أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - المنهج التفكيكي ودوره في قراءة خطابات مشكلة البطالة في الواقع الاجتماعي المعاصر















المزيد.....


المنهج التفكيكي ودوره في قراءة خطابات مشكلة البطالة في الواقع الاجتماعي المعاصر


حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث

(Hossam Aldin Fayad)


الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 12:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


” إن أي منهج نقدي قبل أن يكون أدوات إجرائية، هو رؤية وتصور عن العالم والوجود والتاريخ والإنسان “.
” المعرفة ليست صحيحة إلا بمقدار قبولها أو توظيفها من قبل ثقافة ما أو في سياق لغة ما، وهو ما آمنت به البنائية الاجتماعية، إلا أن التفكيكية بوصفها أحد أهم اتجاهات نقد ما بعد الحداثة الذي ركّز على القارئ بعد أن كانت الاتجاهات النقدية السابقة تركز على النص كالبنيوية والأسلوبية، فقد ارتبطت بقراءة النصوص وكيفية إنتاجها للمعاني وما تحمله من دلالات متناقضة الأمر الذي يتسق ومقولات التفكيكية التي أرادت الإعلاء من سلطة القارئ وجعله يفكك النص ليصل إلى قراءة مختلفة في كل مرة “.

- الملخص: أصبح استخدام المنهج التفكيكي في السنوات الأخيرة، أداة نقدية هامة لتحليل المشكلات الاجتماعية، إذ يسهم في كشف البنى الخفية والخلافات الداخلية في الخطابات الاجتماعية والثقافية السائدة. ويعد المنهج التفكيكي، الذي ظهر في سياق ما بعد الحداثة وبروز أفكار جاك دريدا، من الأساليب التي تعيد قراءة النصوص والظواهر الاجتماعية باستقراء التناقضات والازدواجيات التي تغفلها المناهج التقليدية. يقدم هذا المقال السوسيولوجي دراسة متعمقة حول توظيف المنهج التفكيكي في تحليل المشكلات الاجتماعية البطالة نموذجاً، مستعرضاً الإطار النظري والمنهجي والتطبيقات العملية. كما يهدف إلى توضيح كيفية توظيف المنهج التفكيكي كأداة نقدية لتحليل المشكلات الاجتماعية، وتحديد آلياته النظرية والمنهجية، إضافةً إلى عرض أمثلة تطبيقية تبرز فاعلية هذا النهج في إعادة صياغة الخطابات السائدة وتحليلها نقدياً.

- المقدمة:
تواجه المجتمعات المعاصرة مجموعة من المشكلات الاجتماعية التي تتغلغل في نسيج الحياة اليومية، من بينها التحيزات الاجتماعية، والتفاوت الاقتصادي، والتهميش الثقافي والسياسي. ويقترح النقاد أن الخطابات السائدة التي تُشكّل صورة هذه المشكلات ليست محايدة، بل تُعبر عن علاقات قوة وإيديولوجيات مسيطرة. ومن هنا تكمن أهمية استخدام المنهج التفكيكي لتحليل هذه الخطابات، فهو يتيح تفكيكها إلى عناصرها الأساسية وإظهار التناقضات والخلافات الداخلية التي تؤثر على تشكيل الواقع الاجتماعي. بمعنى أدق نعيش في عالمٍ تتداخل فيه الخطابات وتتنازع فيه المفاهيم سلطتها على الفكر الإنساني، ليبرز المنهج التفكيكي كمرآة تكشف تناقضاتنا الخفية، وتقلب يقيننا في رؤية المشاكل الاجتماعية التي تواجهنا رأساً على عقب. لذا لم يكن هذا المنهج مجرد أداة نقدية جامدة، بل ثورة فكرية أعادت تشكيل فهمنا للغة، والحقيقة، والسلطة وما يرتبط بها من مفاهيم ومشاكل اجتماعية تعتري الواقع المجتمعي.
بناءً على ما تقدم سنحاول في هذا المقال مناقشة خطابات مشكلة البطالة في الواقع الاجتماعي من خلال استعراض العناصر التالية:

