أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد نجيب وهيبي - تشظي اليسار الاشتراكي الديمقراطي التونسي كنموذج لأزمة التقاط اللحظة الثورية والجمود الأيديولوجي















المزيد.....


تشظي اليسار الاشتراكي الديمقراطي التونسي كنموذج لأزمة التقاط اللحظة الثورية والجمود الأيديولوجي


محمد نجيب وهيبي
(Ouhibi Med Najib)


الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 21:18
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


​( محاولة للنقاش و التفكير ، دون جلد للذات و من اجل نقد ذاتي جدي ومشترك ) : محمد نجيب وهيبي

​لقد آلت التجربة التونسية، بعد انتفاضة الكرامة في 17 ديسمبر 2010، إلى مفارقة تاريخية مُهلكة ومُخيبة لآمال الشغيلة والطبقات الكادحة. إنّ هذا الفشل في تحويل "ثورة سياسية ديمقراطية ناجزة عموماً" إلى "ثورة اجتماعية جذرية" ليس حالة فريدة، بل هو انعكاس لأزمة بنيوية تعصف بـ اليسار العربي برمّته، وتكشف عجزه المُتراكم عن "التقاط اللحظة الثورية" وتوجيهها نحو تحقيق العدل الاجتماعي .
​إنّ اليسار التونسي، بتاريخه الممتد منذ عشرينات القرن الماضي، يمثل مختبراً حيوياً لتشخيص تحديات تراجع اليسار العربي. هذه التحديات تتجسد في التشظي المُتراكِم، وأزمة الفكر الأيديولوجي المعطّل، والتعصب الأقصى، والفشل في تأسيس وحدة يسارية اشتراكية ديمقراطية تكون قادرة على تجاوز "الحد الأدنى الديمقراطي البرجوازي" إلى أفق اشتراكي حقيقي. إنّ كل مسار انقسام وتفكّك وكل تحالف فاشل هو دليل إدانة لغياب النقد الذاتي الجدي والعميق والمشترك.

​المحور الأول: انتفاضة 17 ديسمبر وفشل التقاط اللحظة

​لقد كانت انتفاضة 17 ديسمبر 2010، التي انطلقت من سيدي بوزيد، لحظة تاريخية فارقة، جسّدت بامتياز خروج "الشعب التونسي" عن طوعه وخضوعه الذي لازمه تحت حكم الديكتاتورية البنعلية المُنقلبة على بورقيبة عام 1987. لم يكن الحراك مجرد فورة غضب عابرة، بل كان انفجاراً تراكمياً لـ "المحفزات الإقليمية والمحلية" الناتجة عن تآكل "الدولة الاجتماعية" وبنية الإنتاج الريعية التي أقصت الطبقات الكادحة والشغيلة حتى من الهامش الدولاتي الشكلي " لتوزيع واعادة توزيع" الثروة
​ان ما حدث كان "ثورة سياسية ديمقراطية ناجزة عموماً"، حيث أطاحت بالرأس المستبد وألغت الحزب الحاكم، وأتاحت "الشرط الديمقراطي" بإطلاق الحريات السياسية . لكن تراجيديا اليسار التونسي تعمّقت تحديداً في هذه اللحظة؛ فمع توفر "المنصة الضرورية" للتحول، فشلت القوى الاشتراكية الديمقراطية و التقدمية عموما، بأطيافها المختلفة (من ورثة الحزب الشيوعي إلى شظايا الماركسية اللينينية)، في "التقاط اللحظة الثورية" وتحويلها إلى "ثورة اجتماعية بمفهومها الجذري الكلاسيكي".
​إنّ هذا الفشل تجسد في غياب "الرؤية البرنامجية الموحدة" القادرة على مخاطبة مطالب العمال والفئات المسحوقة بصيغة تتجاوز الشعارات الأيديولوجية القديمة. بدلاً من ذلك، غرق اليسار في "السياسوية اليومية" وفي صراعات "هووية" مفروضة عليه من قبل التيارات الإسلامية و النيوليبرالية، مما أدى إلى "حراك سياسي وفكري فاقد لرؤية خاصة به". إن عدم القدرة على "تنظيم الكفاح الاجتماعي" للعمال والشغيلة في هذه الفترة الانتقالية الحاسمة هو ما سمح لـ "الثورة الثقافية المضادة" (التي قادتها الحركة الإسلامية) بأن تسيطر على المشهد السياسي والمجتمعي، ومهدت طريقها نحو الحكم.
​لم يتمكن اليسار من تجميع قواه حول "مشروع مجتمعي تقدمي" يركز على إعادة بناء الدولة الاجتماعية والتنمية الوطنية الديمقراطية، بل اتبع مسارات تشظٍ قديمة متجددة، مما أثبت أن تراكمه النضالي لم يتحول إلى "تراكم طبقي نظري" يقود التغيير. لقد أصبحت التجربة التونسية خير دليل على أن "الخلل في النظرة النظرية المفرطة" الناتج عن "الأدلجة المعطّلة والسائدة" هو السبب الجوهري وراء "فشل في المراكمة من أجل الشغيلة"، وبالتالي، فشل في قيادة الثورة.

