أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حميد كوره جي - ماركس والمناسبات الاجتماعية















المزيد.....

ماركس والمناسبات الاجتماعية


حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)


الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 16:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


للتمييز بين ماركس الفيلسوف الذي ركز على العلاقة بين البنى التحتية (الاقتصاد) والبنى الفوقية (الدين والثقافة)، وبين ماركس الإنسان الذي عاش في سياق اجتماعي وتاريخي معين، يدور الجدل حول مدى وجود أبعاد دينية في حياته الشخصية، ومسألة إن كان قد شارك في الطقوس الدينية أو تعامل معها بشكل من الإيمان.

من الناحية التاريخية، لا توجد شواهد موثقة على أن ماركس مارس الطقوس الدينية بعد بلوغه. والده، هيرشل ماركس، اعتنق المسيحية اللوثرية لأسباب قانونية واجتماعية، ولكن ماركس خضع للتعميد وهو طفل صغير قبل أن ينخرط في الفكر الفلسفي الهيغلي ويتحول إلى اللادينية مع تقدمه في العمر.

بالنسبة لفكرة "ذهاب ماركس إلى الكنيسة"، من المحتمل أن يكون هناك خلط لدى البعض بين حضوره لبعض المناسبات الاجتماعية أو الجنائز التي كانت تُقام في كنائس، وبين ممارسته الإيمان الديني. كذلك قد يكون الالتباس نابعاً من سيرة فريدريك إنجلز، رفيق دربه، الذي نشأ في عائلة ذات تدين صارم وكان يعبر في بعض كتاباته عن ذكريات متعلقة بالتقاليد الدينية، سواء من باب النقد أو الطابع الأدبي.

من الجدير بالملاحظة أن رسائل ماركس وزوجته جيني تكشف أنهما كانا يحتفلان بعيد الميلاد في منزلهما بلندن، لكنه كان بالنسبة لهما احتفالاً عائلياً واجتماعياً لا يحتكم لأي مضمون ديني. حتى في ظل معاناته من الفقر معظم حياته، كان ماركس حريصاً على شراء هدايا لبناته في هذه المناسبة، ليس تعبيراً عن إيمان ديني بالمسيح، وإنما انطلاقاً من تقاليد ثقافية ألمانية نشأ عليها.

لو كان ماركس معنا اليوم، فمن المرجح أن يركز تحليله على مفهوم "صنمية السلعة" في إطار الأعياد، حيث يرى أن الرأسمالية استحوذت على القيم المقدسة وحولتها إلى بضائع. بالنسبة له، الامتنان أصبح "شراء"، والمحبة تحولت إلى "استهلاك". كما سيلفت النظر إلى الجهود المضنية التي يبذلها عمال المصانع وقطاع الخدمات لتلبية طلبات الأعياد، معتبراً إياها أحد مظاهر الاستغلال الرأسمالي.

أما موقف ماركس من المناسبات القومية فكان أكثر حدة. شعاره الشهير في البيان الشيوعي "ليس للعمال وطن" يعكس رفضه لفكرة القومية التي اعتبرها أداة بيد البرجوازية لتفريق الطبقة العاملة عبر خلق صراعات وهمية بين العمال في دول مختلفة. من وجهة نظره، النضال ضد الاستغلال الرأسمالي هو المشترك العالمي بين الطبقة العاملة، وليس الانتماءات القومية.

وفي الختام، يخطئ من يخلط بين "التفاعل الاجتماعي" و"الإيمان الديني". ماركس لم يكن عدائياً تجاه الأفراد المتدينين بقدر ما كان ناقداً للمؤسسات الدينية كآلية للهيمنة. كان من الممكن أن يشارك في مناسبة اجتماعية مثل مأدبة عيد ليس انطلاقاً من أي إيمان ديني، بل تعبيراً عن تقديره للعلاقات الإنسانية التي كان يأمل أن تتطور يوماً نحو تضامن طبقي حقيقي.

