أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزه حمزه الكاتب - -أطياف القاهرة: أربع وعشرون ساعة بين الزمن والحنين-















المزيد.....

-أطياف القاهرة: أربع وعشرون ساعة بين الزمن والحنين-


حمزه حمزه الكاتب

الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 10:31
المحور: الادب والفن
    


في غرفة صغيرة على أحد أزقة بغداد القديمة، جلس رجل وحيد بعد منتصف الليل، محاط بصمت المدينة الذي يختلط أحيانًا بصرير الباب أو همس الريح في الشرفات المتهالكة. الغرفة ضيقة، تكاد حوائطها أن تهمس بالزمن الذي عايشته، الطلاء متقشر في زواياها، والأرضية خشبية تئن تحت أقدام كل من يخطو عليها. الضوء الأصفر الصادر عن مصباح سقف قديم يتأرجح برفق، يرسُم خطوطًا متكسرة على الجدران، كما لو كانت الظلال نفسها تتنفس ببطء، تشارك الرجل وحدته، وتخبره بأسرار المكان المنسي.

على الطاولة الخشبية، فنجان قهوة نصف ممتلئ يطلق بخارًا يلتف في الهواء البارد للغرفة، ورائحته الحادة تتخلل أنفاسه، فتبعث في داخله شعورًا مزيجًا بين الألفة والحنين. بجانبه، كتاب قديم مفتوح، أوراقه مصفرة من القدم، أطرافه متشابكة بتجاعيد الزمن، عنوانه العربي يلمع بخطٍ داكن: "النسبية" لأينشتاين. ظل الرجل يحدق في الحروف، وكأن كل معادلة فيه تحمل نغمًا خاصًا، نغمة تجعل عقله يتردد بين الواقع والخيال.

قرأ بصوت منخفض بعض الفقرات، كما لو كان يحادث نفسه، أو يحاول أن يثبت وجوده أمام الكون:

> "إن الزمان والمكان ليسا مطلقين، بل نسج واحد متداخل. كتلة ضخمة تجعل الزمن يبطئ، والضوء ينحني حولها. كل لحظة تمر هي انعكاس للتي تسبقها والتي تليها."



رفع فنجانه، وتذوّق رشفة ثقيلة. طعم المرارة امتزج بمذاق الوحدة، فجعل منه شعورًا بالدهشة الغريبة، وكأن القهوة نفسها تحكي له قصص الأزمنة التي لم يعشها. حاول أن يرفع عينيه عن الكتاب، فالتفت حوله. لاحظ تفصيلات لم يكن يعيرها اهتمامًا في الليالي السابقة: الحائط الخلفي، حيث تكسّرت الطبقة الأولى من الطلاء على شكل خطوط متعرجة؛ خيوط الغبار التي تتدلى من زاوية المصباح وكأنها شبكات العنكبوت؛ وحتى الصرير الخفيف للكرسي الخشبي كلما تحركت قدماه قليلاً.

ثم لاحظ المذياع الخشبي القديم في زاوية الغرفة، مغطى بطبقة من الغبار. كان ساكنًا منذ أشهر، لكن في تلك اللحظة بدأ يطن بشكل خافت، تصاعد تدريجيًا حتى اتسعت الموجة، وتلاشى صمت الليل بالكامل. ارتجف الرجل، شعر بأن الهواء بدأ يضغط على صدره، وأن الضوء يتحرك بطريقة لم يرَ مثلها من قبل: كان المصباح يرتجف، يرسل ومضاتٍ قصيرة، وكأن الغرفة كلها كانت تتنفس على إيقاع الراديو.

وفجأة، وبينما هو يحدق في الموجات المتصاعدة، تسللت نغمة مألوفة، رخيمة، غنية بالحنين: أم كلثوم تغني "أنت عمري". قال صوتها بصوتٍ يغمر الغرفة:

> "رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا… علّمتني أندم على الماضي وجراحه…"



توقف الرجل عن التنفس للحظة، وكأن الزمن نفسه قد تجمّد حوله. الكلمات لم تكن مجرد أغنية، بل رسالة من الماضي، من زمنٍ لم يعشه بعد، من مدينةٍ بعيدة تحاول أن تلمسه مباشرة.

ارتجف جسده، وشعر بالتيار البارد الذي ينساب من الأرض إلى أطراف أصابعه. بدأ الهواء يثقل أكثر، وضغط الضوء يزداد، كأن كل شيء من حوله بدأ ينكمش وينمو في آن واحد. حاول أن يقف، لكن قدماه كأنهما غارقتان في أرضٍ لزجة غير مرئية، والموجات الصوتية من الراديو تزداد قوة، تتداخل مع صدى كلماته في الكتاب: الزمان ليس خطًا، بل دائرة… ربما أنا جزء من الدائرة…

ثم حدثت اللحظة: فجأةً شعرت الغرفة بأنها تنحل، تتحرك الأرضية والجدران كما لو كانت ماءً. أغمض الرجل عينيه للحظة، وما إن فتحهما حتى وجد نفسه في شارع القاهرة القديم.


القاهرة – الثالث من مارس 1967

وقف مبهوتاً في قلب شارع عماد الدين، حيث المصابيح الغازية معلّقة على الأعمدة، والمسرح القومي يفتح أبوابه لعرضٍ مسرحي جديد. أصوات الباعة تتعالى: بائع جرائد يصرخ بالعناوين، بائع فول يطرق على إناء نحاسي ليعلن حضوره، وبائع كُشري يحرّك القدور بملعقة ضخمة.

