أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - انثروبولوجيا الوعي الإنساني (محاولة للتأصيل والفهم)















المزيد.....


انثروبولوجيا الوعي الإنساني (محاولة للتأصيل والفهم)


حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث

(Hossam Aldin Fayad)


الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 02:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


” إن التفكير في الوعي يمكن أن يُثير متعةً تُماثل تلك التي نستمدُّها من التأمل في طبيعة الزمان أو في أصل المادة، وهو ما يستثير فضولاً عميقاً إزاء أنفسنا والعالَم من حولنا “.
” العقل الواعي ليس فقط مهتماً بما يحدث حول الإنسان، بل يتجاوز ذلك إلى فهم العواقب والآثار المترتبة على تلك الأحداث. من خلال هذا الفهم العميق، يساهم العقل الواعي في تشكيل ردود أفعالنا وسلوكياتنا تجاه البيئة المحيطة. فهو يقوم بتحليل كل موقف، مقارناً إياه بما هو مخزن في الذاكرة الباطنية، ليعطي الإنسان القدرة على اتخاذ القرارات بناءً على تفكير نقدي واعٍ “.
يُعد الوعي من أكثر المفاهيم تعقيداً في العلوم الطبيعية (التطبيقية)، والفلسفة، وعلم النفس، والاجتماع، إذ يشير إلى إدراك الإنسان لذاته وللبيئة المحيطة به. يهدف هذا المقال إلى تقديم فهم علمي وفلسفي متكامل حول طبيعة الوعي الإنساني، أنواعه، ومستوياته، بالإضافة إلى أهم النظريات المفسرة له من وجهات نظر مختلفة.
- تمهيد:
يُعتبر الوعي إحدى الخصائص الأساسية التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات. فهو يمثل القدرة على التفكير والتأمل، والشعور بالعواطف، واتخاذ القرارات بناءً على المعرفة والخبرة. رغم التقدم العلمي في دراسة الدماغ والعمليات العصبية، لا يزال الوعي موضوعاً غامضاً يتطلب المزيد من البحث لفهمه بشكل دقيق. بالرغم من تطور المعرفة عن العالم المادي، التي نحصل عليها من العلم، فإننا نفتقر إلى فهم مصدر الوعي (أي العقل الواعي) افتقاراً محزناً. وبعدما ظلت مسألة الوعي منبوذة ومهملة من علم الأعصاب وعلم النفس على مرّ عقود، صارت تجتذب اهتماماً أكبر مرةً أخرى، مع أنها ما زالت لغزاً. في هذا المقال الموجز، سنحاول توضيح ماهية الوعي عن طريق توضيح أساسِه المادي والمعنوي. فمن دون تحديد ماهية الوعي، لا يمكن تفسير التحول الهائل إلى الإنسان العاقل، وتطور الفكر الإنساني واللغة، واكتساب الاستقلال الوظيفي (شعورنا بالإرادة الحرة). كما سنسعى في هذا السياق إلى توضيح مجموعة من المفاهيم الأولية المترابطة والمتداخلة مع بعضها البعض لفهم وتحديد طبيعة كل مفهوم ودوره في العمليات الذهنية والجسدية. وتنحصر تلك المفاهيم بما يلي:
- الدماغ: وهو عضو فيزيائي ملموس موجود في الجمجمة، وهو جزء من الجهاز العصبي المركزي. وظيفته معالجة المعلومات الحسية، بغية تنظيم الوظائف الجسدية مثل (التنفس وضربات القلب)، وينتج عنه التفكير والعواطف عبر شبكات الخلايا العصبية (العصبونات). أما عن طبيعته فهو مادي، بيولوجي، ويمكن دراسته عبر العلوم الطبيعية (علم الأعصاب، التشريح).
