أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - أزمة التعليم أم أزمة إنتاج التفكير في المجتمعات العربية؟















المزيد.....

أزمة التعليم أم أزمة إنتاج التفكير في المجتمعات العربية؟


حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث

(Hossam Aldin Fayad)


الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 00:54
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


” حين يتحول التعليم إلى طقس للحفظ لا أفق للتفكير، يفقد المجتمع قدرته على أن ينجب عقلاً يسأل أو جيلاً يبتكر “.
” في العالم العربي، يتخرج الطالب بشهادة أكثر مما يتخرج برؤية، لأن المدرسة تدرس كل شيء إلا كيفية النظر إلى الأشياء “ (الكاتب).

إن أزمة التعليم في المجتمعات العربية ليست نقصاً في المعلومات، بل غياباً في القدرة على تحويل المعلومات إلى معرفة، والمعرفة إلى وعي. ففي زمن تتطور فيه المعرفة العلمية بسرعة الضوء، ويتحول فيه العقل البشري إلى المورد الأكثر قيمة في بناء المجتمعات واقتصاداتها، يقف التعليم العربي عند مفترق طرق يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. فالمدرسة، التي يفترض أن تكون معمل إنتاج القيمة الإنسانية، باتت في كثير من السياقات العربية عاجزة عن أداء دورها التأسيسي، بل تسهم أحياناً عن غير قصد في تكريس الفجوة بين الأجيال العربية والعصر الرقمي المتسارع. وهكذا يجد الإنسان العربي نفسه أمام نظام تعليمي لا يواكب زمنه، ولا يعكس طموحاته، ولا يزوده بالأدوات المعرفية التي تمكنه من أخذ مكانه الطبيعي في ساحة الإبداع العالمي.

تنبع أزمة التعليم من بنية عميقة وليست مجرد سلسلة من الأخطاء الإجرائية. فالمناهج، رغم التحديثات الشكلية التي قد تطرأ عليها، ما زالت تعمل بمنطق القرن الماضي، حيث تختزل المعرفة في كتب مغلقة، وتعامل كحقيقة نهائية لا كمجال للتساؤل والاكتشاف. هذا النمط من التعليم يوجه الطلاب نحو حفظ الإجابات بدلاً من طرح الأسئلة، ويجعل العلاقة بين المتعلم والمعرفة علاقة استهلاك لا علاقة إنتاج. ومع الوقت، يصبح الطالب أسيراً لثقافة الامتحان، حيث يتم قياس ذكائه عبر عدد الصفحات التي يستطيع استرجاعها، لا عبر قدرته على التحليل أو الإبداع أو بناء الأفكار.

ويتعمق هذا الإشكال حين نفحص العلاقة بين التعليم وسوق العمل. فالمؤسسات التعليمية العربية، في الغالب، معزولة عن ديناميات السوق، تعمل بمناهج ثابتة ومفاهيم لم تعد مناسبة لمتطلبات الاقتصاد المعرفي. وبينما تتحول دول العالم إلى الاستثمار في قطاعات التكنولوجيا، والبحث العلمي، والاذكاء الاصطناعي، لا تزال قطاعات واسعة من التعليم العربي تخرج أعداداً ضخمة من الطلاب بمهارات نظرية محدودة لا قيمة لها في أنظمة الإنتاج الحديثة. وهكذا تتكون فجوة معرفية يتسع مداها بين الإنسان العربي وبين عالم لا يتسامح مع البطء ولا يكافئ التكرار.

