|
|
نحو خطاب إنساني جامع في فضاء الكتابة بالعربية
حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)
الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 11:17
المحور:
قضايا ثقافية
تعد قضية "ذكورية اللغة" من أكثر القضايا جدلاً في الأوساط الفكرية واللغوية، حيث تتراوح الآراء بين اعتبار اللغة انعكاساً لهيمنة اجتماعية تاريخية، وبين رؤيتها كقواعد نحوية محايدة. في هذا المقال، نعيد قراءة وتحليل هذه الإشكالية عبر محاور تركز على مفهوم "هندسة اللغة" وإمكانية التحول نحو "لغة الحياد".
تشدد الزميلة بيان صالح في مقالها المنشور على موقعنا "الحوار المتمدن" على الحاجة إلى ثورة لغوية وإصلاح جذري وواع، موضحة أن استعادة التوازن في اللغة هو خطوة أساسية لبناء واقع يعترف بالمرأة، سواء على مستوى الوجود اللغوي أو السياسي والاجتماعي. وتطالب باستخدام لغة تخاطب المرأة مباشرة، تعترف بدورها وتنهي ما تصفه بالإقصاء أو "الإلغاء الصامت".
المقال في جوهره يعبر عن موقف شخصي وتجربة ذاتية للكاتبة، مشيراً إلى تأثير اللغة على الإحساس بالهوية والوجود. ومع ذلك، لابد من ملاحظة أن الطرح يحتوي على بعض المقاربات الجدلية والمبالغات التي قد تحتمل النقاش. وهنا أبرز النقاط التي تستحق التوقف عندها:
1. التركيز على قاعدة "المذكر يغلب المؤنث" بوصفها تكريساً للإقصاء الاجتماعي: هذه القاعدة ليست حصرية للغة العربية، بل هي جزء من بنية العديد من اللغات ذات التصنيف الجنسي مثل الفرنسية والإسبانية. في علم اللغة، يُنظر إلى استخدام المذكر كصيغة شاملة أو حيادية في سياقات معينة، وليس بالضرورة كأداة للإقصاء المتعمد.
2. ربط الخاصية النحوية بالكامل بأبعاد اجتماعية وسياسية: هذا الربط يتجاهل الوظائف اللغوية الأخرى لهذه القواعد، مثل استخدامها في الإشارة إلى عناصر غير مرتبطة بالجنس البشري.
3. وصف اللغة العربية بأنها "ذكورية تماماً": يعد هذا الحكم تعميماً ينقصه الدقة، إذ إن اللغة العربية تحتوي على منظومة واضحة لتمثيل الجنسين في العديد من الصيغ النحوية مثل الأفعال والضمائر والأسماء. كما أنه من الممكن استخدام هذه المنظومة لإنتاج خطاب نسوي متكامل إذا تطلب السياق ذلك.
4. الشعور الذاتي كمحور المقال: يرتكز المقال على تجربة الكاتبة الشخصية وشعورها باللاوجود عندما يتم استخدام صيغة المذكر للعموم. ورغم أن هذا الشعور يمثل نقطة قوية للتعبير عن التأثير النفسي للغة، إلا أنه لا يشكل دليلاً علمياً على قصور حقيقي أو مغالطة في قواعد اللغة نفسها.
إن المقال يعكس منظوراً ذاتياً وتجربة شخصية تصب في دعوة لتغيير واعٍ في اللغة العربية بهدف تمكين المرأة وإحداث توازن أكبر في الخطاب العام. ومع ذلك، فإن بعض النقاط المطروحة بحاجة إلى تعميق النقاش حولها لتجنب التعميمات أو إسقاط الأحكام المطلقة على بنية لغوية تحمل تعقيداً ووظائف متعددة.
تُعَدّ قضية ذكورية اللغة العربية من أبرز المواضيع اللغوية والاجتماعية التي تشهد نقاشاً واسعاً بين الباحثين والمفكرين في العالم العربي. تختلف الآراء بشأنها بين فريقين؛ الأول يرى أن اللغة تُجسد الهيمنة الذكورية ثقافياً وتاريخياً، بينما يعتبر الفريق الثاني أنها مجرد قواعد نحوية محايدة لا تعكس أي انحياز.