- العقل: مفهوم مجرد يشير إلى مجموعة العمليات الذهنية مثل التفكير، الذاكرة، المشاعر، الإرادة، والإدراك. وظيفته تنظيم الوعي، واتخاذ القرارات، والتجارب الذاتية. أما عن طبيعته فهو غير مادي (في الغالب)، ويُدرس عبر الفلسفة، علم النفس، والعلوم المعرفية. وفيما يتعلق بعلاقته مع الدماغ هناك نظرتين الأولى النظرة المادية التي ترى بأن العقل هو نتاج نشاط الدماغ (لا يوجد عقل منفصل عن الدماغ). أما الثانية النظرة الثنائية فهي تذهب إلى أن العقل كيان مستقل عن الدماغ أي إنها تفترض أن الظواهر العقلية، في بعض النواحي غير مادية، أو أن العقل والجسد غير متوائمين. وبالتالي، فإنها تشمل مجموعة من وجهات النظر حول العلاقة بين العقل والمادة، وتتناقض مع مواقف أخرى، مثل المادية في مسألة العقل والجسد (كما في فلسفة ديكارت).
- الإدراك: هو عملية عقلية تمكن الفرد من تفسير المعلومات الحسية (كالرؤية، السمع، اللمس) وفهمها. ووظيفته تحويل المدخلات الحسية إلى مفاهيم ذات معنى مثل (تمييز وجه صديق من بين الحشود). أما عن طبيعته يعتبر جزء من نشاط العقل، ويعتمد على الدماغ لمعالجة البيانات. فهناك الإدراك الحسي مثل رؤية لون، أو سماع صوت. والإدراك المعرفي الذي يتمثل في فهم اللغة، وحل المشكلات والألغاز.
- الوعي: وهو حالة اليقظة والإدراك الذاتي للوجود والبيئة المحيطة. وظيفته يسمح بالتفاعل مع العالم الخارجي، ويمنح التجارب الذاتية (مثل الشعور بالألم أو الفرح). طبيعته تنقسم إلى الوعي الأولي وهو حالة اليقظة مثل (الاستيقاظ من النوم)، والوعي الأعلى (العالي) أي الوعي بالذات مثل (إدراك الفرد لوجوده ككيان مستقل). بذلك نجد أن الوعي البشري لدى الإنسان البدائي قد تطور في البداية من أجل التكيف مع الطبيعة ودرء مخاطرها، فإنه قد واصل تطوره على الدوام فيما وراء الحاجات والضروريات التي فرضتها الطبيعة. وفيما يتعلق بعلاقته مع العقل والدماغ نعتقد أن الوعي ينشأ من تفاعلات معقدة في الدماغ، لكن طبيعته لا تزال غامضة فلسفياً وعلمياً.
خلاصة القول، نستنج مما سبق ما يلي:
- الدماغ: هو العضو الفيزيائي الذي يُنشئ العمليات البيولوجية. يرتكز على بنية العضو الفيزيائي، طبيعته مادية، مجال دراسته علم الأعصاب.
- العقل: هو النشاط الذهني الذي ينتج عن الدماغ (حسب النظرة المادية). يرتكز على العمليات الذهنية، طبيعته مجرد - وظيفي، مجال دراسته الفلسفة علم النفس.
- الإدراك: جزء من نشاط العقل، وهو عملية معالجة المعلومات. يرتكز على معالجة المعلومات، طبيعته عملية عقلية، مجال دراسته العلوم المعرفية (مجموعة أدوات متعددة التخصصات تساعد على فهم أفضل لطبيعة العقل البشري كعلم النفس، علم الأعصاب، الاثنروبولوجيا، الفلسفة، علم اللغويات).
- الوعي: هو أعلى مستويات الإدراك، حيث يصبح الفرد واعياً بذاته وبالعالم. يرتكز على الإدراك الذاتي، طبيعته تجربة ذاتية، مجال دراسته الفلسفة علم الأعصاب. مثال توضيحي عن وظائف المفاهيم السابقة: فعندما نرى زهرة (الإدراك الحسي)، الدماغ يعالج الإشارات البصرية من العين، العقل يفسر هذه الإشارات على أنها " زهرة حمراء "، الوعي يجعلك تدرك أنك تنظر إلى زهرة وتشعر بالإعجاب بجمالها.
