|
|
الخلاص عبر الشعر.. قراءة في -صخب المرآة- ديوان الشاعرة فائدة آل ياسين
فاروق سلوم
الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 00:11
المحور:
الادب والفن
"لا أكتبُ لأُدهش بل لأنجو- الديوان" تمثل الشاعرة فائدة آل ياسين تراكما شعريا لعقود من المُجايلة والعيش والشهادة الحية ،فقد اجتمعت لديها جدليات الوعي الشعري بين القدامة والحداثة منذ السبعينات وهي الفترة التي ظهرت فيها نصوص الشاعرة المبكرة المكثفة الخاصة بلغتها وموضوعاتها وانتقائيتها في تلك الفترة المهمة من العمر. "صدقني .. صدقني ، ان الصوت يصارح حنجرتي ، لابد لها ان تطلق تهويمتها، فتباغتها نيران الحرف على الكلمات ، تفتح ابواب الماضي والآتي،لصدى المديات – من قصيدة منقار الصرخة" واذ تمثل تجربتها الشعرية تحديا معرفيا مبكرا، فقد اشتغلت طويلا على تجربتها ،حضورا وغيابا لفترات ، لتنحت اسلوبها وشعريتها وافقها المفتوح على التنوع الحروفي في نصوصها التي تميزت بالكثافة المقتصدة والأيقاع والتدفق .. لقد عبرت تجربتها الشعرية كما يمثل ديوانها " صخب المرآة" الصادر عن دائرة الشؤون الثقافية عن النماذج الشعرية التي اثمرها الجدل الشعري العراقي بأجياله ، حيث تَمثل في أبهى حالاته الثقافية في عقود الكد الثقافي بين حداثة الشعر وارثه الكلاسيكي وهي تختار صوتها. واقول هنا ان الذات العراقية مجبولة على التغييراذ تنشأ تلك الذات ثقافيا واجتماعيا على الصرامة الكلاسيكية في التربية والكتابة والثقافة وعلى ضرورة استيعاب كل تقليد حي اقره المجتمع لأجيال متعاقبة لذلك تنشأ الذات هنا على شغف الخصوصية والتغيير مع رؤية الخروج الواعي على القائم من الأشكال والأتجاه مع العصر نحوالتجديد ، ليس من اجل كسر القواعد الصارمة بل لكي يتمثلها في ابهى الأشكال المتجددة التي تمثل تعاقب الأزمان والأجيال وتنوع اشكال الكتابة حتى في تنويعاتها الغرائبية .. وذلك ماحصل في تجربة الشاعرة الشعرية – الثقافية عبر الديوان . "ابحث عني ،بين دفاترك المنسية، في قاع يديكَ المتصحرة العطشى اِبحث عن عين فيَّ أئتلقت يوماً،فأثارت في جوف الأرض غباراً عن قلبٍ، يلهث منزوياً بين شرايين ٍ تحترف الموت لتظلَّلَ ، حفنة َأحياء ترقد في وطن ٍظلَّ يصارعُ لونَ الدم بين سواق ٍ زرقاء ٍ من غيم، ابحث عني فوق ضفاف الجُرح الغائربين حنايا ذاكرتي الحرى المرتبكة سوف تلاقي سوسنة برية قُطفت في يوم التتويج لتمارس زرعَ الألغام لم تبق ِ جسورا ً للنجوى ما بين َ عيونك َوالدمعْ ومضتنا أختنقتْ وتلاشت في عمق الصدقْ ها قد عثر الخوف ُ عَلىّ ْوأنا أقبع في جوف الظلْ – قصيدة إمرأة الظل" ان تجربة الشاعرة فائدة آل ياسين واحدة من التجارب النسوية العربية التي راكمت صوتها بهدوء، واشتغلت على بناء عالم شعري متماسك، ينفتح على الذاتي والإنساني، ويقيم حواراً دائماً مع اللغة والذاكرة والواقع. إن ديوانها هنا يمثل امتداداً عضوياً لهذه التجربة، ويكشف عن وعي شعري ناضج يتجاوز اللحظة إلى الرؤية: "من يفتح شباك الورقة،ليرى اسرار مدينتنا الموبوءة بالحب ، من يقتلع الخوف المحشور، مابين الزهرة والآس،والقداح المحجور.. خلفَ التنور!! او: صوتٌ مبحوح يتدلى من جوف الحرف ،يطعن خاصرتي،لااعرف من اين اتى،الا من اوتار السمفونيات الملغاة،فلأن الورق المصفر المتهاوي في حجري اوصاني بالصمت وكتم الأسرار وانا لااتقن كم الأفواه.. الا شفتي!