حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث
(Hossam Aldin Fayad)
الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 14:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
" الحداثة المعاصرة ليست مرحلة زمنية بقدر ما هي نمط دائم من إعادة تشكيل الواقع، فهي مشروع لا يكتمل، يعيد إنتاج ذاته عبر النقد، وتخلق فيه المجتمعات أدواتها لفهم العالم بقدر ما تعيد هذه الأدوات تشكيلها " (الكاتب).
- الملخص: يهدف هذا المقال إلى تقديم رؤية مركزة لمفهوم الحداثة ومرتكزاتها النظرية، وقد اعتمد على المنهج التحليلي السوسيولوجي في قراءة تحولاتها البنيوية وآليات اشتغالها. وتفهم الحداثة باعتبارها انتقالاً واسعاً من البنى التقليدية إلى أنماط اجتماعية تقوم على العقلنة، والتخصص المؤسسي، واتساع موقع الفرد داخل النسق الاجتماعي. ويظهر ذلك من خلال أدوات تحليلية تكشف ديناميات الحداثة، أبرزها دراسة العقلنة بوصفها آلية لتنظيم المؤسسات، وتحليل البنية الزمانية - المكانية التي توضح انسياب الحياة الاجتماعية خارج الحدود المحلية، إضافة إلى قراءة المجال العام وتحليل المخاطر باعتبارهما من مخرجات التطور الحداثي. وترتكز الحداثة مفهومياً على الفردانية، والتمايز الوظيفي، والترابط العالمي، بينما تنطلق ابستمولوجياً من تصور يجعل الواقع الاجتماعي مفتوحاً على التغيير وقابلاً لإعادة التشكل عبر المعرفة والفعل. وبهذا تظهر الحداثة طابعاً مزدوجاً يجمع بين وعود التنظيم العقلاني والتقدم، وبين التوترات والمخاطر التي ترافق إعادة بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع والبنية.
- تهميد:
الحداثة مفهوم اجتماعي وثقافي يعكس مرحلة من التطور في المجتمعات الإنسانية، تتسم بتحول شامل في البنية الاجتماعية، وأنماط التفكير، والعلاقات المؤسساتية. يمكن اعتبار الحداثة إطاراً لفهم كيف تتشكل المجتمعات المعاصرة من خلال تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أسس عقلانية ومنهجية، بعيداً عن الموروثات التقليدية والعادات المستمرة على مر العصور. وهي أيضاً عملية مستمرة للتغيير الاجتماعي والثقافي، حيث تتفاعل المؤسسات، الأفكار، والممارسات الفردية ضمن منظومة متشابكة من القوى الاجتماعية والاقتصادية. وتتمثل السمات العامة للحداثة في عدة محاور أساسية، وهي كالآتي: أولاً العقلانية والتنظيم المؤسسي: يعتمد المجتمع الحداثي على أسس عقلانية في التخطيط والإدارة، بما يشمل القوانين، الإجراءات، والممارسات الرسمية التي تحكم المؤسسات الاقتصادية والسياسية والتعليمية. ثانياً الفردانية المتزايدة: تمنح الحداثة الأفراد قدرة أكبر على الاختيار الشخصي، مع الاحتفاظ بتأثير مؤسسات الدولة والمجتمع على سلوكهم، مما يخلق توازناً بين الحرية الشخصية والضبط المؤسسي. ثالثاً التفاضل الوظيفي والأنساق المتخصصة: تتكون المجتمعات الحديثة من أنساق فرعية مستقلة نسبياً، مثل الاقتصاد، السياسة، الإعلام، والتعليم، حيث لكل منها قواعده وممارساته الخاصة. رابعاً التواصل العام والمجال العام الديمقراطي: يتيح المجال العام، وفق هابرماس، فضاءً للتفاعل العقلاني بين المواطنين، ويسهم في بناء الشرعية الاجتماعية والديمقراطية. خامساً الإنتاج والتحكم بالمخاطر: بحسب بيك، تنتج الحداثة مخاطر غير متوقعة بفعل التقدم الصناعي والتكنولوجي، وهو ما يتطلب أدوات تحليلية لفهم أثرها على الأفراد والمجتمعات.