أولاً- في المنهج التفكيكيDeconstructive Approach : هو أحد المناهج النقدية المعاصرة الذي ينتمي إلى مناهج ما بعد البنيوية وتعود جذورها إلى الفلسفة التفكيكية التي طورها جاك دريدا Jacques Derrida (1930-2004) في عصر ما بعد الحداثة. تهدف التفكيكية إلى تحطيم المفاهيم الثابتة والهياكل التقليدية التي تُبنى عليها المعرفة واللغة، من خلال كشف التناقضات والافتراضات الخفية في النصوص والخطابات. ليست التفكيكية " نظرية " بالمعنى التقليدي، بل منهج قرائي يُشكك في فكرة الحقيقة المطلقة ويدعو إلى إعادة النظر في الثنائيات الهرمية التي تهيمن على الفكر الغربي. بالإضافة إلى إمكانية تطبيقه في تحليل النصوص والأفكار والظواهر الاجتماعية من خلال تفسير المشكلات الاجتماعية. وفي واقع الأمر يسعى هذا المنهج إلى تفكيك المفاهيم الثابتة والمسلمات الثقافية التي تشكّل فهمنا للواقع، وكشف التناقضات والهياكل الخفية التي تساهم في إنتاج هذه المشكلات كمشكلة البطالة في وقتنا المعاصر.
بذلك يعتبر التفكيك أحد الاتجاهات الفكرية لما بعد البنيوية يقوم على أساس الهدم والبناء من خلال إعادة القراءة والنظر في الأسس المعرفية الموروثة، حيث يستخدم التفكيك للدلالة على نسق ما في قراءة الخطابات والنصوص تهدم ما احتوت عليه من أساسيات معرفية كافية مثلت في وقت ما مواضع تمركز لها. وفي هذا السياق يرى دريدا أن النص ليس كياناً موحداً بل هو نتيجة علاقة حوارية بين ما يقال وما يستبعد، مما يفتح المجال أمام التأويلات المتعددة. ويعتبر مفهومي " موت المؤلف " و" عدم الثبات الدلالي " من أعمدة هذا المنهج، إذ يؤكدان على أن معنى النص لا يستقر عند نية الكاتب فقط، بل يمتد إلى قراءته وتفاعلات المتلقي مع النص. باختصار شديد هو " عبارة عن عملية تفكيك ترتبط أساساً بقراءة النصوص وكيفية انتاجها للمعاني التي تعتمد حتمية تفكيك النص ".
خلاصة القول، التفكيكية هي من المذاهب النقدية المعاصرة هدفها التشكيك في أن يكون للنص الأدبي معنى ثابت. فقد حاول دريدا أن يبرهن أن هناك عناصر كافية في النص الأدبي تمنع تمركزه أو استقراره حول معنى محدد، وبذلك يكون قد تحدى البنيوية المعهودة. أي هي عملية تفكيك ترتبط أساساً بقراءة النصوص وتأمل كيفية إنتاجها للمعاني وما تحمله من تناقض، فهي تعتمد على تفكيك حتمية معنى النص، وتخرب كل شيء في التقاليد، وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلاقة، اللغة، النص، السياق، المؤلف، القارئ، ودور التاريخ وعملية التفسير وأشكال الكتابة التقليدية.
وهكذا فإن أي مناقشة للتفكيك لا بد أن تبدأ بالقارئ، وتجربة القارئ التي لا يوجد قبل حدوثها شيء فهو يفكك النص ويعيد بناءه على وفق آليات تفكيره. وهو بذلك يعتمد على آليات الهدم والبناء من خلال القراءة، ولعل من البديهي لدى القارئ أن مصطلح التفكيك يعتمد على الهرمينوطيقا الذي يمارس من خلاله تفكيك النص، فالقارئ يحدث عنده المعنى ويُحدثه، ومن دون هذا الدور لا يوجد نص أو لغة أو علامة أو مؤلف.