- من قصيدة اسرار مدينتنا" ان تجربة الشاعرة ال ياسين تمثل اعلانا عن الحقائق في عمارة من مجاز فني من مفردات يومية بسيطة لكنها تضم كل اطلاق حي للمعاني الموجزة الصادمة . ان ذلك التدفق التجديدي الحي الذي اشتغلت عليه هو من اجل بلوغ الشكل الفني التي تتمناه للقصيدة الشعرية الحديثة . بأعتبارها واحدة من الأصوات الشعرية العربية التي تشكل وعيها الإبداعي منذ سبعينات القرن الماضي، في سياق ثقافي وسياسي واجتماعي بالغ الاضطراب. وقد أسهم هذا الامتداد الزمني الطويل في صقل تجربتها الشعرية، ومنحها عمقاً معرفياً وجمالياً واضحاً، انعكس في نصوصها النادرة وقد ضم ديوانها «صخب المرآة» اثنين واربعين قصيدة من التنوع في الرؤية والأختيار بالشكل الذي يُعدّ محطة ناضجة في مسيرتها الشعرية. ان الديوان لا يقدم نصوصاً شعرية معزولة، بل يقترح رؤية شعرية متكاملة، تتقاطع فيها الذات بالزمن، والأنثوي بالإنساني، واليومي بالوجودي "الحزن يدحرجني فوق السنوات المقهورة ،ويطارد اجنحة الروح،جسد يتضور مهزوما من ذاكرة تتخبط عمياء ، تبحث عن اهات مسروقة- من قصيدة غرية" انها قصائد مثل منفستواحتجاج مكثف ودعوة للحياة والحرية عبر نصوص قصيرة اقتصادية تشتغل على التفعيلة دون اكتراث بالقافية حتى ان القافية التي تأتي مصادفة في سياق انثيال التعبيرية نادرا ماتجد اشباهها لأن الشاعرة مشغولة بأهداف النص الكبرى وليس بغنائيته . تقوم قصائد الديوان على حساسية لغوية عالية، تتكئ على اقتصاد في العبارة، وتكثيف دلالي يجعل الصورة الشعرية حاملة لأكثر من مستوى من المعنى. فائدة آل ياسين لا تُغرق قصيدتها في الزخرفة، بل تميل إلى صفاء التعبير، حيث تتقدم الفكرة الشعورية عبر صورة مشهدية أو ومضة داخلية، غالباً ما تنبع من التجربة الأنثوية بوصفها تجربة وجودية لا مجرد توصيف اجتماعي. ان الجمالية الشعرية تتجلى في قدرتها على تحويل التفاصيل اليومية إلى علامات رمزية: المرآة، الصمت، الجسد، الذاكرة، الزمن اللوحة الصوت الصمت السمفونية وغيرها. هذه المفردات لا تحضر بوصفها أشياء، بل بوصفها حالات نفسية وفلسفية، تُعيد الشاعرة شحنها بطاقة دلالية جديدة، تجعل القارئ شريكاً في إنتاج المعنى. المرآة مثلاً ليست أداة انعكاس، بل فضاء للمساءلة، وانقسام الذات، ورغبتها في التعرف إلى نفسها وسط عالم متغير..مضطرب. ." انا من علمت وجه الغيم، كيف يهمي الدمع من عين المطر،فوق صوت البحراو وجه القمر ،اغسل الأعوام – من نص انا والقدر" تعتمد الشاعرة في الديوان على قصيدة التفعيلة وقصيدة النثرمعا في ثنائية تنقل للقاريء تنوع التدفق الشعري مرة عبر موسيقى التفعيلة المجزوأة ومرة عبر الموسيقى الداخلية للنص النثري ، دون أن تقع في التشتت الإيقاعي. فالإيقاع الداخلي حاضر بقوة، من خلال التكرار، والتوازي التركيبي، والتنغيم الدلالي. اللغة شفافة لكنها مشحونة، توازن بين البساطة والعمق، وتبتعد عن الخطابية المباشرة، حتى في القصائد التي تحمل موقفاً واضحاً من القهر أو الاغتراب. و يُلاحظ ميل الشاعرة إلى الجملة القصيرة - المتوسطة، ما يمنح النص توتراً داخلياً، ويعكس حالة القلق الوجودي التي تهيمن على كثير من القصائد. هذا الاختيار الأسلوبي يتناغم مع رؤية الشاعرة للعالم بوصفه متكسراً، غير مكتمل، يحتاج