- حول مفهوم الوعي الإنساني:
يُعرّف مفهوم الوعي من خلال وجهة النظر الفلسفية بأنه تجربة ذاتية مرتبطة بالشعور والتفكير، حيث ينظر إليه على أنه أساس الإدراك الذاتي والقدرة على التفاعل مع العالم بطريقة واعية. أما من خلال وجهة النظر العلمية (العصبية) يرى علماء الأعصاب بأن الوعي هو نتاج العمليات العصبية في الدماغ، حيث يرتبط بنشاط القشرة الدماغية والتكامل بين الشبكات العصبية المختلفة. وتذهب وجهة النظر النفسية بأن الوعي هو القدرة على إدراك الذات والتحكم في الأفكار والمشاعر والسلوكيات، مع الأخذ في الاعتبار تأثير العوامل اللا واعية. بينما ترى وجهة النظر الإدراكية بأن الوعي يرتبط بآليات معالجة المعلومات والانتباه، حيث ينظر إليه كنتيجة للتفاعلات المعقدة بين الذاكرة، الإدراك، والانتباه. وأخيراً تعتقد وجهة النظر الاجتماعية والثقافية أن الوعي يتشكل من خلال التفاعل مع المجتمع والثقافة، حيث تتأثر مفاهيمنا ووعينا بالبيئة الاجتماعية التي ننتمي إليها. كما يمكننا القول " إن الوعي إدراك موضوعي للذات ككيان مختلف عن العالم الخارجي والشخصي ".
بناءً على ما تقدم يمكننا تعريف الوعي " بأنه حالة عقلية يتمكن فيها الفرد من إدراك ذاته والعالم الخارجي والتفاعل معهما بوعي وتفكير. يشمل الوعي العمليات المعرفية مثل الإدراك، الانتباه، والذاكرة، إضافة إلى الشعور الذاتي والإحساس بالعواطف ". ويعد الوعي سمة معقدة تتجلى في مستويات مختلفة من الإدراك، بدءاً من الاستجابات الحسية البسيطة وصولاً إلى التفكير العميق والتأمل الذاتي.
في واقع الأمر، ينقسم الوعي إلى عدة أنواع أهمها الوعي الحسي وهو استقبال المعلومات الحسية من البيئة الخارجية، مثل: الرؤية والسمع واللمس، وهو الأساس في إدراك العالم المادي. والوعي الذاتي الذي يتمحور حول إدراك الفرد لهويته الشخصية، ومشاعره، وأفكاره، مما يساعده على فهم نفسه بشكل أعمق. أما الوعي الاجتماعي يتميز بقدرة الفرد على فهم التفاعلات الاجتماعية، واستيعاب القواعد والسلوكيات المقبولة في المجتمع. بالإضافة إلى الوعي العاطفي الذي يعني القدرة على التعرف على المشاعر الشخصية ومشاعر الآخرين، مما يعزز التعاطف والذكاء العاطفي. بينما يتمظهر الوعي الأخلاقي من خلال الإدراك الواعي للمعايير الأخلاقية والقيم، مما يساعد في اتخاذ قرارات أخلاقية مسؤولة. أما الوعي الفلسفي يتجلى من التأمل في طبيعة الوجود، والمعرفة، والحقائق المطلقة، وهو شائع بين الفلاسفة والمفكرين. وأخيراً الوعي فوق المعرفي الذي يعرف أيضاً " بالميتاوعي "، وهو القدرة على التفكير في التفكير، مما يسمح للأفراد بتحليل عملياتهم الذهنية وتطوير استراتيجيات التعلم والتفكير النقدي.
