محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا
الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 16:39
المحور:
الادب والفن
ملاحظة: اليوم العاشر يوم من أيام من قصة بعنوان " سحر الوردة الجورية "
_ علميني أن أسمع غناء حوريات البحرـ جون دن
_ لدى حوريات البحر سلاح إضافي مرعب غير غنائهن، وتحديدا صمتهن0صحيح ان أمرا كهذا لم يحدث، لكن من المتخيل ربما، أن ينجو أحد من غنائهن، لكنه لن ينجو بالتأكيد من صمتهن، فرانز كافكا
كنت أحب أن أذهب إلى البحر، وأجلس على الصخور. أحب تلك الأوقات التي أحدق فيها بأمواج البحر، أمواج البحر مثل حياتي، أمواج البحر تصطدم بصخور شارع البحر وأمواج حياتي تصطدم بصخور الحياة. وأفكر أن البحر ليس جامداً، إن تقلباته لا نهاية لها، يوماً تراه مثل مستنقع ويوماً آخر تراه يقتلع المدن في طريقه وكأنها مدن من الكرتون. وأستغرب لماذا أعيش صمت البحر. وأشعر أنني لم أعد أطيق الحياة الراكدة التي أعيشها. وأقول لنفسي لأجعل هذا اليوم للتفكير في حياتي الراكدة. أعرف أنني لم أكف يوماً عن التفكير في حياتي الكئيبة، وكثيراً ما كنت أعيش الانتحار الفلسفي. وأعرف أيضاً أن هناك رغبة تطل بين وقت وآخر، خاصة وأنا جالس على صخور شارع البحر، تدفعني إلى الرحيل إلى مملكة البحر. مملكة البحر كانت حلم طفولتي الكئيبة. كنت أستمع إلى الصيادين في مقهى القرش، وفي بيتنا أيام الشتاء العاصفة حيث يجتمعون في الليل، ويقرأ والدي لهم حكايات السندباد. كثير من الحكايات التي سمعتها عن حوريات البحر وغنائهن للصيادين. وأذكر كم من الليالي قضيتها وأنا أحلم أنني أمير بحر. ولكن حكاية الصياد عبد الحليم وحدها ظلت ترافقني في طرقات حياتي. هل يمكن أن أنسى حكاية ذلك الصياد الشاب الذي أغرم بحورية بحر، ثم وفي ليلة رحل إليها في مملكة البحر. وفي حارة البحر كانت مملكة البحر مرتبطة بالصياد عبد الحليم. ورغم أن الصياد العجوز بيرقدار كان يقول دائماً في السهرات الليلية أن مملكة البحر من اختراع الصيادين، وأنه لا توجد حوريات بحر ولا مملكة بحر، وإنها أحلام صياد حالم مثل عبد الحليم. لكن من عرف الصياد عبد الحليم يعرف إنه كان متأكداً أن هناك مملكة بحر. لقد سمعت حكاية الصياد عبد الحليم من صياد عجوز في بيتنا بعد أن مل الصيادون من حكايات السندباد. وعبد الحليم كان يرافق الصياد العجوز على زورقه في رحلات الصيد. لقد لاحظ الصياد العجوز أن عبد الحليم كان يغرق في أحلام اليقظة، كان ينسى الزورق وشبكة الصيد ويغرق في التفكير. وكان لا بد أن يسأل الصياد العجوز عبد الحليم: ما بك يا عبد الحليم؟
وقال عبد الحليم: أنا عاشق يا معلم.
والصياد العجوز يعرف معنى أن يعشق إنسان، العشق يأخذ العقل. ثم رأت حارة البحر أن عبد الحليم أصبح يقضي الليالي على شاطئ البحر، يجلس على صخرة البحر ويحدق بطريق القمر، كأنه ينتظر حورية تخرج من البحر وتأخذه إلى مملكة البحر، وكثيراً ما كان يقول لم أعد أطيق العيش في حارة البحر، الحياة فيها كلها قهر وفقر وحزن، أريد أن أتزوج حورية بحر وأعيش في مملكة البحر. وقال الصياد العجوز: تزوج من حارة البحر يا عبد الحليم.
وقال عبد الحليم: سوف أتزوج يا معلم، لكنني سأتزوج حورية بحر.
وذات يوم اكتشف الصياد العجوز أن عبد الحليم صار يأخذ الزورق ويقضي الليل يرحل على طريق القمر. وفكر الصياد العجوز في نفسه: ما هذا العشق المجنون؟!