الفريق الذي يدعم فكرة التحيز الثقافي للغة العربية يرى أن قواعد اللغة وممارساتها تحمل إرثاً ذكورياً يمتد عبر الزمن، مثل تفضيل صيغة المذكر باعتباره "الأصل"، حيث تشير القاعدة النحوية "المذكر يغلب المؤنث" إلى نظرة مجتمعية تُشرعن هيمنة الذكور اجتماعياً وثقافياً. ويعتبر هذا الاتجاه أن المذكر هو الشامل لجميع الأشخاص، بينما المؤنث يقتصر على النساء فقط، وهو ما يراه البعض شكلًا من أشكال الإقصاء الرمزي. كما يبرز هذا الرأي أن استخدام صيغة المذكر في الخطاب العام مثل "أيها الناس" و"القارئ الكريم" يُغيب دور المرأة، ويعد ذلك مثالاً على العنف الرمزي الذي يسهم في تكريس تهميش المرأة على المستويين الاجتماعي والسياسي.
وفق المنطلق ذاته، يشير المؤيدون إلى أن اللغة العربية لم تنشأ بمعزل عن تأثيرات الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية التي غلبت عليها النزعة الذكورية عبر التاريخ، مما جعل الخطاب يميل إلى ما يُعرف بجندرة اللغة لصالح الرجل.
أما الاتجاه الذي يرفض وصف اللغة بالذكورية، فيرى أن الفروق بين التذكير والتأنيث في اللغة العربية تعود إلى قواعد نحوية بحتة ولا تحمل بالضرورة دلالات تحيز. وبحسب وجهة نظر هذا الاتجاه، فإن استخدام صيغة المذكر للعموم هو في جوهره مصطلح محايد يشمل الجنسين دون تمييز، بينما صيغة المؤنث ترتبط بالإناث فقط وتُستثنى منها الذكور. ويُبرّز المدافعون عن هذا الرأي الطبيعة الدقيقة للغة العربية التي تمنح مجالاً واسعاً لتخصيص صيغة خطاب واضحة للمؤنث مقارنة بلغات أخرى مثل الإنجليزية التي تفتقر إلى هذا التصنيف النحوي.
الدليل الذي يستند إليه هذا الفريق يتمثل في النصوص القرآنية التي تخاطب الرجال والنساء بوضوح وعدالة مثل "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ"، مما يُشير إلى أن اللغة نفسها تتسم بالمساواة، وأن الإشكالية ترتبط باستخدام البشر للغة وفق سياقات ثقافية وجندرية معينة وليس بالبنية اللغوية ذاتها.
يؤكد بعض الباحثين أهمية الفصل بين الجنس البيولوجي الذي تُشير إليه اللغة والجندر الثقافي أو الاجتماعي الذي يعكس تأثيرات الموروثات المجتمعية. ووفق ما يرونه، فإن الجوانب الجندرية في اللغات تتشكل بفعل هذه الموروثات وليس بناءً على القواعد النحوية المعتمدة. يتفق معظم الباحثين على وجود علاقة جدلية وثيقة بين اللغة والثقافة، حيث تعكس اللغة القيم الاجتماعية وتؤثر فيها بشكل متبادل. ومع ذلك، يبقى الخلاف حول ما إذا كانت قواعد اللغة العربية، مثل قاعدة تغليب المذكر، هي أصل المشكلة أم مجرد قاعدة نحوية في سياق أوسع. كما يُطرح تساؤل عمّا إذا كان التحيز، إن وجد، مستمدًا من بنية اللغة ذاتها أم من ممارسات خطابية شائعة بين المتحدثين.
تظهر اللغة كمرايا تعكس ثقافة ومناخ وبيئة واضعيها الأولين، ويُقال إن "اللغة ابنة بيئتها"، وهو طرح مقبول علميًا. لكن لفهم هذه الفرضية بمزيد من الإنصاف والموضوعية، يجب النظر إليها ضمن سياق تاريخي ولغوي مقارن أوسع.