بالفعل، هناك مراسلات تاريخية توثق كيف كان ماركس وعائلته يقضون أعياد الميلاد في لندن، وهي رسائل تكشف الجانب الإنساني والعائلي بعيداً عن صرامة "البيان الشيوعي". أدناه نصوص ومواقف محددة من هذه المراسلات:
1. رسالة جيني ماركس (زوجته) إلى إنجلز (ديسمبر 1866)
في هذه الرسالة، تشكر جيني إنجلز على إرساله "سلة عيد الميلاد" التي كانت تحتوي على النبيذ الفاخر، وتصف كيف أن هذا سيغير أجواء العيد الكئيبة بسبب الفقر:
"شكري القلبي على سلة عيد الميلاد.. النبيذ سيساعدنا كثيراً في تجاوز هذه العطلة التي لولاها لكانت كئيبة، وستضمن لنا ليلة عيد ميلاد سعيدة. الفقاعات المتلألئة ستجعل الأطفال ينسون غياب شجرة عيد الميلاد الصغيرة هذا العام، وسيكونون سعداء ومرحين رغم كل شيء."
2. رسالة ماركس إلى إنجلز (25 ديسمبر 1857)
في هذه الرسالة، لا يتحدث ماركس عن اللاهوت، بل يظهر اهتماماً "أبوياً" بصحة إنجلز، محذراً إياه من الإفراط في الاحتفال:
"أتمنى ألا تفرط في الشرب خلال العطلة وفي هذه الأوقات المثيرة في مانشستر، وأن تولي اهتماماً كافياً لصحتك."
3. وصف "بودينغ عيد الميلاد" (طقس ماركسي بامتياز)
في مذكرات إدوارد برنشتاين، يصف كيف كان إنجلز وماركس يشاركون في طقوس إعداد "بودينغ عيد الميلاد" (Plum Pudding) في منزل إنجلز بمانشستر أو منزل ماركس بلندن. كان إنجلز يصر على أن يشارك كل الضيوف، بمن فيهم ماركس، في "تحريك" عجينة البودينغ ثلاث مرات كنوع من التفاؤل والتقليد الشعبي.
4. الهدايا والجانب البرجوازي "المؤقت"
في رسالة من إنجلز إلى جيني ماركس (22 ديسمبر 1859)، يرسل فيها نبيذاً للعائلة ويقول:
"عزيزتي السيدة ماركس، أسمح لنفسي اليوم بإرسال درزن زجاجات من النبيذ لموسم الأعياد، آملاً أن تنال إعجابكم وتساهم في بهجة العائلة."
وردّ إنجلز في رسالة أخرى لماركس واصفاً شعوره في هذا الوقت من السنة:
"فترة عيد الميلاد هي الوقت الوحيد في السنة الذي أشعر فيه، بعيداً عن العمل، أنني أقف بقدم واحدة في البرجوازية.. وهذا يتطلب الكثير من الأكل والشرب واضطرابات المعدة."
ما يمكن استنتاجه من هذه الاقتباسات هو أن كارل ماركس، رغم موقفه الراسخ تجاه الدين ومؤسسة الكنيسة بشكل عام، كان إنساناً يهتم بالجوانب الاجتماعية والثقافية التي ترتبط بالحياة اليومية. لم يكن زيارته للكنيسة مرتبطة بممارسة شعائر دينية، بل كانت ببساطة جزءاً من تقليد اجتماعي ألماني وأسلوب للاحتفال بالأعياد بطريقة تنسجم مع الجو العائلي وتعويضاً لأطفاله عن الظروف الصعبة التي فرضتها نشاطاته السياسية الجريئة.

كما يبرز دور فريدريك إنجلز في دعم عائلة ماركس من خلال الهدايا التي أرسلها كوسيلة لتأمين احتياجاتهم أثناء الأعياد. هذا الجانب الإنساني يعكس عمق العلاقة بينهما، والتي تجاوزت ميدان التنظير الفلسفي لتصل إلى تجليات حقيقية للممارسات الإنسانية المبنية على التضامن والصداقة.

أما بالنسبة لتزيين منزله بالأغصان الخضراء أو تناوله الديك الرومي خلال الأعياد، فإن ذلك يُظهر كيفية تعاطيه مع هذه الطقوس باعتبارها جزءاً من الفلكلور الشعبي، بعيداً عن أي ارتباط ديني أو خضوع للمؤسسة الدينية. بهذا الموقف، حافظ ماركس على فلسفته الرافضة للدين كنظام سيطرة وفي الوقت نفسه أظهر احترامه للبعد الثقافي والاجتماعي لهذه الممارسات.