​المحور الثاني: تجربة الحزب الشيوعي التونسي (PCT)

​تعتبر تجربة الحزب الشيوعي التونسي (PCT)، الذي تأسس سنة 1920( من الجامعة الشيوعية بانتمائها الفرنسي الى استقلال الحزب الشيوعي التونسي سنة 1934)، النواة الصلبة والمنطلق التاريخي للحركة اليسارية المنظمة في تونس لقد حمل هذا الحزب عبء التأسيس الأيديولوجي في سياق استعماري شديد التعقيد، لكن مساره ظل مشوباً بإشكاليات بنيوية حالت دون "التجذر العمالي العميق" و"الالتحام الوطني" التام.
عدم القدرة على الانغراس الوطني (تهمة الفرنسة)
​لقد عانى الحزب الشيوعي التونسي تاريخياً من إشكالية "تهمة الفرنسة" و"الارتباط العضوي بالمرجعية الأممية" (التي كانت تدار من باريس وموسكو). هذا الارتباط، في سياق النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، خلق مسافة حقيقية بين الحزب وبين الحركة الوطنية الثعالبي ثم البورقيبية (الحزب الدستوري)، التي كانت أكثر قدرة على استقطاب القواعد الشعبية ببرامجها الوطنية القومية الصارمة. إنّ خضوع الحزب الشيوعي، في مراحل تأسيسه المبكرة، لتوجيهات "الأممية الشيوعية" فيما يخص القضايا الوطنية والقومية، أدى إلى تقييد قدرته على صياغة "فكر وأيديولوجيا تونسية" (ان صح التعبير) نابعان من خصوصية المجتمع وتحدياته الطبقية المحلية. هذه المسافة سهّلت على خصومه اتهامه بـ "التبعية" وعدم الانغراس الوطني التام.
الصراع مع البورقيبية والحظر والعمل السري
​مع استقلال تونس، دخل الحزب الشيوعي في صراع مرير ومصيري مع نظام الحزب الواحد الذي أسسه الحبيب بورقيبة. هذا الصراع لم يكن مجرد خلاف على السلطة، بل كان خلافاً على جوهر الدولة ودورها الاجتماعي والاقتصادي. كانت البورقيبية، بخطابها القومي التحرري والاجتماعي المحدود، قادرة على استيعاب جزء كبير من المطالب الاجتماعية، بينما رأى النظام في الشيوعيين خصماً أيديولوجياً لا يمكن احتواؤه.
​الحظر والعمل السري: أدى هذا الصراع إلى حظر الحزب الشيوعي التونسي في ستينات القرن الماضي، مما دفعه إلى العمل السري لفترات طويلة. إن العمل السري، وإن كان دليلاً على صمود الحزب، إلا أنه قلّص من قدرته على "المراكمة العملية والالتحام مع الشغيلة والطبقة العاملة" بشكل علني ومنظم. لقد حوّل الحظر الحزب من قوة فاعلة في الساحة العامة إلى "تنظيم نخبوي" محصور، مما عزز من ضعفه البنيوي وزاد من "الفشل في التجذر العمالي".
​لقد ورثت "حركة التجديد" هذا المسار، وهي الوارث الرسمي للحزب الشيوعي، وظلت تحمل عبء هذه الإشكالات التاريخية في مراحل التحول الديمقراطي اللاحقة، مما أثّر على قدرتها على توحيد اليسار فيما بعد.
​المحور الثالث: اليسار الجديد وتفكك المرجعية
​​في موازاة تجربة الحزب الشيوعي التونسي، ونتيجة لأزمة الأدلجة وعدم الرضا عن خطوطه السياسية والنظرية، ظهر ما يُعرف بـ "اليسار الجديد" أو "اليسار الجذري" ابتداءً من أواخر الستينات والسبعينات. هذا اليسار، الذي سعى إلى تجاوز "تهمة الفرنسة" و"التبعية"، ارتكز على قراءة أكثر "جذرية" للماركسية اللينينية، متأثراً بالصراعات الأممية وخطوط "اليسار الصيني" و"ألبانيا".
​مسارات التشظي الجذري وأسباب الخلاف
​لقد تميّز هذا المسار بـ "تشظّيه الأيديولوجي المُهلك"، حيث لم تكن التنظيمات الجديدة مجرد امتدادات، بل كانت "شظايا متناحرة" حول طبيعة الصراع، ومن هو "العدو الرئيسي"، وأولوية الصراع الطبقي على الوطني، وخط الثورة:
​المحور الثالث: اليسار الجديد وتفكك المرجعية

