أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكف تناطح المخرز - رواية















المزيد.....



الكف تناطح المخرز - رواية


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1665 - 2006 / 9 / 6 - 09:32
المحور: الادب والفن
    


الفصول الأخيرة / 13 - 14 - 15

( 13 )
الليل طويل طويل ، وحياد يتقلب في فراشه ، يطارده أرق ممل ، عيناه تنظران إلى سقف الغرفة ، يحاول أن يطبق جفنيه على نوم هادئ، لكن النوم يفر منه تاركاً إياه فريسةً لأفكار شتى.. ترى أما لهذا الليل من آخر؟! وهل سنقضي حياتنا في صراع دائم ، لقد قضى والدي معظم حياته في كرب دائم ، ولد في حرب ، وعاش في حرب ، وهاهو يشيخ ولما تنتهي الحرب بعد ، أما آن لنا أن نستقر ؟ وأن تكون لنا حياتنا الخاصة مثل بقية شعوب الأرض .
بدأت عيناه تذبلان مثل نبتة منع عنها الماء ، أغمض عينيه وبدأ يستسلم لما ظن أنه النوم، زاره طيف أخيه سلام، كان يتأبط عكازين ويبتسم ابتسامة عريضة، وإلى جانبه فتاة .. دقق النظر فإذا هي أمل وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عريضة ، ابتسم .. مد يده ليصافحها ، إلا أنها سحبت يدها وتراجعت كأنها تريد أن تفر منه .
صحا من غفوته القصيرة وقد ضايقه موقف أمل ، تناول زجاجة ماء .. تمضمض وبصق الماء في المغسلة ، وبعد ذلك شرب ، التفت حوله ، وجد الجميع في نوم عميق ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وأوى إلى فراشه، كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة والنصف بعد منتصف الليل ، وبلا مقدمات راح في نوم عميق .
***
استيقظت أم حياد مفزوعة ، صوت طرقات عنيفة على الباب أيقظتها من نومها ، كانت بين النوم واليقظة ، فقد كان نومها متقطعا ، لا تكاد تغفو حتى تستيقظ وكأنها تتوقع أن تفاجأ بشيء تكرهه ، وها هي الطرقات العنيفة على الباب تبعدها عن حافة النوم التي كانت تقاربها وتبتعد عنها ، حاولت أن تتظاهر بالنوم وعدم سماع الطرقات ، لعلهم جاءوا من أجل إخراج الشباب لتنظيف الشوارع ومسح الشعارات عن الجدران ؛ إذا كان الأمر كذلك فسوف يذهبون ويدقون أبوابا أخرى ، أخشى إن فتحت الباب لهم أن يصيبوا سلام في ساقه المكسورة فتزداد حالته سوءاً ، ولكن صوت الطرقات تواصل دون انقطاع ، وصوت غليظ ينادي : افتح الباب .. جيش .
- الله يفتح نافوخك يا ابن الحرام .
استمرت الطرقات واستمر الصوت ينادي ، أيقظت أبا حياد وتحركت بتثاقل لتفتح الباب ، وما إن فتحته حتى اندفع أحد الجنود إلى الداخل بعنف فألقاها أرضاً ، صرخت من الألم :
- الله يعمي قلبك .
تدافع الجنود داخل المنزل يركلون أبواب غرف النوم ، ضرب أحدهم جهاز الراديو فحطمه ، بينما داس آخر على قدم طفلة نائمة فصرخت بحدة ، فتحت عينيها فصرخت في فزع ، استمرت الطفلة تصرخ وقد وضعت يديها فوق عينيها :
- يهود .. يهود .
دخل الجنود جميع الغرف، فتشوا دورة المياه ، قلبوا الفراش، بعثروا الدقيق على أرضية المطبخ، سأل ضابط يلبس الملابس المدنية : وين حياد؟
أشار أبو حياد إلى ابنه دون أن يتكلم، طلب الضابط بطاقة الهوية من حياد، تحدث باللغة العبرية مع ضابط آخر يلبس ملابس عسكرية، اقتاد الضابط حياد إلى الخارج دون أن يسمح له بأن يلبس ملابسه أو حذاءه ، أخذه بالبيجاما والشبشب ، وقبل أن يخرج ركله الجندي في إليته ، وعندما صار خارج البيت وضعوا عصابة من القماش على عينيه ، جذب الجندي يديه ووضعهما خلف ظهره وأحاطهما بسوار بلاستيكي ضغط عليهما بشدة ، جذبه جندي من كتفه وطلب منه أن يسير معه ، حاول حياد تحريك يديه ليمدهما أمامه حتى يتلمس بهما طريقه ، جذبهما ألم فظيع إلى الخلف ، استمر الجندي يمشي وهو يدفع حياداً بعنف مسافة ليست بالقصيرة ، وأخيرا طلبوا منه أن يصعد إلى سيارة باور كانت تقف في الشارع ، لم يستطع الصعود ، حمله جنديان بفظاظة وقذفا به داخل السيارة ، ارتطم رأسه بحافة بارزة ولكنه كتم صيحة ألم كادت تفلت من فمه ، أحس بوجود جسد بشري ملقى في السيارة ، حاول أن يتحرك ، لكن الأساور البلاستيكية كانت تضيق على يديه كلما تحرك ، بدأت يداه تفقدان الإحساس شيئا فشيئاً، حاول أن يوضح الأمر ، وما إن فتح فمه حتى هبد حذاء ضخم فوق صدره قطع أنفاسه ، ومعه غارت الكلمات قبل أن تخرج، بينما دلق أحدهم فوقه جردل ماء قذر.
لامس الماء جسده ، أحس ببعض الانتعاش لكن الألم ظل يعتصر يديه عند الرسغين ، وأحذية الجنود تداعب خاصرتيه بين لحظة وأخرى ، وأخيرا تحركت السيارة ببطء ، كان الجنود ينشدون ويُغًنُّون ، يضحكون ويبصقون ، دفعه أحدهم بمقدم حذائه ، طلب منه أن يشتم ياسر عرفات .. سكت ولم يفتح فمه ، صرخ الجندي :
- قل عرفات كلب .
لم يتفوه بكلمة ، صفعه آخر ، قال : ما بدك تقول ؟!
