جليل إبراهيم المندلاوي
كاتب وصحفي
(Jalil I. Mandelawi)
الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 16:47
المحور:
الادب والفن
كانت الشمس تميل نحو الأفق، وخيوطها الذهبية تزحف على جدران المحلة البغدادية العريقة، التي تتلاصق بيوتها، وتنبعث من أبوابها الخشبية رائحة ممزوجة بآثار أعوام مضت، فمع أول ضوء يتسلل عبر النوافذ الصغيرة، تتصاعد أصوات الملاعق وهي تصطدم بأقداح الشاي، وتعلو ثرثرة النسوة وهن يتبادلن الأحاديث من فوق الأسطح، فيما يتردد في الأجواء نداء الباعة المتجولين الذين يملؤون الأزقة صخباً وهم ينادون على بضاعتهم بلهجتهم البغدادية العتيقة.
في ذلك المكان الذي تكبر فيه الطفولة ببطء وجمال لا يدركه من لم يعش تلك الأزقة الضيقة التي كان الأطفال يجعلون منها ملعباً واسعاً لأحلامهم الصغيرة، يركضون بلا قيود بين بيوت يعرف أهلها بعضهم، ورغم فقرها وبساطتها، فقد كانت المحلّة غنية بأهلها، بعاداتهم، بصلوات المساء التي توقظ المآذن، وبالأضواء الصفراء الخافتة التي تلمع على الحجارة القديمة كلما اقترب الليل.
في قلب تلك الأزقة، ارتفعت صيحات الصبية وهم يلعبون الكرة، كعادتهم كل عصر، بينما تتعالى ضحكاتهم وتلهث أنفاسهم، كان هو الأسرع بينهم، صبي يضجّ وجهه ببراءة السنوات العشر المحمولة على جسد نحيل، وعينيه تلتمع بالمنافسة كلما اقتربت الكرة منه، فيركلها بكل حماسة، وتعلو ضحكته مع كل مراوغة ناجحة، فيما يتعالى صوته مع كل هدف يُسجّل.
في تلك اللحظة، داهمتهم شاحنات كالحة، فانقطعت الضحكات، وحلّ صمت ثقيل مفاجئ، انفتحت أبواب الشاحنات وانسكب منها رجال بوجوه متجهمة وأوامر صارمة، لم يترددوا حين أمسكوا بالصبي من ذراعه الصغيرة ورفعوه عن الأرض بلا سؤال، بلا تفسير.. اختنقت صرخته وسط دهشة الصبية الآخرين، صرخ أصدقاؤه وتجمّد بعضهم في أماكنهم، فيما تفرّق الآخرين في الأزقة، أما هو، فلم يفهم ما يجري، وكيف يفهم صبي في مثل عمره لماذا يُساق كأنه مذنب، ولماذا تُصادر طفولته دون ذنب اقترفه سوى أنه وُلد في جلد لم يختره؟
لم يشعر الصبي إلا ببرودة الحديد تلامس جلده حين أُلقي في مؤخرة الشاحنة بين أجساد صغيرة أخرى اختُطفت كما اختُطف هو، بعضها يبكي بصوت مخنوق، وبعضها صامت.. كانت الشاحنة تهتزّ بهم على الطريق لتقتلع جزءا جديدا من طفولتهم، حتى بدا لهم أن العالم خارج تلك الجدران الحديدية قد صار بعيدا، بلا لون ولا صوت، حاول الصبي أن يسأل أحد الرجال الذين يقفون عند الباب، لكن نظرة قاسية صامتة أخرست فضوله الطفولي، ليتراجع، ويضمّ ركبتيه إلى صدره، ثم حاول أن يبحث في بين طيات ذاكرتَه القصيرة عن خطأ ارتكبه، أو فعل يستحق هذا العقاب، فلم يجد سوى صور لعب وابتسامات وضحكات..