وفي سياق متصل، يرتبط الوعي ارتباطاً وثيقاً بالعديد من العمليات العقلية التي تلعب دوراً حاسماً في الإدراك والفهم واتخاذ القرارات. وتشمل هذه العمليات الإدراك وهو القدرة على استقبال المعلومات الحسية وفهمها. بالإضافة إلى الانتباه من خلال توجيه التركيز نحو محفزات معينة داخل البيئة أو داخل العقل. أما الذاكرة تحاول تخزين واسترجاع المعلومات التي تسهم في بناء الوعي الشخصي والتجارب الفردية. ويشتمل التفكير على العمليات الذهنية التي تشمل التحليل، الاستنتاج، وحل المشكلات. وأخيراً اتخاذ القرار وهو القدرة على تقييم الخيارات المتاحة واتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على المعرفة والخبرة. بناءً على ما سبق يندرج تحت مفهوم الوعي عدة مستويات، وهي كالآتي:
1- الوعي الحدسي (الأولي): يعتمد على الاستجابات الغريزية والتلقائية دون الحاجة إلى تحليل عميق. ويظهر هذا النوع من الوعي في المواقف التي تتطلب ردود فعل سريعة أي إدراك الشيء إدراكاً مباشراً، مثل تجنب خطر مفاجئ أو إدراك مشاعر الآخرين دون تفكير واعٍ. وتشير الدراسات إلى أن هذا النوع من الوعي يعتمد على مناطق الدماغ البدائية مثل اللوزة الدماغية (بنية لوزية الشكل في الدماغ وتلعب دوراً رئيسياً في تنظيم العمليات العاطفية)، التي تعالج المشاعر والمحفزات الفورية.
2- الوعي التأملي (المتقدم): وهو القدرة على التفكير المجرد واتخاذ القرارات بناءً على التأمل والتحليل العميق. يلعب دوراً مهماً في حل المشكلات المعقدة وتطوير الأفكار المبتكرة. أو هو القدرة على التفكير في الذات والمواقف بطريقة عميقة، واعية، وتحليلية. إنه شكل من أشكال الوعي الذاتي الذي يتجاوز الإدراك المباشر للأحداث، حيث يسمح للفرد بفحص أفكاره ومشاعره وسلوكياته بموضوعية وتأمل. وتتضح أهميته من خلال قدرته على تحسين اتخاذ القرار عبر فحص العواقب المحتملة للخيارات، تطوير الذكاء العاطفي عبر تحليل المشاعر وفهم تأثيرها على السلوك. بالإضافة إلى تعزيز التعلم والتطوير الشخصي من خلال تحليل النجاحات والإخفاقات. وأخيراً، زيادة الاستقلالية الفكرية عبر مراجعة المعتقدات بدلاً من تبنيها بشكل غير واعٍ.
3- الوعي الفوقي: مستوى متقدم يتضمن التفكير في التفكير، أي إدراك الفرد لكيفية عمل ذهنه. بمعنى أوسع، هو قدرة الإنسان على أن يكون واعياً بوعيه، أي إدراكه لحالته العقلية وأفكاره بشكل متجاوز للوعي العادي. إنه مستوى أعمق من الإدراك الذاتي يسمح للإنسان بتأمل تجاربه الداخلية، والتحكم في تفكيره، وتحليل كيفية تفاعله مع العالم. تنبثق أهميته من خلال أنه يساعد في تحسين اتخاذ القرار من خلال تحليل طريقة التفكير. كما يساهم في التنمية الشخصية عبر التأمل الذاتي وفهم المشاعر والسلوكيات. ويعزز التحكم العاطفي من خلال إدراك كيفية تأثير المشاعر على التصرفات. وأخيراً يزيد من الإبداع والابتكار عبر التفكير خارج الصندوق وتحليل الأفكار من زوايا مختلفة.
وفي النهاية، يعتبر الوعي الفوقي مستوى متقدم من الإدراك يساعد الإنسان على فهم ذاته وتحسين تفكيره وسلوكه. إنه مفتاح التطور الشخصي والتعلم العميق، وهو ما يميز البشر عن معظم الكائنات الأخرى من حيث القدرة على التأمل والتكيف مع مختلف المواقف.