لكمه في صدره واستطرد : بترمي حجارة وبتشتم شامير ؟
لم يتكلم وكأن شفتيه ألصقتا بمادة لاصقة .. وصلت السيارة إلى مبنى المخابرات ، أنزلوهم من السيارة ، أجلسوهم القرفصاء وأعينهم مغماة ، وأيديهم مربوطة خلف ظهورهم ، طلب أحدهم من الجندي أن يتبول ولكنه لم يسمح له ، وبعد فترة طلب منهم الجنود أن يصعدوا إلى السيارة وهم معصوبو الأعين ، كان سلم الشاحنة يمتد رأسيا ، بدأ الجنود يدفعونهم إلى سلالم الشاحنة ، بدأ البعض يصرخون من الألم وركلات الجنود ولكماتهم تلاحقهم ، جاء دور حياد ، طلب منه الجندي أن يرفع قدمه ويضعها على أول السلم فرفع قدمه اليمنى في الهواء وهبط بها ، ولكنها هوت إلى الأسفل فانكفأ إلى الأمام وارتطم رأسه بالسلم ، ركله الجندي ورفع قدمه ووضعها على أول درجات السلم ، ضغط بقدمه على السلم وحاول الصعود، آلمته يداه .. دفعه الجندي .. نقل حياد قدمه اليسرى ووضعها على السلم فاستقرت إلى جانب قدمه اليمنى ، ثم رفع قدمه اليمنى إلى الدرجة التالية ، وهكذا حتى اجتاز سبع أو ثماني درجات ، انكفأ على وجهه داخل الشاحنة بعد أن دفعه أحد الجنود بحدة ، تدفق سائل حار من أنفه ولكنه لم يتكلم .
بدأ الشباب يتكلمون ، حاولوا التعرف على بعضهم مما استفز أحد الجنود فطلب منهم النزول من السيارة ليصعدوا إليها مرة ثانية ، صرخ الشباب معربين عن احتجاجهم ، ولكن الجنود أجبروهم على القفز من الشاحنة وهم معصوبو الأعين وأيديهم مربوطة ، وتلا ذلك عملية تكرار مؤلم للنزول والصعود .
وبعد فترة كأنها سنوات تحركت السيارة ، وشتائم الجنود تلاحقهم، وأصوات سوداء وصفراء تردد :
- زوركيم أفانيم .. زوركيم أفانيم " يقذفون الحجارة .
وفي الطريق كان السائق يتعمد السير بسرعة كبيرة والانتقال من أقصى يمين الطريق إلى أقصى اليسار ، مما جعلهم يتأرجحون داخل السيارة يميناً ويساراً ، وأخير خففت السيارة من سرعتها وانعطفت إلى اليسار ، سمع الشباب صوت بوابة تفتح وحديث بعض الجنود ، دخلت السيارة ببطء وأخيرا توقفت ، طلب الجنود منهم أن ينزلوا من السيارة ، صفوهم جنبا إلى جنب وبدأ جندي برفع الغطاء عن عيونهم بينما قام آخر بقص الأساور البلاستيكية .
أحس حياد كأن النور يتراقص أمام عينيه وسرى خدر وقح في كفيه ، نظر إلى رسغيه فرأى الدم يسيل منهما ، فقد انغرست الكلابشات فيهما وحفرت أخدوداً عميقاً .
بدءوا في إعطائهم أرقاما معينة ، ثم أخذوا يتسلمون ما لديهم من أمانات " ساعات أو نقود أو غير ذلك" ، تلفت حياد حوله، الممر الذي يقفون فيه يتجه من الشمال إلى الجنوب ، وإلى الغرب ينتصب سياج من الشبك والسلك يأتزر بإزار من الخيش لحجب الرؤية ، نهره أحد الجنود وطلب منه عدم الالتفات حوله ، وأخيراً طلبوا منهم السير واحداً بعد الآخر ، دخلوا إلى ساحة محاطة بالأسلاك من جميع الجهات ، هبت نسمات تحمل في طياتها رائحة ملوحة ماء البحر ، شعر حياد بحنين إلى البحر .. آه ما أجمل البحر !.. لا بد أننا موجودون في معتقل " أنصار2 " الذي زرناه زيارة خاطفة قبل بضعة أشهر ، لكن الدنيا غير الدنيا ، أصبح أنصار 2 سجنا حقيقيا ، والله وحده يعلم كم سيطول بقاؤنا هنا .
صفهم الجنود بحيث اصطف كل أربعة أو خمسة أشخاص في صف ، وضعوا أمام كل منهم كيسا فارغا، وضعوا أمامهم ملابس السجن وطلبوا منهم أن يخلعوا ملابسهم وألا يبقوا عليهم غير الملابس الداخلية ، وأمامهم وضعت طاولة وكرسي ، حضر رجل بنظارتين طبيتين ، جلس على الكرسي، فتح ملفا فيه بعض الأوراق وبدأ في استدعاء المعتقلين واحدا بعد الآخر ، يبدو أنه طبيب ، لا بد أن أريه ما فعلته أساورهم بيدي ، ولما جاء دو حياد سأله الطبيب :
- اسمك ؟
- حياد .
- عمرك ؟
- عشرون سنة .
- عندك أمراض ؟
- لا .
- أدر ظهرك .
أدار حياد ظهره ، ثم طلب منه الطبيب أن ينصرف ، ولكن حياد توقف ومد يديه أمام الطبيب ، تظاهر الطبيب بعدم رؤية الدم أو الجرح الذي خلفته الكلابشات ، قال له حياد :
- انظر ما فعلته أساوركم بيدي .
أشاح الطبيب بوجهه بعيدا وقال :" ما يخبتلي " لا يعنيني.عاد حياد إلى مكانه ، بدأ يلبس ملابس السجن ، احتفظ بالورقة التي سجلوا عليها اسمه ورقمه والأمانات الخاصة به ، وما إن انتهى الفحص الطبي الروتيني حتى جاء أحد الجنود وقام بتوزيعهم على الغرف والخيام المختلفة ، كان نصيب حياد في غرفة رقم 12 ، غرفة خانقة لها باب وشباك يفتحان جنوبا، بينما كان الشمال والغرب بلا نوافذ ، دخل حياد الغرفة ومعه ثلاثة شبان من الذين اعتقلوا معه ، أحس أن شيئا ما يربط بينهم ، جال ببصره في الغرفة، كان جردل البول يقبع في الزاوية الجنوبية الغربية ، بينما يقبع جردل الماء قرب باب الغرفة .
