جليل إبراهيم المندلاوي
كاتب وصحفي
(Jalil I. Mandelawi)
الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 06:17
المحور:
كتابات ساخرة
لا أدري من ذلك العبقري الذي قرر أن يمنح هذا الكيان اسم "مجلس الأمن الدولي" ربما كان يمزح، أو أراد أن يضيف لمسة كوميدية على النظام العالمي، فاختار أن يمنح أكثر المؤسسات فوضوية اسما يوحي بالاستقرار والطمأنينة، والأعجب أن العالم صدّق، كأنك تطلق على فرقة موسيقية تعزف تحت القصف اسم "سيمفونية السلام"، أو تسمي جرافة تهدم البيوت "بعثة إعادة الإعمار".. فمجلس الأمن، هو المكان الذي تُناقش فيه القضايا الساخنة ببرود أعصاب، وتُرتكب فيه المجازر على وقع بيانات القلق العميق، لتتصافح الأكاذيب وترتدي الوقاحة بذلة رسمية، ليتحول الى مسرح أممي لا تُرفع فيه راية الحق إلا إذا وافقت عليها الفيتو، ولا يُدين المعتدي إلا إذا كان من خصوم الخمسة الكبار.
ففي هذا المكان الذي تتلاقى فيه الأحلام مع الكوابيس، وتُترجم المصالح القومية إلى خطب رنانة عن السلام العالمي، نشهد يومياً عرضاً مسرحياً لا ينتهي، فهناك مشهد يتكرر بانتظام ساعة ذروة المشاهدة، حيث يدخل مندوب دولة ما إلى المنصة حاملاً ملفاً يحتوي على "أدلة دامغة" و"وثائق سرية" و"معلومات استخباراتية موثوقة"، يرفع صوته عالياً ويلوح بالأوراق كأنها صكوك غفران، ثم يعلن بكل ثقة: "نحن لا نريد الحرب، لكن..."
وهنا تأتي الـ"لكن" الشهيرة، تلك الكلمة السحرية التي تحول الضحية إلى معتدٍ، والمعتدي إلى ضحية، "لكن أمننا القومي مهدد".. "لكن شعبنا في خطر".. "لكن الإرهاب يحيط بنا".. وفجأة، تصبح القنابل التي تسقط على رؤوس الآخرين مجرد "إجراءات دفاعية ضرورية".
ففي جلسة جديدة من جلسات هذا المجلس جلس العالم مرة أخرى ليستمع إلى أغرب حكاية في القرن الجديد: حكاية الدولة التي تملك القنبلة النووية وتخاف أن يمتلكها غيرها، وتدّعي البراءة بعد كل جريمة، وتصف ضحاياها بالإرهابيين، حيث الجاني يرتدي عباءة القاضي، ويقف على منصة العدالة الدولية لينظّر في الأخلاق.
فيما إيران تصر أن برنامجها النووي سلمي، رغم أن كمية أجهزة الطرد المركزي التي تدور في منشآتها تكفي لتزويد كوكب المريخ بالكهرباء، حيث جلس المندوب الإيراني يشكو للمجتمع الدولي: "إسرائيل اعتدت على منشآتنا الطبية"، وكأن الرجل فوجئ بأن الصواريخ التي تنهال على بلاده لا تحمل ورودا بل قنابل، ليصرخ في وجه المجلس قائلاً إن "مئات المدنيين قُتلوا وأُصيب الآلاف"، وكأنه نسي أن طهران، في قاموس العالم، لا يحق لها أن تشتكي من القصف، بل فقط أن تفتح ملفا لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية... وتنتظر. فالمجلس "كعادته" كان منشغلاً بمقارنة قوة الصواريخ الإيرانية بأسماء العطور الفرنسية، ومشغولاً أكثر بموازنة "حق الدفاع عن النفس" مع "حق الهجوم تحت الطاولة".
ثم دخل علينا المندوب الإسرائيلي بخطبة نارية: "خامنئي يريد إبادة إسرائيل، وحاولوا اغتيال نتنياهو وترامب"، وكأن له براءة اختراع في "الشكوى الصارخة"، أعلن أن إيران تطلق الصواريخ على المستشفيات، وتطور صواريخ مدى 4 آلاف كيلومتر، وفي الوقت ذاته يطمئننا بأن ضرباتهم "لا تستهدف المدنيين" بل "المنشآت العسكرية فقط"، ربما لأنهم يعتقدون أن المدنيين في إيران يعيشون على سطح القمر، خارج نطاق الضرر..