على الصعيد الاجتماعي، نشأت اللغة العربية في بيئة جمعت بين الحضر والبدو، حيث كانت القبيلة الوحدة الأساسية للبقاء، وكان الرجل يؤدي دور المحارب والحامي. هذه الظروف أدت إلى ميلٍ ثقافي لتمجيد القوة والخشونة، وانعكس ذلك في أمثال شعبية قديمة تحمل أحيانًا نظرة دونية للمرأة، وفي مصطلحات تربط العار أو الضعف بالأنثى في سياقات تاريخية محددة. ومع ذلك، تظهر تناقضات ثقافية لافتة؛ فبعض المفاهيم الكبرى المؤنثة مثل الشمس والأرض والريح والنار والحرب والنفس كانت تحتل مكانة مهمة في التصور البدوي القديم.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن ملاحظة أن الشعر الجاهلي والمعلقات التي تُعد جزءًا من التراث العربي الذكوري بنيت غالباً على مواضيع تتغنى بالمرأة كملهمة ومركز أساسي للخيال الشعري. هذا يوضح أن فكرة "العورة" بمعناها المانع لم تكن سائدة بشكل مطلق في ذلك العصر.
لكن إذا افترضنا أن الطابع الذكوري للغة العربية نتج بشكل رئيسي عن بداوة المجتمع العربي القديم، فكيف نفسر وجود خصائص مشابهة في لغات شعوب أكثر مدنية أو فلسفية؟
على سبيل المثال: - اللغة اليونانية القديمة، وهي لسان للفلسفة والمدنية، عُرفت بتمييزها الصارخ ضد المرأة من الناحيتين اللغوية والقانونية. - اللغة الفرنسية، لغة التنوير، لاتزال تطبق قاعدة تغليب المذكر على المؤنث. - اللغة الإنجليزية استمرت لقرون باستخدام الضمير "He" للإشارة إلى الإنسان بصفته العامة.
هذا يشير إلى أن الأبوية لم تكن ظاهرة محصورة بالبداوة العربية، بل كانت مظهرًا عالميًا امتدت جذوره إلى مختلف الثقافات واللغات.
من الجانب الأكاديمي، هناك تمييز دقيق يجب ملاحظته: - اللغة كنظام (System): وهي القواعد والأدوات اللغوية نفسها التي تتمتع في اللغة العربية بمرونة عالية. - الخطاب (Discourse): وهو الأسلوب الذي يستخدم به الناس هذه اللغة.
قد لا تكمن المشكلة في اللغة بذاتها بقدر ما تكمن في العقلية التي توظف هذه اللغة. فاللغة العربية قادرة على التعبير عن أكثر الخطابات انفتاحًا ومساواة إذا تبناها عقل ينطلق من تلك القيم التحررية. لدي ملاحظة جوهرية تتعلق بالتحديات التي تواجه مجال "هندسة اللغة". التجربة السويدية تعد مثالًا واضحًا لما يُسمى بالتخطيط اللغوي بهدف تحقيق المساواة.
في السويد، لم يقتصر الأمر على توحيد أسماء المهن تحت مصطلح شامل مثل استخدام "Lärare" للإشارة إلى المعلم أو المعلمة، بل قاموا خلال عام 2015 بخطوة جريئة عندما أضافوا ضميرًا محايدًا رسميًا "Hen"، ليكون بديلًا عن الضميرين "Han" و"Hon" عند الحديث عن شخص غير معروف الجنس.
ولكن، لماذا تبدو هذه الفكرة أشبه بالتحدي أو حتى المستحيل في اللغة العربية؟ المعضلة لا تكمن فقط في "الوعي"، بل في البنية الأساسية للغة العربية: في لغات مثل السويدية أو الإنجليزية، الأفعال غالبًا لا تختلف باختلاف جنس الفاعل (He works / She works). بينما تتسم العربية بكونها لغة مشبعة بعلامات التمييز الجنسي، حيث يتغير فيها المبتدأ والخبر والفعل والصفة وحتى الضمائر المتصلة تبعًا للجنس. على سبيل المثال، لتحييد جملة مثل "المهندسة الماهرة كتبت تقريرها"، نحتاج إلى تعديل أربعة عناصر على الأقل. بالمقابل، في الإنجليزية يقتصر التغيير على الضمير. العربية تعتبر لغة "مجنسنة" بشكل كامل، حتى أن الجمادات تتموضع ضمن تصنيفات جنسية (مثل طاولة مؤنثة وكرسي مذكر). وهذا ما يجعل إدخال ضمير محايد في هذه اللغة يبدو كعنصر غريب من الصعب دمجه بسهولة مع أنظمتها الصرفية.