دعاهم رجل يبدو أنه في العقد الخامس من عمره إلى الجلوس ، حياهم قائلا : أحس حياد بالراحة عند سماع صوت الرجل ، تذكر أبا كفاح وتلك الليلة التي قضاها في الغرفة رقم 11 المجاورة للغرفة الحالية .. يا إلهي ! ما أشبه الليلة بالبارحة ، ولكن الغرفة تمتلئ اليوم بالشباب ، بدأ حياد في عد زملائه في الغرفة ، كان العدد خمسة وثلاثين شخصا ، الأمل يشع من عيونهم ، بدأ الشباب يقدمون أنفسهم لزملائهم الجدد :
- محسوبكم أبو عنتر .. عربجي .. عندي حصان أصيل .. أستغفر الله .. حمار أصيل ، مش كديش .
تم التعارف ودارت الأحاديث بينهم ، لطالما قيل له إنه يوجد في السجن بعض العصافير .. ترى هل يوجد بيننا عصفور ؟ ومن هو هذا العصفور ؟ وما قصة هذا الأبو عنتر الذي يبدو أنه ظريف وصاحب نكتة ! التفت حياد نحو أبي عنتر الذي قابله بابتسامة وطلب منه أن يجلس إلى جانبه ، بدأ أبو عنتر حديثه قائلا :
- - أنا متأكد أنك تسأل نفسك : ليش حابسين هالعربجي ؟
ضحك حياد ، اعتقد أن أبا عنتر يقرأ أفكاره ، ولكنه صمت بينما استطرد أبو عنتر :
- محسوبك اشترك في مسيرة ، حملت الشباب على الكارة ، وفجأة وقفت فوق الكارة .. قبعت في رأسي ولقيت الكلام بيطلع لحاله ، هتفت وهتف الشباب وراي :
والله لأعزك يا شامير زي ما عزِّيت حماري
واشتري لك رطلين شعير ويلعن أبو المصاري
وفجأة وقعت أنا والحمار بين أيديهم ، لكن الله سلم الشباب ، وهياني زي ما أنت شايف ، أحمد الله إنهم ما حبسوا الحمار.
***
تنحنح ذلك الكهل بعد أن قدم الجميع أنفسهم إلى حياد وزملائه ، نظر إلى حياد نظرة تحمل معاني كثيرة ثم قال :
والآن جاء دوري لأتعرف إليك .. أنا أبو الفهد من مخيم جباليا ، أنتظر الترحيل إلى معتقل أنصار 3 في النقب .
قطب حياد ما بين حاجبيه متسائلا :
- لماذا لا تبقى هنا ؟
- المعتقلون الإداريون ينقلون إلى النقب .
- وماذا فعلت حتى يسجنوك ؟
- ابتسم أبو الفهد ابتسامة تطفح حنانا :
- تهمتي أنني شيوعي .
وضع حياد أصبعه فوق شفتيه وهمس :
- ألا تخشى العصافير ؟
- العصفور يا حياد يظل عصفورا لا حول له ولا قوة ، هذا أولا ، أما نحن فلا نخشى العصافير لأنه ليس لدينا ما نخشاه ، سلاحنا هو الكلمة .. الكلمة الجريئة الصادقة ، يقول بعضهم : قل كلمتك وامض ، ولكننا نقول كلمتنا وندافع عنها ، سنبقى .. لن نمضي بل سنفقأ عيونهم قبل أن نمضي ، سنبقى جدارا فوق صدورهم وزجاجا في عيونهم حتى يرحلوا هم .
ابتسم حياد وتذكر قول الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم ، دندن أغنية كان قد سمعها قبل فترة :
دور يا كلام على كيفك دور
خللي بلدنا تعيش في النور
نرمي الكلمة في بطن الضلمة
تحبل سلمى وتولد نور
ربت أبو الفهد على كتف حياد :
- أنت في عمر ابني .. تعال إلى جانبي يا بني .. أريد أن أنصحك نصيحة.. قل كلمتك ما دمت تعتقد بصدقها ولا تخش شيئا .
همس حياد :
- وهل يعلمكم الحزب ذلك ؟
- الحياة هي المدرسة الكبرى ، والحزب يناضل من أجل أن يحيا الناس دون استغلال أو ظلم .
- وهل يمكنني أن أنضم إلى الحزب ، لقد سجنوني لمدة أربع وعشرين ساعة على اعتبار أنني شيوعي ، وها هم يعتقلونني اليوم مع أنني لم أفعل شيئا .. طول عمري وأنا أبتعد عن طريقهم ، ولكنهم لم يتركوني في حالي .
- اسمع يا حياد .. الحزب يرحب بك .. هل تعرف أبا كفاح ؟
- أعرفه .. هو صديق والدي ، وقد رأيته في السجن في يوم المساواة .
- إذن ، اذهب إليه ، قدم له طلب عضوية، أبلغه سلامي عندما يخلون سبيلك، أعتقد أنك لن تبقى في السجن أكثر من ثمانية عشر يوما .
قطع الحديث صوت ينادي :
- مقاشات على الباب .
قام شاويش الغرفة ، فرد المقاشات فوق ألواح خشبية ، جاء بعض المسجونين وبدءوا يسكبون الطعام في الأواني ، شعر حياد بالجوع وكأنه لم يأكل منذ سنوات ، انتظم المعتقلون في مجموعات وبدأ شاويش الغرفة في توزيع أوعية الطعام ، وبعد حوالي ساعة جاء أحد السجانين وفتح الغرفة ، طلب منهم أن يخرجوا لقضاء الحاجة وغسل أواني الطعام .
فوجئ حياد بانقطاع المياه .. ترى كيف يمكن أن يقضي الإنسان حاجته دون ماء ؟ وكيف يمكن أن يعيش دون استحمام .
قال أبو الفهد وكأنه قرأ أفكار حياد :
- يقطعون المياه عمدا لاستفزازنا ولكنا سنتحمل ، سأدبر لك طريقة ، بإمكانك أن تذهب لغسل الصحون مع الشباب ، في القسم الآخر يوجد حمام ومجلى ، بإمكانك أن تأخذ دشا في قسم الخيام ، التفت أبو الفهد إلى شاويش الغرفة وهمس في أذنه ، ابتسم الشاويش " مسئول الغرفة " وهمس في أذن أحد الشباب فتنحى جانبا وحل حياد محله ، توجهت المجموعة نحو البوابة .. دخلوا إلى مردوان الخيام ، وهناك رأى حياد عددا من زملائه في المدرسة ، لوح له الشباب بأيديهم :
- - شد حيلك يا حياد .
لوح بقبضته في الهواء مبتسما ، سأله أحدهم :
- أنت موجود في الغرف ؟
- أيوه
- في أي غرفة ؟
- غرفة 12 .
- اسمع يا صاحبي .. هذه الغرفة إما للمعتقلين احترازيا أو إداريا .
