أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - علي سيريني - القمصان الخمسة التي ألبسها الله ليوسف فتنةً وإمتحانا: تأملات في سورة يوسف















المزيد.....

القمصان الخمسة التي ألبسها الله ليوسف فتنةً وإمتحانا: تأملات في سورة يوسف


علي سيريني

الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 12:59
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


كل الأنبياء أمتحنوا إمتحانات شديدة وعسيرة تفوق طاقة الإنسان العادي، إلا ما رحم ربك، لأنها من النوع الذي يذيب الإنسان ويقضي عليه هما وكمدا وحزنا. ومن هؤلاء الأنبياء، نجد يوسف قد خاض مخاضا عسيرا ومصائب متعاقبة، ذات دهرٍ وذات هم مُذيب. وحين نتأمل في سورة يوسف، نجد أن الله سبحانه وتعالى ألبس يوسف خمسة قمصان منذ صغره وحتى مماته، كل قميص منها يحمل فتنة وألما وكبدا عظيما. أول هذه القمصان هو قميص اليـُـتم، فقد ماتت أم يوسف، راحيل بنت لابان، ويوسف طفلٌ صغير وليس له من أمه سوى بنيامين، أخوه الرضيع، أثناء وفاتها. وكان يوسف أصغر من إخوانه كلهم، ماعدا بنيامين، وكلهم من أم أخرى. وبدل أن ينال يوسف الشفقة والرحمة من إخوانه بسبب وفاة أمه، أصبح معرضا لبغضهم وحسدهم وحقدهم عليه. لذلك، فحتى قميص اليُـتم لم يدع يوسف فقط رهن حزنه ومصابه بأمه التي رحلت عنه، بل أوداه إلى بئر مظلم موحش لم يكن ليوسف فيه ملاذ سوى الحزن والدمع وألم الفراق. وهذا هو القميص الأول، الذي أخذه منه إخوانه ومزقوه كذباً ولطخوه في دم الشاة، وأعادوه إلى أبيهم يعقوب الذي أرداه حزينا باكيا لمدة أربعين عاماً، حزنا وأسفا على يوسف حتى ابيضت عيناه وأصبح ضريرا.
وفي البئر حيث يوسف أصبح أسير دموعه وحزنه على فراق أبيه وأهله، أمسى لا يجمعه بيعقوب أبيه، سوى الحزن والبكاء والإفتراق والإحتراق. لكن يوسف لم يقل: يا ربي فوق ما أنزلت علي كارثة موت والدتي، أصبتني بهذه المصيبة الكبيرة وأنا طفل صغير. بل صبر كما صبر أبوه مستعينين بالله العلي العظيم. ثم مرت القافلة بالبئر، و وجدوا يوسف كبضاعة زهيدة فألبسوه قميص العبودية، وباعوه بثمن بخس وكأنه عالة عليهم فتخلصوا منه بثمن قليل اعتبروه مغنماً أفضل من الإحتفاظ بهذا الغلام. وللقارئ أن يتخيل، كيف لإنسان حر في كنف عائلته،ً يرميه إخوته حقدا وبغضاً في بئر مظلم، ليتلتقطه أناس غرباء يبيعونه عبدا لا يملك من أمره شيئا. وهذا هو القميص الثاني الملئ بالحزن والإنكسار والتقهقر، تاركاً يوسف أسير حزنه ودموعه وأسير أناس غرباء لا يعرفهم، يعاملونه كعبدٍ ليس له سوى طاعة سيده.
وفي العبودية، ويوسف شاب يافع مفعم بالقوة والنشاط وهو في مقتبل عمره، فضلا عن وسامته التي جلبت إليه أنظار النساء، قامت سيدته زليخا بغلقه خلف أبواب قصرها تهدده وتأمره بأن يرضخ لنزوتها وهي متزينة له بأغرى أشكال الجذب الجنسي. وإذ كان يوسف في قميص العبودية، فكان الأمر أكثر إلحاحا على يوسف أن يرضخ لمطلب سيدته لكونه عبداً مأمورا، ولينفـّس عن قهره وحرمانه وحزنه الذي رافقه منذ طفولته. لكن يوسف وهو في هذه الحال، والإمتحان أصعب مما سبق من الإمتحانات والمخاضات العسيرة التي مر بها، اختار ما هو أمرّ وأدهى. والسبب وراء ذلك، أن يوسف في الإمتحانات السابقة لم يكن يملك من أمره شيئا وهو كاره لما يحدث له، ولم يكن هناك ما يشجعه على التجاوب مع ما حدث له. ولكن في إمتحان زليخا، فقد كانت الظروف مؤاتية تماما ليرضخ يوسف لمطلب زليخا، لأنه في ظاهر الأمر يبدو الأمر فرصة في متناول اليد، للوصول إلى الشهوة واللذة والعطاء، ونيل الحظوة من إمرأة جميلة ذلت سطوة وجاه ومال ونفوذ. لكن يوسف هرب من هذه الفرصة وزهّد فيها أكثر من زهد السيارة فيه هو، لما باعوه بثمن بخس، مع فارق أن أصحاب السيارة نالوا قليلا ببيعهم يوسف بدراهم قليلة، ولم ينل يوسف من هروبه من زليخا سوى محنة عظيمة وكارثة جمة وحزن أعمق مما كان فيه. وقوع يوسف في الكارثة الجديدة والحزن الأعمق كان بإختياره في تحد صعب ومهلك للغاية. فلو كان يوسف يرضخ لزليخا، فإن أحد