​إنّ ظهور "اليسار الجديد" في تونس، ابتداءً من أواخر الستينات ومطلع السبعينات، لم يكن مجرد امتداد طبيعي للحزب الشيوعي التونسي (PCT)، بل كان انشقاقاً جذرياً يهدف إلى تجاوز "الخلل في النظرة النظرية" التي سادت، والبحث عن خط أيديولوجي أكثر جذرية وعمالية، بعيداً عن "الميوعة الفكرية" التي بدأت تتسلل إلى الخطوط التقليدية. لقد تميز هذا المسار بـ "التشظي المُهلك" الذي وصل إلى حد "الانقسام الخلوي"، جاعلاً الحركة اليسارية غارقة في صراعات نظرية تفوق أهميتها الصراع ضد النظام والاستبداد.
𔁯. المنطلقات الأولى: تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي
​بدأ المشهد مع ظهور "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي"، الذي كان يمثل أولى ملامح اليسار الجديد، حيث دعا إلى النضال ضد النظام من أجل تغييره، وانتهى الأمر بهم بالدعوة إلى انتفاضة وتكوين سوفيتات في 1968. لكن هذا التجمع شهد خلافات أدت إلى "انقسامات طفيفة" عند انطلاقه، وكانت خلافاته محدودة تتعلق بتقييم الإصلاحات التي قام بها النظام الناشئ ونقد "الأسلوب البيروقراطي" الذي أدار به الحزب الدستوري شؤون الحكم، والذي تحول إلى حكم ديكتاتوري.
𔁰. مرحلة "آفاق العامل التونسي" وتفكك الخط الثوري (1974)
​شهدت منظمة "آفاق العامل التونسي" مرحلة حاسمة من الانقسام حول الخط الثوري، وذلك خلال سنة 1974. كان التحدي يكمن في كيفية تطبيق الأيديولوجيا الاشتراكية في سياق وطني، حيث تباينت الرؤى حول تحديد "العدو الرئيسي" وأولوية المهام:
​الاتجاه الأول ويمثله الداعون لخط الثورة الوطنية الديمقراطية والحرب الشعبية طويلة الأمد، اقتداءً بالنمط الصيني. وقد اختار أغلبهم الخروج عن التنظيم الأم وتأسيس تنظيم جديد أطلق عليه "التجمع الماركسي اللينيني " الذي انبثقت عنه الشعلة ثم تنظيمات العائلة الوطنية الديمقراطية

