الفتوى غير الملزمة التي أطلقها نبوي محمد العش جعلتنا نفتح اعيننا أكثر من السابق، ونراجع أنفسنا وما حولنا أكثر من مرة وبخاصة حول دور المؤسسات الدينية التي فتحنا أعيننا وهي موجودة على شكلها وسياستها الدينية والدنيوية وتكاد أكثريتها مرتبطة بالدولة وكأنها جزء منها ومن سياستها حتى وصل الوضع في بعض الاحيان أن تصبح أداة بيدها ولا تخرج عن طاعتها.
هذه المؤسسات التي موجودة في اكثرية البلدان العربية والاسلامية لم يتغير خطابها الديني القديم وبقت تترواح في مكانها وكأن العالم جامد ولم يتقدم أو يتطور وانه بقى يعيش الطريقة القديمة فكرياً ومعاشياً، مما زاد تعقيد القضايا العقدية التي تحتاج إلى رؤيا جديدة ووفق نظرة عصرية وعلمية وهذا لا يعني الغاء الدين والامان أوالتغيير والدخول في القضايا الاساسية للدين الاسلامي وخطوطه الرئيسية ولكن في ما تراه المؤسسات الدينية في الخطاب التبعي المؤيد بشكل مطلق " لأولياء الأمر منكم " اي الحكام والحكومات بغض النظر عن تطرفها وانتهاجها سياسة مخالفة للدين ولأبسط الحقوق الانسانية المتعارف عليها، وهي في الوقت نفسه تستغل الدين من أجل مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية..
وهنا نحن لا نعني ان تقوم هذه المؤسسات الدينية بتغير موقعها الديني إلى موقع سياسي متحزب ولكن العكس لكي تكون مؤسسات للدين فقط وان تكون بجانب الفقراء والكادحين وذوي الدخل القليل من المسلمين وهم يمثلون أغلبية السكان في بلدانها.
على هذه المؤسسات أن لا تخرج من طورها الحقيقي لكي تُحْترم مواقفها وقراراتها وفتاويها وتكون مقبولة إذا كان قريبة من الواقع والمتغيرات وعقول الناس.. أن تكون الفتوى ذات شرعية دينية بنظرة انسانية ووفق متطلبات العدالة والحق وقراءة الوقائع بدون تدخلات فوقية تجبرها على اتخاذ مواقف حتى لو كانت ضد رغبة الأكثرية ، لكي تكون أكثر شفافية في علاقاتها والتزاماتها الدينية والدنيوية، ولا تقع في مطبات الخطأ الذي يفقدها موقعها الديني والتربوي ومصداقيتها، وإذا ما تكرر الخطأ فسوف تُفقد الثقة بها وبمسؤوليها.
وفي الوقت نفسه نجد على الرغم من مطالبتنا بالاصلاح لهذه المؤسسات فنحن لا نتفق مع النظرة الدونية والشتائمية والآراء السوداوية التي اطلقت مؤخراً ضد الازهر أو المؤسسات الدينية الاخرى لأننا نؤمن ان النقد البناء والحوار الهادف للوصول إلى الحقيقة هما الطريق الصحيح لحل اشكالات سوء الفهم وتخليص القرارات والمنطق من الاخطاء، وهذا ما حدث في قرار ألغاء الفتوى المفتعلة والبعيدة عن الحقيقة التي أعدها نبوي محمد القش في لجنة الفتوى بالأزهر..
ولا يمكن أن نتفق مع الرأي القائل بضرورة اهمال هذه القضية التي تخص مشاعر الملايين من الناس ونمر مرور الكرام عليها لأن ذلك يضاعف الخطأ لا بل السكوت هو مساهمة في تكريس الخطأ نفسه.. ومع شديد الاحترام للدكتور شاكر النابلسي لا يمكن الاتفاق معه عندما كتب في إيلاف حول الموضوع اعلاه " هذه الفتوى التي لا تساوي في ظنّي ( شروى نقير) كما يقول العرب؟ وانها لا تساوي ثمن الورقة الصفراء التي كتبت عليها من قبل شيوخ لا يفقهون في الدين ولا في السياسة، وانما تحركهم السياسة وأموالها واهواءها"
لكن الذي حصل ولمسناه أن الفتوى كان لها تأثير كبير سلبي وايجابي ومن هنا فهي تساوي الكثير لدى الناس بين معارضين وربما موافقين على الفتوى، وإلا لماذا هذا الكم الهائل من الردود والمقالات والدلو في الآراء حتى من قبل الدكتور النابلسي نفسه! وبالتالي أليس الإلغاء دليل قيمة ومكانة ما كتبه البعض من الكتاب؟ وإذا كنا قد سكتنا وهملنا موضوعها لأنها لا تساوي شروى نقير كما يرى الدكتور النابلسي هل يصح سكوتنا لكي تبقى الفتوى قائمة حتى لو لم يلتزم بها احد ، ثم أليس بالاماكن التأثير على الازهر إيجابياً أو على اي مؤسسة دينية لكي نساعدها ونجنبها الوقوع في الخطأ؟
ان الانصاف والتقيم الصحيح يجعل المرء أكثر منطقياً والتزاماً وعقلانية كي لا يقع في الاحكام المتسرعة غير المقبولة.. وإذا كنا منصفين فعلاً عليناً أن نبتعد عن الكلام الجارح والمهين وغير المنصف بإتهام شيوخ الازهر جميعهم بأنهم لا يفقهون في الدين ولا في السياسة وهذا تجني كبير عليهم، لأنني أعتقد أن في هذه المؤسسة العريقة علماء وفقهاء ومفكرين معروفين في عالمنا العربي والاسلامي ، وكما نعرف مقدار الكَمّ الهائل من العلماء والمفكرين والمثقفين الذين تخرجوا من جامعتها المعروفة ليس على نطاق العالم العربي والاسلامي وأنما العالم أجمع. وهكذا لا يمكن الاستهانة بمكانة شيوخ الازهر أو اية مؤسسة دينية وانما من الضروري أن نطالب هذه المؤسسات بالاصلاح وقراءة الواقع الجديد للناس. عالم المتغيرات الذي أثر ويؤثر عليهم، طريقة معيشتهم وظروف حياتهم ونوع الظلم الواقع عليهم وغيرها من القضايا المهمة.