تذهب نظريات تفسير الوعي إلى تبني عدة متغيرات في تحليل وتفسير الوعي الإنساني حيث تعتمد النظرية العصبية على دراسة نشاط الدماغ والدوائر العصبية المرتبطة بالوعي، حيث تشير الأبحاث إلى أن مناطق مثل القشرة الدماغية وجذع الدماغ تلعب دوراً حيوياً في العمليات الواعية. أما النظرية الإدراكية ترى أن الوعي ينبثق من العمليات المعرفية مثل الإدراك والانتباه والذاكرة، مما يعني أن الوعي هو نتاج لتفاعلات متعددة داخل الدماغ. أي إنها تفسر الوعي على أنه عملية معرفية Cognitive Process تنشأ من معالجة المعلومات في الدماغ. ووفقاً لهذا النهج، فإن الوعي ليس خاصية غامضة أو مستقلة، بل هو نتيجة تشغيل آليات إدراكية وحسابية في الدماغ تعمل على استقبال وتحليل وتنظيم المعلومات. بينما تقترح نظرية المعلومات المتكاملة التي تعتبر إحدى النظريات الرائدة في تفسير الوعي طورت بواسطة عالم الأعصاب والفيلسوف " جولييو تونوني " تسعى هذه النظرية إلى تقديم تفسير كمي ونوعي للوعي بناءً على كيفية معالجة الدماغ للمعلومات. بمعنى أدق إن الوعي ينبثق من تكامل المعلومات في الدماغ، حيث يقاس مستوى الوعي بكمية الترابط والتكامل بين المعلومات المعالجة داخل الجهاز العصبي. وفي النهاية تعد نظرية المعلومات المتكاملة واحدة من أكثر المحاولات طموحاً لتفسير الوعي من منظور علمي ورياضي. وعلى الرغم من التحديات، توفر إطاراً مثيراً لفهم كيفية نشوء الوعي من خلال تكامل المعلومات، وما زالت تستخدم في الأبحاث العصبية والتجريبية لفهم النوم، التخدير، والاضطرابات العصبية المرتبطة بالوعي.
أما نظرية الفينومينولوجيا (الظاهراتية) تعتمد على نهج فلسفي يركز على الخبرة الذاتية والشعور المباشر للوعي، أي كيفية ظهور الظواهر (الأشياء والأحداث) كما تُدرك في تجربة الشخص ذاته. تعود أصولها إلى الفلسفة القارية (هي مجموعة من الآراء والتوجهات الفلسفية التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا القارية)، خاصة أعمال " إدموند هوسرل "، الذي أسس الفينومينولوجيا كمنهج لفهم الوعي بطريقة غير اختزالية. بمعنى آخر تركز على تجربة الوعي الذاتية من منظور الفرد، حيث تعتبر أن التجربة الشخصية تلعب دوراً جوهرياً في فهم طبيعة الوعي وعليه تفسر هذه النظرية الوعي بأنه ليس مجرد ناتج عن تفاعلات مادية داخل الدماغ، بل هو كيفية تفاعل الشخص مع العالم من خلال التجربة الذاتية، كما يتم تحليل التجربة الحسية، العاطفية، والتأملية لفهم كيف يُبنى الواقع الشخصي لكل فرد. وفي النهاية يؤكد الفلاسفة الفينومينولوجيون مثل ميرلوبونتي على أن الإدراك الجسدي والعلاقة بين الجسد والعالم ضروريان لفهم الوعي. بينما تفترض نظرية الفضاء العالمي للوعي أن الوعي يعمل كمسرح ذهني، حيث تتنافس المعلومات المختلفة ليتم عرضها في مركز الإدراك، مما يسمح بالتفاعل معها بوعي وإدراك كامل. وأخيراً تعتقد النظرية الكمومية للوعي أن الوعي قد يكون مرتبطاً بالعمليات الكمومية التي تحدث داخل الدماغ، وهي نظرية مثيرة للجدل وغير مثبتة علمياً بعد. بمعنى أوسع تشير نظرية الكمومية للوعي إلى مجموعة من الفرضيات التي تسعى إلى تفسير نشوء الوعي باستخدام مبادئ فيزياء الكم، حيث يُعتقد أن العمليات الكمومية – مثل التراكب والتشابك – قد تحدث داخل أنظمة معينة في الدماغ (على سبيل المثال، داخل الأنابيب الدقيقة الموجودة في الخلايا العصبية) وتساهم في توليد الوعي. إلا أنه لا يزال البحث في هذا المجال مستمراً، إذ يتواصل النقاش حول ما إذا كانت العمليات الكمومية فعلاً تلعب دوراً جوهرياً في توليد الوعي، أم أن الظواهر العصبية الكلاسيكية قادرة على تفسير تعقيد الوعي البشري. وفي الوقت الذي تجري فيه الدراسات على أمل الوصول إلى نتائج تجريبية قاطعة، يبقى الموضوع من بين أكثر الأفكار إثارة للجدل في كل من العلوم العصبية والفيزياء النظرية.
