أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جليل إبراهيم المندلاوي - شظايا حلم مكسور















المزيد.....

شظايا حلم مكسور


جليل إبراهيم المندلاوي
كاتب وصحفي

(Jalil I. Mandelawi)


الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 05:46
المحور: الادب والفن
    


في تلك المدينة المتشابكة، حيث تلتف الأزقة كأفاعٍ متربصة، وتنتصب المباني الشاهقة كحراس صامتين يراقبون كل من تسول له نفسه الاقتراب، كان هناك منزل قديم تتناقل عنه الألسن حكايات غريبة، منزل مهجور منذ عقود، تُحيط به أسوار عالية مُغطاة بالأشواك المتشابكة، وبوابة حديدية ضخمة صدئة تصرخ بصوت معدني أجش كلما داعبتها نسمة ريح.
اقتربت من ذلك المكان بعد أن وصلتني رسالة غامضة، مكتوبة بحبر أحمر على ورق أصفر متآكل الأطراف، تحوي عنوان المنزل وموعداً محدداً في منتصف الليلة القمرية، لم أعرف مرسلها، لكن شيئاً ما في كلماتها المبهمة جذبني، كما لو كانت الكلمات تعرفني، وتجرّني نحوها بمغناطيس لا يُرى، كإشارة كنت أنتظرها منذ زمن طويل.
طوال الطريق إلى ذلك المنزل، كنتُ أتحدث معها على الهاتف، تلك المرأة التي لم أرَها بعد، لكنها قيّدتني بشيء من الغموض، لا أعرف حتى هذه اللحظة هل أنا مغرم بها أم إنها كانت خلاصي من ذلك القيد الذي كاد يحطمني، قيد صنعته امرأة كنت أحبها كما يُحب الغريق الهواء... لكنها أرادت أن تسيطر عليّ بحب زائف، وأنا... كنت مليئأً بالعواصف، بالكلمات التي لا تُقال، وبالخوف من الهدوء، خذلتني فخذلتها، حين اعتقدت أن الحب وحده يكفي، حتى تعرفت على الأخرى التي ما زلت أسمع صوتها على هاتفي، والتي تعرفت عليها صدفة، عبر اتصال هاتفي تبعه آخر، ثم توالت الرسائل بيننا حتى أصبحت لا أطيق صبرا على التحدث اليها حيث اكون متلهفا كل ساعة لسماع صوتها، ورغم ذلك لم أرها بعد، وحتى لا أعرف إن كان هذا حبا، أم مجرد يد تُمدّ لإنقاذي من الغرق الأول،، فكلما اقتربت، كانت أصوات الليل تتلاشى تدريجياً، كما لو أن العالم قد اختار أن يسكت على الرغم من أن الأضواء الباهتة في السماء كانت تكشف عن تفاصيل المدينة الراكدة.
كانت خطواتي تُسمَع بوضوح فوق الحصى المتناثر على الطريق، لكن صوت الهاتف كان يُطفئ كل ما حولي.
"هل وصلتِ؟" سأل الصوت الأنثوي على الطرف الآخر، وكان له وقع غريب، كأنها تعرف كل شيء حتى قبل أن أسأل، فقد كانت مختلفة، لا تحاول ترقيعي، ولا تفتش في فوضاي، تنظر إليّ وكأنني لوحة غير مكتملة لكنها لا تريد الانتهاء، لم تعترف بشيء، ولم أعدها بشيء، فقط... نحن نتواصل عبر الهاتف، في المسافة التي لا تُلزم أحدأً، لكنها تفتح الباب لأكثر من احتمال، فقد كنت أخاف أن أكون أهرب إليها، لا إليها، أخاف أن أكون أستخدمها كممرٍ للهروب من ذاتي، للهروب من امرأةٍ علّمتني كيف أختنق باسم الحُب، لذلك جئت إلى هنا لأعرف... هل ما أشعر به حقيقي؟ أم مجرد وهم آخر اخترعه قلبي يختبئ في ظلّ وهم قديم؟
