أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزه حمزه الكاتب - ثُمالة














المزيد.....

ثُمالة


حمزه حمزه الكاتب

الحوار المتمدن-العدد: 8485 - 2025 / 10 / 4 - 03:47
المحور: الادب والفن
    


لم يكن الزمنُ يومًا سوى نهرٍ جارفٍ، يبتلع الحضارات كما يبتلع البحرُ الأصدافَ الصغيرة. جلستُ في صمتٍ، أحدّق في كتابٍ قديم تناثرت صفحاته كأنها أجنحة فراشاتٍ ذابلة، فرأيتُ عبره صورَ أممٍ وملوكٍ، وجيوشٍ وأبراجٍ، ووجوهاً تحدّقت فيها العصور ثم ابتلعتها الرمال.

بدأت الحكاية مع الإغريق؛ أولئك الذين صنعوا للفكر هيكلًا من نور، فأقاموا بين الجبال مسارح تردّد فيها أصوات الشعراء والفلاسفة. في كل عمودٍ من أعمدة معابدهم ارتعشت أنفاس الحكمة، وفي كل تمثالٍ بملامح صافية كمرمر، انعكست محاولة الإنسان الأولى لمضاهاة الخلود. لكن العاصفة جاءت، تكسّرت التماثيل، وذوت النار المقدّسة، وبقيت الحروف متناثرة كأغصانٍ جافة.

ثم جاءت بابل، مملكة الطين والنار، مدينة الحدائق المعلّقة التي داعبت السماء بخضرتها. كم مرّ عليها من الغزاة، من الشرق والغرب، حتى تحوّلت قصورها إلى رمادٍ صامت. ارتفعت الأبراج يومًا كأنها تحدّت السماء، ثم انهارت، وغدت ذكرى تذوب في بطون الأساطير.

رأيت الفرس، جحافلهم، وأناقة قصورهم الممتدة في مدائن كسروية، حيث كانت الأبواب الذهبية تفتح على حدائق مترامية. لكن، ما لبثت النيران أن خمدت، والقصور أن تهاوت، فلا بقي إلا شظايا تروي أن زمنهم كان ذات يومٍ في قلب الدنيا.

ثم جاءت روما، سيدة العالم، تصرخ بصولجانها في وجه الأزمان. شوارع مرصوفة بالحجارة، قنوات ماءٍ تجري كأنها شرايين دولةٍ خُلقت لتبقى. كانت روما تُشبه أسدًا يزأر في صحراءٍ لا تنتهي، لكن الأسد هرم، وسقط في وحل الطغيان، فانهارت العروش، وتحوّلت المدرجات العظيمة إلى أطلال، صامتة تتأمل المارين.

وتوالت الأمم: من حضارة الهند الغامرة بألوانها، إلى الصين العتيقة حيث جدارهم العظيم يقطع الأرض كما يقطع السيف جسد الزمن، ثم إلى حضارة المايا حيث المعابد تقف كأصابع حجرية تشير إلى الغيب. كلها عاشت، ثم اندثرت.

لكنني حين وصلت إلى مصر، وجدتُ الزمن يقف مذهولًا، كأن النهر الجارف تعثّر أمام صخرة لا تُزحزَح. الأهرام تلوح في الأفق، ليست حجارة وحسب، بل تحدٍ مكتوب بلغةٍ لا يفك رموزها سوى الخلود. رأيت المومياوات نائمة بطمأنينة الملوك، كأنها تنتظر النهار التالي منذ آلاف السنين.
مصر لم تكن يومًا أمة عابرة، بل كانت روح الأزمنة، السطر الأخير الذي يُعيد تعريف النص كله.

أدركتُ عندها أن الحضارات كلها كانت كأسًا من النبيذ، سالت قطراته الأولى في الإغريق، وغلت رائحته في بابل، واشتعلت حرارته في روما، وتلاشت رغوته في الشرق والغرب… حتى إذا لم يبقَ سوى القليل، بقيت الثُمالة.

وثُمالة الكأس كانت مصر.
لم تُشرب، لم تُهدر، لم تذب. بقيت عالقةً في قاع الزمان، شاهدةً على كل ما مرّ، تقول للعصور بصوتٍ عميق:
"أنا البداية، وأنا النهاية، وما بينهما مجرّد عبور."



#حمزه_حمزه_الكاتب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -أطياف القاهرة: أربع وعشرون ساعة بين الزمن والحنين-
- -مصر… معبد العاشقين-
- -مصر ليست حضارة… مصر خيانة كبرى للزمن-
- لم يعد أحد حيًا… ولم يعد أحد ميتًا-
- حين توقفت الساعة في القاهرة
- تحت جلود المصريين


المزيد.....




- محمد صلاح الحربي: -محتاج لحظة سلام- بين الفصحى واللهجة
- سياسات ترامب تلقي بظلالها على جوائز نوبل مع مخاوف على الحرية ...
- مئات المتاحف والمؤسسات الثقافية بهولندا وبلجيكا تعلن مقاطعة ...
- ساحة الاحتفالات تحتضن حفلاً فنياً وطنياً بمشاركة نجوم الغناء ...
- تهنئة بمناسبة صدور العدد الجديد من مجلة صوت الصعاليك
- انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2025
- انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2025
- لا أسكن هذا العالم
- مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!
- بيان إطلاق مجلة سورياز الأدبية الثقافية


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزه حمزه الكاتب - ثُمالة