جليل إبراهيم المندلاوي
كاتب وصحفي
(Jalil I. Mandelawi)
الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 22:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مثل هذا اليوم من عام 1988، وفي خضم صمتٍ دوليٍ مريب، كانت جبال بهدينان الشامخة شاهدة على واحدة من أبشع الجرائم التي شهدها القرن العشرون والتي ارتُكبت بحق الإنسانية إذ تحوّلت جبال ووديان كوردستان إلى ميادين للموت حين حوّل النظام العراقي البائد أرض كوردستان إلى مسرحٍ للدم بعد أن أعلن حربا شاملة على الوجود الكوردي، حرب لا تفرّق بين رجل أو امرأة، وبين شيخ أو رضيع، لا لذنب اقترفوه سوى أنهم كانوا كورداً، يعيشون على أرضهم متمسكين بهويتهم.. إنها الذكرى السابعة والثلاثون لآخر مراحل حملات الأنفال سيئة الصيت، ذلك الاسم الذي أصبح مرادفا للموت الجماعي وللتطهير العرقي وللظلم الذي تجاوز حدود الوصف، فقد أصبحت بهدينان تلك البقعة الجبلية الجميلة من أرض كوردستان، مسرحا لجريمةٍ ممنهجة ارتكبتها دولة ضد مواطنيها، جريمةٌ لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف ولا يُمكن اختصارها في أرقامٍ أو تقارير، بل هي مأساة متكاملة المعالم دموية المعنى ومفتوحة النهايات.
ففي الخامس والعشرين من آب عام 1988، حشّد النظام العراقي البائد مئات الآلاف من جنوده، مدججا بكل أدوات القمع والموت ووجّهها نحو قرى بهدينان، حيث كان الأبرياء يعيشون حياةً بسيطة وآمنة، فلم تكن تلك العملية العسكرية حربا بالمعنى الكلاسيكي بل كانت إبادة جماعية وُجّهت عمداً ضد مدنيين عُزّل، من مختلف المكونات القومية والدينية لمجرد أنهم وُجدوا في تلك الأرض وفي ذلك التوقيت، فما جرى في بهدينان لم يكن مجرد عملية عسكرية عابرة في زمن الحرب بل جزء من خطة مدروسة ومُتعمّدة لاجتثاث شعب بأكمله من جذوره، عبر استهداف وجوده وثقافته وحقه في الحياة، إذ قرر النظام العراقي آنذاك أن يمحو كوردستان من الوجود، لا من الخارطة فقط بل من الذاكرة والتاريخ، عبر حملات أنفال متعددة المراحل، كان آخرها في منطقة بهدينان، حيث زُجّت مئات الآلاف من القوات العسكرية النظامية ضد قرىً آمنة لا تملك سوى حقها في الحياة، لتزهق آلاف الأرواح في أيام معدودة، عائلات كاملة اختفت وقرى سُويت بالأرض وناجون شُرّدوا إلى المجهول أما الذكريات فسُرقت إلى الأبد ودُفنت مع أصحابها في التراب، كانت الجريمة أكبر من القتل، فقد كانت استباحةً كاملة للإنسان، للكرامة وللحق في البقاء.
ورغم مرور سبعة وثلاثين عاما على هذه الجريمة البشعة، لا تزال آثارها محفورة في الوجدان، ولا تزال الذاكرة الكوردية تنزف والجراح التي خلّفتها لم تندمل بعد، كما لم تأتِ العدالة ولم تُجبر الخواطر.. لم تُرمّم البيوت التي هُدمت ولم تُستخرج الآن جميع الأجساد المدفونة في مقابر جماعية، لتقف كأدلة دامغة على إجرام لا ينبغي أن يُغتفر.. فلا تزال جراح بهدينان تفتح نفسها كلما مرّ هذا التاريخ لا لتذكّر الضحايا فحسب، بل لتصرخ في وجه العالم: أين العدالة؟.. نعم، صدر قرار من المحكمة الجنائية العراقية العليا باعتبار ما جرى جريمة إبادة جماعية وبدعوات صريحة لتعويض ذوي الضحايا، لكن ماذا بعد؟ لا التعويض جاء ولا الاعتراف الحقيقي حدث ولا العدالة تحققت، وكأن الألم وحده هو ما كُتب له أن يبقى، بل وكأن القرار كان لرفع العتب لا لردّ الاعتبار.. فهل تكفي القرارات على الورق دون تنفيذ فعلي؟ وهل يمكن لتلك الأوراق أن تُعيد كرامة أُهينت أو تُعوض طفلاً كبر دون أب أو أم؟ وهل تكفي وثيقة قضائية لتعيد الحياة لأم فقدت أطفالها؟ وهل تكفي كلمات التضامن لتعيد الكرامة لقرية طُمست من الوجود؟ وهل يمكن لقرار أن يعوّض عن دماء سالت لأن أصحابها وُلدوا كورداً؟.. الجواب واضح: لا..