ارتعش قلب حياد : إداري ؟ وماذا فعلت حتى يعتقلونني إداريا .. غاضت الابتسامة ، ولكنه تظاهر بعد الاكتراث ، طمأن نفسه : إداري .. إداري ، وليكن .. سأجد رفاقا أطمئن إليهم .. يكفيني أبو الفهد .
عاد حياد إلى الغرفة ، استقبله أبو الفهد بابتسامة :
- ها .. إن شاء الله تدشدشت .
ولكن حياد لزم الصمت ، أردف أبو حياد :
- مالك كفانا الشر ، رحت بتضحك رجعت مكشر ؟
تساءل حياد :
- يعني معقول يعطوني إداري ؟
ضحك أبو الفهد بصوت مسموع :
- ول .. إداري مرة واحدة ، يا راجل بلاش قلة عقل ، حتى لو أعطوك إداري .. هل الإداري غول بياكل الناس .
- ابتسم حياد : يللا ، بنرافقك .
مضت الأيام بطيئة كالحة ، لم يغير طعمها سوى أحاديث أبي الفهد المشجعة التي تبث الثقة في النفس ، وفي أحد الأيام وبينما كانوا واقفين للعدد ، أخذ السجان ينادي الأرقام بينما يقول كل سجين اسمه ويستدير إلى الخلف ، وبدلا من أن يعيدهم إلى الغرفة أوقفهم قائلا :
- كل واحد يسمع رقمه يطلع بره .
- وبدأ ينادي الأرقام .. خرج أبو الفهد ، همس أحد السجناء: ترحيلة للنقب .
بينما استمر السجان في قراءة الأرقام ، قرأ رقم حياد " شيشت ألافيم عسريم بشلوش " 6023 " ، لم يرد حياد لأول وهلة ، كرر السجان الرقم ، لكز أحد السجناء " حياد " في جانبه ، رقمك .. خرج حياد متباطئا ، بينما ابتسم أبو الفهد مشجعا ، قال السجان :
- كل واحد يلف بطانيته ويجهز حاجياته .. اليوم بتروحوا سجن النقب " أنصار 3 " .
***
تجمع السجناء في الباحة التي استبدلوا فيها ملابسهم قبل أيام ، وضعت أكياس الأمانات أمامهم ، بدءوا يخلعون ملابس السجن ، لبسوا ملابسهم ، سلموا العهدة الموجودة لديهم إلى عمال المخزن ، ثم ساروا صفا واحدا إلى غرفة الاستقبال حيث أعيدت لهم أماناتهم من ساعات أو نقود ، بدأ الجنود يضعون الأساور البلاستيكية حول معاصمهم ، ورباط من القماش حول عيونهم ، أدخلوهم واحدا بعد الآخر إلى الباص.
أدار السائق محرك سيارته ، بدأت السيارة تخرج من معتقل أنصار2 ، قام الجنود بإنزال ستائر الباص ، في حين صرخ جندي بصوت آمر : تريد هروش " اخفض رأسك "
وضغط بيده على رأس حياد بعنف فارتطمت بالأسطوانة المعدنية المثبتة في الكرسي الموجود أمامه .
حاول حياد أن يسمع أصوات الناس أو السيارات ، ولكنه لم يسمع شيئا ، همس للشخص الموجود بجانبه :
- يظهر أن اليوم إضراب .
دوى صوت رصاص في الجو ، ومن بعيد جاء صوت طائرة هليوكوبتر مختلطا بهدير يردد : الله أكبر .



( 14 )
النقب ، ذلك الفرن اللافح ، يشع الحرارة نهارا والبرودة ليلا، تكاد تتذوق طعم الحرارة بكل خلية من خلايا جسدك المتعب بمجرد أ ن ينفتح باب الباص، تصدر من أفواه الجنود كلمات آمرة تطلب من المعتقلين النزول ، يصفونهم بجانب بعضهم ، ما زالت الأيدي مربوطة ، تكاد قدماك تغوصان في الطين الناعم ، يفكون الربطات عن العيون فتضيق حدقاتها لتتقي شر الضوء المشبع بحرارة الجو وبالعرق ، تدور العيون في مآقيها حيرى قلقة تحوم أمامها علامات استفهام كبيرة .. ترى أين نحن ؟ وماذا يدبرون لنا ؟ وهل هذه هي كيتسيعوت " أنصار 3 " ؟ أم أنه سجن جديد افتتح خصيصا لنكون أول رواده ؟ أسئلة حيرى كثيرة داهمت مخيلة حياد الذي التقت عيناه فجأة بعيني أبي الفهد ، ابتسم أبو الفهد مشجعا ، اغتصب حياد ابتسامة لم يطل عمرها ، حاول ابتلاع ريقه فلم يجده ، جف حلقه .. آه يا بحر غزة .. كم أفتقدك الآن ، كنت أتذوق طعم الملوحة مع كل نسمة هواء باردة تصافح جسدي، وها أنا الآن أتذوق طعم حرارة الصحراء مع كل حركة .
طلب منهم الجنود أن يقفوا صفا واحداً وأن يسيروا وراء بعضهم البعض ، ساروا مسافة طويلة والحرارة تطاردهم ، وصلوا إلى مكان محاط بالأسلاك الشائكة ، انتصبت بداخله ثماني خيام قسمت إلى مجموعتين متواجهتين ، وفي إحدى الخيام تناثرت بعض الصناديق الكرتونية المملوءة بقمصان زرقاء أو بنية اللون ، وفي خيمة أخرى تكدست مجموعة من الملابس الداخلية .
بدءوا يدخلون إلى المنطقة ، أجلسوهم في الشمس ، أحضروا لهم جالونا أسود اللون مملوءا بالماء ، خاطبهم أحد الجنود قائلا : اشربوا الماء حتى لا تصابوا بالجفاف .
حاول حياد أن يشرب ، تناول كأسا بيده المربوطة ، تجرع الماء تدريجيا ، فقد الماء طعمه من شدة الحرارة ، شعر حياد أنه يتجرع شربة من زيت الخروع الممزوج بالماء الساخن ، أصدرت أمعاؤه صوتا ، انتابته رغبة في القيء ، ودون إرادته صدر عنه صوت أشبه بالصوت الذي يصدر عن إنسان يتقيأ ، لكن شيئا لم يخرج من جوفه ، تذكر أنه لم يتناول طعاما منذ مساء اليوم السابق ، لم يفطر ولم يتناول وجبة الغداء ، وهاهي الساعة تتجاوز الثالثة ولم يقدموا لهم سوى ذلك السائل الذي يشك في أنه ماء ، وبعد جلوسهم تحت أشعة الشمس أكثر من ساعتين طلبوا منهم أن يجلسوا في الظل داخل إحدى الخيام .
