حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث
(Hossam Aldin Fayad)
الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 00:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تعتبر النظرية البنائية الوظيفية المحدثة امتداداً وتطويراً للتنظير البارسونزي الكلاسيكي الذي أسس له تالكوت بارسونز، لكنها تجاوزت الجمود المعياري والاتجاه المحافظ الذي وصفت به البنائية الوظيفية التقليدية، لتستجيب للتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي شهدتها المجتمعات الغربية منذ ستينيات القرن العشرين المنصرم.
وقد برز من بين منظريها المحدثين نيكلاس لومان، وروبرت ميرتون، وجيفري ألكسندر، الذين سعوا إلى تجديد مقاربتها عبر دمج مفاهيم أكثر ديناميكية في تفسير الظواهر الاجتماعية. ركز لومان على مفهوم النظام الاجتماعي كنظام اتصالي ذاتي التنظيم، في حين أعاد ميرتون الاعتبار إلى فكرة الوظائف الكامنة والظاهرة، بينما قدم ألكسندر تصوراً جديداً حول الوظيفية النيو- بارسونزية التي تدمج الرمزي بالبنيوي وتعيد إحياء الدور الثقافي في التحليل الاجتماعي.
أولاً- أدوات التحليل السوسيولوجي:
تبدأ مقاربة الأدوات في البنائية الوظيفية المحدثة من افتراض أن المجتمع نسق متعدد المستويات يتكامل عبر شبكات من العلاقات والوظائف، بناءً عليه تعتمد هذه النظرية في رؤيتها للواقع الاجتماعي على الأدوات التحليلية التالية:
1- الأداة الأولى ليست تقنية بحثية بحتة بل إطار تصوري نسقي يوجه من أين تبدأ الملاحظة وكيف تحدد وحدات التحليل وحدود النظام. في التطبيق، يشرع الباحث بتحديد " النسق الفرعي " ذي الصلة (مثل التعليم أو الإعلام) وتعيين موقعه ضمن شبكة الاعتمادات المتبادلة مع الأنظمة الأخرى، ثم يضع خريطة للعلاقات الوظيفية بين هذه الوحدات لتبيان أي الوظائف تحافظ على الاستقرار وأيها قد تكون مهيأة للتغيير. هذه الخطوة الخرائطية هي أساس كل أدوات التحليل اللاحقة لأنها تحول البنية المجردة إلى شبكة قابلة للقياس والملاحظة.
2- يتعامل الباحث مع تحليل الأدوار والوظائف بوصفه أداة مزدوجة البعد: من جهة يحدد الوظائف الظاهرة والمرسومة مؤسسياً - أي ما يفترض أن تقوم به المؤسسة - ومن جهة ثانية يبحث عن الوظائف الكامنة التي تنشأ عن أداء المؤسسة دون أن تكون مقصودة أو معلنة، وهو تمييز مكن المحدثين من قراءة آثار مؤسساتية غير متوقعة مثل إعادة إنتاج التفاوت الطبقي أو توليد أشكال شرعية بديلة. عملياً، هذا يتطلب مزيجاً من الأساليب: مراجعة السياسات والبرامج للمادة الرسمية، وتحليل النتائج الميدانية عبر مقابلات أو إحصاءات تظهر نتائج لم يقصدها صناع السياسة.
3- يوجد في هذا السياق، أداتان منهجيتان مركزيتان في النسخة المحدثة هما تحليل النسق الاتصالي وتحليل التكيف البنيوي. بالاعتماد على مفاهيم لومان حول النسق الذاتي التنظيم، ينظر إلى التواصل كمادة بناء: الباحث يقرأ كيف تنتقل الرسائل والرموز داخل وإلى خارج النسق، وكيف تفعل أنظمة انتقاء المعلومات والذاكرة المؤسساتية لإعادة إنتاج المعنى والشرعية. أما تحليل التكيف البنيوي فيسعى إلى ضبط علاقات التغذية الراجعة: أي كيف تكشف الأزمات أو الضغوط البيئية عن نقاط هشاشة في الشبكة، وكيف تؤدي استجابات النظام (سياسات تعديل، إعادة توزيع أدوار، تغيير قوانين مؤسساتية) إلى إعادة توازن أو إلى إعادة تركيب وظيفي. تفسير هذه الديناميات يستلزم ربط الزمن القصير (الأحداث - الأزمات) بالزمن الطويل (إعادة إنتاج النظام عبر السياسات والثقافة).