فهل يكمن الحل فقط في تغيير الوعي؟ لا شك أن تغيير الوعي يعد عنصرًا أساسيًا. ومع ذلك، بدأت تظهر محاولات لغوية في الخطاب العربي الحديث تسعى لعكس هذا الوعي دون كسر القواعد النحوية. بعض الأمثلة على ذلك: - استخدام الخطاب المزدوج مثل "زميلاتي وزملائي" عوضًا عن الاكتفاء بـ"زملائي". - الاعتماد على صيغ الجمع المحايدة مثل "الحضور الكرام" بدلًا من "أيها الحاضرون". - تعزيز تأنيث الألقاب المهنية بدلًا من إلغائها، مثل قول "مديرة، وزيرة، قاضية"، بهدف تعويد الأذن والوعي على وجود المرأة في تلك المناصب.
ما يلفت النظر في تحليل هذه المسألة أن كثيرًا من اللغويين المحدثين يدعون إلى فكرة "تذكير المهنة" كخطوة باتجاه تحقيق لغة محايدة في العربية، محاكاةً للتجربة السويدية أو الإنجليزية التي استبدلت فيها مصطلحات مثل "Actress" بـ"Actor" للإشارة إلى الجنسين. وأنا أؤيد هذه الفكرة.
في التراث اللغوي العربي، هناك بالفعل أسماء وصفات لا تتغير بتغير الجنس، وهي تسمى "ما يستوي فيه المذكر والمؤنث". تاريخياً، كان يُقال: "امرأة صبور" و"رجل صبور"، "امرأة قتيل" و"رجل قتيل". لذلك، فإن استخدام (وزير، مدير، نائب) للمرأة له أساس لغوي يمكن القياس عليه، حيث تُعتبر هذه الكلمات "أسماء مناصب" أو "رتباً" وليست صفات بيولوجية.
المزايا والعيوب لهذا النهج من منظور نسوي رأي المؤيدين يتمثل في أن استخدام مصطلح "سعادة الوزير ليلى" يمنح المنصب طابعاً محايداً بعيداً عن التمييز بين الجنسين، فضلاً عن تجنّب اقتصار المرأة على استخدام تاء التأنيث التي قد تحمل دلالات تاريخية تشير إلى التبعية أو الضعف في بعض السياقات.
من جهة أخرى، يرى المعارضون أن إسقاط التاء التأنيث يُعتبر محاولة تُشوه حضور المرأة عبر تحويلها إلى "ذكر شرفي". وهم يفضلون استخدام المصطلحات مثل "وزيرة" و"مديرة" للتأكيد على قدرة المرأة على تولي هذه المناصب مع الحفاظ على هويتها الأنثوية بدلاً من الاختفاء خلف صيغة المذكر.
المشكلة الحقيقية تظهر عندما نبدأ في بناء الجملة (التبعية النحوية). فمثلاً: • إذا قلنا: "الوزير ليلى حضر..." (هنا حدث كسر حاد في الوعي اللغوي العربي). • إذا قلنا: "الوزير ليلى حضرت..." (هنا استخدمنا اسماً مذكراً مع فعل مؤنث، وهو مخرج لغوي مقبول لكنه يظل يثير الجدل).
بدأت بعض المؤسسات والمنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة في نسختها العربية) تتبنى "الدليل اللغوي للمساواة بين الجنسين"، وهو يميل غالباً إلى: • التأنيث الصريح: (مديرة، رئيسة، منسقة) لضمان عدم غياب المرأة عن المشهد البصري والسمعي. • تجنب ضمائر المذكر للعموم: واستبدالها بصيغ المصادر (مثلاً: "عند التسجيل" بدلاً من "عندما يسجل المستخدم").
إن اللغة العربية تمتلك "مرونة كامنة" تسمح بهذا التحييد (مثل وزير ونائب) دون الحاجة لثورة جذرية في القواعد، بل فقط من خلال تغيير وعي المتحدثين بكيفية استخدام هذه الكلمات. هل تظنين أن إطلاق لقب "وزير" أو "نائب" على المرأة قد يقلل من شأن أنوثتها، أم أنه يرفع من شأن كفاءتها المهنية كمساوية للرجل؟ هذه النظرة تسلط الضوء على مفهوم "عالمية المهنة" بدلاً من التركيز على جنس ممارسها، حيث يتم استخدام الألقاب المهنية مثل وزير، نائب، مهندس كصفات مجردة تعكس الكفاءة والاستحقاق كمعايير أساسية، وهي قيم تتجاوز حدود الجنس. يعود هذا النهج بفوائد فكرية تتمثل في كسر القوالب النمطية التي ربطت بشكل تقليدي بين المهن وتاء التأنيث، مما يجعل تمثيل المرأة في المناصب القيادية أمراً مألوفاً وطبيعياً بدلاً من أن يُنظر إليه كاستثناء يستدعي علامة لغوية للتفريق.