الاتجاه الثاني (خط الثورة الديمقراطية الوطنية) ومثله الداعون لخط الثورة الديمقراطية الوطنية، الذين انبثقت عنهم تنظيم العامل التونسي ، ومنها التجمع الاشتراكي التقدمي و حلقة الشيوعي التي منها حول العمال الشيوعي التونسي ( الذي صار حزب العمال ) و الشيوعيون الديمقراطيون الذين صاروخ الى الحزب الاشتراكي اليساري ثم الاشتراكي .
.
𔁱. أزمة المهام والأدلجة المعطّلة

​إنّ أسباب الخلاف بين هذه المجموعات لم تقتصر على النظريات الماركسية فحسب، بل شملت الخلاف حول طبيعة الدولة التونسية، وهل هي دولة "تابعة" أم "مستقلة"، ودرجة "استعداد الطبقة العاملة للثورة". هذا التركيز المفرط على "التعصب الأيديولوجي" و"الخلل في النظرة النظرية" أدى إلى تفتيت جهود "التراكم من أجل الشغيلة" وتحويل الصراع من صراع طبقي ضد النظام إلى "صراع داخلي نخبوي" حول أحقية الزعامة والتطبيق "الأصح" للأيديولوجيا.

قمع السلطة والسعي الى تفكيك تنظيمات اليسار التونسي 4.

لم يدخّر النظام القائم سواءا "البورقيبي" أو "البنعلي" جهدا في ملاحقة تنظيمات اليسار الاشتراكي التونسي وقمعها والتضييق عليها للقضاء عليها في مهدها الطلابي او اقتلاع ارتباطاتها الجنينية بالحركة العمالية ، من خلال الطرد من الدراسة والمطاردة الأمنية والتعذيب والسجوم والمنافي والمعتقلات (09 أفريل ، برج الرومي ، رجيم معتوق ...الخ ).
بالإضافة الى الالتقاء السياسي و التكتيكي مع قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل لتقييد حرية الحركة الدعائية والتحريضية لمجموعات ورموز اليسار الاشتراكي الديمقراطي صلب هياكله القاعدية ، حيث لعب الاتحاد وهو رديف للحزب الحاكم في اغلب فتراته دور مضاد الصدمات الاجتماعية و ساحب لبساط مشروعية البرنامج الاجتماعي الراديكالي من يد اليسار الاشتراكي الديمقراطي .

​المحور الرابع: التعصب الأيديولوجي وصراع الزعامة

​ التعصب الأيديولوجي وصراع الزعامة أدى إلى تثبيت وضعية تشظي اليسار التونسي
​إنّ مرض "التشظي البنيوي" في اليسار التونسي ليس مجرد نتيجة طبيعية لتعدد المرجعيات النظرية، بل هو في جوهره نتاج مُركّب لـ "التعصب الأيديولوجي الأقصى" وتأثير "صراعات الزعامة" على الموقف السياسي. لقد كرّست هذه العوامل "وضعية التشظي المُهلكة" ومنعت القوى التقدمية من تحقيق "التجذر في الطبقة العاملة"، مما أدى إلى الفشل في "التقاط اللحظة الثورية".
𔁯. التعصب الأيديولوجي ونرجسية التطبيق