ثانياً- ملامح المنهج التفكيكي في تحليل المشكلات الاجتماعية: يشير المنهج التفكيكي في تفسير المشاكل الاجتماعية إلى مجموعة من الأساليب النظرية والتحليلية التي تستخدم لتفكيك وتحليل البنى الاجتماعية والثقافية التي تساهم في نشوء المشاكل الاجتماعية واستمرارها. ويمكننا تحددها من خلال ما يلي:
1- تفكيك الثنائيات التقليدية: يسعى إلى كشف الثنائيات التي تُهيمن على الخطاب الاجتماعي مثل: (ذكر / أنثى، أبيض / أسود، حضارة / همجية)، ويُبيّن كيف تُستخدم لإضفاء شرعية على هيمنة طرف على آخر. بذلك يرفض التفكيكي الثنائيات البسيطة مثل: (الخير/ الشر، الطبيعي / المُختل، المتحضر / الهمجي) التي تستخدم لوصف الظواهر الاجتماعية. فمثلاً، قد يحلل كيف تُصور فئة اجتماعية معينة مثل: (الفقراء أو المهاجرين) على أنها " مشكلة " بناءً على خطاب سلطة يفرض ثنائية " نحن / هم ".
2- التركيز على اللغة والخطاب: يرى أن اللغة ليست وسيلة محايدة، بل مجالاً لصراع السلطة. فالمفاهيم الاجتماعية تُبنى عبر الخطاب الذي يُنتجه الفاعلون المهيمنون. بذلك يُعتبر الخطاب (اللغة، التمثيلات الإعلامية، القوانين) أداةً لبناء الواقع الاجتماعي. كما يُحلل التفكيكي كيف تنتج الكلمات والمفاهيم مثل: " الجريمة " أو " الانحراف " هياكل سلطوية تحدد ما هو " مقبول " أو " مرفوض "، وكيف تستخدم هذه المفاهيم لتبرير سياسات معينة مثل (القمع أو الإقصاء).
3- الكشف عن علاقات القوة: يركز على كيفية توظيف المعرفة والخطاب من قبل الفئات المهيمنة (الدولة، النخب، الإعلام) لتعزيز هيمنتها. مثلاً، قد يُبيّن كيف يصور الفقر " كفشل فردي " بدلاً من كونه نتاجاً لبنى اقتصادية غير عادلة، مما يخدم مصالح النظام الرأسمالي.
4- رفض الحلول الجوهرية: يشكك في وجود معنى ثابت أو حقيقة موضوعية، ويرى أن كل تفسير للواقع الاجتماعي هو نتاج سياق تاريخي وثقافي. بهذا يرفض التفكيكي فكرة وجود " حقيقة مطلقة " أو " أصل " للمشكلة الاجتماعية، ويرى أن المشكلات تُبنى عبر التفاعلات والسياقات التاريخية. فمثلاً، لا يفسر العنف الأسري كظاهرة فردية، بل كنتاج لتراكم خطابات ذكورية وهياكل أبوية.
5- إبراز التعددية والهامشية: يُعطي صوتاً للفئات المهمشة التي تُستبعد من الخطاب السائد. مثلاً، قد يُحلل كيف تُهمش تجارب النساء أو الأقليات في الخطابات حول " الأمن " أو " الاستقرار الاجتماعي ".

ثالثاً- أهمية المنهج التفكيكي: تشكل التفكيكية منهجاً نقدياً ذا أهمية بالغة في الدراسات الأدبية والفلسفية والثقافية والاجتماعية منذ ظهورها في النصف الثاني من القرن العشرين. وتعتبر هذه المنهجية رد فعل نقدي على النماذج البنيوية والميتافيزيقية التي سادت الفكر الغربي، إذ أنها تسعى إلى زعزعة الثوابت المفروضة وتفكيك الأنظمة الثنائية التي تقيد إمكانية تعدد المعاني والتفسيرات. بذلك تنبثق أهمية المنهج التفكيكي في عدة اتجاهات حيث يساعد المنهج التفكيكي على فهم أعمق وأكثر تعقيداً للمشاكل الاجتماعية، كما أنه يسعى إلى الكشف عن البنى السلطوية والخطابات المهيمنة التي تساهم في تكريس الظلم الاجتماعي ويساهم في إبراز أصوات الفئات المهمشة والمستبعدة من المجتمع. وفي النهاية يقدم رؤى جديدة ومبتكرة للمشاكل الاجتماعية، ويقترح حلولاً بديلة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة.
وهكذا يمكن اعتبار التفكيكية من أهم الإنجازات الفكرية في النقد المعاصر، إذ إنها ليست مجرد تقنية تحليلية بل توجه فلسفي يعيد النظر في قيم ومفاهيم الثقافة الغربية التقليدية ويدعو إلى تحرير الفكر من قيوده الجامدة.