الدوافع الكبيرة لذلك هو أنه كان من الممكن أن يتخلص من العبودية، وينال حريته مع الحصول على إمتيازات لم يكن شباب عصره حتى يحلمون بها. وقميص العبودية ومحنه وعذاباته هو القميص الثالث الذي لم يترك يوسف إلا ليلبسه قميصا أكثر شدة وإيلاماً، مع وقوع يوسف تحت ضغط لا يطاق، وهو قميص ضغط الفضيحة التي ألصقت به وهي مد يد الإعتداء الجنسي على إمرأة آوته وأكرمته وأطعمته. فقد مزّقت زليخا قميص يوسف، في ذروة شراهتها وإلحاحها الشهواني، وهي تركض خلفه تجرّه إليه. فكما نسب إخوة يوسف كذبا تمزيق قميص يوسف إلى الذئب، عن قصد وإصرار، نسبت زليخا كذباً وزوراً تمزيق قميص يوسف إليه نفسه، مدّعية أنه حاول إغتصابها والإعتداء عليها. وكما أودى تمزيق قميص اليـُـتم في يوسف إلى قميص أشد ألماً، وهو قميص العبودية، فإن تمزيق قميص العبودية في يوسف أودى به إلى قميص جديد وهو قميص السجن الأكثر إيلاماً وحزناً وشدةً على هذا النبي الشاب الذي كان أوسم أهل زمانه، لأنه أتهم بالخيانة.
القميص الرابع وهو قميص السجن مع المجرمين والمنبوذين، دفع بيوسف إلى أتون ومغاور سجن مظلم، يلوك فيه حزنه ودمعه وغربته وإنكساره، كأن يوسف خُلق ليكون طول الدهر حزينا باكيا مهموما. وفي السجن، صبر يوسف وتحمل كل عذاباته ومشقاته الجسدية والنفسية، ومنها أذى المجرمين فيه ضده. وحين فسر يوسف الحلم لذلك الرجل الذي أصبح خادماً في قصر الملك، طلب يوسف من الرجل أن يذكره عند الملك أنه برئ مما أتهم به، فنسي الرجل ذلك متماهيا مع لذة وفرح ما حازه من مكانة وإمتياز، فظل يوسف في السجن دهراً بتهمة محاولة إغتصاب سيدته التي أكرمته و أعالته. وهكذا كلّما لبس يوسف قميصا من المحنة والألم والعذاب، لم يخلعه، حتى لبس قميصا أكثر محنة وألماً وعذابا. لكن صبر وتحمل يوسف محنة وعذاب ومشقة هذه القمصان الأربعة، ولسنين طويلة تمتد لأكثر من ربع قرن، فكان لا بدّ من أن ينال ثمرة صبره وعذابه بقميص العافية. فجاء الوقت الذي فيه بدل الله سبحانه قميص البؤس والحزن والأسى بقميص العافية والنجاة والنصر، جزاء للصبر والشكر الدائمين من يوسف و يعقوب معا.
وحين خرج يوسف من السجن، بعد أن رأى الملك الحلم المشهور، هيأ الله له الأسباب ليكون المفسر الوحيد للحلم بعد أن عجز الكهنة والعرّافون جميعاً عن تقديم تفسير معقول له، فقام الملك يقلّد يوسف قميص الوزارة، بعد أن تم تبرأته من التهمة التي بسببها دخل السجن. وهذا هو القميص الخامس، وهو قميص كان يحمل الإمتحان والمشقة والعذاب، بقدر حمله العافية والنعمة. فقد واجه يوسف الشدائد والمحن والظلم والأحقاد والضغينة من الفاسدين الذين حاربوه وناوؤه، واتخذوا كل سبيل لمحاربته والتخلص منه وتصفيته بكل مكر و شر. أي أن يوسف لم يذق طعم العافية والراحة في حياته، لأنه وجد دائما من يتربص به ويبغضه ويريد أن ينال منه. لكن يوسف قاوم الظلم بالعدل، وناوأ الحقد والضغينة بحب الله وحب الناس، وحارب الشر بالخير. فلم يبطر يوسف ولم يركض وراء إمتيازات الدنيا، فظل العابد الناسك الزاهد في الدنيا، يقيم العدل والرخاء. وظلت الوزارة أعباءا ومشقة عليه، لم يتخذها مغنما ومنحة وعافية يستغرق في ملذاتها، بل وسيلة لخدمة الناس وخصوصا الفقراء. وجزاء لصبره وشكره وخيره، حاباه الله سبحانه بأن لا يكون هو من يذهب في البحث وراء أهله، بل أتى الله بهم جميعا إليه وهو يعفو عن إخوته الذين فعلوا به ما فعلوا. وقميص اليـُـتم الذي أدى إلى فقدان بصر يعقوب حزنا وبكاءا على يوسف، فقد أبدله الله بقميص الوزارة الذي بعثه هدية إلى والده فرد البصر إلى يعقوب وشفاه من العمى. لذلك فإن صبر وشكر وتحمل يوسف أدى إلى أن يتحول إلى حلال مشاكل الناس، ومصلحهم ومقيم العدل بينهم وناشر الرخاء والمحبة والإخاء بينهم، والمرسّخ لمبادئ الله في خلقه وهي التسامح والعفو والمحبة والعدل. وببركة ذلك أصبح يوسف مباركاً، يجلب قميصه الذي تحمل مشقاته شفاء ورحمة ونعمة لوالده وللناس. وهذا هو القميص الخامس والأخير ليوسف عليه وعلى الأنبياء والرسل الصلاة والسلام.