قام أحد الجنود بفك وثاقهم ، طلبوا منهم أن يستبدلوا ملابسهم ، أعطوا لكل واحد منهم كيسا ليضع ملابسه فيه ، تململ بعض المعتقلين ، تناثرت همسات هنا وهناك .. ولكننا معتقلون إداريون ، والمعتقل الإداري يبقى بملابسه المدنية ، ارتفع الهمس تدريجيا حتى أصبح كلاما واضحا ، سمعهم احد الضباط فصاح فيهم :
- أنتم هنا مساجين وعليكم أن تلبسوا ملابس السجن .
رد أبو الفهد :
- ولكننا معتقلون إداريون وسنبقى بملابسنا المدنية .
انفعل الضابط :
- لا تسبب المشاكل لزملائك .. استبدلوا ملابسكم .
- لن نستبدل ملابسنا، إلا إذا كان لديكم قانون آخر للإداريين.
- صاح ضابط آخر : لا تتكلم في السياسة .
قال أبو الفهد : نريد مقابلة المسئول .
- إذن ، انتظروا حتى يأتي المسئول .
وبعد لحظات جاء ضابط برتبة كولونيل يرتدي طاقية تتدلى أطرافها حول رأسه ، فتل شاربيه ونظر باحتقار نحو المعتقلين :
- مين فيكم اللي بيعمل مشاكل هون ؟
وقف أبو الفهد قبل أن يشير الضابط إليه ، قال : أعتقد أن من حقنا أن نبقى بملابسنا المدنية .
ابتسم الكولونيل ساخرا :
- كان زمان يا حبيبي ، قبل الانتفاضة ، اليوم كلكم مساجين.
- وإذا لم نستبدل ملابسنا ؟
- سنجبركم على ذلك بالقوة .
ساد صمت رهيب ، لوح الجنود بعصيهم في الهواء بينما تدخل الضابط الأول : سنعطيكم فرصة للتفكير ، وسترون أن زملاءكم الذين سبقوكم استبدلوا ملابسهم .
تنفس حياد الصعداء .. إذن لسنا وحدنا في هذا الجحيم ، هناك آخرون يعيشون في هذا الفرن ، وهم ما زالوا أحياء لم يموتوا ولم ينهاروا ، ستكون بداية تجربة جديدة ، وسأخرج منها أقوى من قبل إن شاء الله .
بدأ المعتقلون في التشاور، وأخيرا استقر رأيهم على أن يستبدلوا ملابسهم، وإن وجدوا من سبقوهم بملابسهم المدنية فإن من حقهم أن يكونوا مثلهم .
بدءوا يستبدلون ملابسهم واحدا بعد الآخر ، أخذ حياد يتلفت حوله ، وقعت عيناه على بعض الأيدي تلَوِّح لهم من معسكر قريب ، صاح بفرحة الأطفال : أخوتنا يلوحون لنا .
أخذت الأيدي تلوح ردا على التحية ، بدأ المعتقلون يحاولون التعرف على بعض الوجوه ، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك .
تمت عملية استبدال الملابس ، صفهم الجنود في طابور وساروا بهم إلى معسكر الاعتقال ، كانوا أربعة وعشرين معتقلا مشوا حوالي نصف كيلومتر حتى وصلوا إلى القسم الذي سينزلون فيه .
صفوهم في إحدى الطرقات من جديد ، مروا بعملية تفتيش دقيقة ، أخذوا منهم مقصات الأظافر والساعات ، كانوا قبل ذلك قد أخذوا منهم النقود ، ثم أدخلوهم إلى القسم الخاص بهم ، تدفق الأخوة والرفاق نحوهم، البعض يسأل عن الخارج .. أما زالت الانتفاضة متدفقة ؟ وهل معنويات الأهل مرتفعة ؟ نهرهم الجنود وهددوهم بأن عليهم أن يلتزموا الصمت وإلا ...!
عجب حياد .. وإلا ماذا ؟ هل هناك أكثر مما نحن فيه ؟ هل هناك ما هو أسوأ من هذا الفرن ، هذه القطعة من جهنم ؟
صاح شاويش المردوان : يللا يا شباب كل واحد يروح لخيمته ، بلاش يقمعونا .
صاح شاب من بعيد : اللي معاهم يسووه .. قال للقرد بدي أسخطك .
رد عليه شاب آخر : خلوا الشباب يرتاحوا .
بدأ الشباب يتفرقون ، توجه كل منهم إلى خيمته ، بينما بدأ النزلاء الجدد يرتبون أماكن نومهم بمساعدة بعض الشباب القدماء في المعتقل .
***
قد يأتي النوم دفعة واحدة فينام الإنسان نوم أهل الكهف، وقد يقترب النوم ويبتعد فيظل الإنسان يراوح بين النوم واليقظة . ولعل حالة حياد كانت أقرب إلى المراوحة بين النوم واليقظة، حاول أن ينام إلا أن نومه كان متقطعا تشغله أفكار شتى ، كان الحر شديدا في ذلك اليوم ، وها هو الجو يميل إلى البرودة الآن، تذكر ما درسه في الجغرافيا عن المناخ القاري، وها هو يعيش في هذا المناخ ، والأسوأ من ذلك أن العقارب كانت تنتشر في المكان ، وهذا يعني أنه معرض للسعة عقرب أو لدغة أفعى ، فقد أخبره بعض الشباب أنهم قتلوا أفعى سامة قبل يومين .. يا إلهي ، ما أسوأ أن يموت الإنسان بالسم في مثل هذا الجحيم ، ولكن .. لا ، لن تنجح عقاربهم وأفاعيهم في إبعاد النوم عن عيني ، حاول أن يطبق عينيه على النوم حتى لا يفر منهما ، ولكن النوم كان يجيد فن الهرب .
وفي حوالي الخامسة صباحا استيقظ حياد على صوت صرخات تنذرهم بأن عليهم أن يستيقظوا :
- ما زيه ؟ بيت ميلون بو .. تقوموا .. " ما هذا .. فندق هنا ؟ قوموا . "
نهض حياد واستيقظ المعتقلون ، طلب منهم شاويش المردوان أن يرتبوا بطانياتهم ، وأن يرفعوا أطراف الخيمة من جميع الجهات حتى يتمكن الحراس من رؤية كل إنسان داخل الخيام .