رابعاً- خطوات تطبيق المنهج التفكيكي في رؤية المشاكل الاجتماعية " البطالة نموذجاً ": يمكننا باختصار شديد تطبيق المنهج التفكيكي في تفسير المشاكل الاجتماعية المعاصرة من خلال إتباع الخطوات التالية:
1- تحديد الثنائيات المهيمنة في التصنيف والتنميط الاجتماعي مثال ذلك: فقراء / أغنياء، قانوني / غير قانوني، صحة نفسية / مرض نفسي.
2- السعي إلى عكس الهرمية الاجتماعية في طبيعة العلاقات من خلال إظهار كيف يُقدم أحد الطرفين " كمركز " والآخر " كهامش "، ثم قلب هذه العلاقة لفضح تعسفها. مثال ذلك تحليل مفهوم " الجريمة " ليس كفعل فردي، بل كنتاج لبنية اجتماعية غير عادلة.
3- تحليل السياق التاريخي من خلال تتبع كيف تشكلت هذه الثنائيات عبر التاريخ، ومن استفاد من ترسيخها.
4- الكشف عن التناقضات البنيوية التي تحكم الواقع الاجتماعي وتأطر السلوك الاجتماعي من خلال إبراز التناقض بين المبادئ المعلنة للمجتمع مثل (العدالة) والممارسات الفعلية مثل (التمييز العنصري).
وفيما يتعلق بالأدوات والطرق المتبعة في هذا المنهج يعتمد الباحث التفكيكي على مجموعة من الأدوات النوعية مثل تحليل المحتوى والخطاب والمقارنة بين النصوص المتعددة. كما تلعب المقابلات والملاحظات الميدانية دوراً في تثبيت الخلفية النظرية وتوضيح كيف تُمارس الخطابات في الحياة اليومية.
وفي النهاية، يمكن استخدام المنهج التفكيكي لتحليل مجموعة متنوعة من المشاكل الاجتماعية، مثل: (الفقر، والتمييز العنصري، والتمييز الجنسي، والعنف، والظلم الاجتماعي). كما يستخدم المنهج التفكيكي أدوات تحليلية متنوعة، مثل تحليل الخطاب، وتحليل النصوص، وتحليل الممارسات الاجتماعية، لتفكيك البنى الاجتماعية والثقافية التي تساهم في نشوء المشاكل الاجتماعية واستمرارها. بذلك يسعى المنهج التفكيكي إلى تقديم رؤى جديدة ومبتكرة للمشاكل الاجتماعية، وإلى اقتراح حلول بديلة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة.
- تطبيقي عملي البطالة (نموذجاً): يمكن القول إن مفهوم البطالة يتناول الأشخاص الذين هم في سن العمل وغير قادرين على الحصول على فرصة عمل. وتعرف ظاهرة البطالة بأنها تعطل الأشخاص الراغبين بالعمل والقادرين عليه. وهناك تعريف آخر للبطالة وهو عدم قيام فرد أو جماعة بأي جهد بدني أو ذهني يبذله الإنسان فرداً أو جماعة خلال مدة زمنية معينة مقابل أجر محدد. وتعرف اقتصادياً على أنها تعطل جانب من قوة العمل عن العمل الاقتصادي تعطلاً اضطرارياً على الرغم من وجود القدرة والرغبة في العمل أو التوقف غير الإرادي والممتد عن العمل والذي يرجع الى استحالة العثور على عمل. أما منظمة العمل الدولية فقد عرفت البطالة بأنها تشمل كل الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن سن معين من دون عمل وهم مستعدون له وباحثون عنه واتخذوا خطوات محددة بحثاً عن العمل بأجر أو عمل للحساب الخاص.
وفي هذا السياق سنحاول تطبيق المنهج التفكيكي في فهم كيفية حدوث مشكلة البطالة من خلال تفكيك الخطابات والمفاهيم التي تحيط بها، وكشف التناقضات والافتراضات الخفية التي تساهم في استمرارها أو تبريرها. في البداية يجب علينا أن نطرح التساؤلات التالية بالاستناد إلى رؤية المنهج التفكيكي للواقع الاجتماعي وهي كالآتي:
- كيف يُعرّف الخطاب الرسمي " البطالة " ؟ هل تُصور " كأزمة فردية " أم " كخلل بنيوي" ؟
- ما الثنائيات التي تستخدم في وصف العاطلين مثل: " الكسالى - المجتهدين " ؟
- من يملك سلطة تحديد " العمل المقبول " مثل: إقصاء العمل غير الرسمي أو المنزلي ؟
- كيف تخفي مصطلحات مثل " سوق العمل " علاقات القوة بين الرأسمال والعمال ؟
بعد أن تم طرح التساؤلات السابقة بغية الإلمام بشكل تام بكل حيثيات مشكلة البطالة سوف نحاول في هذا السياق تطبيق أسس المنهج التفكيكي في فهم كيفية حدوث مشكلة البطالة من خلال ما يلي:
1- تفكيك الثنائيات الهرمية المُهيمنة: (العامل/ العاطل) من خلال تصور البطالة غالباً كفشل فردي " الكسل " أو " عدم الكفاءة "، بينما تُهمَّش العوامل البنيوية مثل: (السياسات الاقتصادية، التكنولوجيا، العولمة). فالمنهج التفكيكي يسعى إلى الكشف عن أن هذه الثنائية تُستخدم لتحميل الضحايا مسؤولية النظام الذي خلق الأزمة. بالإضافة إلى ثنائية الإنتاجية / العاطلين حيث يُعتبر العاطلون " غير منتجين " في خطاب السوق الرأسمالي، لكن التفكيك يظهر أن مفهوم " الإنتاجية " نفسه مبني على معايير استغلالية مثل: (الربح بدلاً من القيمة الاجتماعية).
2- تحليل الخطاب السائد حول البطالة: أي تحليل خطاب " تحسين المهارات " حيث تقدم البطالة كمشكلة نقص مهارات الأفراد، مما يخفي دور الشركات في خفض الوظائف لتحقيق أرباح أكبر مثل: (الاستعانة بالروبوتات أو العمالة الرخيصة). بالإضافة إلى تحليل خطاب " الاستثمار الأجنبي " في هذا السياق يتم الترويج لسياسات جذب الاستثمار كحل، لكن التفكيك يكشف أنها قد تعمق البطالة عبر خصخصة القطاع العام أو تدمير المشاريع الصغيرة. وأخيراً خطاب " المسؤولية الفردية " حيث في هذا الجانب التركيز على " ريادة الأعمال " كحل فردي يُهمش حقيقة أن النظام الاقتصادي لا يوفر فرصاً متكافئة للجميع.
3- الكشف عن التناقضات في السياسات: فعندما تعلن الحكومات عن " مكافحة البطالة " عبر برامج تدريبية، لكنها تتبنى سياسات تقشفية تقلص الوظائف العامة (التناقض بين الخطاب والممارسة). بالإضافة إلى الكشف الكيفية التي تشجع من خلالها الشركات على " التوظيف المحلي "، بينما تستفيد من العمالة المهاجرة الرخيصة (تناقض بين الشعارات والمصالح).
4- تفكيك مفهوم " البطالة " بحد ذاته: إن البطالة كبناء اجتماعي يمكننا تحديدها بأنها تعتمد على معايير ثقافية واقتصادية متغيرة. ففي بعض المجتمعات، لا يعتبر العمل غير الرسمي مثل: (الزراعة العائلية) " وظيفة "، رغم كونه مصدر دخل. وفيما يتعلق بالبطالة المقنعة نجد أنه يتم تصنيف الشخص " كموظف " حتى لو كان عمله غير مستقر أو غير كافٍ، مما يخفي أشكالاً أخرى من الاستغلال.
5- تحديد علاقات القوة الكامنة: كدور الرأسمالية، حيث يسعى المنهج التفكيكي إلى الإقرار بأن البطالة ليست " خللاً " في النظام الرأسمالي، بل نتيجة طبيعية لسعيه نحو الربح عبر خفض التكاليف مثل: (التسريح الجماعي). وفيما يتعلق بالهيمنة السياسية يوضّح لنا المنهج التفكيكي بأنها مفهوم البطالة يستخدم كأداة للسيطرة عبر إبقاء جزء من السكان في حالة ضعف اقتصادي، مما يسهل استغلالهم كقوة عمل رخيصة أو كجمهور انتخابي.
6- تفكيك الخطاب الإعلامي: يصور العاطلون في الإعلام إما كضحايا سلبيين أو " كمهملين "، مما يعزز الصور النمطية ويحول الانتباه عن الفساد الهيكلي. كما يكشف المنهج التفكيكي كيف يروج الخطاب مقولة " الفرص المتاحة للجميع " من خلال أسطورة " الحراك الاجتماعي " عبر سرد قصص نجاح فردية، بينما تُهمّش العوائق النظامية مثل: (التمييز الطبقي أو العنصري).
7- إعادة طرح تعريف المشكلة عبر سياقها الاجتماعي: فالبطالة في المجتمعات النامية مثل دول إفريقيا أو آسيا، قد تفسر البطالة كنتيجة للإرث الاستعماري الذي دمر الاقتصادات المحلية لصالح المركز الرأسمالي. أما في المجتمعات المتقدمة صناعياً قد تعتبر البطالة كنتاج لمفرزات التطورات التكنولوجية، حيث تقدم التكنولوجيا في وقتنا المعاصر كحل، لكن في حقيقة الأمر يكشف المنهج التفكيكي على أنها تزيد البطالة حين تستخدم لصالح الشركات دون ضمانات اجتماعية.
خلاصة القول، إن البطالة ليست مشكلة " طبيعية " أو " محايدة "، بل نتاج لخطابات وهياكل سلطوية تخفي الأسباب الحقيقية وتبرر الوضع القائم. في حقيقة الأمر المنهج التفكيكي لا يقدم حلولاً مباشرة، لكنه بالمقابل يكشف كيف تستخدم اللغة لتحويل الأزمة البنيوية إلى مشكلة فردية، كما أنه يفضح تناقضات النظام القائم الذي ينتج البطالة ثم يلوم ضحاياه. وفي النهاية نجد أنه يدعو إلى إعادة تعريف " العمل " بحد ذاته كمفهوم خارج إطار الرأسمالية الاستغلالية.