أما المعلم، وهو محور العملية التعليمية، فيواجه تحديات لا تقل خطورة. ففي الوقت الذي ينظر فيه للمعلم في دول متقدمة كقائد معرفي وفاعل تربوي، يعامل في كثير من السياقات العربية كموظف إداري يؤدي مهمة روتينية. يفتقر المعلم إلى التدريب المستمر، وتفرض عليه مناهج لم يشارك في بنائها، ويقاس أداؤه بعدد الدروس التي أنجزها لا بمدى أثره في توسيع وعي المتعلم. ومع ضعف الحوافز المهنية والاقتصادية، يصبح من الصعب على المعلم أن يكون مصدراً للإلهام أو رافعة لتجديد العقل التربوي. وهكذا تتآكل مكانته الرمزية، وتتراجع قدرته على بناء علاقة تربوية حقيقية مع الطالب.
وفي ظل هذه البنية المتصدعة، تتعمق أزمة رأس المال المعرفي. فالمجتمع الذي لا ينتج معرفة ولا يستثمر في حامليها، يفقد مع الوقت قدرته على الإبداع العلمي والفكري. وتشهد المجتمعات العربية اليوم شكلاً من " الفقر المعرفي " الذي تكرسه مؤسسات تعليمية تعيد إنتاج نفس المخرجات من دون قدرة على التجدد. وفي عصر أصبحت فيه القوة الاقتصادية والعسكرية مرتبطة بالقدرة على الابتكار، تبدو هذه الأزمة أكثر خطراً مما يتوقع. فبدون رأس مال معرفي قوي، يصبح المجتمع تابعاً للتكنولوجيا القادمة من الخارج، مستهلكاً للأفكار، وعاجزاً عن صياغة مشروعه الحضاري المستقل.

ولعل أحد أوجه هذه الأزمة هو التناقض بين مفرزات التطورات التكنولوجية السريعة والبيئة المدرسية التقليدية. فالطلاب يعيشون يومياً في فضاءات تفتح لهم أبواباً واسعة على المعلومات، بينما يبقى التعليم التقليدي حبيس جدرانه، يظن أن المعرفة تبدأ وتنتهي في غرفة الصف. هذا الانفصال بين الواقع والمعرفة المؤسسية يولد نوعاً من الاغتراب التعليمي، لأن الطالب يتعلم شيئاً داخل المدرسة، ويعيش واقعاً معرفياً مختلفاً تماماً خارجها. ومع غياب استراتيجية تربوية تستوعب التكنولوجيا وتحولها إلى أداة للتعلم لا مجرد وسيلة للترفيه، يزداد التوتر بين الجيل الجديد والمؤسسات التعليمية.

ويضاف إلى ذلك التأثير المباشر للأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها العديد من الدول العربية. فالتعليم يصبح أول الضحايا في فترات التوتر، إذ تجمد المشروعات التربوية، وتضعف الموازنات، وتنهار البنية التحتية، ويتحول الاهتمام من التنمية إلى إدارة الأزمات. وهكذا تتحول المدرسة إلى مؤسسة " تعويضية " ، تؤدي الحد الأدنى المطلوب دون أن تحفز المتعلم أو تفتح أمامه آفاقاً جديدة. وفي هذه الظروف، ينمو جيل يتلقى تعليماً بلا عمق، وبلا اتجاه، وبلا قدرة على صناعة الفرق في مجتمعه.

خلاصة القول، إن معالجة أزمة التعليم في المجتمعات العربية ليست مجرد مشروع إداري أو خطة تقنية لتغيير الكتب أو تطوير الامتحانات، بل هي مشروع حضاري يحتاج إلى إعادة بناء فلسفة التعليم من جذورها. فالتعليم الذي لا يعلم التفكير ولا يصنع العقل النقدي، يخرج أجيالاً تعرف الكثير من المعلومات ولا تمتلك القدرة على استخدامها. والتعليم الذي لا ينفتح على العلوم الحديثة والمعرفة الرقمية سيقود المجتمعات العربية إلى مزيد من التبعية في عالم لا يعترف إلا بمن يحسن إنتاج المعرفة لا استهلاكها. إن الخطوة الأولى في الإصلاح هي الاعتراف بأن التعليم ليس وظيفة خدمية، بل مشروع هوية ومصير، وأن مستقبل الإنسان العربي يبدأ من الصف الدراسي، ومن الطريقة التي نعلمه بها أن يسأل، ويفكر، ويبتكر، ويواجه العالم بثقة لا بخوف. فإذا لم نغير فلسفة التعليم، سنظل ننتج ماضياً متكرراً لا مستقبلاً جديداً.

