنت عندما علمت فيما بعد أن ثلاثة من أخوتنا المصريين قد اختبأوا فيه فجعلته إحدى الدبابات قبراً لهم، اتجهت إلى الشرق خلال زقاق موازٍ لشارع البحر من الناحية الجنوبية، برز جنديان بملابس الصاعقة من إحدى الفتحات، اعتقدنا أنهما يهوديان، سحب كل منا أجزاء بندقيته وصرخنا : ثابت مكانك، لا تتحرك، توقفا عن الحركة وأخبرانا أنهما فلسطينيان، وأنهما يتجهان إلى جنوب المعسكر لفحص ما إذا كان قد تم إنزال بعض المظليين الإسرائيليين على الرمال الجنوبية، قاما بتزويدنا ببعض الرصاص، ولعلهما أرادا التخلص منه .
قررت التوجه إلى بيت عمي درويش وذهب الجندي إلى بيته ، قررت أن نتجمع في بيت عمي ، كانت لدينا بنادق تكفي لمنع العدو من الدخول ، أخذنا أماكن مختلفة في المنزل، عمي وابن عمي عبدالله وابن عمي محمد وأنا، تذكرنا ما حدث في عام 1956م فقررنا ألانعطيهم فرصة لقتلنا، يجب أن نقاوم إلى أن نموت، تركنا باب المنزل مردوداً، كان الباب من الصفيح لا يمكنه أن يصمد أمام ركلات الجنود، واتفقنا على أن نطلق معا على أي جندي يحاول الدخول علينا ، ظللنا ننتظر فترة ولكن لم يحدث شيء ، كان ابن عمي عبد الله يلح علينا أن نتوجه إلى البحر بدلا من أن ننتظر الموت هنا .
وأمام إلحاح جدتي وابن عمي وافقنا على مغادرة المنزل إلى المواصي وذلك خشية أن يحدث معنا مثل ما حدث سنة 1956م حين أخرج الشباب من بيوتهم وقتلوا ، كما تم قتل البعض داخل بيوتهم، وحين خروجنا من البيت بدأ قصف المورتر وأخذت القذائف تتساقط هنا وهناك، كنت أنبطح بين الفينة والأخرى خشية أن أصاب بشظايا المورتر مما أثار حفيظة ابن عمي عبد الله فثارت ثائرته، قال : لا وقت لدينا لتطبيق ما تعلمناه في التدريب العسكري، إجر قبل أن يدخل علينا الجيش فلا تنفعنا بنادقنا، ولما وصلنا التلال الرملية شهدنا عربة مصفحة محترقة والدخان يتصاعد منها، لم يكن باستطاعتنا أن نفعل شيئاً من أجلها فواصلنا السير نحو البحر، وقد وصلنا المواصي بعد أن قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف خان يونس بقنابل النابالم التي أصابت البعض بحروق صعبة ومنهم الحاج اليمني .
وفي يوم الخميس وصلت جدتي أم إبراهيم وزوجة عمي درويش ومعها خطيبتي وطفلتها الرضيعة " فايزة " التي أصيبت بجفاف بسبب قلة الحليب وسوء التغذية مما أدى إلى تدهور صحتها تدهورا لازمها حتى اليوم، وأمام حاجتنا الماسة قررت العودة إلى المخيم لإحضار الطعام اللازم للأطفال ، لم أجد من يرافقني سوى ابن عمي محمد، سرنا عبر التلال الرملية حتى وصلنا الشطر الجنوبي من المخيم الغربي، كانت التلال المغطاة بالأشجار الحرجية تشكل ستاراً لنا، انبطحنا فوق الرمال وتحت أغصان أشجار الكازورينا حتى بدأت العتمة تسدل ستارها على الكون، هبطنا إلى المخيم حتى وصلنا إلى منازل بعض الأصدقاء فطلبنا منهم بعض المواد الغذائية من دقيق وسكر وشاي ، حصلنا بعض البط، وقد ساعدنا في ذلك أحد الأخوة أعضاء الحركة وهو شقيق زوجة إبراهيم المناصرة من عائلة القيسي،وقد بذبح البط حتى لا يصدر صوتا أثناء عودتنا إلى المواصي، كان الظلام دامسا ففقدنا بوصلتنا وأخذنا نبحث عن أهلنا هناك حتى وصلناهم، كان الناس يبكون بكاء مراً، اعتقدت لأول وهلة أن الجيش الإسرائيلي هاجم المتواجدين في المواصي خصوصا بعد أن قام بهدم الكازينو الوحيد الموجود على شاطئ البحر وكان يطلق النيران عشوائيا، سألت عن سبب بكاء الناس فقيل لي إن عبد الناصر قد استقال، كان لاستقالة عبد الناصر وقع الصدمة على نفوس الناس، الذين شعروا باليتم الحقيقى ، لأنهم كانوا يدركون أن عبد الناصر هو القشة التي يمكن أن يتمسك بها من أشرف على الغرق، شعرت بغضب شديد من إقدام عبد الناصر على الاستقالة، لقد فجعنا بذلك ولكن ما باليد حيلة، قلت بمرارة لمن حولي: لماذا تبكون وعلى من تبكون، هل تبكون على رجل يريد أن ينجو بنفسه ويتركنا نواجه مصيرنا وحدنا، ومن يبكي على قتلانا المتناثرين في أزقة المخيم والقطط والكلاب تنهش لحومهم ولايجرؤ أحد على الخرج لدفنهم؟ من واجبه أن يتحمل مسئوليته بدلا من الاستقالة، الاستقالة هروب من المواجهة، وفجأة بدأت آمالنا تنتعش من جديد، فقد خرجت جماهير الشعب المصري بحسها الصادق تعبر عن التمسك بعبد الناصر ورفضها للهزيمة، استمرت المظاهرات طيلة يومي التاسع والعاشر من يونيو، عاد عبد الناصر عن استقالته فقررنا العودة إلى بيوتنا مهما كان المصير الذي سنواجهه، خبأنا بنادقنا في المواصي إلي أن يحين وقت الحاجة إليها، وفي البيت قمت بالتخلص من ملابسي العسكرية خشية أن يداهم الجنود البيت في أية لحظة، كما وضعت الكتب والمجلات والصحف الحساسة والتي يمكن أن تنبه الجيش إلى طبيعة انتمائي في كيس من النايلون وأخفيتها فوق سطح بيتنا القرميدي بعد أن موهتها جيداً، بدأنا نفكر في إعادة تنظيم صفوفنا، وافق بعض الأعضاء على العمل في المجال السياسي أولا لأننا لم نحدثهم عن نوايانا بخصوص البدء بالعمل المسلح، كان علينا أن نقوم بتجميع الأسلحة اللازمة كخطوة أولى، ثم اختبار صلابة الأعضاء لانتقاء نواة العمل العسكري من بينهم، كما فكرنا بالاستفادة من عناصر جيش التحرير الذين أصبحوا بلا قيادة توجههم، نجحنا في استقطاب مجموعة منهم، كان بعضهم يعملون ضمن سلاح الهندسة، وكان آخرون يجيدون التدريب على السلاح وزرع الألغام وعمل الشراك الخداعية .