خلاصة القول، تتميز الحداثة بأنها تولد بيئة يكون فيها الأفراد أكثر قدرة على الاختيار الشخصي واتخاذ القرارات المستقلة، بينما تبقيهم في الوقت ذاته مرتبطين بالهياكل المؤسسية التي تحدد القواعد وتضبط السلوك، مما يجعل الحرية الفردية مشروطة بإطار اجتماعي معقد. كما تتسم المجتمعات الحديثة بالتقسيم الوظيفي للأنساق الاجتماعية، حيث تتداخل الأنظمة الاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية، لكنها تحافظ على استقلالها النسقي، وهو ما يسمح بفهم العلاقات بين المؤسسات المختلفة ضمن منظومة متشابكة تؤمن استقرار النسق الكلي.
وفي ذات السياق، تولد الحداثة أيضاً مخاطر غير متوقعة، إذ تترافق التطورات التكنولوجية والصناعية والاجتماعية مع آثار بيئية واجتماعية لا تخضع دائماً للرقابة المؤسسية، وتؤثر على الأفراد والجماعات بشكل غير متكافئ، مما يستدعي تحليلاً دقيقاً للعلاقات الاجتماعية والسلطة داخل المجتمع لفهم توزيع المخاطر واستجاباتها. بهذه الطريقة، تظهر الحداثة كمفهوم شامل يجمع بين العقلانية، الحرية، التنظيم المؤسسي، والتحديات المستمرة، لتشكل إطاراً يفسر التحولات المعقدة التي تشهدها المجتمعات الحديثة. بناءً على ما سبق سنحاول فهم وتحليل جوهر نظرية الحداثة المعاصرة من خلال مناقشة العناصر التالية:
- في مفهوم نظرية الحداثة المعاصرة:
تعتبر نظرية الحداثة أحد أكثر المشاريع الفكرية تأثيراً في العلوم الاجتماعية منذ القرن التاسع عشر، إذ انطلقت من محاولة فهم التحولات الجذرية التي أحدثتها الثورة الصناعية، وبروز الرأسمالية، وتكون الدولة الحديثة، وتفكك البنى التقليدية. وقد عمل مفكرون مثل ماكس ڨيبر، وإميل دوركهايم، ثم لاحقاً يورغن هابرماس وأنتوني جيدنز وأولريش بيك، على بلورة تصور متعدد الأبعاد للحداثة بوصفها مشروعاً تاريخياً يقوم على العقلنة والتنظيم المؤسساتي وإعادة تشكيل أنماط العيش والممارسات اليومية على نحو يؤكد الانفصال عن عالم ما قبل الحداثة.
وتقوم الحداثة في جوهرها على ثنائية التحول والاستمرارية، فبينما تسعى لإنتاج عالم أكثر عقلانية وكفاءة وتنظيماً، فإنها تولد أيضاً أشكالاً جديدة من المخاطر والقلق واللايقين، ما يجعلها مشروعاً مفتوحاً وقابلاً للجدل الدائم. ولكن قبل الخوض في الحداثة المعاصرة سوف نستعرض إسهام ماكس ڨيبر في الحداثة التقليدية.
- إسهام ماكس ڨيبر في نظرية الحداثة التقليدية: تلعب أفكار ماكس ڨيبر دوراً محورياً في بنية تحليل الحداثة، لاسيما من خلال مفهوم العقلنة الذي أدخله كمحور أساسي لفهم كيف يتحول المجتمع الحديث إلى إطار من التنظيم الإداري والقانوني المنطوق بقواعد عقلانية. يرى ڨيبر أن الحداثة تفصح عن ذاتها في هيمنة المؤسسات البيروقراطية، حيث تصبح السلطة الممارسة فيها قائمة على قواعد رسمية، خبرة مهنية، واستمرارية رسمية، وليس على التخصيص الشخصي أو الروابط العائلية.
في هذا السياق، تصف عملية العقلنة عند ڨيبر انتقالاً من نمط حياة تقليدي يعتمد على القيم والعادات إلى نمط حداثي يعتمد على الحساب العقلاني للوسائل والغايات، حيث ينظر إلى العمل والنشاط الاجتماعي بوصفهما يوجهان نحو أهداف محددة ضمن إطار تنظيمي محكم. هذا التوجه يؤدي، وفقا لڨيبر، إلى تفكيك الأساطير والتفسيرات السحرية للعالم disenchantment وتأكيد منطق العلم والقانون كمرجعيات أساسية للتحكم الاجتماعي.