4- على المستوى المنهجي التطبيقي، تستدعي البنائية المحدثة مزيجاً من طرق البحث: تقنيات نوعية لفك شفرات المعنى (ملاحظة ميدانية معمقة، مقابلات شبه مقننة، تحليل الخطاب الرمزي) وتقنيات كمية لقياس العلاقات البنيوية (شبكات اجتماعية لقياس الاعتماد المتبادل، نمذجة المعادلات الهيكلية لقياس أثر بنية على مؤشرات التماسك). يستخدم المنهج المقارن - التاريخي أيضاً لفهم كيف تتبدل وظائف مؤسسات عبر سياقات زمنية ومكانية مختلفة، ما يتيح تمييز ما هو وظيفي مؤقت عما هو وظيفي مستقر.
وفي النهاية، تعتبر آليات التحقيق والتدقيق جزءاً من منظومة الأدوات: تتضمن وصفاً منهجياً لطبيعة وظائف الظاهرة، فصلاً بين الوظائف الظاهرة والوظائف الكامنة، تتبع ردود الفعل النظامية، وقياس أثر التداخلات بين الأنظمة الفرعية. على سبيل المثال، لتحليل دور التعليم في إعادة إنتاج التراتب الطبقي، يجمع الباحث بين خرائط شبكات التلاميذ والمعلمين (لتحديد الاعتمادية)، وتحليل سياسات القبول والموارد (لتحديد الوظائف المعلنة)، ومقابلات عميقة مع فاعلين (لاكتشاف الوظائف الكامنة)، ثم يربط النتائج بتغيرات مؤسسية طويلة الأجل لتعقب آليات التكيف أو التغيير. هذا التكامل بين إطار نسقي واضح وأساليب متعددة هو ما يمنح النظرية المحدثة قوتها التفسيرية في مواجهة التعقيد الاجتماعي.
ثانياً- مرتكزات المفاهيم النظرية:
تشكل المفاهيم المحورية في النظرية البنائية الوظيفية المحدثة الإطار المفهومي الذي من خلاله تفهم آليات اشتغال المجتمع وتفاعلاته الداخلية. وتتمثل هذه المفاهيم في النسق، والوظيفة، والتوازن، والاعتماد المتبادل، والتكامل الاجتماعي، وهي مفاهيم مترابطة من حيث دلالتها النظرية ومن حيث قدرتها على تفسير الواقع الاجتماعي بوصفه كلاً متشابكاً من الأجزاء والعمليات.
يعد مفهوم النسق الاجتماعي الركيزة البنيوية الأولى، إذ يرى المنظرون المحدثون أن المجتمع لا يمكن فهمه من خلال أجزائه المنفصلة، بل من خلال العلاقات التي تربط بين هذه الأجزاء ضمن نسق منظم يقوم على تبادل الوظائف والأدوار. فالنسق ليس مجرد بنية ثابتة، بل هو نظام مفتوح يتغذى من محيطه ويعيد تنظيم ذاته باستمرار. ومن هنا، يصبح التحليل النسقي أداة لفهم كيفية استمرار الأنظمة الاجتماعية رغم التغيرات، وكيف تعيد إنتاج ذاتها عبر التواصل والتفاعل.
أما الوظيفة الاجتماعية فهي المفهوم الذي يمنح النظرية طابعها التحليلي الديناميكي، إذ تفهم الوظيفة على أنها المساهمة التي يؤديها كل جزء من النظام في الحفاظ على استقراره واستمراريته. وقد طور ميرتون هذا المفهوم بتفريقه بين الوظائف الظاهرة (التي يقصدها الفاعلون الاجتماعيون بوعي)، والوظائف الكامنة (التي تحدث دون قصد لكنها تؤثر في النظام). وهذا التمييز أتاح للنظرية المحدثة قراءة أكثر عمقاً للظواهر الاجتماعية، إذ لم يعد التفسير مقصوراً على ما هو معلن أو رسمي، بل امتد إلى ما هو خفي وغير متوقع في سير المجتمع. فمثلاً، يمكن للمؤسسات التعليمية أن تؤدي وظيفة ظاهرة هي نقل المعرفة، ووظيفة كامنة هي إعادة إنتاج التراتب الطبقي من خلال توزيع غير متكافئ لرأس المال الثقافي.
