أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حمزه حمزه الكاتب - بين الإيمان والطائفة: قراءة في عقل الإنسان العراقي – على ضوء مقولة علي الوردي














المزيد.....

بين الإيمان والطائفة: قراءة في عقل الإنسان العراقي – على ضوء مقولة علي الوردي


حمزه حمزه الكاتب

الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 03:35
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قال علي الوردي:

> "الإنسان العراقي أقل الناس تمسكًا بالدين، وأكثرهم انغماسًا بين المذاهب الدينية، فتراه ملحدًا من ناحية وطائفيًا من ناحية أخرى."



هذه العبارة ليست جملة عابرة، بل خنجر من وعيٍ مشرطٍ حاد، يغوص في عمق الشخصية العراقية حتى يصل إلى عصبها العاري. علي الوردي لم يكن يسخر من العراقي، بل كان يحاول أن يضع إصبعه على الجرح الذي لا يريد أحد أن يراه. كان يكتب لا كناقدٍ خارجي، بل كجرّاحٍ يرى في التشريح خلاصًا من الغيبوبة التاريخية.

الإنسان العراقي – في نظر الوردي – ليس بلا إيمان، ولكنه مثقل بإرثٍ متناقض من التاريخ والبيئة. هو كائن يعيش بين نقيضين: بين مثالية الدين وواقعية الحياة، بين نزعةٍ روحيةٍ تريد أن تطير، ونزعةٍ اجتماعيةٍ تشده إلى الأرض. لذلك تراه مؤمنًا بالعقيدة لا بالإنسان، متدينًا في الشعائر لا في الضمير، مستعدًا أن يموت من أجل مذهبه لكنه نادرًا ما يحيا من أجل قيم الدين نفسه.

إن هذا التناقض العجيب، الذي وصفه الوردي، ليس وليد لحظةٍ حديثة، بل هو تراكم قرونٍ من الصراع بين الروح والقبيلة، بين المسجد والعشيرة، بين الفكرة والهوية. العراقي بطبعه لا يحب أن يُقاد، ولكنه لا يعرف كيف يعيش دون رايةٍ يُقاتل تحتها. ولهذا تراه ينتقل من تقديس الإمام إلى تقديس الزعيم، ومن عبادة الفكرة إلى عبادة الشخص. في داخله ثورة دائمة تبحث عن قداسةٍ جديدة.

الوردي حين قال إن العراقي "أقل الناس تمسكًا بالدين"، لم يقصد الإلحاد، بل قصد أنه لا يعيش الدين كحالةٍ سلوكيةٍ نابعةٍ من الضمير، بل كهويةٍ اجتماعيةٍ تُرفع عند الحاجة. إنه يتقن طقوس الدين أكثر مما يفهم روحها، ويجيد لغة الوعظ أكثر مما يمارسها. فالعراقي إذا صلى، صلى بعاطفة، وإذا ترك الصلاة، تركها بثورة، كأن الدين عنده ليس مسارًا هادئًا بل صراعًا داخليًا بين قطبين لا يلتقيان.

ثم تأتي المفارقة الكبرى: "فتراه ملحدًا من ناحية وطائفيًا من ناحية أخرى."
وهنا يبلغ الوردي ذروة تشريحه. فالعراقي قد يشك في وجود الله في لحظة غضبٍ من الواقع، لكنه في الوقت نفسه مستعد أن يقتل من أجل مذهبه. إنّه لا يُنكر الدين، بل يثور على صورته في الآخرين. هو لا يكره الإيمان، بل يكره من احتكره. ولذلك جمع بين التمرد على الله كما صوره رجال الدين، والتعصب لأرض الطائفة كما ورثها من الأجداد.

هذه المفارقة هي التي جعلت من الشخصية العراقية شخصيةً مأزومةً فكريًا، متناقضةً عاطفيًا، قلقةً في سعيها للمعنى. فهو يريد أن يكون حرًا لكنه لا يحتمل الحرية، يريد أن يؤمن لكنه لا يجد الإيمان في الوجوه التي تتحدث باسمه، يريد أن يهرب من الطائفية لكنه يخاف أن يفقد الانتماء. كأن العراقي كائن وُلد ليكون بين حدَّين لا يلتقيان: الإيمان والتمرّد، القداسة والعصيان.