لم يكن يدري أن في تلك اللحظة نفسها كانت الأبواب تُقتلع في بيته، حيث يُساق أبوه وأخواه إلى غياب لا اسم له، ولم يتبقَّ سوى البنات، وأمّ يتمزق قلبها بين جدران بيت بات أشد صمتا مما تُطيقه الروح، كنّ ينتظرن مصير الغائبين الذين لم يكن لهم ذنب له سوى أنهم كورد فيليون في زمن جعل من الهوية جريمة، ومن الانتماء لعنة.
كان الليل قد بدأ يهبط حين توقفت الشاحنة في مكان بدا كأنه خارج الزمن، تُفتح الأبواب دفعة واحدة، فيُساق الصبية إلى مبنى شاهق الجدران، حيث أُدخلوا في غرفة واسعة، أرضها من إسمنت بارد، وجدرانها بلا ملامح، بلا نوافذ، ولم يكن هناك شيء يشي بما سيحدث، سوى شعور داخلي بأنهم لن يعودوا قريبا أو ربما لن يعودوا أبدا.. جلس الصبي في زاوية الغرفة، يحاول أن يبتلع خوفه كما يبتلع ريقه، تذكّر وجه أمه، وعيونها التي كانت تتبع خطواته في الأزقة، وكيف كانت تقبّل جبينه قبل النوم، وكيف كانت يدها تربّت على كتفه كلما عاد من اللعب مثخنا بالغبار، فجأة، أحسّ أن تلك اللحظات كانت ثمينة ولم يكن يعرف قيمتها، وأن المسافة بينه وبينها صارت أبعد مما يتحمّله قلب صغير.
في الجهة الأخرى من المدينة، كانت أمه تجلس وسط بناتها، تنظر إلى الباب المخلوع، كأنها تنتظر أن يعود منه الغائبون متعبين من رحلة طويلة، لكن الليل طال، والباب بقي مفتوحا على فراغ يزداد قسوة، فالأم كانت تعرف في أعماقها، أن الزمن الذي خُطف منهم لن يعيده أي فجر، وأن الصوت الوحيد الذي سيطرق الباب بعد اليوم هو الريح الباردة التي تحمل ما تبقّى من رائحة الغائبين ثم تمضي.
بعد ليالٍ طويلة خرجت الأم من صمتها لتبدأ رحلة أخرى، حيث كانت كل صباح ترتدي عباءتها السوداء وتخرج إلى الأزقة، تسأل هذا وذاك، تقف عند أبواب الجيران، تتلمس في وجوههم أملا صغيرا، لعلّ أحدهم رأى، أو سمع، أو حتى حلم بخبر يحمل بعض الضوء، تمشي بخطوات مثقلة نحو مراكز الشرطة، ومقرّات الحزب الملعون، وأبواب الدوائر الأمنية، فكانت كلما وصلت، يُقابلها حارس بوجه جامد أو موظف بملل ثقيل، يلوّح بيده كمن يطرد شخصا لا أهميّة له، لكنّها لم تركن الى اليأس، وفي الأيام التي لا تقوى فيها على الخروج، كانت تجلس قرب الباب المخلوع، ترقّب المارّة، فتمرّ نسوة المحلة عليها، تضع إحداهن يدها على كتفها، تقول كلمة مواساة، ثم تمضي، وبعضهن يجلسن معها، يقسمن أنّ الليل لا يدوم، لكنّ عيونهن المرتعشة كانت تقول شيئا آخر.
كانت الأم تتسول الأخبار دون كلل، فتبحث في العيون قبل الكلمات، تفتّش في نبرة الصوت، في ارتجافة اليد، في تنهيدة امرأة رأت أو سمعت ما لا يُقال، تجمع حكايات الناس وتحاول أن تنسج منها صورة واحدة لزوجها وولديها.. صورة تقول إنهم ما زالوا أحياء، أو على الأقل ما زالوا موجودين في مكان ما.. ومع مرور الأيام، صار السؤال نفسه عبئا على المحلة، فالجواب كان دائما هو ذاته.. هزّة رأس، وصمت.. لكن الأم لم تتوقف، فالأم التي يُخطف منها أولادها لا تبحث بالعقل، بل بالقلب، والقلب لا يعرف الاستسلام.