"أنا... على وشك الوصول" كان الصوت ينطلق مني غير قادر على كبح الرغبة في معرفة المزيد، لكنني كنتُ أخشى أن أظهر ضعفي، فبطبيعتي أنا إنسان متمرد، خُلِقتُ كأنني شظية في قلب نظام الكون، أرفض أن أُجمع ضمن المعادلات الجاهزة، فلا تروّضني الأسوار ولا تستهوي روحي قيود الطاعة العمياء، ليس لأنني أعشق العصيان، ولا لأنني أهوى الخروج عن السرب، بل لأنني أبحث عن معنى أعمق في كل أمر يُلقى إليّ، كنت أطلب أمراً بسيطاً في ظاهره، مستحيلاً في جوهره، إلى درجة التعقيد: أن أشعر بصدق من يأمرني، أن أتيقن أن الهدف هو ذاتي لا حريتي، أن أعرف، ولو لحظة، أن الهدف هو إصلاحي لا إخضاعي، فتمردي لم يكن نزقاً ولا رغبة في كسر القوانين، بل عطش دفين لصدق غائب، لوجه لا يختبئ خلف أقنعة الأوامر، كنتُ أبحث عن نداء يلمسني كلمسة الماء للعطشان، نداء يوجّهني لا ليكسرني، بل ليعيدني إلى ذاتي نقياً، كما خُلِقت، لذلك كنت كلما لمست بين السطور نزعة للهيمنة على روحي، تمردتُ بلا تردد، كأن الحرية في داخلي جبل لا يُزحزح، ففي كل أمر وُجِّه إليّ، كنت أرى خيوطاً خفية تحيك حولي قفصاً، لا يستهدف إصلاح جناحي بل قصّهما، كنت أشعر أن الهدف دوماً هو انتزاع ذاتي، تلك الشرارة التي توقد روحي، فأتمرد... أتمرد كأني جبلٌ تعبت منه الرياح، ولم تتعبني.
لكن الغريب أنني، بعد كل ذاك العناد، وجدت نفسي أخيراً أنصاع لأمر لم يكن أمراً بالمعنى المعتاد، بل كان صوتاً لا يُرى، ظهر كظل في مهب الحلم، صوتٌ دافئ، ليس طاغياً ولا آمراً، بل هامسٌ بعمق الحاجة والرغبة معاً، فلم يكن صوتاً عابراً، بل همساً قادماً من عمق الغيب، صوتاً بلا ملامح، بلا وجه، ومع ذلك كان أدفأ من كل الشمس التي عرفتها، لم يكن يأمرني... بل يغويني كما تُغوي السماء طيرها الوحيد أن يحلق أعلى، وكلماته؟ لم تكن مجرد حروف، بل مفاتيح خفية تفتح أبواباً كنت أظنها مغلقة للأبد.
لم يأتِ ذاك الصوت من الخارج كما اعتدت، بل من عمق سراديب روحي، كأنني التقطت أخيراً صدى النجم الذي كنت أدور حوله دون وعي، كان صوتاً بلا صورة، كائناً من نور وظل، وبدفء مدهش تسلل إلى داخلي، لم يأمرني، بل كشف لي مرآة كنت أخاف النظر فيها، لم يطلب انصياعي، بل أيقظني إلى حقيقة أعظم: أن أقيّد نفسي بيدي لأتحرر من كل ما كبّلني دون أن أشعر.
ولأول مرة منذ زمن طويل، شعرت أن ما يُقال لي ليس قيداً بل خلاص، ليس أمراً بل شغفاً ملزماً، فأنا المتمرد حتى على نفسي، وجدتني أقيد روحي بخيطٍ من نور، أنصاع لنداء لا يُشبه شيئاً، كأنني أطأ عتبة حلم جديد، حلم فيه الانقياد حرية، وفيه الطاعة اكتشاف، بل وكأنني وجدت في هذا الانقياد حريةً أوسع مما عرفت... وكأن الكلمات التي سمعتها لم تكن سوى وحي، لا يحق لي إلا أن أطيعه، ممتلئاً بالرضا، فذاك الصوت لم يطلبني لذاته، بل أخرجني من حدودي لأرى نفسي كما لم أرها من قبل... عندها فهمت أن التمرد الأعمى لا يكفي، وأن أسمى درجات الحرية تبدأ عندما تختار، بكامل وعيك، أن تنحني لما يجعلك تنهض أعلى.
حين وجدت نفسي أمام بوابة المنزل المهجور في تلك الليلة الغامضة، شعرت بشيء غريب يتسرب إلى نفسي... كان كأنما هذه اللحظة قد حُسِمت منذ زمن، أنا لستُ هنا للمصادفة، كنتُ أبحث عن شيء لم أعرفه بعد.