ويأتي مفهوم التوازن ليعبر عن الميل الطبيعي للأنظمة الاجتماعية نحو إعادة الاستقرار بعد الاضطراب. غير أن هذا المفهوم لم يعد في صيغته المحدثة يعني الثبات أو الجمود كما عند بارسونز، بل يفهم في ضوء المرونة التكيفية للنظام، أي قدرته على امتصاص الصدمات وإعادة التنظيم الذاتي عبر آليات اتصالية وتفاعلية. ويظهر هذا المفهوم كيف يمكن للمجتمعات أن تتجاوز الأزمات دون انهيار شامل، لأن كل خلل يولد استجابات تصحيحية داخل النسق.
أما الاعتماد المتبادل فهو المفهوم الذي يربط بين البنى الفرعية المختلفة للمجتمع. فكل مؤسسة أو نظام فرعي (الأسرة، التعليم، الاقتصاد، السياسة) يعتمد على الآخر في تحقيق استقراره ووظيفته. ويفسر الواقع الاجتماعي هنا باعتباره شبكة من الاعتمادات المتبادلة، بحيث إن أي اضطراب في أحد الأنظمة ينعكس على سائر الأنظمة الأخرى. ومن ثم، يستخدم هذا المفهوم في التحليل لفهم العلاقات بين البنى الكبرى مثل العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في أزمنة التحول الاجتماعي.
وأخيراً، يعتبر التكامل الاجتماعي ذروة المنظومة المفهومية، فهو الغاية التي تسعى إليها الأنظمة عبر تفعيل آليات الاتصال والضبط الاجتماعي، وهو ما يجعل النظام الاجتماعي كياناً متماسكاً رغم التناقضات الداخلية. ويرى جيفري ألكسندر في هذا السياق أن التكامل ليس مجرد توازن قسري، بل عملية ثقافية رمزية تعيد إنتاج المعنى المشترك بين الفاعلين. وبهذا، تتحول البنائية الوظيفية المحدثة من نظرية بنيوية مغلقة إلى نسق مفتوح يفسر استقرار المجتمع عبر دينامية التواصل والمعنى.
إن هذه المفاهيم الخمسة - في ترابطها - تمكن التحليل السوسيولوجي من تفسير الواقع الاجتماعي بوصفه عملية مستمرة من إعادة التنظيم والتفاعل، لا مجرد نسق متوازن بصورة ثابتة. فهي توفر أدوات تفسيرية لفهم كيف يتغير المجتمع دون أن يفقد تماسكه، وكيف تنتج البنى ذاتها باستمرار عبر التواصل الاجتماعي والوظائف المتبادلة.
ثالثاً- الأسس الابستمولوجية:
تمثل النظرية البنائية الوظيفية المحدثة تحولاً إبستمولوجياً نوعياً في مسار السوسيولوجيا البنيوية الكلاسيكية، إذ انتقلت من النزعة الوضعية الحتمية التي سادت في فكر بارسونز إلى رؤية معرفية أكثر انفتاحاً وتعدداً وتفاعلية، تعترف بتعقيد الواقع الاجتماعي وبتعدد مستويات تفسيره. فبينما كانت البنائية الوظيفية التقليدية تنظر إلى المجتمع كنسق مغلق ذي توازن داخلي ثابت، أصبحت المقاربة المحدثة ترى المجتمع كنظام دينامي مفتوح يتجدّد باستمرار عبر التواصل وإعادة إنتاج المعنى.
الابستمولوجيا التي تستند إليها هذه النظرية هي ابستمولوجيا نسقية - تواصلية تقوم على فرضية أن المعرفة السوسيولوجية لا يمكن أن تختزل في سببية خطية بين البنية والوظيفة، بل تبنى عبر فهم العلاقات المتبادلة بين الأنظمة الفرعية في المجتمع. وبهذا المعنى، لم يعد الباحث في منظورها يهدف إلى اكتشاف " قوانين " اجتماعية عامة كما كان في النموذج الوضعي، بل يسعى إلى تحليل أنماط التنظيم الذاتي داخل النسق الاجتماعي، وكيفية اشتغاله بوصفه منظومة من التفاعلات والمعاني المتبادلة.