خلاصة القول يعتبر الوعي الإنساني من أعقد المفاهيم العلمية والفلسفية التي لم يحسم فهمها ودراستها بالكامل بعد. حيث تسعى الأبحاث العصبية والمعرفية والفلسفية المتقدمة في وقتنا الحالي إلى الكشف عن بعض أسراره، كما لا يزال الطريق طويلاً أمام الوصول إلى تفسير نهائي حول مفهوم الوعي الإنساني. مما يعني أن السؤال المفصلي حول " كيف تنشأ التجربة الواعية؟ " لا يزال مفتوحاً، أمام الأبحاث والتجارب بهدف فهم العقل البشري وطبيعته وعملياته المعقدة.
والحقيقة أن اللحظة التي تصبح فيها المادة واعيةً لا تقل غموضاً عن لحظة انبثاق المادة والطاقة إلى الوجود للمرة الأولى. إن لغز الوعي يضاهي أحد أعظم الألغاز التي حيّرت الفكر الإنساني على مر العصور: كيف يمكن أن يظهر شيء من العدم؟ وبالمثل، كيف تنشأ الخبرة الحسية من مادة لا حياة فيها ولا وعي؟ وقد ذاع عن الفيلسوف الأسترالي " ديفيد تشالمرز " أنه أطلق على ذلك اسم " المعضلة العويصة " للوعي. فعلى عكس " المشكلات السهلة " المتمثلة في تفسير السلوك الحيواني أو فهم أي العمليات في الدماغ تؤدي إلى ظهور وظائف معينة، تكمن المعضلة العويصة في فهم أسباب اقتران بعض من هذه العمليات الفيزيائية بخبرة حسية من الأساس.
-------------------------------------------

- المراجع المعتمدة:

- أ. ك. أوليدوف: الوعي الاجتماعي، ترجمة: ميشيل كيلو، دار ابن خلدون، بيروت، ب. ت.
- آن دوبرواز: خفايا الدماغ، ترجمة: زينة دهيبي، المجلة العربية، الكتاب: 153، الرياض، ط1، 2015.
- آناكا هاريس: الوعي (دليل موجز للغز الجوهر للعقل)، ترجمة: أحمد هنداوي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2022.
- أنطونيو داماسيو: الذات المنبثقة عن العقل (بناء الوعي بحجارة الدماغ)، ترجمة: إيمان معروف، جداول وحكمة، بيروت، ط1، 2022.
- أنندا ميترا: ما بعد العقل الواعي - المستويات الخمسة للوعي ودورها في التطور الروحي، ترجمة: مركز أناندا مارغا للتأمل واليوغا، دار كيوان للطباعة والنشر، سوريا، 2007.
- جون ر. سيرل: العقل، ترجمة: ميشيل حنا متياس، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 343، سبتمبر 2007.
- زولتان توري: العقل الواعي، ترجمة: إبراهيم سند أحمد، مراجعة: أحمد سمير درويش، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2023.
- سايمون كريتشلي: الفلسفة القارية: مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: أحمد شكل، مراجعة: مصطفى محمد فؤاد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2016.