وقفتُ أمام البوابة الحديدية الضخمة، يدي ترتجف من هذا الثقل الذي يحيط بي، ثم نظرتُ نحو الأسوار العالية التي كانت تحيط بالمكان، وشعرتُ بشيء ما يراقبني، لكنني لا أستطيع أن أرى شيئاً، كان الجو مشبعاً بالرياح التي تحمل في طياتها رائحة العفن والأشياء القديمة.
كان القمر بدراً كاملاً، يسكب ضوءه الفضي على طريق متعرج وسط حديقة متوحشة، أشجار عتيقة تتمايل بأغصانها المتشابكة، وأزهار غريبة الأشكال تتفتح فقط في ضوء القمر،، امتدت يدي نحو مزلاج البوابة وكأنها لا تخصني، الحديد باردٌ رغم الرطوبة، يشبه ملامسة جثة نُسيَت في العراء، دفعتها بحذر، فأنّت البوابة كما لو أنها تعاني من كوابيس قديمة، وفتحت فمها على صريرٍ طويل بدا وكأنه اعتذارٌ عن صمتٍ امتد لعقود.
داخل الساحة، كانت الأعشاب قد تجاوزت حدودها، نبتت على الأرصفة، تسلقت الجدران، وتمددت كما تفعل الندمات على جسد عجوز، لا أثر لحياة، ولا رائحة سوى تلك الرطوبة الثقيلة التي تذكّر بالقبو السفلي للذاكرة، شعرت للحظة أن الهواء نفسه يراقبني، يختبرني، يتشمم خوفي.
مع كل خطوة نحو مدخل المنزل، كان قلبي يتسارع، وحدس غامض يتنامى في داخلي، كانت هناك لوحة نحاسية قديمة معلقة على الباب الخشبي الضخم، عليها نقش متآكل بلغة لم أفهمها، لكنني شعرت أنها تخاطبني شخصياً.
دفعت الباب بحذر، فانفتح ببطء مصدراً أنيناً عميقاً، داخل المنزل، كان الظلام دامساً إلا من شعاع قمر يتسلل من نافذة مكسورة، ليضيء دهليزاً طويلاً، تقدمت بخطوات مترددة، أتلمس طريقي في الظلمة، حتى لمحت وميضاً خافتاً في نهاية الدهليز.
كان الوميض قادماً من غرفة واسعة، في وسطها طاولة مستديرة عليها شمعة واحدة مشتعلة، وحولها سبعة مقاعد خالية، وضع أحدهم كتاباً قديماً مفتوحاً على الطاولة، وكأس خمر نصف ممتلئ، شعرت بوجود شخص ما، أو شيء ما، يراقبني من الظلال.
ثم سمعته... ذلك الصوت الذي خاطبني في الرسالة، الصوت الذي شعرت أنني أعرفه منذ الأزل، جاءني الآن واضحاً، يتردد صداه بين جدران المنزل العتيق.
"لقد وصلت أخيراً" همس الصوت من خلفي، "كنت أنتظرك منذ قرون".
التفت بسرعة لأواجه مصدر الصوت، فرأيت ظلاً يتشكل أمام عيني، يتجسد شيئاً فشيئاً، كأنه يُستدعى من عالم آخر، كان الظل يتحول إلى هيئة بشرية ضبابية، لكن عينيه كانتا واضحتين - عينان عميقتان كبئرين لا قرار لهما.
"من أنت؟" سألت بصوت متحشرج.
"أنا ما تبحث عنه منذ ولدت" أجاب الظل "أنا الجزء المفقود من روحك".
قدم لي الظل الكتاب المفتوح على الطاولة، "هذا كتاب حياتك... صفحاته الأولى كُتبت قبل مجيئك، والباقي فارغ ينتظر قلمك".
نظرت إلى الكتاب بحذر، فرأيت صفحاته تتلون وتتغير، تعرض صوراً من ماضيّ، لحظات نسيتها، وأخرى حاولت نسيانها، ثم رأيت صفحات بيضاء تمتد إلى ما لا نهاية.
"لماذا أنا؟" سألت الظل.
"لأنك الوحيد الذي يستطيع إكمال المهمة،" أجاب، "تمردك ليس عيباً... بل هو المفتاح".
قدم لي الظل قلماً فضياً يلمع بضوء غريب، "لن آمرك بشيء... بل سأعرض عليك خياراً: يمكنك أن تكتب نهاية لهذه القصة، أو أن تبدأ قصة جديدة تماماً".