ولما حاول الصياد العجوز أن يبعد عبد الحليم عن طريق القمر، طريق حوريات البحر ومملكة البحر، وإنها حكايات، أكد عبد الحليم للصياد العجوز أنه رأى حورية بحر، لقد طلعت من طريق القمر، وقضت الليل معه على الشاطئ، ورحلت قبل أن تطلع الشمس. قال عبد الحليم أن الحورية طلبت منه أن ينتظرها لأنها سوف تعود وتأخذه إلى مملكة البحر. وطال انتظار عبد الحليم ولم تأت حورية البحر، وأصبح عبد الحليم مثل الشبح. كان يقضي النهار والليل على الشاطئ أو على صخرة البحر يحدق بطريق القمر. ثم اختفى عبد الحليم. ويؤكد أحد الصيادين أنه رأى البحر ينشق وتظهر حورية بحر من طريق القمر، لقد سمعها ذلك الصياد تغني لعبد الحليم، وأنه رأى عبد الحليم يدخل البحر من طريق القمر، ويرحل خلف الحورية إلى مملكة البحر. عبد الهادي قال إنه مجنون، من يصدق تلك الخرافات. لكنني أعرف إن عبد الحليم لم يكن مجنوناً، وأذكر أيضاً أنني سمعت في ليل حورية البحر تغني لي وحدي. أنا لم أر حورية البحر، لكنني متأكد أنني سمعت صوت غنائها ذلك الليل. وأنا أيضاً فكرت بحورية البحر التي غنت لي. وفكرت أيضاً بالرحيل خلفها إلى مملكة البحر. وفي لحظة حميمية من الثقة أخبرت أيضاً عبد الهادي، وطبعاً عبد الهادي ابتسم بسخرية، وانزعجت. وحتى اليوم لا أعرف لماذا لم أرحل إلى مملكة البحر، لكني لم أكف يوماً عن التفكير في تلك الحورية التي غنت لي وحدي في الليل. ويجب أن أعترف أن الرغبة بالرحيل إلى مملكة البحر ما تزال تسكنني. لم يكتف عبد الهادي باعتباري مجنوناً، لكنه في تلك الأوقات التي تراودني الرغبة بالرحيل إلى مملكة البحر لم يكن يفارقني. كان يقفل البيت بالمفتاح، ويخفي المفتاح في أمكنة حتى الجن لا تعرف طريقها إليه. ورغم ذلك كان يغالب النوم حتى يغلبه النوم، لكن النوم لم يغلبني أبداً. كان يعرف أنني أبحث في الليل عن المفتاح بلا جدوى. ولم يتركني عبد الهادي حتى غادرت مملكة البحر أفكاري، وتصالحت بعض الشيء مع الحياة، رغم إنني لم أكن أتصالح مع نفسي أبداً. تمر أوقات طويلة لا أفكر فيها بالرحيل إلى مملكة البحر، فقد أصبحت عجوزاً وفي داخلي قناعة أن حورية بحر لن تهتم بي في شيخوختي، فحوريات البحر كما يؤكد الصيادون في حارة البحر لا يعشقن إلا الصيادين الشباب. لكنني لم أنس حورية البحر تلك أبداً. أرى على شاشة التلفزيون وجه الدكتور عيسى. أتابع الدكتور الذي يتكلم عن حقوق الإنسان، وأنه من حق الإنسان أن يعيش حياة كريمة، ومن حقه أيضاً أن يغير الحياة ويجعلها أفضل. وأشعر بالخوف، كيف يغامر الدكتور عيسى على محطة تلفزيونية ويطالب الشعب بالحراك ضد الظلم وأن ينتشر عطر الورد الجوري في البلاد. وأفكر في نفسي أن الدكتور عيسى من ألطف من قابلت من الناس طول حياتي. لقد التقينا صدفة في مكتبة الكرامة. كان يقلب الكتب، وكنت أتفرج على الكتب بحثاً عن كتاب جديد. عرفني صاحب مكتبة الكرامة الاستاذ دياب على الدكتور عيسى وقال: يكفيني أن يشتري عبد العزيز وحده من المكتبة.
اقترب الدكتور عيسى مني وقال: يسعدني أن أتعرف على رجل يحب الكتب.