وحتى لا يُتهم العالم بالنفاق، قررت أمريكا أن تشارك في العرض: مندوبتها في مجلس الأمن لم تُدن القصف، بل جاءت لتُلقي علينا محاضرة عن ضبط النفس، وتطلب من إيران أن "تتوقف عن التصعيد"،
واتخذت وضعية المعلم الغاضب الذي ضُبط طلابه وهم يغشّون في الامتحان، فقالت لإيران: "كفى تحريضًا، أنتم من فتحتم الجبهة من لبنان". وبالطبع، نُسيت واشنطن فجأة أنها صاحبة سجل طويل في فتح الجبهات، من بغداد حتى كابول، مرورا بنظرية "الأسلحة التي لم توجد أصلًا".
أمريكا، التي لا تكاد تخوض حربا إلا وتزعم أنها تدافع عن السلام، باتت الآن تدافع عن قصف منشآت طبية، شرط أن يكون الفاعل صديقا ديمقراطيا.. يملك سلاحا نوويا ويخشى على العالم من النووي.
وفي الزاوية المخصصة للأعضاء الدائمين، نجد أغرب أوركسترا في التاريخ، خمسة عازفين، كل منهم يملك آلة موسيقية سحرية تسمى "الفيتو"، عندما تُعزف هذه الآلة، تتوقف كل الموسيقى الأخرى، وتصمت كل الأصوات، ويعود الصمت إلى القاعة.. ثم يُطلّ علينا نتنياهو بكل بجاحة العالم، "نحن لا نستهدف المدنيين، فقط المنشآت النووية".. حاملاً لائحة من 28 ألف صاروخ قال إنها بيد طهران، ليخبر العالم بلغة الواثق أن إسرائيل ستواصل استهداف المنشآت النووية، لأن "هدفنا هو منع إيران من امتلاك قنبلة نووية". ومع كل هذا الاندفاع، لم ينس الرجل شكر "القائد العظيم" سيد البيت الأبيض، الذي يبدو أنه تلقى منه رخصة دولية تسمح له بأن يكون "المجرم الأعظم" فوق أجواء الشرق الأوسط.. ولكن عذرا سيد نتنياهو، هل كانت غرفة العمليات في الطابق السفلي منشأة تخصيب؟ أم أن الممرضة كانت تُخفي يورانيوما مخصبا في جيب المريول الأبيض؟!
لكن مهلاً، من بدأ؟ من أطلق الرصاصة الأولى؟ من هدد؟ الإجابة لا تحتاج إلى لجان تقصي حقائق، دعونا لا نكذب على أنفسنا، إنها إسرائيل، وبالذات نتنياهو، الذي يبدو وكأنه لا يشعر بالراحة إن لم يشاهد دخانًا يتصاعد أو جسدا يتناثر ودماء تتطاير.. إسرائيل بدأت العدوان، وبقصفها للمنشآت المدنية، أثبتت أنها دولة عسكرية بغطاء ديني، لا يفرّق في هجماته بين طفل رضيع وأنبوب مفاعل، هي التي اختارت النار، وأطلقت أول صاروخ، ثم وقفت لتقول: "إيران هي من بدأت".. تماما كمن يصفعك ثم يتهمك بأنك تجاوزت المسافة الآمنة، وهنا المفارقة: دولة تقصف مستشفيات ثم تطالب الأخرى بالتراجع عن برنامجها السلمي، وكأن اللص يقول للمالك: "إذا أردت أن تبقى حيا، فسلّم لي مفاتيح بيتك".
ومع ذلك، نتنياهو، هذا الذي تحوّل من رئيس وزراء إلى رئيس لجنة تفتيش دولية، يقف في كل محفل ويصرخ: "لقد نفد صبرنا!"
يا سيدي، الصبر لم ينفد، بل الشك.. الشك بأنك لا تريد الحرب.. أنت لا تنتظر الحروب، بل تشتاق لها. تُصلي لها. وتختار توقيتها بدقة، كلما ضاقت بك السياسة أو ازدحمت التحقيقات.