كما حذر ڨيبر من جانب مظلم للعقلنة، فالبيروقراطية رغم فعاليتها التنظيمية، قد تؤدي إلى ما سماه " قفص الحديد " iron cage للعقل، حيث تصبح العلاقات الإنسانية متجردة، والفاعلون مقيدين بشبكة من قواعد رسمية تفقدهم الحرية الفردية والمعنى الشخصي في حياتهم. هذا الرؤية الڨيبرية للحداثة تكمل وتحفز تحليلات مفكري الحداثة المعاصرين مثل: جيدنز وهابرماس وبيك، لأنها تضع أسسا لفهم محدودية العقلانية التقنية والبيروقراطية كمنتج رئيسي للحداثة، لا مجرد وسيلة لها.
أولاً- أدوات التحليل السوسيولوجي في نظرية الحداثة المعاصرة:
تعتبر أدوات التحليل السوسيولوجي في إطار نظرية الحداثة جوهرية لفهم كيفية تحول المجتمعات المعاصرة وتفاعل المؤسسات مع التغيرات التاريخية والاجتماعية. فهي توفر للباحث آليات لرصد الديناميات الاجتماعية المعقدة، وربط البنى المؤسسية بالتجارب اليومية للأفراد، كما تمكنه من تحليل التوترات الناتجة عن العقلنة، والتمايز الوظيفي، والمخاطر التي تفرضها الحداثة على حياة الإنسان.
في هذا السياق، يستخدم أنتوني جيدنز أداة العقلنة rationalization لفحص كيفية تنظيم المؤسسات الحديثة، مثل الدولة والاقتصاد والمدرسة، لحياة الأفراد وفق مبادئ الكفاءة، والضبط، والإجراءات المعيارية. فالعقلنة هنا لا تعني مجرد تطبيق قواعد إدارية، بل تشير إلى انتقال شامل من الأطر التقليدية والاعتماد على الخبرة الموروثة إلى أساليب تخطيطية ومنهجية تشكل سلوك الأفراد والجماعات في محيطهم الاجتماعي. كما يلجأ جيدنز إلى تحليل البنية الزمانية - المكانية، إذ يظهر كيف أن ممارسات الحداثة لا تبقى محصورة ضمن حدود محلية، بل تتجاوزها لتعمل في نظام عالمي مترابط، حيث تؤثر التفاعلات عبر الزمان والمكان في إعادة إنتاج الحداثة بشكل مستمر.
من ناحية أخرى، يركز يورغن هابرماس على تحليل المجال العام public sphere كأداة مركزية لفهم تراكم الشرعية في المجتمعات الحديثة. فالمجال العام، من منظور هابرماس، هو فضاء اجتماعي تتشكل فيه النقاشات العقلانية بين المواطنين، ويشكل محوراً لتشكيل القرارات العامة وبناء المعايير الديمقراطية. ومن خلال دراسة هذا الفضاء، يمكن فهم كيف تؤثر الحوارية العقلانية على التوازن بين مؤسسات الدولة وسلوك الأفراد، وكيف تسهم في تقوية الشرعية الجماعية وتعزيز المشاركة المدنية.
أما أولريش بيك فيقدم أداة تحليل المخاطر risk analysis التي تعنى بكشف الآثار غير المقصودة للتقدم التكنولوجي، والتوسع الصناعي، والتحولات البيئية والاجتماعية. يوضح بيك أن الحداثة، رغم ما تقدمه من مكاسب، تنتج في الوقت ذاته تهديدات لا تخضع بشكل كامل للرقابة المؤسسية، وتؤثر على الأفراد والجماعات بطريقة غير متكافئة، ما يستدعي دراسة منهجية لكيفية استجابة المجتمعات لهذه المخاطر، وفهم الآليات التي تعيد إنتاج الحداثة تحت ضغط هذه الأخطار.
تتسم أدوات التحليل في نظرية الحداثة بالقدرة على الجمع بين البنى الكبرى والتحولات الدقيقة في سلوك الأفراد والجماعات. فهي توفر رؤية متكاملة لفهم كيفية إنتاج الحداثة وإعادة إنتاجها، من خلال تحليل العقلنة، والمجال العام، والمخاطر. وتمكن الباحث من إدراك التوترات الكامنة بين التنظيم المؤسسي والحرية الفردية، وبين المكاسب الاجتماعية والمخاطر المترافقة، ما يجعل هذه الأدوات جوهرية لفهم التعقيد البنيوي والاجتماعي الذي يميز المجتمعات الحديثة.