هذه النصوص تدعم فكرة أن ماركس كان يعيش حياته بعقلية تجمع بين البعد الإنساني والاجتماعي وبين الموقف الفلسفي المحكم تجاه الدين. وقد يكون هذا "التوفيق"، الذي يظهر بين فكره النقدي وممارسته الحياتية، هو أحد أسباب استمرارية الجدل حول شخصيته بحيث تُدرس حتى أدق تفاصيل حياته الاجتماعية والعائلية، مما يجعله شخصية متعددة الأبعاد تثير اهتمام المفكرين والباحثين وحتى الجمهور العام.
هذا التوازن المثير للتساؤلات والذي ربما يراه البعض على أنه تناقض جوهري في شخصية ماركس هو ما يجعل منه إنساناً معقداً، بعيداً عن الصورة النمطية للفيلسوف الصارم أو الآلة التنظيرية الجامدة. ماركس كان يعكس في قراراته اليومية وعاداته البسيطة طبيعة إنسانية متعددة الأبعاد، مما يُضيف لعمق فهمنا لشخصيته.

إثارة الجدل بشأن بعض تفاصيل حياته اليومية، مثل احتفاله بعيد الميلاد، يمكن تفسيرها من خلال عدسة متباينة تتأرجح بين النظر النقدي والنقاش الفكري. على سبيل المثال، هناك من النقاد خصوصاً من التيارات الليبرالية أو اليمينية ممن يعمدون إلى تسليط الضوء على هذه المناحي الشخصية كوسيلة للتقليل من مصداقية أطروحاته الفكرية؛ حيث يقولون إن ماركس لم يكن سوى "برجوازي متخفٍ" أو ربما "منافقاً". في المقابل، كان ماركس يعيش وفق رؤية مختلفة تماماً. في حين كان يدعو لانتصار البروليتاريا والتحرر من قيود الاستغلال الاقتصادي، كان يقطن في لندن، يفضل النبيذ الراقي، ويحرص على تعليم بناته الموسيقى واللغات بما يعكس وعياً تربوياً وثقافياً عميقاً. بالنسبة لماركس، لم تكن الغاية القصوى تقضي بأن يعيش الناس في ظل الفقر والبؤس، بل تمثلت في تحقيق رفاهية شاملة تشارك فيها الجماهير كاملة، رفاهية ظلّت لوقت طويل حكراً على الطبقة البرجوازية.

ما يميّز ماركس عن غيره هو قدرته الهائلة على التمييز بين القيم الثقافية الإنسانية وبين النسق المؤسسي الذي قد يجعل هذه القيم أداة للقمع والسيطرة. المؤسسة الكنسية في نظره كانت تمثل هذا النسق القمعي، لكنها لم تلغِ لديه تقبل الموروث الثقافي أو العادات الاجتماعية المرتبطة بالإنسانية البسيطة. فعلى سبيل المثال، شجرة عيد الميلاد أو تجمع العائلة حول مائدة احتفالية لم تكن بالنسبة له مجرد "أفيون جماعي"، بل جسدت جوانب من الروابط الاجتماعية التي تضيف بعداً إنسانياً للحياة. لكن المفارقة تكمن في أن الجيل الذي تبعه من الماركسيين كان أحياناً يتمثل صرامة فكرية تتجاوز رؤية ماركس الأصلية ذاتها. لقد فهم البعض منهم سياساته كعداءٍ معلن لكل ما هو تقليدي ورثه الإنسان، مع تجاهل السياق الذي اعتبر فيه ماركس - كنجل للحضارة الألمانية - أن الموروثات الثقافية تظل عناصر أصيلة تُثري الهوية الإنسانية.

داخل الفكر الماركسي الشامل، يأتي الجدل الدائم حول كيف يمكن للأشياء أن تتحوّل من "قيم استعمالية" إلى "قيم تبادلية"، وهو مفهوم يفسّر التحول من القيمة الأساسية للاستخدام المباشر نحو الاستهلاك الربحي. عيد الميلاد يمثّل مثالاً حيّاً لهذا التحول المتناقض؛ فبينما سعى ماركس للحفاظ على روح الاحتفال كفرصة للتلاقي والشعور بالسعادة والدفء الإنساني (القيمة الاستعمالية)، استفزّه اتجاه الاحتفال ليصبح مجرد فرصة تجارية تتمحور حول تبديد الأموال وتعظيم أرباح الشركات (القيمة التبادلية). هذا السعي لموازنة معادلة معقدة كهذه وضع يومياته الإنسانية دائماً تحت مجهر النقد والجدل.