لقد قدم نيكلاس لومان الأساس الابستمولوجي الأعمق لهذا التحول حين تبنى مفهوم النسق الذاتي التنظيم المقتبس من نظرية النظم البيولوجية، معتبراً أن المجتمع لا ينتج ذاته عبر الفاعلين الأفراد بل من خلال التواصل ذاته، أي إن الاتصال هو الوحدة الأساسية لتكوين المجتمع. وبذلك تحولت المعرفة السوسيولوجية من تحليل الأفعال الفردية إلى تحليل آليات الاتصال بوصفها بنية منتجة للواقع الاجتماعي. فالواقع الاجتماعي، من هذا المنظور، ليس معطى خارجياً ثابتاً، بل هو نتاج عمليات مستمرة من التواصل والتفسير الذاتي، ما يجعل المعرفة نفسها نسقية بطبيعتها لأنها تتولد داخل النظام لا من خارجه.
ومن جهة أخرى، يقدم روبرت ميرتون منظوراً إبستمولوجياً تكميلياً حين يؤكد أن النظرية يجب أن تتسم بما سماه " نظريات المدى المتوسط " التي تربط بين المفاهيم التجريدية والملاحظات التجريبية. فالمعرفة هنا ليست كلية مطلقة، بل نسبية ومحدودة بالسياق الاجتماعي والزماني. وهذا التوجه أرسى ما يمكن تسميته بالعقلانية النسبية في الفهم السوسيولوجي، حيث لا تقدم النظرية بوصفها تفسيراً شاملاً للواقع، بل كأداة لتفكيك مستويات عمله المتعددة.
أما جيفري ألكسندر، فقد أدخل بُعداً تأويلياً إبستمولوجياً على البنائية الوظيفية، إذ رأى أن التماسك الاجتماعي لا يمكن تفسيره فقط من خلال الوظائف البنيوية، بل أيضاً من خلال الرموز والمعاني الثقافية التي تمنح النظام الاجتماعي شرعيته واستمراره وبذلك، أصبح الفعل الاجتماعي يفهم لا كاستجابة لوظيفة بنيوية، بل كنتاج لمعنى رمزي يعبر عن البنية ويعيد تشكيلها في الوقت ذاته. وهذا الانفتاح على الرمزي منح النظرية المحدثة بعداً إبستمولوجياً، تأويلياً وثقافياً يربط بين الفعل والمعنى، بين النظام والثقافة، وبين الوظيفة والدلالة.
وتتميز هذه الابستمولوجيا الحديثة كذلك بقدرتها على دمج المستويين الميكرو والماكرو في التحليل، حيث تفهم العمليات اليومية الصغيرة (التفاعلات، الرموز، اللغة) بوصفها مكونات داخلية لإعادة إنتاج النسق الكلي، وليس مجرد تجليات سطحية له. وبذلك تجاوزت النظرية المحدثة الانقسام التقليدي بين البنية والفعل، لتطرح تصوراً معرفياً يربط بين الوظيفية والفاعلية، بين النظام والتأويل، ضمن أفق معرفي متعدّد المستويات.
إن جوهر الأساس الابستمولوجي للنظرية البنائية الوظيفية المحدثة يتمثل في كونها لا تسعى إلى صياغة " قوانين " بقدر ما تهدف إلى فهم منطق اشتغال النظام الاجتماعي في تعدديته، عبر تحليل عملياته الاتصالية والثقافية. فالمعرفة هنا معرفة وظيفية بمعناها الواسع، أي إنها لا تكتفي بوصف الظواهر بل تسعى إلى تفسير دورها في إنتاج التوازن أو الاضطراب داخل النسق الاجتماعي. وبهذا المعنى، تتحول النظرية إلى أداة لفهم التعقيد لا لتبسيطه، وتصبح المعرفة السوسيولوجية عملية تفاعلية تُنتج من داخل النظام نفسه، عبر حوار دائم بين النظرية والواقع.