في تلك اللحظة، شعرت بحرية لم أعرفها من قبل، ليست حرية التمرد والرفض، بل حرية الاختيار الواعي، أخذت القلم بيد ثابتة، وللمرة الأولى في حياتي، شعرت أن الطاعة يمكن أن تكون أعمق أشكال التحرر.
مسكت القلم، وبدأت أكتب.
لكن ما إن لامس القلم الصفحة حتى اهتزّت الأرض تحتي، كأن شيئاً في بنية الواقع قد تصدّع، انبعث من الكتاب نور أزرق راقص، وبدأت الأحرف التي أكتبها تلتف حول معصمي كأشرطة من الحبر الحيّ، تنسج حولي رداءً شفافاً من الكلمات، تلاشى الظل أمامي، تاركأً وراءه صدى ضحكة خافتة، ليست ساخرة، بل كمن عرف أن اللعبة بدأت أخيرأً.
اختفى الظل، واختفى معه البيت كله، أو ربما أنا من خرجت من طياته، لا أعلم، وجدت نفسي واقفأً في منتصف الطريق ذاته، أمام منزل لا أثر له، والسماء لا تزال تسكب ضوءها على مدينة نائمة، الهاتف في يدي عاد ينبض، يهتز وكأنّه قلب صغير لا يحتمل الغياب.
رددت على المكالمة دون أن أنظر إلى الاسم.
"هل انتهيت؟" جاء صوتها، ناعمأً، كما لو كانت تنتظر خلف ستارة الحلم أن أعود إليها.
"لا أعلم إن كان هذا يسمى انتهاءً... أو بداية".
سكتت، ثم قالت: "كنت أتابعك بصمتي... حتى حين لم تكن تتكلم، هل وجدت ما كنت تبحث عنه؟"
"وجدتني"، قلت ذلك وأنا أسمع في صوتي نبرة لم أعرفها من قبل، مزيج من اليقين والخوف، كأنني لم أعد ذلك الهارب من الماضي، ولا السابح في احتمالات الغد، بل شخص يقف أخيرأً على عتبة اختياره، بلا رجفة.
"وهل أنا جزء من هذا الذي وجدته؟" سألت.
سؤالها لم يكن اتهامأً ولا استعطافأً، بل امتحانأً ناعمأً، كأنها تقول: هل رأيتني أخيرأً، لا كطوق نجاة، بل كجزء حقيقي من رحلتك؟
قلت: "ربما... لا، بل نعم، أنتِ لم تكوني مهربأً، بل خريطة، لا ترشدني إلى وجهة، بل إلى نفسي، كنتِ مثل الضوء الذي لا يأمرني أين أمشي، بل يكتفي بأن يكشف الظل عن عيني".
سكتت، وفي صمتها، فهمت كل شيء،، "هل تراني؟" سألت بعد لحظة.
"أراكِ كما لم أرَ أحدأً من قبل"، قالت بهدوء: "أنا في المدينة القديمة، المكان الذي حدثتني عنه مرة، قرب الجسر المكسور الذي تحب الجلوس عنده، إن كنتَ تعرف طريقك... تعال، لا لتقول شيئأً، بل لتجلس فقط،"،، ثم أغلقت الخط.
لم يكن في صوتها شيء من التوسل، ولا انتظار ثقيل، فقط دعوة من لا يطلب، بل يفتح الباب ويتركه مواربأً، ارتجف قلبي... لا من الحب، بل من احتماله، كنت طوال حياتي أهرب ممن يريد الإمساك بي، وها أنا أمام امرأة لا تطلب الإمساك، فقط تدعوني للوجود.
مشيت، خطاي لم تكن سريعة ولا مترددة، بل متصالحة، كل الأشياء التي عاندتني في طريقي كانت الآن تسير بجانبي: ظلي، صمتي، خوفي، وحتى بقايا الحب القديم.
وصلت الجسر، وكانت هناك، تجلس كما تخيلتها دائمأً، لا ترتدي شيئأً صارخأً، بل ما يشبه الصدق، نظرت إليّ دون دهشة، كأنها كانت تعرف أنني سأجيء.
جلستُ بجوارها، لم نتكلم، المدينة من حولنا تنام، والماء ينعكس عليه وجه القمر، لا مضطربأً ولا صافياً، بل كما هو... كأن الحقيقة لا تحتاج إلى ترتيب.
بعد لحظة، مدت يدها نحوي، لا لتأخذني، بل لتلامس كفيّ بلطف، قلت بهمس: "هذه المرة... لا أريد أن أهرب، ولا أن أتمرد، أريد فقط أن أكون".