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شركة توزيع الكهرباء في محافظات غزة تساؤلات تحتاج إلى إجابات ...
- في الذكرى 59 للنكبة
- شركة توزيع الكهرباء والانقطاع المتكرر للتيار
- زغردي يا امرأة - خاطرة ،
- أوقفوا هذا الجنون
- هذا الوطن ليس لنا - خاطرة
- عزوف - خاطرة ،
- العراق وفستان مونيكا
- قراءة في قصيدة أفين شكاكي - في يدي أفق ماطرة -
- أمطار غزيرة وآمال كبيرة
- التاسع والعشرون من أكتوبر والذكريات المؤلمة
- طفالنا والعيد - خاطرة
- نداء عاجل موجه إلى السيد مدير عمليات الوكالة بغزة
- توأمان سياميان - خاطرة
- أفين شكاكي والبوح المستمر - قراءة نقدية
- التسلط بين الفرد والدولة
- أبو الكلب - قصة قصيرة ، بقلم : موشي سميلانسكي - ترجمة : د . ...
- الموت الفجائي - قصة قصيرة - موشي سميلانسكي
- الكف تناطح المخرز - رواية
- الإضراب والرواتب وأشياء أخرى - بقلم : د . محمد أيوب


المزيد.....




- مقابلة لافروف مع الصحفي تاكر كارلسون
- لافروف: ما يحدث في أوكرانيا مأساة بينما في فلسطين تحدث كارثة ...
- المؤسسة الأمنية في إسرائيل تستعد لاحتمال سقوط الأسد
- ماكرون: سأبقى في منصبي حتى نهاية ولايتي
- وزير الدفاع السوري: الانسحاب من حماة -تكتيكي-
- فيديو: زلزال قوي قبالة ساحل كاليفورنيا في الولايات المتحدة
- أكسيوس: إسرائيل قلقة من التطورات الأخيرة بسوريا لهذه الأسباب ...
- العراق.. اجتماع وزاري ثلاثي لمناقشة الوضع في سوريا
- وفاة 13 طفلا في المكسيك.. وشكوك بتلوث أكياس التغذية الوريدية ...
- نسخة جديدة من -تشات جي بي تي-.. وهذه أبرز مزاياها


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد أيوب - في ذكرى حرب حزيران