​لقد عاشت القوى اليسارية، خاصة الجذرية منها، تحت وطأة "الأدلجة المعطّلة والسائدة". تمثّل هذا التعصب في:
​نرجسية الفهم النظري: حيث كان كل تيار يرى نفسه هو "الوارث الشرعي" و"المُطبّق الأوحد والأصوب" للماركسية اللينينية أو لأي مرجعية اشتراكية أخرى. هذا التعصب أدى إلى "الخلل في النظرة النظرية" وفشل في صياغة "فكر أيديولوجي تونسي معاصر" يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الواقع.
​الإقصاء المتبادل: بدلاً من الوحدة في العمل الطبقي، تحوّلت الفروع اليسارية إلى "كتل متناحرة" تتبادل تهم التخوين و"الانحراف البرجوازي". هذا الصراع الداخلي أهدر طاقة اليسار وجعله عاجزاً عن "التراكم من أجل الشغيلة"، مما عزز صورته كحركة نخبوية بعيدة عن هموم القواعد العريضة.
𔁰. صراع الزعامة وتضخّم "الأنا" السياسي
​لقد تداخل التعصب الأيديولوجي مع "صراعات الزعامة" و"تضخّم الأنا السياسي" داخل الأحزاب نفسها وفي محاولات التوحيد:
​القيادة الحزبية: أدى تضخّم الزعامات في الأحزاب المركزية، وفيما تبعها من أحزاب "توابع"، إلى انهيار محاولات التجميع. حيث كانت القضايا الشخصية وصراع النفوذ يطغى على "الوحدة البرنامجية والطبقية" المطلوبة.
​فقدان التجذر العمالي: إنّ الفشل في "التجذر في الطبقة العاملة" لم يكن فقط نتيجة للحظر أو الصراع مع النظام، بل كان نتيجة مباشرة لانشغال هذه النخب "بالحراثة السياسية والفكرية الفاقدة للرؤيا" والصراعات الداخلية على حساب بناء القاعدة العمالية والطلابية . هذا الفشل في التجذر هو ما جعل اليسار هشاً وعرضة للانزلاق نحو مواقف متناقضة مع الأهداف الثورية، كالانحياز للسلطة تحت فخ "هيبة الدولة".
​المحور الخامس: محاولات التوحيد الفاشلة وميوعة اليسار
​​شهدت فترة ما قبل الثورة محاولات يائسة لتوحيد الطيف اليساري والديمقراطي، لكنها كلها باءت بالفشل الذريع، وكشفت عن عمق "الميوعة الفكرية والسياسية" التي يعاني منها هذا الطيف، وعن أزمة جوهرية في "التجذر الوطني" والتشبع بمسألة "الديمقراطية والحداثة".
𔁯. تجربة الحزب الديمقراطي التقدمي (بداية الألفينات)
​التكوين: نشأ هذا الحزب في محاولة لجمع التجمع الاشتراكي التقدمي وقوى يسارية مختلفة، ومجموعة من شظايا حزب العمال الشيوعي التونسي ويساريين وديمقراطيين مختلفين.
​الخيبة: توجت هذه التجربة بـ "منتدى الموقف"، لكنها سرعان ما فشلت نتيجة "الميوعة الفكرية والسياسية" التي دفعت قيادة جبهة التأسيس إلى إدخال فكرة العمل التنظيمي المشترك مع الحركة الإسلامية (النهضة). هذا الانزلاق هو دليل على فقدان البوصلة الأيديولوجية والقبول بـ "المساومة على المبادئ" الأقل ما يُقال عنها أنها خيانة للخط العلماني والتقدمي.
𔁰. المبادرات الديمقراطية والوطنية (2004-2009)
​تجربة المبادرة الديمقراطية (2004): قامت بين "حركة التجديد"
و التي صارت الى " المسار الديمقراطي الاجتماعي "(وريثة PCT) و"الشيوعيين الديمقراطيين" (فرع من انقسام حزب العمال تحولوا فيما بعد إلى الحزب الاشتراكي اليساري)، بالإضافة إلى مجموعة من المستقلين.
​المبادرة الوطنية من أجل الديمقراطية والتقدم (2009): تطورت التجربة بانضمام "حزب العمل الوطني الديمقراطي" (الذي تأسس في 2005 وهو أحد ورثة تجربة "الشعلة").
​الانهيار: انهارت التجربة نتيجة "تضخّم الزعامات" و"صراعات القيادة" بين حزب مركزي "قانوني" وأحزاب "توابع" مفرطة العدالة. إن هذا الانهيار كشف أن الصراع لم يكن طبقياً أو برنامجياً بالضرورة، بل كان صراع نخب على النفوذ والتأطير.
𔁱. حركة 18 أكتوبر 2005 وإضراب الجوع
​الائتلاف المشوه: تداخلت في هذه التجربة عناصر إسلامية (حركة النهضة) مع حزب العمال الشيوعي التونسي والحزب الديمقراطي التقدمي وعناصر مستقلة.
​النتيجة الكارثية: أعاد هذا الائتلاف إلى الواجهة "الميوعة الفكرية والبرنامجية لليسار التونسي" وأثار مشكلة "تجذره الوطني" و**"تشبعه بمسألة الديمقراطية والحداثة"**. لقد أثبتت هذه التحالفات أن اليسار، في محاولاته اليائسة لكسر العزلة، أصبح يقبل بـ "التحالف مع الحركة الإسلامية"، وهو ما يمثل "حراثة سياسية وفكرية فاقدة للرؤيا" .
​المحور السادس: ما بعد 14 جانفي إلى اليوم وأزمة الركض وراء الأحداث