إن المساواة التامة في المسميات الوظيفية تساهم بشكل غير مباشر في ترسيخ فكرة متساوية بشأن الحقوق والواجبات والسلطة المرتبطة بهذه المسميات داخل الإدراك الجمعي للمجتمع، فتغدو مفاهيم العدالة المهنيّة أكثر وضوحاً واستقراراً. علاوة على ذلك، يفضي التركيز ضمن البيئات المهنية على "الدور" إلى منح هذا الدور ثقلاً أكبر بعيداً عن أي سياقات اجتماعية تقليدية. وهنا تبرز أهمية استخدام صياغة موحدة تُظهر جدية العمل المطلوب، دون النظر إلى أي اعتبارات جنسانية أو تصنيفات موروثة.
ومع كل تلك الجهود المبذولة لتطوير اللغة والمفهوم داخل السياق المهني، تبقى المعركة الكبرى محورها تغيير الوعي الجمعي ذاته، إذ أن مجرد التغيير اللغوي دون إحداث تحول حقيقي في القناعات الاجتماعية لن يحقق التأثير المأمول. عندما يواكب هذا التغيير اللغوي الإصلاحات القانونية والاجتماعية إلى جانب التحفيز الفكري المستمر، تصبح اللغة أداة قوية وفعالة في إرساء ممارسات وقيم جديدة تعزز العدالة والمساواة.
أما الأسلوب الذي يعتمده موقع الحوار المتمدن وغيره من المنصات العلمانية والتقدمية من خلال استخدام صياغات مثل الكاتب/ة أو القارئ/ة، يمثّل مرحلة انتقالية تسعى تدريجياً إلى حل إحدى الأزمات القديمة المرتبطة بتقسيم الأدوار بناءً على الجنس. ورغم أن هذا النهج ليس موجهاً لخدمة الجانب الجمالي للغة، إلا أنه يُنظر له كعمل سياسي واجتماعي يهدف إلى إبراز حضور المرأة عبر النصوص المكتوبة (من خلال التاء المربوطة) وإشعار القارئ بوجودها بوضوح. وبالرغم من أن هذا الأسلوب قد يؤدي إلى قراءة غير سلسة أحياناً نتيجة لتقطيع النصوص وتكريس ثنائية الذكر/الأنثى، إلا أنه يثير التساؤل حول إمكانية تجاوزه لاحقاً للوصول إلى تركيز أكبر على المفهوم الأشمل للإنسان أو المهنة بعيداً عن تلك الثنائيات التقليدية. استخدام ألفاظ "الكاتب، المهندس، الطبيب، المستشار..." كصيغة محايدة تشمل الجنسين يحمل في طياته عودة إلى أصل اللغة وجوهرها الذي يبقى خالياً من التصنيفات الجندرية، وذلك قبل أن يتم تحميلها تأويلات ذكورية أو إقصائية لاحقاً. إذا تأملنا هذا المفهوم لغوياً، نجد أن "الكاتب" صيغة اسم فاعل مشتقة من الفعل "كتب"، والفعل بذاته لا يحمل جنسية أو تصنيفاً جندرياً في معناه المجرد. من هنا، يصح اعتبار صيغة "الكاتب" مثالاً متقدماً ورصيناً من الناحية اللغوية، حيث يتسم بنقاوة ودقة أكبر ويضفي سلاسة على التعبير. ويمكننا أن نرى هذا التوجه بوضوح في استخدام مفردات مهن أخرى مثل "وزير" أو "مهندس"، إذ تتبنى نفس المنطق باعتبار المهنة مجالاً مشتركاً وغير مقسم.