إن التعليم العربي لن ينهض ما دمنا نُصر على دفن العقول في مقاعد الامتحانات، ونترك الأسئلة الكبرى بلا صاحب. فالأمم لا تبنى بكثرة الشهادات، بل امتلاك المعرفة، وتحويلها إلى وعي يقظ، ثم إلى فعل قادر على أن يتبلور في مشروع حضاري يتخطى حدود اللحظة ويفتح الطريق نحو المستقبل. وحين يدرك المجتمع أن العقل المتسائل أثمن من الدرس المحفوظ، وأن الاستثمار في الإنسان أسبق من كل استثمار آخر، عندها فقط يبدأ التعليم في الخروج من دائرة التلقين إلى فضاء الإبداع، ويستعيد الإنسان العربي مكانه بوصفه صانعاً للمعرفة لا مستهلكاً لها.



#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)       Hossam_Aldin_Fayad#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ...
- الشباب العربي كموضوع للمعرفة (قراءة سوسيولوجية في أنماط الاه ...
- الفرد السوي في المجتمع المريض قراءة نقدية للهوية والاغتراب ف ...
- الحقيقة المفقودة قراءة نقدية لمقولة علي الوردي الحقيقة بنت ا ...
- الحداثة المعاصرة في علم الاجتماع: أدوات التحليل السوسيولوجي ...
- نظرية الصراع الاجتماعي المحدثة: أدوات التحليل السوسيولوجي، م ...
- النظرية البنائية الوظيفية المحدثة: أدوات التحليل السوسيولوجي ...
- الإنسان بين السرد والطقس مقاربة انثروبولوجية للثقافات وتجليا ...
- تطبيق نظرية فلفريدو باريتو على النخب العربية المعاصرة في سيا ...
- الجهل البنيوي في المجتمعات العربية المعاصرة من التحديات المع ...
- الجهل البنيوي في المجتمعات العربية المعاصرة من التحديات المع ...
- الجهل البنيوي في المجتمعات العربية المعاصرة من التحديات المع ...
- الإطار التحليلي بين النظرية والتطبيق: الاستلاب الثقافي في ال ...
- تمظهرات القهر الاجتماعي في الحياة اليومية للإنسان العربي الم ...
- هابرماس وهونيث في تفكيك العنف المجتمعي بين العقلانية التواصل ...
- العقل الإنساني بين التوظيف الأداتي والممارسة النقدية والفاعل ...
- العقل الإنساني بين التوظيف الأداتي والممارسة النقدية والفاعل ...
- العقل الإنساني بين التوظيف الأداتي والممارسة النقدية والفاعل ...
- دور النهج الاستبدادي في ترسيخ منظومة القيم الاجتماعية القهري ...
- أدب الخيال العلمي في العالم العربي: جدلية الغياب والحضور في ...


المزيد.....




- معارك محتدمة بين الجيش والدعم السريع وعقار يؤكد أن الدولة لم ...
- ماسك يطالب بإلغاء الاتحاد الأوروبي.. كيف علقت روسيا؟
- تجدد الاضطرابات الأمنية في نيجيريا بعد خطف 13 مزارعا
- تقرير: أوكرانيا على -حافة الانهيار- وبوتين لن يتراجع
- -حمار يقتحم قاعة البرلمان في باكستان-.. هذه حقيقة الفيديو ال ...
- ماذا سيُميّز السفر في عام 2026؟
- مأساة قبالة كريت… 18 قتيلًا في انقلاب قارب مهاجرين والسلطات ...
- بركان كيلاويا يستأنف الثوران مع نوافير حمم جديدة
- الاحتلال يقتل فلسطينييْن بزعم محاولة دهس ويخلي مستوطنات استب ...
- سوريا تستعرض قدراتها العسكرية في معرض بدمشق


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - أزمة التعليم أم أزمة إنتاج التفكير في المجتمعات العربية؟