بمرور الزمن، حولت المخيلة التاريخية كارل ماركس إلى رمز أسطوري أو تمثال رخام ثابت بلا حياة. لكن، رسائله مع صديقه الوفي فريدريك إنجلز تكشف لنا جانباً آخر تماماً: إنسان هش فقط يشكو من أوجاع البواسير التي تعيقه عن الكتابة، يقترض المال في الأعياد لشراء هدايا لبناته، ويضحك من النكات التي يحكيها له صديقه إنجلز، والتي قد تتطرق إلى مزحة عن "البودينغ" البريطاني. هذه الحكايات الصغيرة تضفي طابع الإنسانية الساحر على شخصية ماركس، فيثير ذلك حفيظة من يسعون لتقديمه كقديس ثوري خالٍ من العيوب أو كشيطان ملحد متطرف.

إن استمرار الإعجاب بشخصية كارل ماركس ونقاش التناقضات التي ميزت حياته وفكره يرتكز على هذا التصالح العميق الذي أبدع في تحقيقه بين فلسفته النظرية وطبيعة حياته اليومية. فقد استطاع ماركس بخبرة وجدانية أن يوازن بين فكر عميق يطمح إلى تغيير جذري للواقع، وبين تفاصيل إنسانية تُثري تجربته الفكرية.

لم يكن تغييب الأبعاد الإنسانية لماركس أمراً عرضياً أو محض مصادفة، بل جاء كنتيجة مباشرة لعمليتين متناقضتين عملتا معًا بشكل غير مباشر. فمن جهة، تم تقديم ماركس ضمن "عملية تقديس" تنزهه عن الطبائع البشرية وتجعل منه شخصية صلبة وشبه إلهية؛ ومن جهة أخرى، وقع ضحية "عملية شيطنة" تهدف إلى تشويه صورته الإنسانية والتركيز على أبعاد أثارت جدلاً حول فكره. والنتيجة كانت تغليب صورة ماركس الأيديولوجي الجامد على حساب ماركس الإنسان المعقد.

الأيديولوجيات التي تبنت الماركسية، وخاصة الأنظمة التي قامت عليها بشكل ما مثل الاتحاد السوفيتي السابق، كانت تحتاج إلى بناء "أيقونة" لعبادة مكتملة الصفات خالية من العيوب. فقد حرصت هذه الأنظمة على تقديم ماركس كشخصية منزهة عن الأهواء البشرية ومتجردة من مشاعر الحياة اليومية التي قد تحمل في طياتها ضعفاً إنسانياً. أرادته رمزاً لصلابة لا تعرف الهوادة، ونبياً فكرياً لا يشوب سيرته شائبة من "البرجوازية". لهذا السبب جرى تغييب جانب هام من حياته الشخصية. لم يُرغب في تسليط الضوء على ماركس الذي يحتفل بأعياد الميلاد وسط عائلته أو يحاكي لحظات الفرح اليومية، لأن ذلك قد يضعف من هيبة صورة "المناضل الراديكالي" الذي يفترض أنه يكرس كل لحظة من حياته للصراع المتواصل ضد البرجوازية.

وعلى الجانب الآخر، سعت المناهج السياسية في الغرب ومؤسسات الفكر المناوئة إلى رسم صورة مشوهة عن ماركس. صورت الرجل كرجل "مادي ملحد" يكن عداءً للدين، والأسرة، والقيم الروحية ،والاجتماعية. هنا أيضاً تم تهميش الجانب الإنساني لشخصيته لتجنب جعله قريباً أو محبوباً لدى الجماهير. فتصوير ماركس كأب حنون محب لقصص التراث الشعبي والممارسات الاجتماعية المعتادة كان سيجعله أكثر قرباً من عامة الشعب، وهو الأمر الذي كان سيدمر الصورة النمطية التي حاول خصومه صناعة حاجز بها بينه وبين الطبقة العاملة المتدينة بطبعها أو المحافظة بقيمها.

إن التوجه الفكري الذي ساد في تحليل شخصية ماركس غالباً ما وقع في فخ التبسيط والتعميم. إذ يتم تجاهل التحول الذي طرأ على مراحل فكره المختلفة، حيث تختلف نبرة ماركس الشاب الذي كتب عن الاغتراب والإنسان وتحقيق الذات عن نبرة ماركس الناضج الذي تعمق في كتابه "رأس المال". كما أن كثيراً من المناهج التقليدية تتجاهل قيمة رسائله التي كشفت جانبه الإنساني العاطفي، ذاك الجانب الذي كان يُظهر اهتمامه بالفن والثقافة والمشاعر البشرية إلى جانب تحليلاته الاقتصادية.