خامساً- أهم الانتقادات الموجهة للمنهج التفكيكي في رؤيته للمشكلات الاجتماعية؛ تنحصر بما يلي:
- التركيز المفرط على النقد دون حلول أي تركيزه على تفكيك الواقع دون تقديم بدائل عملية.
- التعقيد المبالغ فيه من خلال استخدام مصطلحات فلسفية معقدة قد يبعده عن الواقع الملموس للمشكلات.
- إهمال البعد المادي من خلال تجاهل العوامل الاقتصادية أو المادية التي تساهم في المشكلات الاجتماعية.
بمعنى آخر تتمحور سلبياته في غياب الحلول العملية حيث يركز على النقد دون تقديم بدائل ملموسة، بالإضافة إلى ذلك تعقيده المفرط في تفسير المشاكل الاجتماعية، حيث يصعب تطبيقه خارج السياق الأكاديمي بسبب لغته الفلسفية المعقدة. وأخيراً إهمال الجوانب المادية من خلال تركيزه المفرط على الخطاب دون الأخذ بعين الاعتبار تحليل الظروف والعوامل الاقتصادية أو المادية التي ساهمت في إنتاج المشاكل الاجتماعية. أما عن أهم إيجابياته نجد أنه يحاول الكشف عن علاقات القوة الخفية في الخطابات الاجتماعية، ليعطي صوتاً للمهمشين عبر تحدي الهياكل المهيمنة. كما أنه يشجع على القراءة النقدية للواقع بدل القبول السلبي. أي إن المنهج التفكيكي يساهم في تفكيك البنى الإيديولوجية حيث إذ يظهر كيف تبنى الخطابات الاجتماعية لتخدم مصالح طبقات معينة، مما يساعد في نقد النظام السائد. كما يساعد على فتح آفاق جديدة للتفسير من خلال الكشف عن التعددية في التأويلات، مما يمكن الباحثين من تقديم رؤى بديلة تثري الحوار العلمي. وفي النهاية يعزز الوعي النقدي ويحفز على التساؤل عن مشروعية المعايير التقليدية والتفكير في طرق مختلفة لفهم الواقع الاجتماعي.
وفيما يتعلق بنقد رؤية المنهج التفكيكي لمشكلة البطالة نجد أنه استطاع الكشف عن زيف الادعاءات بتحييد المشكلة، من خلال ربط مشكلة البطالة بعلاقات القوة الأوسع (الاقتصاد، السياسة، الثقافة). إلا أنه بالمقابل لا يقدم بدائل عملية تمكننا من مكافحة البطالة والقضاء عليها بعد عملية التفكيك. كما أنه يُتهم بالتجريد الزائد وإهمال التجارب اليومية للعاطلين.