فالعدالة الحقيقية لا تتحقق بالكلمات بل بالفعل، ولا معنى لأي اعتراف إن لم يتبعه التزام تاريخي وأخلاقي وقانوني وسياسي، فالتأخير في تنفيذ العدالة ليس فقط تقصيرا إداريا فحسب، بل هو امتداد غير مباشر لتلك الجريمة، فحين تُترك عائلات الضحايا دون إنصاف يبعث برسالة خاطئة مفادها أن دماء الأبرياء رخيصة وأن الإبادة يمكن أن تمرّ دون حساب حقيقي، فحملات الأنفال لم تكن مجرد عمليات عسكرية بل كانت سياسة ممنهجة لإبادة شعب كوردستان وطمس هويته وكسر إرادته، وما جرى في بهدينان هو ذروة هذه السياسة وخاتمة دموية تُلخّص مشهداً طويلاً من القمع والإنكار والوحشية، وما حدث مسؤولية تتحملها الدولة العراقية لا بصفتها القانونية فقط بل بصفتها الأخلاقية والإنسانية أمام شعبها، فالسكوت عن هذه الجريمة أو تجاهلها يعني مشاركة ضمنية في استمرار مفعولها.. أما على الصعيد الدولي، فإن العالم المتحضر الذي أقام المحاكم لمجرمي الحرب في البوسنة ورواندا وأماكن أخرى لا يملك ترف الصمت إزاء الأنفال، فالصمت جريمة والنسيان خيانة.
الأنفال ليست ماضياً انتهى، بل حاضرٌ يتنفس في ذاكرة كل كوردي.. فكل أمّ كوردية هي أنفال.. وكل طفل وُلِد بعد عام 1988 ولم يجد قبر أبيه هو أنفال.. وكل قرية أعيد بناؤها على أنقاض المجزرة تحمل في حجارتها أنين الموتى.. فالأنفال ليست ذكرى حزينة نمرّ بها كل عام بل محطة تتجدد فيها المطالبة بالحق وتُرفع فيها راية الحقيقة في وجه محاولات التهوين أو التشويه، ولا ينبغي إحياء الذكرى عبر مراسم رمزية وخطابات سياسية، فاستذكارها ليس طقسا سنويا لاسترجاع مأساة، بل هو تأكيد على أن هذه الجريمة لا تُنسى ولا تُغتفر بالتقادم، فكل ضحية كانت إنساناً له حلم وحياة ومستقبل، وسلبه النظام البائد بأبشع صورة ممكنة، والعدالة ليست مجرد وثيقة قانونية أو قرار قضائي بل هي مسؤولية أخلاقية وإنسانية، والواجب الأخلاقي والوطني يتطلب وقفة جادة من الحكومة العراقية والمجتمع الدولي وكل القوى السياسية، للمطالبة العلنية بتنفيذ قرارات التعويض وتحقيق العدالة الانتقالية وإدراج هذه الجرائم في المناهج الدراسية كجزء لا يتجزأ من التاريخ الذي يجب أن يُروى، وتوثيقها في المحافل الدولية، فلا يمكن بناء مستقبل سليم على أنقاض ماضٍ لم يُحاسب بعد، فلا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية حقيقية دون الاعتراف الشجاع بالجرائم وتعويض الضحايا وإحياء الذاكرة الجمعية للأمة، فبهدينان ليست مجرد جغرافيا أُبيدت بل هي شهادة حيّة على ما يمكن أن يفعله الاستبداد حين يُترك بلا رادع، وعلى ما يحدث حين تُغيّب المحاسبة ويُسكَت الضمير.
فلتكن هذه الذكرى دافعا نحو الحقيقة لا مجرد لحظة حداد، ولتكن مناسبة نُجدّد فيها التأكيد على أن جراح الماضي لا تُشفى بالنسيان، لنقف بإجلال أمام أرواح الشهداء ونستذكر صمود من تبقى من عائلاتهم، ونجدّد العهد بأن لا تُنسى الأنفال ولا يُطمس تاريخها، وأن تُستكمل مسيرة المطالبة بالعدالة، مهما طال الزمن، فلن يهدأ ضمير هذا الشعب حتى تتحقق العدالة، كاملة، ناصعة، بلا مساومة، لأن كرامة الإنسان لا تُشترى، والحق لا يسقط بالتقادم، والذاكرة الحية هي السلاح الأقوى في وجه محاولات النسيان والتجاهل.
رحم الله شهداء الأنفال، ولتظل ذكراهم نبراساً على طريق الحقيقة والحرية.
#جليل_إبراهيم_المندلاوي (هاشتاغ)
Jalil_I._Mandelawi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