كنت أخشى الغرباء، ولم أتكلم. كنت قد أصبحت أفكر أنهم من أشباح الحياة المظلمة. لكن الاستاذ دياب قال: الدكتور عيسى إنسان طيب.
وبدأت علاقة جميلة مع الدكتور عيسى. كنا نلتقي في مقهى الطاحونة، ونتكلم عن الكتب. كنت أرتاح للتكلم عن الكتب أكثر مما أرتاح للتكلم عن الحياة والسياسة، فكما أخافتني الحياة أخافتني السياسة. أذكر إنني في إحدى جلسات مقهى الطاحونة تكلمت كثيراً عن رواية " حي بن يقظان ". تكلمت بإعجاب عن ذلك الرجل الوحيد الذي عاش وحيداً في جزيرة غريبة، يحاول اكتشاف نفسه والعالم. اليوم يمكن أن أفهم ابتسامات الدكتور عيسى، وأنا أتكلم عن حي بن يقظان كنت أتكلم عن نفسي. ويمكن أن أفهم ما قاله لعبد الهادي، وكانت تربط عبد الهادي صداقة عميقة مع الدكتور عيسى، فقد كان يجمعهما حب الناس. قضينا سهرة نتكلم عن مشاكل الناس وحقوقهم الإنسانية، ونشرب العرق. كانت تلك الليلة من أجمل الليالي في حياتي، وأعتقد إنني تكلمت كثيراً، ورغم أنني لم أعد أذكر عما تكلمت فقد شعرت بالخوف، فأنا لا أريد أن أنسى نفسي، وإذا كنت لا أخاف من عبد الهادي والدكتور عيسى فيجب أن أخاف من الآخرين. وتكررت سهراتنا، وفي إحدى السهرات سمعت حواراً بين الدكتور عيسى وعبد الهادي جعلني أحترق من الغضب. قال الدكتور عيسى: إنه لطيف ولا خوف منه على نفسه.
وقال عبد الهادي: لكنه يعيش في وحدة قاتلة؟
قال الدكتور عيسى: إنه متصالح مع نفسه. قد يعيش وحيداً لكنه ليس من النوع الذي يؤذي نفسه.
قال عبد الهادي: وحورية البحر؟
قال الدكتور عيسى: أنا في طفولتي أحببت حوريات البحر، إنهن جزء من طفولتنا في حارة البحر.
قال عبد الهادي: ومملكة البحر؟
قال الدكتور عيسى: أنها حلمه، المدينة التي لا يقدر أن يطالها. يوتوبيا، من منا لا يحلم بمدينة فاضلة؟
وقال الدكتور عيسى أيضاً: إن التفكير يتضمن أيضاً النضال ضد الأوهام التي ينتجها التفكير، ولكنه بحاجة إلى إرادة قوية حتى يهجر أماكن التفكير المظلمة.
وقد انزعجت من عبد الهادي. كأنني كنت فأر تجارب بين يدي الدكتور عيسى، خاصة وقد عرفت أنه دكتور في علم النفس. في الطريق، بعد سهرة في بيت عبد الهادي قلت لعبد الهادي والحزن يأكلني: أنت أدخلت الدكتور عيسى إلى حياتي؟
قال عبد الهادي: وهل ذلك يزعجك؟
وقال عبد الهادي أيضاً: هل تعتقد أنني يمكن أن أتركك تصبح روحاً تائهة في الشوارع؟
وأفكر في نفسي إنني، رغم كل شيء، كنت سعيد الحظ لأنني عرفت أصحاباً مثل الدكتور عيسى وعبد الهادي. أسأل عبد الهادي، وهو يناولني الأوراق التي كنت أسجل فيها يومياتي: ما رأيك؟
يقول عبد الهادي: شيء طيب أن يكتشف الإنسان نفسه.
ثم يردف: الحياة تستحق أن تعاش، رغم كل شيء لا تنس أن الحياة تستحق أن تعاش، لا تنس ذلك أبداً.
وأخفي انزعاجي عن عبد الهادي، انه دائما ما يعاملني كولد صغير، وأقول لنفسي هذا عبد الهادي وهذه شخصيته، وهو متصالح مع نفسه. وأشعر، في لحظاتي العميقة، أن تلك الحياة التي تستحق أن تعاش مثل الحياة في مملكة البحر، وانني لست سوى فارس حزين اخر، انسان حزين مقهور ومهدور.
#محمد_علي_سليمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