​بعد ثورة 14 جانفي 2011، دخل اليسار التونسي مرحلة ما بعد الاستبداد دون أن يكون مستعداً لها ببرنامج موحد أو قيادة متفقة. لقد كشف هذا العقد عن استمرار الأزمة البنيوية والتشظي التاريخي، وصولاً إلى مفارقة 25 جويلية التي كان موقف اليسار منها إما داعماً أو منقسماً بشدة.
𔁯. الفشل في التشكل كقوة تغيير موحدة
​تجارب التجميع غير الناجحة: سواء عبر تجربة الجبهة الشعبية أو القطب الديمقراطي الحداثي، فشل اليسار الاشتراكي الديمقراطي في التشكل كـ "قوة تغيير موحدة قادرة على الحكم" أو قيادة المرحلة. هذه التحالفات لم تكن سوى تجمعات "هشة" تفتقر إلى "وحدة الرؤية الطبقية والبرنامجية".
​السياسوية اليومية وصراع الهوية: غلب على هذا اليسار طابع "الركض وراء الأحداث" و"السياسوية"اليومية، وغرق في "صراعات هويوية" مفروضة عليه من قبل التيارات الإسلامية، مما صرفه عن مهامه الأساسية المتعلقة بـ "الجهاد الاجتماعي" للعمال والشغيلة.
𔁰. الانقسام إلى معسكرات متناقضة وميوعة المواقف
​إنّ الانقسامات القديمة تجدّدت في المرحلة الانتقالية، حيث تشتت اليسار في تحالفاته إلى ثلاثة معسكرات متناقضة، مؤكداً "الميوعة السياسية والفكرية":
المعسكر الأول (دوائر الإسلام السياسي): قوى يسارية فضّلت العمل في دوائر الإسلام السياسي (النهضة) تحت مبررات "المكاسب الديمقراطية" أو "المواجهة الشاملة للاستبداد"، وهو ما يُعدّ ارتداداً عن المبادئ العلمانية والتقدمية. ( تجربة مجلس حماية الثورة و التصميم بالتأسيسي )
​المعسكر الثاني (دوائر الحكم المباشرة): قوى أخرى انخرطت في تحالفات حكم سريعة ومباشرة، متخلية عن مشروعها الجذري مقابل "المشاركة"، مما عرّضها للتآكل والضعف الأيديولوجي ( الحكومة الانتخابية الاولى وهيئة " بن عاشور)
​المعسكر الثالث (قوى ليبرالية): تحالف جزء آخر مع قوى ليبرالية (محدثة كانت أو قديمة) تحت يافطة "الديمقراطية" أو "الإنقاذ الوطني"، مما خفف من حدة خطابه الاشتراكي ( الاتحاد من اجل تونس وجبهة الانقاذ )
𔁱. أزمة 25 جويلية وغياب النقد الذاتي
​انعكاس الصراعات القديمة: كان الموقف من إجراءات 25 جويلية 2021 مجرد انعكاس للصراعات القديمة؛ فمن قوى ساندت "الانقلاب" باسم إنقاذ "هيبة الدولة"، إلى قوى رفضته دفاعاً عن "الحد الأدنى الديمقراطي".
​غياب النقد الذاتي: إنّ استمرار هذا التشتت هو نتيجة مباشرة لـ "غياب نقد ذاتي جدي وعميق ومشترك" لكل مسارات اليسار التونسي السابقة . لم يتم الاعتراف بأن "الخلل في النظرة النظرية" هو أصل الداء، وأن كل التحالفات الفاشلة كانت إشارة إلى أن الوحدة يجب أن تبدأ من "التراكم الطبقي النظري" وليس من التكتيكات الانتخابية.
​المحور السابع: الانكباب على وحدة يسارية اشتراكية
​ الانكباب على وحدة يسارية اشتراكية كقاطرة لإنقاذ الجمهورية
​إنّ الوعي بالمسارات التاريخية للتشظي، وفشل محاولات التوحيد الفاشلة، والانهيار السياسي الذي أعقب 25 جويلية، يقود إلى نتيجة واحدة لا مفر منها: ضرورة الانكباب الفوري والكفاحي على وحدة يسارية اشتراكية تكون "قاطرة لوحدة ديمقراطية وطنية" أوسع، هدفها الأسمى هو "تحصين الجمهورية الديمقراطية البرجوازية".
𔁯. الحد الأدنى الضروري: تحصين الديمقراطية البرجوازية
​إنّ الخطأ الاستراتيجي الذي يجب على اليسار الاشتراكي الديمقراطي أن يتوقف عن ارتكابه هو التلهي بـ "وهم الثورة الاجتماعية المُجتزأة" الآنية. يجب الإقرار بأن المرحلة الحالية تتطلب:
​الاعتراف بالشرط اللازم: يجب أن يُدرك اليسار أن "البناء الديمقراطي البرجوازي" هو "المنصة الضرورية" و "الشرط اللازم" لقيام أي تجربة اشتراكية ديمقراطية. فبدونه، لا يمكن تحقيق "الحرية السياسية" التي هي "أوّل شروط التحرر الاجتماعي".
​مقاومة الاستبداد: إنّ الدفاع عن الدستور والمؤسسات الحداثية هو واجب وطني وتقدمي، وهو الحد الأدنى لمواجهة الاستبداد المُعاد تدويره باسم "هيبة الدولة" أو باسم "الدين".
𔁰. وحدة يسارية اشتراكية كـ "قاطرة"
​إنّ الوحدة المطلوبة ليست مجرد تجميع لحطام، بل هي وحدة مبنية على:
​وحدة الرؤية الطبقية: يجب أن تتجاوز الوحدة صراعات الزعامة والتعصب الأيديولوجي، وأن ترتكز على "وحدة العمال والشغيلة" حول برنامج اجتماعي واقتصادي حقيقي. إن "الحزب الاشتراكي الديمقراطي " هو الإطار الذي يجب أن يطور "وعي طبقة العمال والشغيلة".
​وحدة برنامجية: يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي هو "تنمية ديمقراطية وطنية" و"مشروع مجتمعي تقدمي" يقود إلى إعادة بناء الدولة الاجتماعية التي تآكلت.
𔁱. التجذير العمالي استعداداً للمستقبل
​إنّ الهدف من هذه الوحدة ومن تحصين الجمهورية هو إتاحة المجال لـ "تجذير اليسار الاشتراكي الديمقراطي عمالياً" بشكل علني وقانوني، استعداداً لأي "ثورة اجتماعية مقبلة" لا مفر منها في نهاية المطاف.
​إنّ مصير اليسار التونسي، وعلاقته بجماهير العمال والشغيلة والشعب الكادح، تشبه علاقة "أنثيوس بالأرض" في الأسطورة الإغريقية . هذا الاتحاد هو الذي سيمكن اليسار من استعادة قوته ومصداقيته، وقيادة المجتمع نحو العدالة والتحرر. إنّ إنقاذ الجمهورية هو أولى مهام الاشتراكية الديمقراطية.