ابتسمت، ثم قالت: "إذن... لنبدأ الصفحة التالية"، فبدأنا نكتب الصفحة التالية، لا بالحبر، بل بالصمت.
كان اللقاء الثاني في مقهى شبه مهجور، تُضيئه لمبة صفراء تنبض مثل قلب قديم، وعلى الطاولة بيننا فنجانان من القهوة، وكتاب لم نفتحه بعد، لم نتكلم كثيرأً، لأن الكلام كان قد أنهى وظيفته، الآن، كل شيء يُقال بالسكوت.
كانت تنظر إليّ من حين لآخر، نظرة خالية من المطالب، لكنها ممتلئة بحضورها، امرأة لا تحتاج أن تُثبت شيئأً، ولا أن تبرر وجودها في حياتي، فقط كانت هناك، كما لو أنها الحاضر المتصالح مع ماضٍ هائج، ومستقبل لا يعد بشيء.
"أنت ما زلت تمشي في الحلم أحيانأً،" قالت بهدوء.
أومأتُ: "صحيح... لكني لم أعد أسكنه، صرت أزوره فقط".
قالت وهي تبتسم: "إذن أنت بخير".
قلت: "أظن ذلك".. ثم أضفت: "لكني لا أريد أن أتحول إلى شيء هادئ جدأً، إلى رجل يشرب القهوة بهدوء، يبتسم للناس، وينسى أن هناك نارأً ذات يوم احترقت فيه".
قالت: "من قال إن السلام يعني أن تطفئ النار؟ أحيانأً يعني فقط أن تتعلم كيف تعيش وأنت تحترق، لكن دون أن تصرخ".
نظرت إليها طويلأً، كانت أجمل مما أذكر، لا لأنها صارت أكثر أنوثة، بل لأنها كانت أكثر وضوحأً، امرأة تعرف أنها لا تصلح أن تكون بطولة أولى في رواية درامية، لكنها مثالية كبطلة صامتة في فصل حاسم، خرجنا من المقهى، الجو كان خريفيأً، والريح تحمل رائحة بداية.
"هل نخترع حياة؟" سألتها وأنا أنظر إلى الشارع الفارغ.
قالت: "لا نحتاج إلى اختراع شيء، فقط لنعش الحياة التي توقفت عن التنفس".
بدأنا نلتقي بشكل غير منتظم، مرة في شارع جانبي، مرة في حديقة مهجورة، مرة في بيتها، الذي يشبهها تمامأً.. بسيط، مرتب، بلا صور على الجدران، كأنه ينتظر أن تمتلئ مساحاته بالحقيقة فقط.
لم نحب بعضنا بطريقة تقليدية، لم تكن هناك رسائل حب، ولا نزهات طويلة، كنا نقترب من بعضنا كمن يقترب من مرآة لا ليُعجب، بل ليفهم.
وذات ليلة، بينما كنا نتمدد في صمت على السرير، قلت لها: "أشعر أني أخون ماضيّ حين أكون معك".
قالت بهدوء: "بل إنك تخلّصه، لا أحد يخون النار حين يغادرها، هو فقط يتوقف عن حرق يده"،، سكتُّ، ثم نمت بجانبها لأول مرة دون أن أطارد في حلمي.
مرت الأسابيع كأن الزمن فقد صوته، لم يعد يقرع كالساعة، بل صار ينساب مثل ماء في تجويف مظلم، لم أعد أعدّ الأيام التي أقضيها معها، لأننا لم نكن نعيشها لنحصيها، بل لنختبر ما تفعله الراحة حين تدخل قلبأً اعتاد أن يُخترق لا أن يُربّت عليه.
صرت أقلّ حدة، وأقلّ رغبة في أن أقول كل شيء دفعة واحدة، كأنني تعلّمت الصمت، لا كخضوع، بل كفنّ، كانت "هي" تملك هذا النوع من الحضور الذي يعلّمك أن تنصت لنفسك لا لتردّ عليها، بل لتفهم ما لم تُدركه حين كنت تصرخ.
وذات مساء، سألَتني، ونحن نتمشى على رصيف قديم: "هل ما زلت تنتظر الخلاص؟"
أجبتها بعد صمت: "لم أعد أبحث عنه كما كنت، صرت فقط أبحث عن طريقة للعيش دون أن أحتاج إلى معجزة".
قالت وهي تنظر أمامها، لا إليّ: "أنت لا تحتاج خلاصأً، أنت تحتاج فقط أن تغفر لنفسك أنك لم تكن بطلأً".
كأن شيئأً انكسر بداخلي، أو ربما… كأن شيئأً أخيرأً انفتح، كنت أعيش طيلة الوقت كأن الحياة محكمة، وأنا المتهم الوحيد، الآن، للمرة الأولى، شعرتُ أنني مجرد رجل نجا من انهيار، ويحاول أن يبني نفسه دون خطط معمارية، دون خرائط مثالية.
في إحدى الليالي، قلت لها: "هل تعتقدين أننا نحب من يعيد ترتيبنا، أم من لا يخاف من فوضتنا؟"
قالت، بعد أن أطفأت المصباح: "نحب من لا يهرب حين ننهار أمامه، لا ليصلحنا، بل ليجلس معنا بين الركام".
كان هذا جوابأً يجعل الحب فعل مرافقة، لا إنقاذ، وهذا بالضبط ما كانت تفعله، لم تضع يديها على جراحي، بل جلست قربي وهي تنظر إليها، ثم قالت: لا بأس… أنت ما زلت حيّأً.
ثم حدث ما لم أتوقعه، لم تعد تردّ على اتصالاتي، لم تفتح الباب ذات مساء، لم تترك رسالة، ولم تودّع، كأنها اختفت بنفس الصمت الذي جاءت به.
وبعد أيام، وجدت على الطاولة الصغيرة في بيتها ورقة وحيدة، بخطّها الناعم: "أنا لم آتِ لأبقى، بل لأريك أن البقاء ممكن، لا تبحث عني، أنا لست الجواب… فقط كنت الطريق إليه".
جلست طويلأً هناك، لم أبكِ، ولم أغضب، فقط تنفّست، للمرة الأولى، بعمق.