توجه حياد من خيمته إلى دورة المياه ، وجد أعداداً كبيرة من المعتقلين ينتظرون دورهم ، كانت دورة المياه عبارة عن خندق طوله حوالي خمسة أمتار وعرضه حوالي ستين سنتيمترا ، ركبت فوقه ألواح خشبية بها فتحات واسعة بطول حوالي أربعين سنتيمترا وعرض حوالي خمسة وعشرين سنتيمتراً ، تفصل بين هذه الفتحات جدران من الصفيح ، ولكل قسم باب دون سحاب يساعد على إغلاقه ، وعندما دخل حياد لقضاء الحاجة وجد بقايا ماء في جالون من البلاستيك، وقد اضطر إلى الإمساك بالباب طيلة الوقت حتى لا ينفتح فيشاهده زملاءه في وضع غير مستحب ، وحين انتهى من قضاء حاجته ، توجه إلى صنابير المياه ليغسل يديه ، ولكنه وجدها خالية من الماء ، شعر بقرف شديد ، ترى هل يمكن أن يتناول الإنسان طعام الإفطار دون أن يغسل يديه ووجهه .
جلس حياد إلى جانب الخيمة ، سرح بأفكاره بعيدا حتى وصل إلى المنزل ، كان ينام حتى الساعة الثامنة أو التاسعة يوميا، خصوصا بعد أن أنهى دراسته الثانوية ولأن الجامعات مغلقة، وها هو اليوم يستيقظ من الساعة الخامسة صباحا ، ولا يجد الماء ليغسل وجهه ويديه ، حتى ماء الشرب كان قد نفد من الجالونات الموجودة في الخيام .
في حوالي الساعة الثامنة والنصف حضرت عربة المياه وأفرغت ما فيها في خزان أسود موجود خارج الأسلاك الشائكة على حامل خشبي يبلغ ارتفاعه حوالي ثلاثة أمتار ، تهللت الوجوه وبدأ الشباب يغسلون وجوههم وأيديهم ، بدأت مجموعة من الشباب في توزيع طعام الإفطار على الخيام المختلفة ، كل خيمة فيها ثمانية وعشرون معتقلا ، نصيبهم قالب من الزبد انتهت صلاحيته للأكل ويبلغ وزنه 200 جرام، وبضع ملاعق من المربي وأربع أو خمس حبات من الزيتون لكل فرد، وسبعة أرغفة من الفينو وقليل من الفول المسلوق.
نظر حياد إلى الطعام ، فكر في الامتناع عن الأكل ، لكن معدته الخاوية قرصته ، فاضطر لمشاركة زملائه الطعام .
كانت أفواج الذباب القادمة من دورات المياه القريبة من الخيمة تشن غاراتها على صحون الطعام وعلى وجوه النزلاء الجدد ، بدأت أعصاب حياد تتوتر وهو يحاول إبعاد الذباب عن عينيه وشفتيه ، شعر بالغثيان ، رغبة شديدة في القيء تلاحقه ، لكنه تماسك حتى لا يبدو ضعيفا في نظر من لا يفهم طبيعة مشاعره .
ارتفعت الشمس في كبد السماء ، شعر حياد أن الحر يكاد أن يخنقه ، فتح أزرار قميصه الأزرق على نسمة تخفف من وطأة الحر ، خرج ليساعد زملاءه في غسل أواني الطعام، هنا ، رأى الجندي أزرار قميصه المفتوحة، ناداه وأمره أن يقف ووجهه نحو السلك الشائك المحيط بالخيام وأن يرفع يديه إلى أعلى ، ولما حاول شاب آخر أن يوضح للجندي أن حياد معتقل جديد أمره أن يقف إلى جواره في الشمس .
مضت ساعة والجندي مصر على إبقاء الاثنين في الشمس، ثم مضت ساعة أخرى ، ثم ساعة ثالثة ، حاول شاويش المردوان لأن ينهي الأمر ، لكن الجندي أصر على موقفه ، انفجر حياد دون وعي منه وقد ألهبت حرارة الجو كيانه : الله اكبر عليكم .. الله اكبر عليكم .
فتح الجندي بوابة القسم ، نادى على حياد : تعال هون .
لم يتحرك حياد ، دخل الجندي اقترب من حياد ، لكمه في صدره ، أحس حياد بدوار شديد ووقع مغشيا عليه على الأرض ولم يتحرك ، أغلق الجندي البوابة بسرعة وخرج ، تقدم شاويش المردوان من حياد ونادى على الجندي أن يفتح البوابة لنقل حياد إلى العيادة ولكن الجندي رفض ، هب السجناء : الله اكبر .. الله أكبر .
اهتز المعتقل ، وتكرر الهتاف المقدس ، ذعر الجنود وتدفقوا نحو القسم وأحاطوا به من جميع الجهات ، ولكن الهتاف استمر : الله أكبر . الله اكبر.
انطلقت قنابل الغاز إلى داخل القسم ، بدأ المعتقلون يجرون وراء قنابل الغاز ، أمسك أحد الشباب بإحدى قنابل الغاز وردها نحو الجنود الذين فروا مذعورين ، بينما ذهب غاز القنابل الأخرى بعيدا عن القسم مع اتجاه الريح ، واستمر الهتاف الراعد حتى جاء مدير المعتقل ، وتم نقل حياد إلى العيادة حيث اكتشف الطبيب أنه يعاني من الجفاف ، قاموا بإعطائه محلول إشباع .
مضت على تلك الحادثة بضعة أسابيع ، وفي إحدى الليالي ، وبعد حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، صحا المعتقلون على صوت طرقات على أسياخ الحديد التي تثبت زوايا الخيام بالأرض ، فتح المعتقلون أعينهم ليشاهدوا أعداد ضخمة من الجنود ، طلبوا من كل معتقل أن يلف بطانياته وأدواته في صرة واحدة ، وأن ترص المشاطيح * الخشبية فوق بعضها، ثم بدءوا يفتشونهم واحداً واحدا وببطء شديد ، أمسك الجنود مع أحد المعتقلين مسمار مدقوقا في قطعة خشبية ، أخذوا المسمار ونقلوا المعتقل إلى الزنزانة ، وفي تمام الساعة الخامسة وخزهم ذلك الصوت :
- ما زيه ؟ بيت ميلون بو .. تقوموا .



.............................