#محمد_نجيب_وهيبي (هاشتاغ)       Ouhibi_Med_Najib#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ازمة الاتحاد العام التونسي للشغل
- الانتخابات التونسية في مهب الريح - براني سموم-
- دموع وعرق واسفلت
- ماكرون يُقامر بكل فرنسا لإنقاذ اوراقه الاخيرة
- نافورة ... ( دورة الحياة الرتيبة )
- بداية ب ( لا) نهاية
- كيان ... ( انعكاس ام حقيقة )
- رؤيا
- 2 مارس 2024 موعد جديد من أجل إنقاذ تونس
- فقّإعة الاقتصاد التونسي تُبشّر بكارثة
- طابور خامس لا يعلم ... اكثر خطرا من طوابير الخبز الطويلة على ...
- حكومة الحاكم بامره وحده لا شريك له !! تعتدي على الحق النقابي ...
- مائوية الحركة الشيوعية في تونس .. ماركسي مُعترفٌ ومنضبطُ
- لا -ثورة- دون تنظيم ثوري : تونس بعد 25 جويلية
- عذرا رئيسنا لا احب لك غياهب النسيان ... فلا تزجّوا بي في غيا ...
- دردشة حول فلسطين ( مُتشنِّجة بهدوء ) ...
- صندوق الدعم مكسب اجتماعي وطني لا يجب التفريط فيه!!
- برلمان بائس لكنه حقيقي وضروري
- تونس : رئيس الجمهورية لا يؤمن بقيم الجمهورية
- دون ضمان حياد القاضي لا معنى لاستقلالية القضاء