ثانياً- مرتكزات المفاهيم في نظرية الحداثة المعاصرة:
تقوم نظرية الحداثة، في سياقها السوسيولوجي، على مجموعة من المرتكزات المفهومية التي تشكل بنيتها العميقة وتوجه آليات تحليل الظواهر الاجتماعية في العالم المعاصر. وتظهر هذه المرتكزات بوصفها محاور تفسيرية تتقاطع فيها التحولات البنيوية للمجتمعات الحديثة مع أنماط الفعل الاجتماعي، فتتيح إمكانية فهم التغيرات الكبرى التي طالت الحياة الاجتماعية والمؤسسات وأنماط الوعي. ولعل أبرز هذه المرتكزات ما طوره أنتوني جيدنز ويورغن هابرماس وأولريش بيك، كل من زاوية منهجية مختلفة، إلا أنها تتكامل في رسم الصورة المركبة للحداثة بوصفها مشروعاً تنظيمياً ومعرفياً في آن.
تبدأ هذه البنية المفهومية من مفهوم العقلنة كما يعالجه جيدنز، وهو مفهوم يتجاوز مجرد التحول من التقليدي إلى العصري، ليصف نمطاً شاملاً من إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية وفق إجراءات وقواعد موضوعية تتسم بالتجريد والاتساق، بما يجعل الممارسات اليومية محكومة بمنطق التخطيط والإدارة والتقنين بدل العادات الوراثية. وهذا التحول، الذي يعد جوهر الحداثة، يترك أثراً مباشراً في بنية المؤسسات وفي تشكيل الوعي الاجتماعي، لأن العقلنة تمارس ضغطاً مستمراً نحو ترشيد الفعل وتبريره ضمن منظومات معيارية محددة.
وينتج عن العقلنة توسع في الفردانية، حيث تصبح الذات أكثر قدرة على اتخاذ خياراتها الخاصة، لكنها في الوقت ذاته تجد نفسها مندرجة ضمن شبكات معقّدة من التوقعات الاجتماعية والمؤسسات التنظيمية التي تضبط خياراتها وتعيد تشكيلها. فالفرد الحديث، من منظور جيدنز، أكثر استقلالاً من الماضي، لكنه أيضاً أكثر تبعية لبنى رمزية ومؤسسية تحيط بكل أفعاله، مما يجعل الحرية مشروطة دائماً بإكراهات النظام الاجتماعي الحديث.
وتتعمق هذه الصورة عبر مفهوم الأنساق المتخصصة الذي يعكس الدرجة العالية من التفاضل الوظيفي التي بلغتها المجتمعات الحديثة. فهذه المجتمعات لم تعد كتلة واحدة من التفاعلات المتداخلة، بل أصبحت تتكون من أنساق مستقلة نسبياً - كالاقتصاد والسياسة والتعليم والإعلام - يمتلك كل منها منطقه الخاص وطرائق اشتغاله المستقلة، الأمر الذي يجعل فهم الحداثة مرهوناً بمتابعة علاقات التشابك والاعتماد المتبادل بين هذه الأنساق. ويمثل هذا التفاضل أداة تفسير مركزية لفهم تعقيد العالم الحديث وتشظي السلطة والمعرفة داخله.
وعلى مستوى المجال السياسي – التواصلي، يضع هابرماس مفهوم المجال العام كإحدى الركائز الحاسمة للحداثة الديمقراطية. فهذا المجال، القائم على قدرة المواطنين على الانخراط في نقاش عقلاني حر، يعد شرطاً لبناء شرعية الدولة الحديثة ولتشكيل إرادة جماعية قائمة على التواصل وليس على الهيمنة. وتستمد الحداثة هنا معناها من قدرتها على خلق فضاء مفتوح للتداول العمومي، حيث تختبر الحجج والأفكار وتُخضع للمعايير العقلانية المشتركة التي تمنحها قيمتها الاجتماعية.
أما أولريش بيك فيعيد النظر في الحداثة من خلال مفهوم المخاطر، وهي ليست مجرد تهديدات محتملة، بل نتائج غير مقصودة للتقدم التكنولوجي والصناعي الذي بات يتجاوز قدرة الدول والمؤسسات على الضبط والمراقبة. وتكمن قوة هذا المفهوم في كشفه الطابع اللا متكافئ لآثار المخاطر، إذ تتوزع تبعاتها على الأفراد والجماعات بطريقة غير عادلة، مما يحول الحداثة من مشروع يَعِد بالرفاه إلى فضاء تتداخل فيه الإنجازات مع احتمالات الخطر الواسعة التي تفرض أشكالاً جديدة من الوعي والحذر الاجتماعي.