مرّ عام كامل منذ اختُطف الصبي، كانت فيه الأم تتنقّل بين الأبواب حتى حلَّ ذلك الصباح الشاحب، حيث حملت معها آخر ما تبقّى في يدها من ميراث صغير، وطرقت باب ضابط أمن لا يفتح فمه إلا إذا شَبِعَت يداه مالا.. دفعت الأم المبلغ دون تردد، فالأم التي يضيع منها أولادها لا تفكّر بالأرقام، بل بالأنفاس التي تود أن تراها تعود، وبعد لحظات صامتة، لم يكن فيها صوت سوى خفقان قلبها، هزّ الضابط رأسه بتثاقل، وقال بصوت خشن: "سآخذك قريبا الى المعتقل.. لعلّنا نسمح لكِ برؤيته"، لم تسمع الأم كلمة "لعلّ"، فقد تشبّثت أذنها بآخر جملة "سنسمح لكِ برؤيته".
مع حلول فجر اليوم الموعود وقفت الأم أمام بوابة مبنى المعتقل الخرسانية العالية، كانت عباءتها السوداء أثقل من قبل حين دخلت من الممرّ الطويل الذي تنبعث منه رائحة رطوبة ممزوجة بالخوف، يرافقها حارس بوجه جامد لا يلتفت إليها، حيث قادها إلى غرفة ضيقة، نافذتها محجوبة بقضبان سميكة، وفي منتصفها مقعد خشبي خشن، قال لها الحارس: "انتظري هنا لدقائق".. لكن الدقائق صارت سنوات، ثم فُتح الباب بقوة، ودخل صبي نحيل، أطول قليلا مما كان عليه قبل عام وأشدُّ هزالًا، ارتجّ قلبها حين رأته، فتلك العينان، رغم انطفاء بريقهما، هما العينان ذاتهما التي كانت تلمع حين يركل الكرة في الأزقة.
اقترب الصبي بخطوات مترددة، وحين بلغها لم يتفوّه بأي كلمة، بل ارتمى في حضنها كأنها آخر ملجأ له، فاحتضنته بقوة، ثم سقط رأسه في حضنها لتشمّ رائحة شعره وتمسح عليه وهي تبحث في ملامحه عن بقايا الطفل الذي غاب، لتهمس له بصوتٍ خافت، ينكسر بين كلمة وأخرى: "يا بُني.. ما الذي فعلوه بك؟ أين أباك؟ أين أخواك؟ هل هم بخير؟"
لم يتكلم، بل كان يبكي بصمت لأنه لم يعد ذاك الصبي الذي تعرفه، انخفضت عيناه، وارتجفت شفتاه وتقلّص صدره، ثم هزّ رأسه ببطء، هزّة صغيرة واحدة كانت كافية لأن تزرع في قلب الأم يقينا هائلا بقدر ما هو موجع، بأن الغائبون لن يعودوا، ثم همس بصوت متهدّج، يصف ما فعلوه به، كيف عُذّب، وكيف كان كل يوم يمزق جزءا من جسده.
مرّت الأم بأصابع مرتجفة على آثار الجَلْد، وعلى الندوب التي لم يكن ينبغي لطفل أن يحملها، قبّلت جبينه وجفنيه ثم جراحه، واحدة تلو الأخرى، وراحت تدعو بلغتها الكوردية حيث لم تجد في العربية ما يترجم وجعها: "يا إلهي، خُذِ الألم من عظامه وانقله لعظامي، وانزع الوجع من جسده وضعه في جسدي".
كانت كلماتها تخرج محمّلة بحيرة لا جواب لها، بغضب مكتوم وحزن عميق لا قرار له، فلم تكن تلوم الخالق حقا، لكنها كانت تسأل، تصرخ، تبحث عن معنى لكل هذا العذاب الذي عليهم أن يتحملوه، لترفع رأسها مجددا إلى السماء وتهمس بلغة عربية مكسورة، حيث لا تعرف من هذه اللغة سوى قدر قليل: "لماذا؟ لماذا كل هذا الألم؟ لأنك منحتنا هذه الوجوه؟ هذه الأسماء؟ هل لأننا كورد؟ هل لأنك خلقتنا هكذا؟".