#علي_سيريني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أدرتُ عنك خلدي دهرا
- لولا الحواسمُ
- عاشوراء الحسين فيصل النور والظلمات
- الطريق لحل أزمة غزة
- أين نقف في الصراع الغربي الإيراني والحرب الدائرة بينهما
- برقية سرية إلى سمو أمير قطر
- إنتهاء إزدواجية السياسة التركية منذ مائة عام والفوضى على الأ ...
- كسوريا، التقسيم والفوضى يطرقان بوابة تركيا
- حلب بداية تأريخ جديد في المنطقة وشرارة حروب وتخوم تستعر بجحي ...
- السلام بين الكُرد والترك بوابة لتأريخ عظيم في المنطقة وتشالد ...
- لماذا تركز إيران والمحور الشيعي على معاداة إسرائيل
- حماس والإسلام والصراع مع إسرائيل
- بسمة النجاة
- لماذا لم ينهض العرب و المسلمون وتقهقروا
- نهاية عصر الديموقراطية الليبرالية الغربية
- تركيا أمام أمام تغيير كبير وحاسم في 2023 على مفترق طريقين تش ...
- في مسألة الشواذ الجنسي والقوانين المزمع ترسيخها وفرضها على ا ...
- الدولة التركية والإخراج السيئ لسيناريو تفجير إسطمبول
- الهجوم على محمد حبش ظلم وعدوان
- المخرج و الحل الأمثل لأزمة العراق


المزيد.....




- تركيا تعلن فتح تحقيق بشأن سقوط طائرة رئيس الأركان الليبي
- مقتل رئيس أركان الجيش التابع لحكومة الوحدة الوطنية الليبية ب ...
- -لن ننسحب مليمترًا-.. كاتس يعلن نية إسرائيل إنشاء مستوطنات ج ...
- إعلان مقتل قائد الجيش الليبي ومرافقيه في حادث تحطم طائرتهم ف ...
- من ميلانيا ترامب إلى البابا..صور فاضحة في ملفات إبستين؟
- ماذا وراء الحملة الإسرائيلية شمالي القدس؟
- مسؤول إسرائيلي سابق يكشف كيف حاول نتنياهو التنصل من مسؤولية ...
- لماذا تبقي واشنطن على شركة شيفرون في فنزويلا؟
- عاجل | حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا: إعلان الحداد الرسمي في ...
- كرة لهب وحطام.. لقطات لسقوط طائرة رئيس أركان حكومة الدبيبة


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - علي سيريني - القمصان الخمسة التي ألبسها الله ليوسف فتنةً وإمتحانا: تأملات في سورة يوسف