ومن خلال هذه المرتكزات مجتمعة، تتشكل نظرية الحداثة بوصفها إطاراً تفسيرياً يقدم فهماً معمقاً للكيفية التي تتحول بها المجتمعات تحت تأثير العقلنة والتفاضل الوظيفي والفردانية وتوسع المجال العام وتصاعد المخاطر. إنها نظرية تفكك بنية العالم الحديث وتعيد تركيبها على أسس معرفية ومنهجية متماسكة، تكشف ما ينتجه هذا العالم من فرص وما يفرزه من توترات في آن واحد.
ثالثاً- الأسس الابستمولوجية لنظرية الحداثة المعاصرة:
تستند نظرية الحداثة إلى أساس ابستمولوجي يقوم على الإيمان بإمكان المعرفة العلمية في فهم الاجتماع البشري، دون الوقوع في الحتمية أو اختزال الإنسان إلى معطى تجريبي.
وتتبنى هذه النظرية موقفاً نقدياً تجاه العقلانية الأداتية، إذ ترى أن العقل الحداثي قادر على التحليل والتنظيم، لكنه قد ينقلب إلى قوة تسيطر على الإنسان وتحد من إمكاناته الأخلاقية والتواصلية، كما تشير أعمال هابرماس.
كما تنطلق ابستمولوجياً من فرضية الاستمرارية التاريخية، التي ترى أن تفسير الحاضر لا يتم إلا من خلال تحليل التطورات الطويلة المدى التي بدأت منذ تشكل الدولة الحديثة وبروز السوق الرأسمالية. وهي ابستمولوجيا شمولية، تعترف بتعدد مستويات التحليل: من البنى الكبرى، إلى التفاعلات، إلى الخبرات الذاتية.
وتتبنى كذلك رؤية تأملية تجعل الباحث جزءاً من عملية المعرفة، لأن الحداثة نفسها تغير شروط الفهم والتحليل، ولأن المجتمع الذي يدرسه السوسيولوجي هو ذاته المجتمع الذي يعيش فيه، ما يجعل المسافة النقدية ضرورة منهجية وأخلاقية.
- خلاصة القول، تظهر نظرية الحداثة، في صيغها التي طورها جيدنز وهابرماس وبيك، أن الحداثة ليست مجرد حالة تاريخية أو انتقال تقني- اجتماعي، بل مشروع معرفي- وجودي يتجاوز الحدود التقليدية لفهم التغيير الاجتماعي. غير أن هذا المشروع، رغم ثرائه التحليلي النظري، يثير عدداً من الإشكالات النقدية التي تفتح الباب أمام مراجعات أعمق لمفهوم الحداثة ذاته. فجيدنز، مثلاً، يقدم تصوراً للحداثة قائماً على التعقيد المؤسسي، والتحكم الإداري، والعقلنة الشاملة، لكنه يميل إلى النظر للحداثة بوصفها عملية مهيمنة يعاد إنتاجها من خلال الممارسات اليومية. هذا التصور يجعل الحداثة إطاراً تفسيرياً واسعاً، لكنه يترك مساحة ضيقة للنقد المرتبط بالبنى التسلطية أو بالقمع الرمزي الذي قد تتضمنه المؤسسات الحداثية، إذ تبدو البنى عنده قادرة على التكيف بصورة تمنحها قابلية دائمة لإعادة تشكيل ذاتها، حتى عندما تنتج تفاوتاً اجتماعياً أو اختلالًا في توزيع السلطة.
أما هابرماس، وعلى الرغم من نقده العميق للعقلانية الأداتية، فإنه يفترض وجود إمكانية لتأسيس عقلانية اتصالية قادرة على بناء شرعية اجتماعية جديدة. غير أن هذا الافتراض يتجاوز في كثير من الأحيان الواقع الاجتماعي المليء بعدم التكافؤ وشبكات الهيمنة، لأن المجال العام الذي يراه فضاءً مفتوحاً للحوار العقلاني غالباً ما يكون منحازاً لصالح الفئات الأكثر قدرة على الوصول إلى المعرفة والموارد واللغة المتخصصة. هذا يعني أن " العقلانية التواصلية " تحمل في جوهرها توتراً بين المثال المعياري والإمكان الواقعي، مما يجعل مشروعه أقرب إلى الطموح الفلسفي منه إلى الوصف السوسيولوجي الدقيق.