• كلمة عبرية دخلت حيز الاستعمال الشعبي ومفردهامشطاح، وهو عبارة عن مجموعة ألواح خشبية لنقل البلاط وحجارة البناء ، تستخدم بدلا من الأسِرَّة والتخوت لينام عليها المعتقلون
***
( 15 )
تجمع الأخوة والرفاق في إحدى الخيام وبدءوا يتحاورون ويتناقشون حول تطور الأحداث الأخيرة في المناطق المحتلة وفي الخارج ، كانت الصحف تصل بصورة متقطعة ، إلا أن ما كان يرد فيها يشكل مادة للحوار، كانت وثيقة أبي شريف، على قلة ما نشر عنها في الصحف ، مادة للحوار، وقد أصبح الخروج برأي واضح حول الوثيقة أمرا صعب المنال ، إلا أن أبا الفهد ومن خلال قراءته للصحف المتاحة مثل القدس والجروزالم بوست وهآرتس وصحيفة السجن ، استطاع أن يخرج برأي لصالح الوثيقة ، وفي إحدى الجلسات طرح عليه أحد الأخوة سؤالا حول الوثيقة ورأيه فيها ، بدا الاهتمام على وجه أبي الفهد ، ساد الصمت في انتظار إجابة أبي الفهد ، قال :
- أنا مع الوثيقة حسب المعطيات المتوفرة ، إلا أن الرأي النهائي لا يمكن أن يتبلور إلا بعد قراءة النص الكامل للوثيقة .
سأله حياد :
- ما هي النواحي الإيجابية في الوثيقة حسب رأيك ؟
- أعتقد أن أهم ما في الوثيقة هو التركيز على حق تقرير المصير للفلسطينيين وحقهم في إقامة دولتهم .
تنحنح أحد الرفاق وقال :
- ولكننا نرفض إجراء استفتاء في المناطق المحتلة .
تساءل أبو الفهد : لماذا ؟
قال الرفيق : لأن الاستفتاء قد يعطي الفرصة لمناهضي منظمة التحرير للظهور على أنهم بديل للمنظمة ، هذا أولا ، وثانيا : لأن الشعب قال كلمته.
- وهل هناك ما يمنع من أن يقول الشعب كلمته مرة أخرى ، وهل تعتقد أن ما سيجري هو انتخابات ؟ إنه مجرد استفتاء يا رفيق ، سيكون أمام الفلسطيني سؤال واحد يجيب عنه ب " نعم أو لا " ، وهذا هو السؤال : هل توافق على أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ؟ إضافة إلى أن الاستفتاء لن يتم إلا تحت إشراف جهة محايدة ، وهنا أتساءل مرة أخرى : ترى ، ما نسبة أولئك الذين سيقولون نعم لمنظمة التحرير ؟
أجاب الرفيق : أكثر من تسعين بالمائة دون شك .
ابتسم أبو الفهد : أنا لا أريد تسعين بالمائة ، يكفيني أغلبية مطلقة تضع في فم كل متشكك حجرا يخرسه ، وتفقأ عيون أولئك الذين يشككون في وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني ، أما إذا كنت تعارض الاستفتاء لأن البعض عارضه ، فأنا أعتقد أن ما يقال في الخارج هو مجرد توزيع أدوار بين الفصائل، مواقف تكتيكية مختلفة ضمن إستراتيجية عامة، ولا بد لنا من أن نفهم أن الوثيقة هي مجرد بالون اختبار لنوايا الطرف الآخر ، فإن نجحت تبنتها منظمة التحرير ، وإن كانت استجابة الطرف الآخر لها سلبية فإنها تظل وثيقة فردية لا تمثل إلا صاحبها .
هنا تدخل أحد الأخوة :
- ولكن ، ألا ترى أن المفاوضات المباشرة تعني اعترافاً صريحا بإسرائيل ؟
ضحك أبو الفهد متسائلا : وما معنى أن تجلس إسرائيل مع وفد فلسطيني ؟ ألا يعني ذلك اعترافا بمنظمة التحرير ووحدانية وشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني ؟
تدخل أحد الأخوة : ولكن الوثيقة لم توضح حدود الدولة الفلسطينية حسب ما توافر لنا من معلومات .
قال أبو الفهد : وهل تعتقد يا أخي أن إسرائيل بعد أربعين سنة من قيامها قد رسمت لنفسها حدودا واضحة أو حتى دستورا واضحا ؟ هذه ميزة في صالح الوثيقة وليس ضدها إن صح ذلك ؛ وهذا معناه أن الحدود أمر قابل للتفاوض ، هناك حد أعلى نطالب به هو حدود التقسيم حسب القرار رقم 181 ، وهناك حد أدنى هو دولة في حدود الرابع من حزيران" يونيو " 1967 .
- وهل يجوز لنا أن نقبل بذلك ؟
رد أبو الفهد بسؤال آخر : وهل باستطاعتنا حسب المعطيات العربية والدولية الحالية أن نوقع الهزيمة بإسرائيل وأن نحرر فلسطين كاملة ؟ وهل بإمكان أي فصيل أو حتى الفصائل مجتمعة تحرير فلسطين بالوسائل الحربية في ظل هذا المناخ العربي السيئ وغير المواتي ؟ إن هجوم السلام الفلسطيني يشكل مأزقا بالنسبة لإسرائيل ، فلماذا لا نعمق هذا المأزق ؟ لماذا ننقذها من مأزقها بأطروحات تضرنا قبل أن تضر غيرنا ؟
نادى المؤذن لصلاة المغرب فقام الأخوة للصلاة ، أفسح لهم الرفاق المكان وانتقلوا إلى خيمة أخرى حتى يتمكن المصلون من أداء صلاة الجماعة .
***
بعد بضعة أيام فوجئ أبو الفهد بأن للرفاق في الأقسام الأخرى رأيا آخر في وثيقة أبي شريف ، طلب منه الرفاق في القسم عدم تأييد الوثيقة ، ولكنه أكد أن معارضة الوثيقة لا تنسجم مع الفهم الماركسي للأمور ، وأن الأمور ستتضح فيما بعد ، وعد ألا يدافع عن الوثيقة ولكنه احتفظ بحقه في عدم مهاجمة الوثيقة أو الوقوف ضد فهمه لما جاء في الوثيقة ، وكم سعد حياد حين جاء رأي الحزب في الخارج متطابقا مع رأي أبي الفهد ورؤيته الصحيحة للأمور ، ولكن أبا الفهد اعتبر أن ما حدث من التباس ناتج عن خطأ يقع فيه البعض بسبب عدم وضوح الرؤيا ، وأن الفهم الصحيح للماركسية اللينينية يجعل رؤية الجميع لأمر ما رؤية موحدة مهما بعدت المسافات .