#جليل_إبراهيم_المندلاوي (هاشتاغ)       Jalil_I._Mandelawi#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرب الكبار.. بين التنين والعم سام
- مفاجأة القمة.. الشرع في بغداد
- مفاوضات نووية بطعم النعناع
- مزاد جيوسياسي.. سيادة تبحث عن لجوء
- العيد بين الهلال والسياسة
- حرية بطعم الرماد
- أنثى في معبد وثني
- عشق على أوتار الشك
- تركيا.. اعتقال يشعل شرارة الغضب


المزيد.....




- -10 قصص عن الحب والموت-.. مسلسل تلفزيوني عن أحداث دونباس
- بعد غياب 3 سنوات.. توم كروز يعود إلى مهرجان كان بفيلم -المهم ...
- مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78: خمسة أفلام عربية تنافس ...
- فاز بجائزة -بوليتزر- الأميركية .. مصعب أبو توهة: نحلم بالعود ...
- نواف سلام بمعرض بيروت الدولي للكتاب: مستقبل الأوطان يُبنى با ...
- -باريس السوداء-.. عندما كانت مدينة الأنوار منارة للفنانين وا ...
- رحيل الفنان أديب قدورة.. رائد الأداء الهادئ وصوت الدراما الس ...
- معرض الدوحة الدولي للكتاب يناقش إشكاليات كتابة التاريخ الفلس ...
- الروائي الفيتنامي الأميركي فييت ثانه نغوين: هذه تكاليف الجهر ...
- وفاة الشاعر العراقي موفق محمد


المزيد.....

- اقنعة / خيرالله قاسم المالكي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جليل إبراهيم المندلاوي - شظايا حلم مكسور