أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزه حمزه الكاتب - «باريس كانت تسمع القاهرة»














المزيد.....

«باريس كانت تسمع القاهرة»


حمزه حمزه الكاتب

الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 00:16
المحور: الادب والفن
    


الحياة في خريف عام 1967 بباريس، كانت تبدو كمدينةٍ تتهيأ للاعتراف بسِرٍّ وجودي. الشانزليزيه ممتد كوتر كمانٍ مشدود، والمقاهي تعج بلغاتٍ تتصادم ثم تتصالح، بينما كان المساء ينزل ببطءٍ متأنٍ كأنه يدرك ثقل الليلة. أمام مسرح "الأوليمبيا"، وقف الشرق بعباءته المثقلة بالحنين على أعتاب الغرب. لم يكن الجمهور الذي ملأ القاعة مجرد مستمعين ببدلاتهم الداكنة وعطورهم الباريسية، بل كانوا شهوداً على لحظة اختطاف للزمن. وحين غمر الظلام المكان، لم يكن الصمت فراغاً، بل امتلاءً مهيباً يشبه تلك الرجفة التي تسبق البكاء.

​حلمٌ تجسد حين ظهرت "الست" على الخشبة. لم تكن تمشي، بل كانت الأرض تتحرك تحت قدميها بوقارٍ ملكي. خلف نظارتها السوداء، كانت تخبئ عيوناً رأت من انكسارات وانتصارات التاريخ ما لا يطيقه بشر. بمجرد أن لمست أولى نبرات صوتها سقف القاعة، حدثت المعجزة؛ لم تعد باريس هي باريس، بل تحولت إلى زقاقٍ في الحسين، أو رصيفٍ في القصر العيني. شعر ذلك الرجل الجالس في الصف الرابع بجدران روحه تُهدم وتُبنى من جديد، كأن الصوت لا يمر بأذنه، بل يجري في شرايينه.

​يتكرر المشهد في مخيلته كشريطٍ سينمائي لا ينتهي. وجد نفسه فجأة، وبلا مقدمات، يجلس على كرسيٍ خشبي في مقهى الفيشاوي بالقاهرة. رائحة البخور والتبغ تعيد ترتيب حواسه. الوجوه ذاتها التي رآها في باريس كانت هناك، تتحدث عن ثوراتٍ قديمة وأمانٍ لم تتحقق بعد. أدرك حينها أن اللحظات العظيمة لا تموت، بل تعيد ارتداء أقنعة جديدة في كل عصر، وأن ما نسميه ماضياً ليس إلا طبقة رقيقة من الغبار فوق حاضرٍ عنيد يرفض الرحيل.

​والإنسان في خضم هذا الارتحال، يظل هو هو؛ بكتل القلق ذاتها، وبالسؤال الذي ينهش صدره: هل نحن نعيش الأحداث، أم أن الأحداث هي التي تسكننا وتتخذنا وعاءً لها؟ رأى الشوارع تتبدل، والحكام يرحلون، والأسوار تسقط، لكن الصوت ظل ثابتاً كمنارة في بحرٍ هائج. كان يشعر أنه ليس مجرد شاهد، بل فكرة تمشي على قدمين، خيط من خيال لو انقطع، لتلاشى هذا العالم وتناثر كرماد في الريح.

​مسافرٌ عبر الفجوات الزمنية، وجد نفسه فجأة في غرفته الضيقة، محاصراً بوميض الشاشات الباردة. سقط ملمس المقعد المخملي من يده ليحل محله ملمس هاتفه البلاستيكي. الأصوات هنا قصيرة، لاهثة، والأغاني تُستهلك كالوجبات السريعة. وضع سماعاته الصغيرة، وضغط زر التشغيل. انساب صوتها من جديد، فابتسم بحزن؛ لقد صار وطنه الآن عبارة عن ملفٍ صوتي، وصارت ذاكرته هي الملاذ الأخير. لم يعد يدري: هل حضر حفلة باريس حقاً، أم أنه اخترع تلك الذكرى ليجعل واقعه قابلاً للاحتِمال؟

​بين ألحانها الطويلة، وجد إجابته. أدرك أن الفن هو القارب الوحيد الذي لا يغرق حين تفيض الأسئلة الوجودية. لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة، كانت جسراً عابراً للمجرات، ومن عبر ذلك الجسر مرة، يدرك أن العودة إلى ضفاف الواقع الرتيب صارت مستحيلة.

​الأزمنة تتداخل يا صديقي، وقبل أن تطوي هذه الصفحة، تذكر أن الحقيقة تختبئ دائماً في البدايات. عُد الآن واقرأ الكلمة الأولى من كل فقرة، وستفهم السر الذي لم يقله الراوي.



#حمزه_حمزه_الكاتب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الإيمان والطائفة: قراءة في عقل الإنسان العراقي – على ضوء ...
- ثُمالة
- -أطياف القاهرة: أربع وعشرون ساعة بين الزمن والحنين-
- -مصر… معبد العاشقين-
- -مصر ليست حضارة… مصر خيانة كبرى للزمن-
- لم يعد أحد حيًا… ولم يعد أحد ميتًا-
- حين توقفت الساعة في القاهرة
- تحت جلود المصريين


المزيد.....




- مدينة مالمو تستضيف الفنان السوداني محمد برجاس كـَ ”فنان مُحت ...
- مسابقة -يوروفيجن- تواجه الانهيار بسبب مشاركة إسرائيل
- في يومها العالمي: اللغة العربية بين التطوير وخطر التراجع
- الموسيقى تقلل توتر حديثي الولادة وذويهم في غرف الرعاية المرك ...
- من الجبر إلى التعرفة الجمركية.. تعرف على كلمات عربية استوطنت ...
- بوتين: أوكرانيا غير مستعدة للسلام.. وزيلينسكي فنان موهوب
- قراءة في كتاب المؤرخ إيلان بابيه.. إسرائيل على حافة الهاوية ...
- نادين قانصوه...مجوهرات تتحدث اللغة العربية بروح معاصرة
- الشرطة تفتش منزل ومكتب وزيرة الثقافة الفرنسية في تحقيق فساد ...
- من فلسطين الى العراق..أفلام لعربية تطرق أبواب الأوسكار بقوة ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزه حمزه الكاتب - «باريس كانت تسمع القاهرة»