من المفارقات الملفتة أن هناك مقولة شهيرة تُنسب إلى ماركس نفسه حين قال: "كل ما أعرفه هو أنني لست ماركسياً". جاءت هذه الجملة بعدما لاحظ أن العديد من أتباعه قد قاموا بتفسير نظرياته بمنهج جامد ومتطرف لا يمت بصلة إلى روح ما كان يقصده. وهذا الغياب لعُمق إنسانية ماركس يشير بوضوح إلى فجوة بين شخصية ماركس الإنسان وبين الحركات الماركسية التي حولته إلى رمز صارم يكاد ينفصل عن جوهره الحقيقي.

عندما يتم طمس البعد الإنساني لكارل ماركس، فإن جوهر رسالته الفلسفية يُنتزع منه شيء كبير وأساسي. لقد كانت نزعة ماركس الإنسانية هي الدافع الأعمق وراء نقده للرأسمالية. فهو لم ينفر منها لأنها "تخالف القوانين" أو فقط لأنها بنظرته تستغل البشر، لكنه رأى أنها تشوه الإنسان وتجرده من إنسانيته، وتحوّله إلى كائن مسلوب الإرادة يعمل كترس في آلة لا ترحم. في نظر ماركس، هذه الآلة لا تكتفي بنهب القوى العاملة، بل تسلب الإنسان وقته وطاق
إن استعادة "ماركس الإنسان" ليست مجرد ترف تاريخي، بل هي ضرورة لفهم جوهر مشروعه الذي ضاع تحت ركام الشعارات السياسية الجامدة. بالنسبة للأجيال الشابة التي تعيش اليوم في ذروة "العصر الاستهلاكي"، يمكن لهذا الجانب أن يغير النظرة لماركس من "منظر اقتصادي جاف" إلى "مدافع عن جودة الحياة الإنسانية".

كيف يمكن لهذا الجانب الإنساني أن يلهم شباب اليوم؟

الشباب المعاصر يعيش في حالة من الاغتراب، تلك الحالة التي وصفها ماركس، والتي لم تقتصر على مجال العمل فقط، بل امتدت إلى عالم الاستهلاك أيضاً. ماركس الإنسان كان يرى أن الإنسان يفقد جوهر ذاته عندما يتحول إلى مجرد مستهلك للمنتجات. وعندما نتأمل الطريقة التي احتفل بها ماركس بعيد الميلاد بأسلوب بسيط مع عائلته، نفهم أن هدفه لم يكن القضاء على المتعة، بل تحريرها من قبضة الاستهلاك القهري. إحياء هذا الجانب يساعد الشباب على إدراك أن انتقاد الرأسمالية هو في الأساس دعوة لإعادة اكتشاف قيمة "الوقت" و"العلاقات الحقيقية" التي يسلبها نمط الحياة الاستهلاكي.

في ظل ثقافة العمل المرهق والمستمر التي تجهد جيل اليوم، يظهر ماركس كأحد الرواد المدافعين عن تقليل ساعات العمل. كان يؤمن بأن حرية الإنسان تبدأ بمجرد انتهاء العمل الضروري المفروض على الفرد. وسلوكه اليومي، من الاحتفاء بالأعياد والاستمتاع بالهوايات إلى القراءة العميقة للأدب العالمي – حيث كان من عشّاق شكسبير – يجسّد رؤية لعالم يعمل فيه الإنسان ليعيش حياة غنية بالثقافة والمشاعر، وليس فقط لخلق الأرباح لأصحاب رأس المال.

الأجيال الشابة اليوم مشبعة بالوعي تجاه قضية المناخ. في كتاباته المتأخرة، تناول ماركس فكرة "الصدع الأيضي" الذي أحدثته الرأسمالية بين الإنسان والطبيعة. فهم هذا البعد الإنساني في فكره يقودنا إلى إدراك تقديره العميق للطبيعة والجمال، وتأكيده على أن الرأسمالية لا تستنزف العمال فقط، بل تستنزف الموارد الطبيعية والكوكب نفسه. وهذا الرابط يجعل أفكاره ذات صلة مباشرة بشباب يطالبون اليوم بالعدالة المناخية وإنقاذ الأرض.

ماركس لم يكن مجرد مفكر جاف، بل امتلك روحاً نقدية ساخرة ظهرت بوضوح في رسائله؛ وهو الحس الذي يحتاجه الشباب اليوم لفك شيفرات الإعلانات التجارية والبروباغندا الاستهلاكية. فكرة أن السلعة أصبحت نوعاً من الأصنام تُعبد (صنمية السلعة) تسهم في فهم الجذر الحقيقي لشعور الشباب بالتعاسة، رغم وفرة الأجهزة الحديثة في حياتهم. ماركس الإنسان يذكّرنا بأن السعادة لا تُشترى، ليس من باب النصيحة الدينية، بل بناءً على تحليل اقتصادي واجتماعي عميق.