وهكذا يعتبر المنهج التفكيكي أداة قوية لفهم كيف تبنى المشكلات اجتماعياً عبر الخطاب والسلطة أي عبر الكشف عن الأسس الفكرية التي تُبنى عليها، لكنه يحتاج إلى دمجه مع مناهج أخرى (كالتحليل الماركسي أو النسوي) لتقديم رؤية شاملة وقابلة للتطبيق في مواجهة التحديات الاجتماعية لأنه يبقى محدوداً في تقديم حلول عملية. إلا أنه يستخدم في وقتنا المعاصر في مجالات متعددة مثل دراسات النوع الاجتماعي، النقد الثقافي، وتحليل الخطاب السياسي، خاصةً في فضح الخطابات الشعبوية أو التمييزية.
إلا أنه بالمقابل يسهم في توفير رؤية نقدية عميقة تساعد على فهم كيف تُشكّل الخطابات الاجتماعية واقع المشكلات وتعزز من استمراريتها. وفي ظل التحديات المعاصرة، يظل هذا النهج أداة ثمينة للتغيير الاجتماعي والبحث عن بدائل تحقق العدالة والمساواة في المجتمع.
وفي نهاية المطاف يجب أن نقر أن التفكيكية ارتبطت بحركة ما بعد الحداثة التي رفضت القصور والسلطة المطلقة للنظم الفكرية التقليدية. فقد استلهم جاك دريدا، المؤسس الأساسي للتفكيكية، أفكاره من مفاهيم الشك والعدم والاختلاف، إذ رفض المفهوم القياسي الذي يحاول حصر المعنى في إطار ثابت يمليه المؤلف أو الثقافة السائدة، معتمداً على فكرة أن النص عبارة عن بنية مفتوحة للتأويل والقراءات المتعددة.
---------------------------------------------------