وهنا تبرز قضية النضال من أجل فصل الدين عن الدولة لأن ذلك سيخدم هذه المؤسسات الدينية ويجعلها تخرج من التبعية والاستغلال لمآرب دنيوية ضيقة.
ان الغاء الفتوى كما اشرنا جاء نتيجة المعارضة الواسعة لها، ولموقف الكتاب المتنورين الذين كتبوا حريصين على مكانة هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات الدينية لكي تتخلص من تبعيتها للحكام والحكومات وتستقل في قراراتها ومواقفها التي يجب أن تأخذ فيها مصالح الجميع.
لقد كان قرار الغاء الفتوى واعتبارها لا تمثل الازهر واجراء تحقيق داخلي حول ملابسات اصدار الفتوى الذي أعلنه السيد امام الازهر محمد سيد طنطاوي وتأكيده على أن " ليس من حق أي عالم مصري ان يتحدث في شأن أي دولة" ثم تعقيبه " أنني شيخ الازهر في مصر ولا يصح أن ازايد على شيوخ العراق وأصدر فتوى خاصة بهم " قراراً حيكماً لتلافي اشكاليات كثيرة كانت ستقع بين الشعب العراقي والازهر الذي هو في غنى عنها، كما ان الإلغاء واجراء تحقيق حول ملابسات اصدارها والاسباب الكامنة خلفها سكن مشاعر الغضب التي ملأت قلوب مئات الآلاف من العرقيين وغير العراقيين ومن مختلف المشارب والاتجاهات، الذين شعروا بالألم والمرارة من هذه الفتوى المتحيزة غير المسؤولة التي كانت ستثير الاحقاد والعداء والكراهية بدلاً من المحبة والتعاون والعمل من أجل انقاذ العراق من وضعه المأساوي الجديد، كما كان بدون شك ستوسع نبرة العداء والانعزال عن المحيط العربي والتضامن العربي الذي سيكون بالتأكيد لصالح العراق ومجلس الحكم الانتقالي ومسيرة البناء وقيام الدول العراقية المدنية الحديثة.
وكنا ومازلنا نتمنى أن تقف المؤسسات الدينية مواقفاً حقيقياً من اجل نصرة الحق وزهق الباطل لأن الباطل مهما طال مكوثه فهو إلى زوال حتماً لأنه يتنافى مع القيم والحياة نفسها، وستبقى المواقف الصادقة الحقيقية التي تكون لخير وصالح اكثرية الناس كما أن الحياة ستزكيها ويخلدها التاريخ البشري وفي مقدمتها عدالة هذه المواقف من القضايا الراهنة التي تخدم مصالح الناس والتي تحتاج إلى رؤيا حقيقية واضحة أولها احترام الانسان وحقوقه، المساواة أمام القانون، الحرية الشخصية والعامة، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والامن والسلام والعيش الكريم، وعلى ما نعتقد أن الدين الأسلامي يحمل في طياته الكثير من الخير وليس الشر المزروع في عقول بعض الحكام والحكومات و رجال الدين الذين تكمن مصالحهم بالارتباط بالدولة أية كانت سياستها حتى لو كانت ضد الشعب.
ان البعض من الحكام والحكومات يعتبرون أنفسهم ورثة دين وشرعية مفوضة من الله يساندهم البعض من رجال الدين الساكتين عن الحق، إضافة إلى الأجهزة الامنية من مخابرات وأمن ومؤسسات قمعية تحت يافطات وأسماء عديدة.. وإذ ما لزم الأمر وتحرك البعض معارضاً فإن تهمة الالحاد والزندقة والخروج عن الشريعة وضد الدين الاسلامي جاهزة للقمع، وإرهاب واضطهاد الناس الذين هم بالتأكيد اكثر استقامة وعدالة منهم.
ولهذا نرى أن لا وجوب لإغراق المؤسسات الدينية بالعمل السياسي لكي ننهي تبعيتها للدولة المعينة ولكي تكون مستقلة في امور الدين، وليس مدافعة عن الدولة وعن حكامها الظالمين بدون وجهة حق.. وهذا يعني ان تكون الدولة للدنيا والسياسة لكي يحاسبها الناس على سياستها.. بينما تبقى المؤسسات الدينية للدين مما يجعلها منفصلة عن سياسة الدولة، على المؤسسات الدينية أن تفكر بنوع من الاصلاح والتجديد فيما يخص الأمور العادية وقضايا العدالة والحقوق وإلا سترى نفسها قد تأخرت عن الركب واصبحت هي في وادي والناس في وادٍ آخر.
29 / 8 / 2003