إذا تعمقنا أكثر في هذا النقاش، نلاحظ أن الجدل هنا يرتكز على إطارين فكريين داخل الاتجاه النسوي اللغوي: الإطار الأول، وهو ما يُعرف بمدرسة الإثبات أو الظهور (Visibility)، ينطلق من وجهة نظر ترى أن لغة العرب تقليدياً قد همشت حضور المرأة، مما يتطلب تدخلاً مباشراً يتمثل بإضافة التاء المربوطة إلى الكلمة (كأن تُصبح الكاتب/ة) كوسيلة لإبراز وجود المرأة وإذكاء وعي المجتمع بأهميتها. أما الإطار الثاني، الذي أميل إليه كثيراً، فهو مدرسة الدمج والحيادية (Inclusion)، التي تؤمن بأن المبالغة في استخدام الشرطات والتاء المربوطة قد تُحدث عزلة لغوية أكبر للمرأة، وأن الحل الأمثل يكمن في التمسك بالكلمات الأصلية مثل الكاتب والقارئ والمدير، والتعامل معها باعتبارها ألفاظاً إنسانية عامة وشاملة، دون الحاجة إلى تخصيص تفصيلي.
العربية تمتلك إمكانيات كبيرة لتطوير خطاباتها نحو لغة حيادية وشمولية إذا ما سعينا لتغيير كيفية التعامل مع المناصب والمسميات المهنية في المجالات الرسمية وغير الرسمية. بدل أن نقول مثلاً: "على كل طالب وطالبة إحضار كتبهم وكتبهن"، يمكننا اعتماد صيغة مبسطة وشاملة مثل: "على الطلاب إحضار كتبهم"، حيث تصبح صيغة الجمع المذكر هي الصيغة العامة التي تتسع للجنسين دون تمييز. ومع ذلك، حتى يتم تقبل هذا النهج دون سوء فهم أو شعور بالإقصاء، يجب أن يصحبه توافق مجتمعي واضح يقوم على وعي مشترك بمفهوم الصيغة العامة للمذكر باعتبارها أداة لغوية شاملة للبشرية جمعاء، وليست حكراً على جنس معين.
إن استخدام صيغة مثل الكاتب/ة يثير لدي شخصياً شعوراً بالمبالغة وقد يترك أثراً يشوه جمالية اللغة ويثقل بنيتها، مما يخلق حاجة ملحة لإعادة النظر في أسلوب تعاملنا مع اللغة بطريقة توازن بين الأصالة والحداثة بما يخدم الجميع. استخدام الرموز مثل الكاتب/ة أو المحرر/ة، رغم أن الدافع من وراءها هو تحقيق العدل والمساواة، يلقى العديد من الانتقادات باعتباره تشويهاً بصرياً ولغوياً للنصوص العربية. فاللغة العربية تتميز بأنها قائمة على الجماليات والسلاسة السماعية في المقام الأول. إدخال رموز مثل الشرطات والتاءات المعلقة يقاطع انسيابية النص ويؤثر على تجربة القراءة، فيحول النصوص، بدلاً من أن تكون أدبية أو فكرية مفعمة بالحيوية، إلى أشكال أقرب للنصوص الإدارية الجافة التي تفتقر للحيوية والجمال.
بدلاً من تعزيز فكرة الإنسان الشامل الذي يجمع بين المرأة والرجل ككيان واحد في صيغة الكاتب أو المفكر، فإن استخدام هذه الصيغ (كاتب/ة) يعمّق الفصل بينهما على مستوى اللاوعي. يوحي ذلك بأن الأصل هو المذكر، بينما يأتي المؤنث كإضافة لاحقة مرتبطة بشرطة مائلة، مما قد يُكرس بعض القوالب النمطية.
الحل الأرقى يتمثل في تبني لغة الحياد من خلال الاعتماد على الصيغ المجردة كـ "الكاتب"، "القارئ"، و"المفكر"، باعتبارها عناوين إنسانية عامة تخاطب الجميع. هذا النهج لا يكتفي باحترام عقل المتلقي الذي يدرك شمول الخطاب بطبيعته للبشر كافة، بل يعيد كذلك للغة هيبتها بوصفها لغة تحمل مفاهيم مجردة تتجاوز التصنيفات البيولوجية الضيقة. كما يسهم في تحقيق المساواة الحقيقية من خلال إعلاء قيمة الفعل والأفكار المكتوبة بعيداً عن جنس الكاتب.
التغيير يبدأ من "التعريف" لا من "التقسيم" الحل الجذري هو تغيير الوعي. عندما نرسخ في التعليم والثقافة أن كلمة "الإنسان" أو "الكاتب" هي وعاء يشمل الجميع بالتساوي، لن نحتاج لهذه الزوائد اللغوية التي تشوه جمال الخط العربي وتثقله بما لا يفيده. هنا نصل إلى نقطة جوهرية؛ وهي أن الإنصاف لا يعني التفكيك، بل يعني الاستيعاب والشمول في مسميات ترفع من شأن الإنسان بصفته كائناً فاعلاً، بغض النظر عن جنسه.