إلى إعادة تركيب عبر الشعر. تُحسب لفائدة آل ياسين قدرتها على الحفاظ على صوتها الخاص عبر الزمن، دون الوقوع في التكرار أو الاستنساخ. فالديوان يعكس تجربة متراكمة، لكنها لا تزال منفتحة على التجريب، سواء على مستوى الصورة أو البنية أو الرؤية. إن حضور الذات الأنثوية هنا ليس شعاراً، بل هو بنية عميقة للنص، تتجلى في الحساسية، وفي طريقة النظر إلى العالم من زاوية الهشاشة والقوة معاً " كان مستلقياً وما بين كفيه أحلى فراشة تحاولُ من اسرهِ الانطلاق وظلت تصارعُ قبضتهُ وظلَّ يصارع لونَ البهاء على شفتيها وفي المقلتين"..... ان قيمة الديوان تكمن أيضاً في صدقه الفني؛ إذ لا تكتب الشاعرة لإبهار لغوي أو لإرضاء ذائقة سائدة، بل تكتب انطلاقاً من ضرورة داخلية. وهذا ما يمنح النصوص طاقة تأثيرية عالية، وقدرة على البقاء في ذاكرة القارئ برغم التشابه في الجو النفسي احيانا او الأيغال في الرمزية الى درجة حجب المعنى او ابعادها الا ان الديوان يمنحنا تجربة امرأة تواجه العالم الصعب بأدواتها البسيطة الكلمة والنص بثراء سرديتها وانزياحاتها اللغوية وموسيقاه الداخلي . "في باحة بيتي شجرة، تكبرني سبع سنين ،هذا ماقالته امي لي ، وانا ادنو نحو العشرين،والحزن يلامس جبهتها،والألم الأخرسيعتصر الشفتين، لاتدنو منه ياولدي،فزوايا العمر مثقلة بأنين وهواجس بلهاء، اركض، والعب، اجمع كل الأصحاب" يمثل ديوان فائدة آل ياسين إضافة نوعية الى مسيرتها الشعرية، كما يؤكد حضورها كصوت شعري نسوي واعٍ، يمتلك أدواته الجمالية، ويعرف كيف يُصغي إلى تحولات الذات والعالم. إنه ديوان يراهن على العمق لا الكثرة، وعلى الرؤية لا الزينة، ويستحق كل قراءة نقدية متأنية تضعه في سياقه التاريخي والثقافي والفني، بوصفه ثمرة تجربة بدأت وما زالت قادرة على الإضاءة والدهشة.
#فاروق_سلوم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدكتور علي كمال : طبيب النفس العربي العراقي الذي اعتبر القل
...
-
تداعيات 1
-
لبغداد
-
كلاسيك
-
يوميات الشاعر
-
إمرأة
-
مقاطع طارئة
-
يومياتنا
-
ركام الزمان
-
يوميات الرحيل
-
نصوص ليومياتنا
-
علي الوردي والفنانة فيفي عبدة في مئوية الدولة العراقية 1921
...
-
عماء اسود
-
اصابع السومرية
-
وجهان يرسمان الهواء
-
نصوص النهار
-
نصوص 6
-
نصوص 5
-
كلمات أقــل
-
نصوص 4
المزيد.....
-
وفاة الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري عن عمر يناهز 72 عاما
...
-
رحيل محمد بكري.. سينمائي حمل فلسطين إلى الشاشة وواجه الملاحق
...
-
اللغة البرتغالية.. أداة لتنظيم الأداء الكروي في كأس أمم أفري
...
-
بعد توقف قلبه أكثر من مرة.. وفاة الفنان المصري طارق الأمير ع
...
-
نجوم يدعمون الممثل الأميركي تايلور تشيس بعد انتشار مقاطع فيد
...
-
إقبال متزايد على تعلم اللغة التركية بموريتانيا يعكس متانة ال
...
-
غزة غراد للجزيرة الوثائقية يفوز بجائزة أفضل فيلم حقوقي
-
ترميم أقدم مركب في تاريخ البشرية أمام جمهور المتحف المصري ال
...
-
بمشاركة 57 دولة.. بغداد تحتضن مؤتمر وزراء الثقافة في العالم
...
-
الموت يغيب الفنان المصري طارق الأمير
المزيد.....
-
دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس
/ السيد حافظ
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
المزيد.....
|