جليل إبراهيم المندلاوي
كاتب وصحفي
(Jalil I. Mandelawi)
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 00:13
المحور:
كتابات ساخرة
تبدو الأحداث التي تعيشها المنطقة وكأنها تتبارى في إنتاج دراما جديدة تجتمع فيها كل عناصر الإثارة والتشويق، بدءا من الغموض وصولا الى المفاجآت والأزمات المتعاقبة، فيما يبقى العراق محتفظا بصدارتها، ليثبت أنه ليس فقط بلد أرز العنبر الشهير بلونه الأبيض الناصع ورائحته العطرية المميزة، بل ساحة للأحداث الكبيرة أيضا والفوضوية، فالحدث الأبرز الذي جذب الأنظار هو ما يعرف بـ"خطأ النشر"، فيبدو أن الوثائق في العراق اكتسبت في السنوات الأخيرة مهارة خارقة، من حيث القدرة على الركض أسرع من المنطق نفسه، فبمجرد أن تتسرب ورقة أو تعليق، سواء كان مسودة أو حتى قبل التفكير، نجدها تتنقل في وسائل التواصل كأنها في سباق مئة متر، لتصل إلى الجمهور قبل أن يصل الموظف المسؤول إلى مكتبه، وقبل حتى أن يعرف رئيس اللجنة ما الذي نشر وما الذي لم يكن يفترض أن ينشر، ولأن الأمر لا يكتمل من دون نكهة المؤامرة اليومية، خرجت علينا التفسيرات الحكيمة، بأن الانتشار بهذه السرعة، لا بد من جهات تقف خلف الموضوع.. جهات؟ ربما من يدري؟ في بلد تصل فيه الورقة المسربة إلى كل هاتف في 7 ثوان قبل أن تصل إلى أرشيف الوزارة في 7 أيام، حيث يصعب فعلا تحديد ما إذا كانت هناك جهات أم مجرد صفحة فيسبوك تعمل على بيانات موبايل.
القصة بدأت حين استيقظ العراقيون على "الوقائع العراقية" الجريدة الرسمية للحكومة والتي يفترض أن تكون مرآة القانون، وهي تعلن بثقة عن إدراج "حزب الله" و"أنصار الله" ضمن قائمة تجميد الأموال، الأمر الذي تحول من مجرد زلة لسان إلى قنبلة سياسية هزت الحكومة والرأي العام، حيث بدا العراق وكأنه قد حسم واحدة من أعظم معاركه السياسية، وأحرز تقدما تاريخيا في علم السياسة وبالتحديد في رياضة نشر الأخطاء قبل التنقيح.
ففي عالم السياسة، هناك فرق بين الخطأ والدراما، لكن في العراق، أصبح الخطأ نفسه مادة للإثارة، كل قرار يُتخذ أو يُنشر قبل وقته يتحول إلى عرض حي، يشاهد فيه الجمهور المأساة والكوميديا معا.. "خطأ النشر" تلك الكلمة التي أثارت الجدل أكثر من كل ذلك العراك حول الشاي الأسود في المقاهي، فبعد أن ارتجّ الشارع واهتزّت الشاشات، وامتلأت المنصّات بتعليقات أكثر حرارة من "صمون سعدون الساعدي"، وتحليلات أكثر من عدد حروف الوقائع العراقية نفسها، فالحكومة التي اعتادت على مواجهة التظاهرات والاحتجاجات، تجد نفسها محاصرة ببلبلة داخلية أثارتها فقرة جافة من قرار إداري، وكأن الأمر كما لو أن أحدهم ضغط على زر "إرسال" دون أن يدري أنه قد أرسل للكل تقريرا عن أسوأ كوابيسه، ولم تمض ساعات حتى بدأت الجهات الرسمية توزع بيانات التوضيح يمينا ويسارا، حيث أعلنت الحكومة بفخر أنها ضحية لمجرد ورقة هربت قبل أن تلقي عليها مساحيق التنقيح، وكأن التنقيح كائن مجهول يختفي في اللحظات الحرجة ليقلب الموازين ويورّط الجميع.
رئيس الوزراء العراقي مثل بطل في قصة من قصص ألف ليلة وليلة، أقام الدنيا ولم يقعدها مسجلا استنفارا غير مسبوق، وعلى طريقة "أنا المسؤول لكن المسؤول ليس أنا"، أصدر توجيها بضرورة إجراء "تحقيق عاجل"، وهي العبارة السحرية التي تعد بالأمل، وتوحي دائما بأن الحقيقة قادمة لا محالة، لكنها غالبا ما تصل متأخرة، فالتحقيق من وجهة نظر رئيس الوزراء سيكشف المسؤول ويحاسب المقصر، وسيضمن أن الفقرة الشاردة في القرار 61 لسنة 2025 لم تدرج الحوثيين وحزب الله في قائمة داعش والقاعدة إلا عن طريق الخطأ.