المزيد.....




- التصريح الصحفي للندوة الصحفية للجبهة المغربية لدعم فلسطين وم ...
- Chile: Pinochetism Returns to Power
- Trumpist Geopolitics in Western Balkans – How a Heritage Ide ...
- It’s Time For America to Indict Itself: Cruelty and Dehumani ...
- Workers in Germany Strike at Avnet (USA)
- دائرة المقاطعة في الجبهة الديمقراطية: حول تواطؤ الشركات العا ...
- بين الاستعجال والكارثة، نظرة اشتراكية إيكولوجية على إعصار دا ...
- فوز اليمين المتطرف في تشيلي يؤكد تحولا في أميركا اللاتينية
- كتاب جديد: وصفة تشومسكي وموخيكا للنجاة من القرن الـ21
- رسالة المناضل المعتقل جلول محمد حول كارثة فيضان مدينة أسفي


المزيد.....

- الاشتراكية بين الأمس واليوم: مشروع حضاري لإعادة إنتاج الإنسا ... / رياض الشرايطي
- التبادل مظهر إقتصادي يربط الإنتاج بالإستهلاك – الفصل التاسع ... / شادي الشماوي
- الإقتصاد في النفقات مبدأ هام في الإقتصاد الإشتراكيّ – الفصل ... / شادي الشماوي
- الاقتصاد الإشتراكي إقتصاد مخطّط – الفصل السادس من كتاب - الإ ... / شادي الشماوي
- في تطوير الإقتصاد الوطنيّ يجب أن نعوّل على الفلاحة كأساس و ا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (المادية التاريخية والفنون) [Manual no: 64] جو ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية(ماركس، كينز، هايك وأزمة الرأسمالية) [Manual no ... / عبدالرؤوف بطيخ
- تطوير الإنتاج الإشتراكي بنتائج أكبر و أسرع و أفضل و أكثر توف ... / شادي الشماوي
- الإنتاجية ل -العمل الرقمي- من منظور ماركسية! / كاوە کریم
- إرساء علاقات تعاونيّة بين الناس وفق المبادئ الإشتراكيّة - ال ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد نجيب وهيبي - تشظي اليسار الاشتراكي الديمقراطي التونسي كنموذج لأزمة التقاط اللحظة الثورية والجمود الأيديولوجي