خلاصة القول، إن النظرية البنائية الوظيفية المحدثة تمثل أحد أبرز التحولات المنهجية والإبستمولوجية في الفكر السوسيولوجي المعاصر، إذ استطاعت أن تعيد بناء المشروع الوظيفي الكلاسيكي من الداخل، مستفيدة من نقده ومحدوديته في تفسير دينامية المجتمعات الحديثة. لقد انتقلت هذه النظرية من تصور المجتمع كنسق مغلق وثابت إلى فهمه كنظام تواصلي مفتوح يسعى إلى تحقيق التوازن عبر إعادة إنتاج ذاته باستمرار. وبهذا، فإنها تضع الباحث السوسيولوجي أمام رؤية جديدة تفسر التغير والاستقرار معًا في ضوء عمليات الاتصال والتفاعل التي تشكل النسيج الداخلي للواقع الاجتماعي.
تظهر أدوات التحليل البنائي الوظيفي المحدثة - كتحليل الأدوار الاجتماعية، والتكامل الاتصالي، والتكيف البنيوي - قدرة عالية على تفسير البنى الاجتماعية بوصفها عمليات حية متفاعلة لا مجرد هياكل صماء. فهي تنظر إلى الظاهرة الاجتماعية باعتبارها مخرجات لوظائف متعددة تتكامل فيما بينها لضمان استمرارية النظام. وفي هذا الإطار، تصبح المفاهيم المركزية مثل النسق، والوظيفة، والتوازن، والاعتماد المتبادل، والتكامل الاجتماعي أدوات تفسيرية مرنة تسمح بفهم الواقع في حركته لا في سكونه. فالخلل الاجتماعي لا ينظر إليه كتهديد للنسق، بل كآلية لتجديده، أي كجزء من منطق التطور الداخلي للمجتمع.
أما على المستوى الابستمولوجي، فإن النظرية المحدثة تقطع مع الرؤية الوضعية الصارمة التي سادت في منتصف القرن العشرين، لتتبنى أفقاً معرفياً نسقياً وتواصلياً يجعل من الفعل الاجتماعي مجالاً لإنتاج المعرفة لا مجرد موضوع لها. لقد نجحت هذه المقاربة، بفضل جهود منظرين أمثال نيكلاس لومان وجيفري ألكسندر وروبرت ميرتون، في تجاوز الثنائية الكلاسيكية بين البنية والفاعلية، وبين الثبات والتغير، لتؤسس لرؤية ترى أن المجتمع يعاد إنتاجه من خلال منظومات الاتصال والمعنى التي تربط الأفراد والمؤسسات داخل نسق رمزي وثقافي متفاعل.
وبذلك، يمكن القول إن البنائية الوظيفية المحدثة تمثل نقطة التقاء بين العقلانية البنيوية والدينامية التأويلية، فهي من جهة تحافظ على منطق النسق ووظيفته في حفظ النظام الاجتماعي، ومن جهة أخرى تنفتح على فهم المعنى والرمز والثقافة بوصفها قوى فاعلة في تشكيل المجتمع. إن قيمتها المعرفية تكمن في هذا التوازن الدقيق بين الصرامة البنيوية والمرونة التفاعلية، وبين التفسير العلمي للظواهر والوعي النقدي بتعدد أبعادها.
تأسيساً على ذلك، فإن حضور هذه النظرية في الفكر السوسيولوجي المعاصر لا يقاس بمدى هيمنتها النظرية فحسب، بل بقدرتها على إعادة بناء الوعي السوسيولوجي تجاه مفهوم النظام الاجتماعي نفسه: ليس ككل مغلق، بل كفضاء للتعقيد، يتفاعل داخله البشري والرمزي، البنيوي والاتصالي، في سيرورة مستمرة لإنتاج المجتمع من جديد. وبهذا المعنى، تعتبر البنائية الوظيفية المحدثة جسراً ابستمولوجياً بين التقليد البنيوي الكلاسيكي والاتجاهات السوسيولوجية ما بعد الوضعية، ورؤية مفتوحة لفهم العالم الاجتماعي في تحوله الدائم.
#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)
Hossam_Aldin_Fayad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