- المراجع المعتمدة:

- جاك دريدا: الكتابة والاختلاف، ترجمة: كاظم جهاد، تقديم: محمد علال سيناصر، دار توبقال للنشر، المغرب، ط2، 2000.
- جاك دريدا: في علم الكتابة، ترجمة وتقديم: أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 950/2، ط2، 2008.
- جاك دريدا: أحادية الآخر اللغوية، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ترجمة وتقديم: عمر مهيبل، بيروت والجزائر، ط1، 2008.
- سارة كوفمان، روجي لابورت: مدخل إلى فلسفة جاك دريدا، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، ط1، 1994.
- بسام قطوس: دليل النظرية النقدية المعاصرة - مناهج وتيارات، فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 2016.
- فهد بن محمد القرشي: التفكيكية (مفهومها، أصولها، تطورها، نقدها)، مجلة أبحاث، كلية التربية، جامعة الحديدة، العدد: 19، سبتمبر 2020.
- أحمد عبد الحليم عطية: جاك دريدا والتفكيك، الفكر المعاصر سلسلة أوراق فلسفية، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2010.
- كريم جدي: المنهج التفكيكي بين النظرية والتطبيق، صفحة فيس بوك، تاريخ النشر 26 نوفمبر 2024. https://www.facebook.com/permalink.php/?story_fbid=584898390561894&id=100071252139656
- فراس جبار كريم: ما هو المنظور العام لمشكلة البطالة، مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية، 11/07/2024. https://www.alnahrain.iq/post/1138
- وفاء داري: أبعاد المنهج التفكيكي في المشهد الأدبي والنقدي العربي، موقع نخيل عراقي، 2024.11.30. https://www.iraqpalm.com/ar/a5007
- IBRAHIM ALSIBLİ: Postmodern Criticism: Deconstruction as a Model, Şarkiyat Mecmuası - Journal of Oriental Studies )45(, Istanbul university press, 2024.



#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)       Hossam_Aldin_Fayad#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور الانثروبولوجيا في تحليل الظواهر الاجتماعية المعاصرة: قرا ...
- انثروبولوجيا الخيال السوسيولوجي وسيلة لدراسة الفرد المجتمع
- انثروبولوجيا الوعي الإنساني (محاولة للتأصيل والفهم)
- تجليات مفهوم الهوية الثقافية في المجتمعات العربية (دراسة في ...
- العولمة الرمزية وثقافة التهجين الكوني (دور ثقافة اللوجو - ال ...
- الأدب وليد المجتمع (دراسة تأصيلية في مفهوم سوسيولوجيا الأدب)
- في علم الاجتماع الإنساني
- اللغة من منظور الانثروبولوجيا (علم الإنسان)
- المذاهب الفكرية المعاصرة وعلاقتها بالإيديولوجيا
- نظريات سوسيولوجية... نظرية التفاعل الرمزي (3)
- نظريات سوسيولوجية.... نظرية الصراع الاجتماعي (2)
- نظريات سوسيولوجية... البنائية الوظيفية (1)
- تحليل وتفسير نظرية الصراع الاجتماعي لمشكلة الطلاق (الماركسية ...
- مبادئ الالتزام الأخلاقي والحرية الأكاديمية لعالِم الاجتماع ع ...
- المفاهيم النظرية والإجرائية في البحث الاجتماعي
- الثورة الصناعية الأولى ومنعكساتها الاجتماعية والإيديولوجية ع ...
- في مفهوم الفقر والنظريات السوسيولوجية المفسرة له (رؤية تحليل ...
- أدب السجون: نافذة على عالم المعاناة الإنسانية والإبداع (دراس ...
- التحليل السوسيولوجي للنص الأدبي (رواية البؤساء للكاتب الفرنس ...
- الأدب والمجتمع وجهان لعملة واحدة


المزيد.....




- هذا ما قاله أبو عبيدة.. إسرائيل وحماس تتبادلان الاتهامات بعر ...
- في أول ظهور منذ مارس.. أبو عبيدة يتحدّث عن -معركة استنزاف طو ...
- البرازيل: المحكمة العليا تفرض على الرئيس السابق بولسونارو وض ...
- أكسيوس: إسرائيل تطلب من واشنطن إقناع دول باستقبال مهجّرين من ...
- هل تستحق مشدات الخصر كل هذا العناء؟ إليك 8 آثار جانبية محتمل ...
- روسيا تحكم بالسجن على 135 متظاهرا ضد إسرائيل بداغستان
- واشنطن بوست: الديمقراطيون يجرّبون الشتائم لمواجهة تأثير ترام ...
- أردوغان لبوتين: الاشتباكات في السويداء تشكل تهديدا للمنطقة ك ...
- غاليبولي الإيطالية تستضيف -حنظلة- قبل إبحارها لكسر الحصار عن ...
- صحفي يواجه نائبا جمهوريا بتصريحاته حول إبادة وتجويع المدنيين ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - المنهج التفكيكي ودوره في قراءة خطابات مشكلة البطالة في الواقع الاجتماعي المعاصر