- سوزان بلاكمور: الوعي – مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: مصطفى محمد فؤاد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2015.
- سوزان شنايدر: في صبحة الوعي، موسوعة بلاكويل عن الوعي، ترجمة: مصطفى سمير عبد الرحيم، تقديم: عبد الله بن سعيد الشهري، ابن النديم للنشر والتوزيع والروافد الثقافية، الجزائر وبيروت، ط2، 2021.
- عبد الرحمن العيسوي: الوعي السيكولوجي، دار الراتب الجامعية، بيروت، ب. ت.
- ليلى السباعي: قوة العقل والوعي الذاتي في أداء الإنسان وسعادته، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط1، 2014.
- موريس مرلوبونتي: ظواهرية الإدراك، ترجمة: فؤاد شاهين، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط1، 1998.
- فياض محمد شريف: علم الحياة الكمومي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط1، 2023.



#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)       Hossam_Aldin_Fayad#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجليات مفهوم الهوية الثقافية في المجتمعات العربية (دراسة في ...
- العولمة الرمزية وثقافة التهجين الكوني (دور ثقافة اللوجو - ال ...
- الأدب وليد المجتمع (دراسة تأصيلية في مفهوم سوسيولوجيا الأدب)
- في علم الاجتماع الإنساني
- اللغة من منظور الانثروبولوجيا (علم الإنسان)
- المذاهب الفكرية المعاصرة وعلاقتها بالإيديولوجيا
- نظريات سوسيولوجية... نظرية التفاعل الرمزي (3)
- نظريات سوسيولوجية.... نظرية الصراع الاجتماعي (2)
- نظريات سوسيولوجية... البنائية الوظيفية (1)
- تحليل وتفسير نظرية الصراع الاجتماعي لمشكلة الطلاق (الماركسية ...
- مبادئ الالتزام الأخلاقي والحرية الأكاديمية لعالِم الاجتماع ع ...
- المفاهيم النظرية والإجرائية في البحث الاجتماعي
- الثورة الصناعية الأولى ومنعكساتها الاجتماعية والإيديولوجية ع ...
- في مفهوم الفقر والنظريات السوسيولوجية المفسرة له (رؤية تحليل ...
- أدب السجون: نافذة على عالم المعاناة الإنسانية والإبداع (دراس ...
- التحليل السوسيولوجي للنص الأدبي (رواية البؤساء للكاتب الفرنس ...
- الأدب والمجتمع وجهان لعملة واحدة
- الإذلال الاجتماعي: الوجه الآخر لنزع الصفة الإنسانية
- الرؤى السلوكية بين التوجيه والسيطرة في فضاء السلوك الإنساني
- المنهج التاريخي ودراسة الظواهر الاجتماعية (محاولة لفهم الحاض ...


المزيد.....




- تسجيل صوتي يكشف تفاصيل مرعبة عن فقدان برج مراقبة بمطار أمريك ...
- لابوبو..كيف تحوّلت دمية صينية إلى ظاهرة موضة عالمية؟
- روسيا تؤكد التزامها بالهدنة لمدة 3 أيام لكنها -ترد- على الهج ...
- إسرائيل تستهدف جنوب لبنان بسلسة غارات جوية رغم سريان اتفاق و ...
- حجاج بريطانيون يبحرون من لندن إلى مكة من أجل الأيتام
- باكستان تُسقط -مسيّرات- أطلقتها نيودلهي، والهند تعلن -تحييد- ...
- إختراق واتساب - ميتا تكسب القضية ضد شركة -إن إس أو- لبرامج ا ...
- الدفاع الروسية: جميع قواتنا بمنطقة العملية العسكرية التزمت ب ...
- احتجاز 44 شخصا في باريس خلال أعمال شغب أثناء مباراة -باريس س ...
- لجنة التحقيق الروسية تنشر تقريرا حول أدائها في كشف وتوثيق جر ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - انثروبولوجيا الوعي الإنساني (محاولة للتأصيل والفهم)