رائحة النيل تسلّلت عبر الأزقة: خليط من دخان الشيشة، وبخور ينساب من المحال، وخبز طازج يخرج من فرن قريب. الأطفال يركضون في الأزقة الضيقة، يضحكون بصوت مرتفع، وكل ضحكة تتردد في أزقة المدينة القديمة.

أثناء تجواله، لاحظ بائع كتب قديمة عند سور الأزبكية، على الرصيف، يحوي أكوامًا متربة من الكتب، بعضها بواجهات عربية قديمة. بين تلك الأكوام، وجد الكتاب نفسه، نسخة من كتاب النسبية، بخط عربي دقيق، وكأنها كانت تنتظره منذ سنوات. لم يدر كيف وصل هنا، لكنه أحس أن هذا المكان والزمن تحديدًا كانا جزءًا من مسار حياتيه، وكأن القاهرة عام 1967 تمثل مفترقًا بين الماضي والحاضر، حيث تتقاطع الحقيقة مع الحلم.

دخل مقهى الفيشاوي في الحسين، أشهر مقهى تاريخي معروف بأجوائه الكلاسيكية ورواده المتنوعين، ليختبئ من حرارة النهار وصخب الشوارع، ويستمع إلى الموسيقى والمحادثات. المقهى كان مزدحمًا، رواده جلوسهم متقارب، بعضهم يشرب الشاي، وبعضهم يراقب الشارع من النوافذ الواسعة.

جلس على طاولة قرب النافذة، وطلب كوب شاي. كانت امرأة تجلس على الطاولة المقابلة، تحمل هالة من الحياء، بعينين سوداويتين تلمعان، شعر أسود مرفوع، ووجه ينير المكان بابتسامة خجولة.

ابتسمت له وقالت بلطف:
– «لهجتك ليست من هنا…»
– «أنا… غريب»… رد وهو يحاول أن يخفي ارتباكه.

أمالت رأسها وقالت:
– «الغريب وحده من يُدرك قيمة الزمن. نحن أهل المدن نغرق في ضجيجه فلا نشعر به. لكنك… تنظر إليه كما لو كان شخصًا حيًّا أمامك.»

ظلّ يراقب انحناءة يدها وهي ترفع كوب الشاي، يلحظ البخار يتصاعد، يسمع الطقطقة الخفيفة للأكواب على الطاولات. شعر بأن كل تفصيلة في المقهى، كل خطّ على ورق الجريدة أو على جدار المكان، يحمل معنى.

الراديو في الزاوية بدأ يصدر موجاته مرة أخرى، وأم كلثوم تغني:

> "وديني من تاني بعيد عن كل دنيا حبيتها…"



سحره الصوت، وكان الحوار مع المرأة يتداخل مع الأغنية، وكأنهما جزء من نفس اللحظة الزمنية الغريبة التي عاشها.

قضى ساعات يتجول في الشوارع: من الحسين إلى خان الخليلي، يراقب الأسواق، الباعة، الأطفال، وحتى المآذن التي تصدح بندائها، كل تفصيلة كانت جديدة بالنسبة له، وكأن الزمن كله قد انفتح له مرة واحدة.

مع الغروب، جلس قرب النيل، والمدينة تغرق في ضوء البرتقال والذهبي. أخرج الكتاب، فتحه على عبارة تقول:

> "الراصد يرى اللحظة وفق موقعه وسرعته… كل شخص يرى الزمن بطريقة مختلفة."



ابتسم، وقال: "أنا الراصد، وأنا اللحظة."

حين دقت الساعة منتصف الليل، بدأ الهواء يثقل، الضوء يخفت، وكل شيء يتلاشى تدريجيًا.



العودة إلى بغداد

استفاق في غرفته ببغداد، الفجر يوشك أن ينبلج، القهوة قد بردت، والكتاب ما زال مفتوحًا على الصفحة نفسها. لكنه وجد في يده ورقة صغيرة، مكتوبة بخط قديم:

> "الزمن يختبئ حيث يجرؤ القلب على الحنين."



جلس طويلًا يحدق فيها، وقد أدرك أن الأربع وعشرين ساعة التي عاشها في القاهرة كانت حقيقية، محفورة في ذاكرته، وأن الفيزياء والحنين والأدب متشابكة أكثر مما كان يتصور.

"وابتسم الزمن له، وكأن القاهرة كلها همست باسمه، فصارت الذكرى حيّة أكثر من الواقع نفسه."



#حمزه_حمزه_الكاتب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -مصر… معبد العاشقين-
- -مصر ليست حضارة… مصر خيانة كبرى للزمن-
- لم يعد أحد حيًا… ولم يعد أحد ميتًا-
- حين توقفت الساعة في القاهرة
- تحت جلود المصريين


المزيد.....




- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...
- وَجْهٌ فِي مَرَايَا حُلْم
- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...
- نظارة ذكية -تخذل- زوكربيرغ.. موقف محرج على المسرح
- -قوة التفاوض- عراقجي يكشف خفايا بمفاوضات الملف النووي
- سميح القاسم.. الشاعر المؤرخ و-متنبي- فلسطين
- سميح القاسم.. الشاعر المؤرخ و-متنبي- فلسطين
- -أنخاب الأصائل-.. إطلالة على المبنى وإيماءة إلى المعنى
- -الأشرار 2- مغامرات من الأرض إلى الفضاء تمنح عائلتك لحظات ما ...
- محمد حلمي الريشة وتشكيل الجغرافيا الشعرية في عمل جديد متناغم ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزه حمزه الكاتب - -أطياف القاهرة: أربع وعشرون ساعة بين الزمن والحنين-