الحكومة من جهتها أصدرت بيانا مشتعلا يشبه شعلة نار لا تهدأ، أكدت فيه أن مواقفها السياسية من فلسطين ولبنان مبدئية وثابتة وغير قابلة للصرّف، وكأنها تعرض قميصا من الحرير للبيع، وأن لا أحد يستطيع المزايدة عليها، وأن من يظن غير ذلك فهو من "المتصيدين والمفلسين"، وهكذا اكتشفنا أن الخطأ في النشر ليس مجرد خطأ تقني، بل أصبح فجأة اختبار ولاء سياسي وطني وأخلاقي، وللأمانة لا أحد يجرؤ على منافسة الحكومة في سباق المزايدات، لأنه يحتاج إلى لياقة سياسية عالية، ومهارات متقنة للقفز بين النصوص قبل وبعد التنقيح، كما يفعل محترف الرقص في حفلات الزفاف، وفي خضم هذه الدوامة، تفرغت وسائل الإعلام لنقد أسلوب الحكومة في التعامل مع الموقف، فهل يعقل أن يعتبر إدراج أسماء جماعات مسلحة في قائمة الإرهاب بمثابة "حادث عرضي"؟ كأنه يقول: "آسف لقد وضعت الدجاجة في الخلاط بدلا من الفاكهة"
لكن سياق القضية أعمق من مجرد زلة، ففي الوقت الذي كانت فيه الأوساط السياسية مشغولة بالتنبيه إلى ضرورة الحفاظ على العلاقات الدولية، برّرت اللجنة المختصة الخطأ بطريقة كوميدية، وخرجت بتصريح يفتقر إلى الصرامة، ويشبه اعتذار طفل صغير بعد كسر زجاجة في المنزل، بأن إدراج تلك الكيانات في القائمة لم يكن سوى حادث عرضي، أشبه بموقف محرج حين تضغط على زر إرسال للجميع في مجموعة عائلية مليئة بالأقارب الفضوليين، وتكتشف أن هناك فقرة خطأ في الرسالة، فتبرير اللجنة تمت صياغته بجملة رسمية رصينة المعنى: "نشرت قبل التنقيح وسنصحّحها لاحقا".. هكذا بدت الكلمات، وكأنها تعلن بقوة عن عدم الكفاءة، وكأن الانزلاق إلى حفرة خطأ سياسي يعد أمرا عاديا في عالم السياسة في العراق، بل وكأن الأمر يتعلق بخطأ إملائي من نوع هذه بدلا من هذه، وليس إدراج جماعات إقليمية كاملة في قوائم الإرهاب.
ولأن العراق بلد "الوثيقة المسرّبة" لم يكن ممكنا أن تمر القصة دون وصول نسخة أخرى، تظهر لاحقا تتضمن "التماسا" بحذف الفقرات المتعلقة بحزب الله والحوثيين، وكأن الوثائق تتكاثر ذاتيا مثل نباتات الظل، فكلما حاول المسؤولون إغلاق باب، ظهرت ورقة جديدة من الشباك، وكلما صدر توضيح ظهر تسريب يناقضه أو يكمله أو يضيف عليه بهارات، فالوثيقة المسربة الجديدة تتوسل بحذف الفقرات كأنها رسالة طالب خائف للمدير يقول فيها: "أستاذ والله لم أقصد، أمّي ستعاقبني إذا بقي اسمي في لقائمة"، والأغرب من كل ذلك هو أن نشر الأسماء في الوقائع العراقية هو بمثابة خطوة قانونية ملزمة لكل المؤسسات المالية، مما يعني أن خطأ قبل التنقيح، كان لديه القدرة الغريبة على تجميد أموال جهات خارجية، بينما تعجز الحكومة عن تجميد رطوبة جدار في دائرة حكومية.
أما ردود الفعل الشعبية فقد تراوحت بين الاستهزاء والسخرية، فالشعب الذي ملّ من الوعود الغامضة، والتصريحات الإنشائية، وجد في هذا الخطأ ضالته، وكأنه فرصة للاحتفاء بحكايات مضحكة عن "الخطأ العظيم" في زمن الأزمات، ليغني ويرقص حول نار "المواقف الرسمية".. ومع كل هذا صارت حكومة العراق وكأنها طفلة ضائعة تبحث عن أي شيء يمكن أن يخرجها من ورطتها، وهي في حيرة بين العودة لممارسة لعبة تبادل الأخطاء؟ أم تستمر في محاولات التحقيق التي لا تنتهي؟ فمن الواضح أن القصة لم تنته بعد.
لم تعد الأخبار العاجلة بحاجة إلى أي تأثيرات خاصة أو موسيقى تصويرية مثيرة، فقد ابتكر العراق نوعا جديدا من الإثارة، وهي دراما القرارات قبل التنقيح، والتي تنشر قبل غسلها وكيّها، كأنها قرارات تخرج إلى العلن في ثياب النوم، ثم تتسابق الحكومة لتوضيح أنها كانت غير جاهزة للتصوير.. لكن التساؤلات المهمة هنا، من يقف خلف هذا؟ وكيف تنتشر الوثائق بهذه السرعة؟ هل هناك جهات؟.. فالمشكلة ليست في الوثائق فقط، بل في أن كل ورقة أصبحت قادرة على خلق أزمة سياسية قبل أن يجف الحبر عليها، وما إن يبدأ المسؤولون في "استدراك الخطأ" حتى تكون وسائل التواصل قد أعدّت المحاكمة الشعبية وصدر الحكم وتم التنفيذ افتراضيا.
القصة ليست عن تجميد أموال ولا عن قوائم الإرهاب فقط، بل عن إدارة معلومات تسير بسرعة غير متوقعة، ودولة تحاول اللحاق بوثيقة سبق أن عبرت القارات رقميا، أما الجمهور فقد اعتاد هذه الدوامة اليومية.. وثيقة تنشر، نفي، توضيح، توضيح للتوضيح، ثم إعلان عن تشكيل لجنة، والغريب أننا ما زلنا نتفاجأ.
#جليل_إبراهيم_المندلاوي (هاشتاغ)
Jalil_I._Mandelawi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