ولعل أخطر ما في قول الوردي أنه لم يصف أزمة جيلٍ معين، بل وصف أزمة وعيٍ ممتدة، لا تزال تتكرر بأشكالٍ جديدة. العراقي المعاصر قد لا يذهب إلى المسجد، لكنه لا يحتمل أن يُمسّ مذهبه بكلمة. قد يعلن أنه لا يؤمن برجال الدين، لكنه يُحاكم الآخرين على ضوء فتاويهم. إنه يعيش في انفصامٍ معرفيٍّ بين "الفكر الديني" و"الشعور الطائفي"، فيتوه بينهما فلا هو مؤمنٌ كما يظن، ولا حرّ كما يدّعي.

إن ما أراده الوردي هو أن يقول: الدين، حين يتحول إلى هوية، يفقد معناه. والمذهب، حين يصبح سلاحًا، يفقد قدسيته. والإنسان، حين يعبد الانتماء، ينسى أن الإيمان الحقيقي لا يُقاس بالموقع، بل بالفعل، لا بالمذهب، بل بالموقف، لا بالانتماء، بل بالضمير.

العراقي اليوم، بعد عقودٍ من الحروب والانقسامات، ما زال يبحث عن ذاته. إنّه يتأرجح بين إرثٍ يريد أن يخلّده، وواقعٍ يفرض عليه أن يتغير. وفي هذا التأرجح تتجلى عبقرية الوردي الذي فهم أن الإنسان العراقي ليس تافهًا ولا ضائعًا، بل ممزقٌ بين وجهين من ذاته: عقلٍ متنورٍ يرفض الخرافة، وقلبٍ غارقٍ في الولاء المذهبي. هو مزيج من الفيلسوف والثائر، من الزاهد والمتمرد، من العابد والمُنكر، وكل ذلك في جسدٍ واحدٍ يبحث عن توازنه منذ قرون.

لقد لخص الوردي مأساة العراقي بجملة واحدة، لكنها تختصر تاريخًا من الصراعات النفسية والاجتماعية. وربما كانت رسالته الضمنية أن لا خلاص لهذا الإنسان إلا إذا تصالح مع ذاته، وتعلم أن يكون مؤمنًا بإنسانيته قبل مذهبه، ومخلصًا للحقيقة قبل الجماعة، فحينها فقط سيكفّ عن التناقض، ويبدأ في الوعي.



#حمزه_حمزه_الكاتب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثُمالة
- -أطياف القاهرة: أربع وعشرون ساعة بين الزمن والحنين-
- -مصر… معبد العاشقين-
- -مصر ليست حضارة… مصر خيانة كبرى للزمن-
- لم يعد أحد حيًا… ولم يعد أحد ميتًا-
- حين توقفت الساعة في القاهرة
- تحت جلود المصريين


المزيد.....




- السودان.. كيف أخرج الإخوان الجيش عن -المسار الوطني-؟
- رئيس الوزراء العراقي: المسيحيون مكون أصيل وشريك في ترسيخ الت ...
- قوات الاحتلال تهدم منزل أسير غرب سلفيت وتهجّر ثلاث عائلات في ...
- فوز ممداني بثلث أصوات اليهود يكشف أزمة اللوبي الصهيوني
- قوات الاحتلال تهدم منزلا في بلدة بروقين غرب سلفيت
- الغارديان : راكيفت.. سجن إسرائيلي تحت الأرض يٌحتجز فيه أسرى ...
- 833 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
- إنترسبت: هكذا تسهم القومية المسيحية في صياغة سياسة ترامب الخ ...
- 833 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
- الجامعة الإسلامية في غزة.. من قاعات الدراسة إلى مخيمات النزو ...


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حمزه حمزه الكاتب - بين الإيمان والطائفة: قراءة في عقل الإنسان العراقي – على ضوء مقولة علي الوردي