إذا تم تقديم ماركس للشباب كشخص أحب عائلته، واقترض المال لشراء بيانو لابنته، واستمتع بالتنزه بين أحضان الطبيعة، وفي الوقت نفسه كان يناضل ليتيح هذه التجارب للجميع؛ سيتحول التصور عنه من رمز فكري سلطوي إلى مثال للثائر الإنساني. فالجوهر الحقيقي للماركسية يكمن في نزعتها الإنسانية، التي تهدف إلى تمكين الإنسان من ممارسة إنسانيته بشروط عادلة وبعيدة عن القيود المادية الخانقة.

مالمو
2025-12-25



#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)       Hamid_Koorachi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أغاني القدر
- ما وراء التوازن
- نحو خطاب إنساني جامع في فضاء الكتابة بالعربية
- قسمة
- دفاعاً عن ماركس في وجه العقاد
- معارض الكتاب بين القيمة الاقتصادية والتأثير الاجتماعي
- أنشودة السرو المتصاعد
- الحزب الشيوعي العراقي والافراط في الوطنية
- ترامب والتناقضات الهيكلية في الديمقراطية الليبرالية الغربية
- -التفوق الزائف-: كيف يفرّغ العنصريون إحباطهم العالمي في حقد ...
- وهم الحضارات الكبرى: تفكيك الأسس الدينية والثقافية للتمايز ف ...
- ترامب يفقد السيطرة: هل هذه بداية النهاية؟
- الفردوسي ودوره المحوري في سياق التاريخ الثقافي الإيراني
- الترجمة الأيديولوجية: بين أفيون -الشعب- و -الشعوب-
- التباين الجمالي بين الشعر العاطفي والسياسي
- فجر الاعترافات
- التأطير الأحادي للإبداع -2
- التأطير الأحادي للإبداع -1
- الأزمة الهيكلية في بلدان الشرق الأوسط
- الترجمة العربية: تحريفات لأسباب إيديولوجية


المزيد.....




- المنتصف المريح: كيف اختارت الطبقة الوسطى الهروب من الصراع فد ...
- حقوقيون ونقابيون: الحكومة تلتف على قانون العمل بـ«قرارات وزا ...
- الاتحاد العام التونسي للشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزئين الأول و ...
- الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية يعزي الرفيق العزيز الطي ...
- Late Review of “SNCC: The New Abolitionists” by Howard Zinn ...
- دائرة المقاطعة في الجبهة الديمقراطية تحيي اتساع حملات التضام ...
- مهندسو المياه والغابات والتقنيون الغابويون يراسلون رئيس الحك ...
- فيديو - ترامب يمازح طفلًا بحديث عن -سانتا كلوز السيئ-.. ويها ...
- تهاني ترامب بمناسبة عيد الميلاد تشمل -حثالة اليسار-
- حكم بسجن طفلين 10 سنوات بتهمة الإرهاب على خلفية نشاط رقمي


المزيد.....

- بين قيم اليسار ومنهجية الرأسمالية، مقترحات لتجديد وتوحيد الي ... / رزكار عقراوي
- الاشتراكية بين الأمس واليوم: مشروع حضاري لإعادة إنتاج الإنسا ... / رياض الشرايطي
- التبادل مظهر إقتصادي يربط الإنتاج بالإستهلاك – الفصل التاسع ... / شادي الشماوي
- الإقتصاد في النفقات مبدأ هام في الإقتصاد الإشتراكيّ – الفصل ... / شادي الشماوي
- الاقتصاد الإشتراكي إقتصاد مخطّط – الفصل السادس من كتاب - الإ ... / شادي الشماوي
- في تطوير الإقتصاد الوطنيّ يجب أن نعوّل على الفلاحة كأساس و ا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (المادية التاريخية والفنون) [Manual no: 64] جو ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية(ماركس، كينز، هايك وأزمة الرأسمالية) [Manual no ... / عبدالرؤوف بطيخ
- تطوير الإنتاج الإشتراكي بنتائج أكبر و أسرع و أفضل و أكثر توف ... / شادي الشماوي
- الإنتاجية ل -العمل الرقمي- من منظور ماركسية! / كاوە کریم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حميد كوره جي - ماركس والمناسبات الاجتماعية