من جانبها، إيران تصرخ منذ أسبوع أن برنامجها سلمي، تخضعه للرقابة، وتخصب اليورانيوم من أجل الطب والصناعة وحتى الحُب إن لزم الأمر.. لكن الغرب لا يصدق إلا إذا قرأت لهم طهران تقرير الوكالة الدولية بصوت نتنياهو نفسه... ووقع عليه ترامب.
حيث قالها عباس عراقجي، وزير خارجية إيران، صراحة من جنيف: لن نوقف التخصيب أبداً، وما فعله الأمريكيون خيانة للدبلوماسية.. لكن الغريب أن هذه الدبلوماسية الإيرانية باتت تشبه المفاوضات في سوق شعبي؛ تبدأ بسعر وتُختتم بصاروخ، والحقيقة؟ الخيانة لم تعد في الدبلوماسية فقط، بل حتى في التعريفات، فاليوم، القصف على طهران يسمى "ردعًا استباقيًا"، والقصف على تل أبيب يُعد "إرهابًا بالوكالة"، وإذا مات إسرائيلي في ملجأ، تُعقد جلسة طارئة، أما إذا مات إيراني أو فلسطيني أو لبناني المهم لا يكون من الشعب المختار، فالخبر يُنقل في الهامش تحت عنوان: "أضرار جانبية".
وفي الختام، يخرج مجلس الأمن بورقة خضراء باهتة، تحمل عبارات تشجب وتدين، لكن دون أن تذكر من المعتدي.. حيث انتهت الجلسة كالمعتاد؛ كل طرف صرخ بما يكفي ليشعر بالانتصار، وتفرق الحضور بينما بقي "السلام" حبيس بيانات الأمين العام. أما الضحايا، سواء في طهران أو تل أبيب أو بيروت أو غزة، فهؤلاء لا تهمهم قصائد النووي ولا نشيد الديمقراطية، بل يبحثون فقط عن يوم لا يبدأ بصافرة إنذار وينتهي بانفجار.
وفي نهاية كل جلسة، يخرج المندوبون من القاعة وعلى وجوههم ابتسامات متعبة. لقد أدوا دورهم على أكمل وجه: تحدثوا عن السلام، وشجبوا العنف، ودعوا إلى الحوار. والآن، يمكنهم العودة إلى بلدانهم ليخبروا شعوبهم أنهم "يعملون بلا كلل من أجل السلام".. فقد تعلموا في أكاديمية الخطابة الدبلوماسية، فناً راقياً: كيف تقول شيئاً دون أن تقول أي شيء، كيف تدين دون أن تدين، تبدأ الجملة بـ"نحن قلقون بشدة" وتنتهي بـ"ندعو جميع الأطراف إلى ضبط النفس". والنتيجة؟ بيان يرضي الجميع ولا يزعج أحداً.. وعندما تريد أن تنتقد طرفاً دون أن تغضب الطرف الآخر، تستخدم الجملة السحرية: "بينما نفهم مخاوف الطرف الأول، فإننا نحترم حقوق الطرف الثاني". وهكذا، تنجح في قول لا شيء بأسلوب دبلوماسي رفيع.
في مجلس الأمن، الكل يتحدث عن القانون الدولي.. لكن لا أحد يقرأه، والكل يرفض الحرب.. لكنه يضغط على الزناد.. أما الحقيقة؟ فهي أن هذا المجلس العتيد، صار أشبه بلجنة تحكيم في برنامج مواهب، يصفق لهذا ويهز رأسه لذاك، ويمنح جائزة "أفضل ممثل نووي" لهذا أو ذاك، ثم ينسى أن خلف الكاميرا.. تسيل دماء حقيقية.. ففي النهاية، نحن لا نعيش في عالم عادل، بل في مسرح كبير، القاتل فيه يكتب التقرير الجنائي، والمقتول يُسأل: لماذا لم تتفادَ الرصاصة؟ أما مجلس الأمن، فهو فقط يضبط الصوت والصورة… كي لا تزعجنا صرخات الأطفال وهي تتردد في أروقة العدالة العمياء.
#جليل_إبراهيم_المندلاوي (هاشتاغ)
Jalil_I._Mandelawi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