***
أحد أيام أغسطس ، يوم عادي مثل بقية الأيام في النقب ، استيقاظ في الساعة الخامسة صباحا ، المشوار اليومي مع أبي الفهد .. يروحان ويجيئان معا ، يتحدثان عن تجارب الشعوب النضالية وعن تجارب بعض المناضلين في العالم ، حدثه أبو الفهد عن تجربته في سجن الواحات في مصر ، وكيف استطاع المناضلون هناك تحويل الصحراء إلى جنة خضراء، تمكنوا من زراعة ما يلزمهم من خضار ، وهاهم المعتقلون في النقب يطورون تجاربهم ، فقد صنعوا من زجاجات الكولا البلاستيكية مصائد للذباب ، كما جدلوا أليافا خاصة يدهنونها بالزبد منتهى الصلاحية ويشعلونها ليلا بعد إغلاق الخيام عليهم ليشعوا منها سجائرهم ولطرد البعوض ، كما صنعوا أغلفة لجالونات المياه البلاستيكية من البطاطين الممزقة ، كانوا يبللونها بالماء حتى يظل الماء داخل هذه الجالونات باردا على الرغم من حرارة الجو القاسية ، وقبل أن يحين موعد الإفطار تعود حياد أن يجلس إلى جانب أبي الفهد في ظل إحدى الخيام لمتابعة الأحاديث واستخلاص العبر من هذه التجربة الفريدة ، قال أبو الفهد : صحيح أنه كانت هناك بعض السلبيات ، لكن هذه السلبيات يجب ألا تحجب رؤيتنا للإيجابيات ، يجب أن نخرج من هذه التجربة أكثر صلابة ووعيا.
وما إن حضر الطعام حتى تناولاه على عجل ، وكان غذاء المعدة لا يسد مكان غذاء العقل ، كان حياد يرغب في أن يدرك كل شيء .. آه لو توفرت لديه الكتب المناسبة ، لكان انتصر على الوقت بالقراءة والمعرفة ، ولكن هيهات .. هيهات .
***
عند الظهيرة قام بعض الجنود بإخراج بعض الشباب المحكومين من قسم المتاريس كما كانوا يسمون قسم الشباب المحكومين ، وسبب هذه التسمية هو أن معظم التهم الموجهة لمعتقلي هذا القسم هي إقامة المتاريس والحواجز في الطرق.
وعندما وصل الجنود ببعض الشباب أمام القسم الذي يتواجد فيه حياد وأبو الفهد ، انهال الجنود عليهم ضربا بالعصي وركلا بالأقدام ، تدفق الدم من رأس أحد الشباب ، بينما وقع آخر أرضا ، أخذ أحد الجنود يدوس على بطنه وصدره بحذائه الثقيل والشاب يئن من الألم .
حاول بعض الشباب الاحتجاج إلا أن شاويش المردوان نصحهم بالتريث قليلا ، أملا في أن يتوقف الجنود عن فعلهم الاستفزازي ، ولكنهم استمروا في ضرب الشباب دون رحمة فتدفق الهتاف من حناجر نزلاء القسم بركانا غاضبا يهدر :
- الله أكبر .. الله أكبر .
اقتلع بعض الشباب الزلط من التربة الزلطية التي تغطي أرض القسم وقذفوا الجنود به ، بينما قام البعض الآخر بقذف الجنود بالمقاشات " صواني الطعام " وأسياخ الحديد التي تثبت الخيام ، اقتلعوا بعض الأخشاب وقذفوها على الجنود ، قذف الجنود قنابل الغاز على القسم ، رد حياد واحدة منها باتجاه الجنود ، تفرق الجنود وهربوا بعيدا ، أطلق جندي الرصاص ، هاج القسم المقابل ، تدفقت منه الحجارة والقضبان الحديدية ، اهتزت أركان المعتقل بهتاف الله أكبر .
أطلق الجنود النار بطريقة عشوائية ، انبطح الشباب أرضا واستمر إطلاق النار ، تراجع الشباب إلى الخيام ، عندها حضر مدير المعتقل وصاح بأعلى صوته : أنا لازم أربيكم يا خولات .. اللي بيخرج من الخيمة لازم أضربه بالنار ، عاملين رجال وأنتم أقل من نسوان .
اندفع حياد دون تردد إلى وسط الساحة بين الخيام، شد جانبي قميصه وصاح :
- إن كنت راجل طخ يا مرة .
ساد صمت قاتل للحظات، نهش الغضب أعصاب مدير السجن، اختطف بندقية آلية من أحد الجنود ، وبحركة سريعة انطلقت دفعة من الرصاص خرجت من ظهر حياد ، كان أبو الفهد قد اندفع وراء حياد لإعادته إلى الخيمة ، ولكن سهم القضاء قد نفذ ، اخترقت الرصاصات صدر حياد عند القلب وخرجت من ظهره، وضع حياد يده على ظهره فوق مكان خروج الطلقات، سار بضع خطوات نحو خيمته ، وعند باب الخيمة ترنح وسقط ، رفع يده المبللة بالدم ، باعد بين السبابة والوسطى راسما علامة النصر في الهواء ، ارتخت ذراعه وهوت يده إلى الأرض وعلامة النصر تستقر بين السبابة والوسطى وعيناه مفتوحتان تنظران إلى السماء ، وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه يلونها خيط من الدم أخذ يتدفق من فمه .
انتهت
11 / 11 /1989 م ، الموافق 12ربيع الثاني سنة 1410 هـ



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإضراب والرواتب وأشياء أخرى - بقلم : د . محمد أيوب
- يوم عادي في حياة غير عادية
- الهم السياسي في آخر قصائد مظفر للنواب - قراءة نقدية
- الكف تناطح المخرز / 11 ، 12
- قرار مجلس الأمن 1701 والحرب القادمة
- قراءة في البيان السياسي للمؤتمر الناصري العام
- حساب المثلثات في الشرق الوسط والعالم
- أحلام بسبسة والشرق الأوسط الجديد
- الكف تناطح المخرز - رواية / 7
- ثورة يوليو شكلت ضمير الأمة
- إسرائيل والهداف غير المعلنة في لبنان والمنطقة
- الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د. محمد أيوب / 6
- الكف تناطح المخرز - رواية ، 5
- الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د . محمد أيوب - الفصل الر ...
- الكف تناطح المخرز - رواية /3
- 1 / 2الكف تناطح المخرز - رواية
- الطيارون الإسرائيليون واللعبة القذرة
- المخدرات وسيلة لتدمير المجتمعات النامية
- حول وثيقة الأسرى
- هجران


المزيد.....




- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكف تناطح المخرز - رواية