كان نحيبها يخرج من قلب يشبه أرضا أُحرقت ثم صارت تئن تحت الرماد، وقبل أن تكتمل لحظات المواجهة، طرق الحارس الباب بعنف، ثم قال بصوتٍ آمر: "انتهى الوقت".
تعلّق الصبي بعباءتها، يضغط أصابعه النحيلة على القماش والأم تحاول أن تتمسك به كأن يديها وحدهما قادرتان على تغيير مصير كُتب بيد الجلادين، ترجّت الحراس بكلمات عربية متعثرة، خليط من الرجاء والأمّومة، تطلب منهم أن يتركوا طفلها الصغير وشأنه.. أن يعتقلوها بدلا عنه، أو أن يسمحوا لها بأن تبقى معه، لكن القسوة لم تعرف لغة الأم ولا دمعتها، لينتزعه أحد الحراس من بين ذراعيها بقسوة جعلت قلبها ينخلع كما تُنتزع باب مخلوع للمرة الثانية، وسحبها حارس آخر من ذراعها، بينما أطراف أصابعها ما تزال مُعلّقة بكتف صغيرها.. صرخت، وبكت، دون جدوى، وكانت تعرف في أعماقها أن هذه اللحظة هي الوداع الأخير، فيما دفعه الحارس خارج الغرفة وأغلق الباب الحديدي خلفه لتخرج الأم من المعتقل وقد اختلطت دموعها بخطواتها المضطربة، وهي تحمل في صدرها وجعا كبيرا، لكنها خرجت أيضا بشيء واحد لم يكن لديها من قبل، وهو صورة وجهه، ذلك الوجه الذي رغم الشحوب والخوف وآثار السجن، كان هو الخيط الوحيد الذي أبقى الروح في جسدها، وهو الدافع الذي سيجعلها تقف أمام كل بابٍ وفي وجه كل جدار، لعلّها تستعيد ابنها، أو تستردّ ما تبقّى من عمرها الممزّق، لكنها لم تر بعدها لا زوجها ولا أولادها، فقد غابوا في الظلام كما غاب كثيرون غيرهم، لكنها سمعت، بعد وقت طويل من الانتظار، نبأ النهاية التي خُتِم بها قدر صغيرها، حيث إن الجلاد الذي نفّذ الحكم كان رجلا قاسيا، يعرف أن جسد الطفل خفيف إلى حدّ لا يسمح لعنقه أن ينكسر عند الإعدام، فربطوا قدميه بأسطوانة ثقيلة للغاز، حتى يضمنوا أن الموت ينزل على جسده الصغير بلا تردّد.. ثبّتوه بالحبل، فتحوا باب الآخرة، ودفعوه إلى النهاية.
رحل الصبي الذي لم يعرف من الحياة سوى ملعب ترابي وجَرْي خلف كرة، رحل وترك وراءه أما محطمة تحمل في جسدها كلّ الأوجاع التي دعَت الله أن ينقلها إليها من جسد ولدها، فلم تعد تبكي، فقد جفّت الدموع، ولم يبق لها سوى ذكرى حضن، وقبلة على جبين، ودعاء لم يستجب، كما بقيت طوال عمرها تردد سؤالا واحدا، تتوجه فيه إلى السماء لا إلى الأرض: لماذا يُقتَل طفل فقط لأنه وُلد كورديا؟
ليظلّ السؤال معلقا في الهواء، يمرّ فوق البيوت، فوق الساحات التي خلت من ضحكاته، ويمرّ فوق أمّ لم يلتئم قلبها ما دام فيه نبض يذكّرها به.
-------
الإهداء: إلى روح الصبي البريء عطا، الذي لم يمنحه جلادوه فرصة ليحلم أو يعرف طعم الحياة، وإلى قلب والدته، التي فارقته ولم تفارق وجعه أبدا.
#جليل_إبراهيم_المندلاوي (هاشتاغ)
Jalil_I._Mandelawi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