مثال: "إن تعزيز حضور الإنسان في الخطاب العام يبدأ من تحرير اللغة من قيود التصنيف البيولوجي الضيق. في هذا الفضاء، نحن لا نخاطب ذكوراً أو إناثاً بصفتهم الجندرية، بل نخاطب الكاتب، القارئ، والمفكر؛ تلك الألقاب التي تمثل رتباً معرفية سامية تتجاوز الفوارق وتكرس مبدأ المساواة المطلقة. وعليه، فإننا نعتمد في خطابنا القواعد التالية: •الكاتب: هو كل من يمارس فعل الكتابة بوعي وإبداع، دون الحاجة لإضافة علامات تمييز بصرية تقطع حبل الأفكار. •القارئ: هو المحرك الأساسي للفعل الثقافي، والخطاب الموجه إليه هو خطاب موجه للعقل البشري الشامل. •الزميل: هو الشريك في المسيرة المهنية، حيث تجمعنا وحدة الهدف وكفاءة الأداء. إن لغة الحياد ليست تنازلاً عن الهوية، بل هي ارتقاء بها نحو المواطنة اللغوية الكاملة. فعندما يسمى الوزير ليلى، أو المهندس سارة، فإننا نرسخ في الوجدان أن الكفاءة هي المعيار الأوحد، وأن اللغة العربية قادرة على استيعاب الجميع في قالب من الرقي والانسيابية، بعيداً عن التشويه الرمزي أو الإقصاء التاريخي."
مالمو 2025-12-18
#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)
Hamid_Koorachi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قسمة
-
دفاعاً عن ماركس في وجه العقاد
-
معارض الكتاب بين القيمة الاقتصادية والتأثير الاجتماعي
-
أنشودة السرو المتصاعد
-
الحزب الشيوعي العراقي والافراط في الوطنية
-
ترامب والتناقضات الهيكلية في الديمقراطية الليبرالية الغربية
-
-التفوق الزائف-: كيف يفرّغ العنصريون إحباطهم العالمي في حقد
...
-
وهم الحضارات الكبرى: تفكيك الأسس الدينية والثقافية للتمايز ف
...
-
ترامب يفقد السيطرة: هل هذه بداية النهاية؟
-
الفردوسي ودوره المحوري في سياق التاريخ الثقافي الإيراني
-
الترجمة الأيديولوجية: بين أفيون -الشعب- و -الشعوب-
-
التباين الجمالي بين الشعر العاطفي والسياسي
-
فجر الاعترافات
-
التأطير الأحادي للإبداع -2
-
التأطير الأحادي للإبداع -1
-
الأزمة الهيكلية في بلدان الشرق الأوسط
-
الترجمة العربية: تحريفات لأسباب إيديولوجية
-
أسباب ضعف السلع الاستهلاكية في الاتحاد السوفيتي
-
الأهمية المستمرة لكتاب -رأس المال- في عصر الرقمنة
-
الشوفينية الفارسية أمام تحديات العقلانية والأممية
المزيد.....
-
ترامب: نتنياهو قد يزورني في مارالاغو.. والسيسي -صديقي- مرحب
...
-
ماذا قالت أمريكا عن موافقة إسرائيل على صفقة الغاز لمصر؟
-
ليلة مجنونة في لوسيل.. المغرب يخطف كأس العرب من الأردن في نه
...
-
الولايات المتحدة تفرض عقوبات على قاضيين إضافيين في الجنائية
...
-
عشاء خاص ووثائق سفر..الديمقراطيون ينشرون مواد جديدة من أرشيف
...
-
تأجيل توقيع الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وميركوسور إلى شهر ي
...
-
قمة بروكسل: امتحان صعب للقارة العجوز؟
-
المايسترو التونسي محمد الأسود ضيف الساعة المغاربية على فرانس
...
-
البرازيل والمكسيك تقترحان التوسط لحل دبلوماسي للأزمة بين أم
...
-
الداخلية السعودية تعلن تنفيذ حكم القتل لمدان يمني بجرائم إره
...
المزيد.....
-
علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة
/ منذر خدام
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية
/ د. خالد زغريت
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|