أما بيك، فيقدم نقداً صريحاً لفكرة الحداثة التقدمية عبر مفهوم " مجتمع المخاطر "، وهو مفهوم يعيد الاعتبار إلى التناقضات البنيوية للحداثة، لكنه في الوقت نفسه يوسع المفهوم إلى درجة يصبح فيها كل شيء " مخاطر "، مما يهدد بتحويله إلى إطار شمولي غير يميز بين أنواع الأخطار ولا بين مستويات تأثيرها. كما أن بيك، رغم تركيزه على الأبعاد البيئية والتكنولوجية، لا يقدم تحليلاً كافياً للعلاقات الطبقية أو لصراعات السلطة التي تحدد من يتحكم بالمعرفة ومن يدفع ثمن الأخطار، مما يجعل نقده للحداثة ناقصاً في بنيته السياسية.
وعلى المستوى الابستمولوجي، تُظهر النظريات الثلاث حدوداً واضحة: فهي تتمسك بفرضية أن الحداثة تملك قدرة تفسيرية تسمح بفهم العالم المعاصر، لكنها تفترض ضمنياً وجود وحدة معرفية مشتركة داخل المجتمعات الحديثة. غير أن التعدد الثقافي، والاختلافات التاريخية، والفوارق الجندرية والطبقية، تشكل عوالم معرفية واجتماعية لا يمكن دمجها بسهولة ضمن خطاب حداثي واحد. وهذا التوتر الابستمولوجي يبرز بشكل خاص عند محاولة تطبيق هذه النظريات في سياقات غير غربية، حيث تبدو الحداثة أقل تجانسًا وأكثر تشظياً مما تصوره إطارهم.
ومن هنا تأتي أهمية النقد الموجه إلى النظريات الحداثية الثلاث: إنها نظريات قوية من حيث قدرتها على التقاط التحولات الكبرى، لكنها تفترض أحياناً اتساقاً بنيوياً أو عقلانياً أو تكنولوجياً لا يعكس تماماً واقع المجتمعات المعاصرة في تنوعها، أو في الأزمات التي تتجاوز منطق الدولة القومية، أو في تعدد أنماط المعرفة التي تتحدى احتكار الحداثة الغربية للتفسير. ومع ذلك، فإن القيمة التحليلية لهذه النظريات تظل قائمة، لأنها تكشف عن دينامية الحداثة بوصفها مشروعاً غير مكتمل، مفتوحاً على إعادة التفاوض المستمر حول السلطة والمعرفة والشرعية.
إن الخلاصة النقدية الأساسية تتمثل في أن الحداثة، كما يعرضها جيدنز وهابرماس وبيك، ليست سردية واحدة ولا مشروعاً منسجماً، بل هي نسيج من التوترات: بين العقلنة والحرية، بين التنظيم الذكي والمخاطر غير المتوقعة، بين المجال العام المثالي وواقع اللامساواة، وبين المعرفة العلمية والممارسات الاجتماعية التي تتجاوزها. وبذلك، فالحداثة ليست وصفاً للعالم بل إشكالية مستمرة، تتطلب قراءة نقدية متعددة المستويات، تراعي تعقيد التجربة الإنسانية وتفاوتات القوة التي تحكم شروط إنتاجها.
----------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
1. باتلر، كريستوفر. (2016). الحداثة: مقدمة قصيرة جداً. ط2. (ترجمة، شيماء طه الريدي؛ مراجعة، هاني فتحي سليمان). المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي.
2. سبيلا، محمد؛ العالي، عبد السلام بنعبد. (2008). الحداثة. ط3. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر.
3. المسيري، عبد الوهاب؛ التريكي، فتحي. (2003). الحداثة وما بعد الحداثة. ط1. دمشق: دار الفكر.
4. حجازي، حمد مجدي. (1998). علم اجتماع الأزمة: تحليل نقدي للنظرية الاجتماعية في مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة. ط1. القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع.
5. خريسان، باسم علي. (2006). ما بعد الحداثة – دراسة في المشروع الثقافي الغربي. ط1. دمشق: دار الفكر.
6. التريكي، فتحي؛ التريكي، رشيدة. (1992). فلسفة الحداثة. ط1. بيروت: مركز الإنماء العربي.
7. هارفي، ديفيد. (2005). حالة الحداثة ما بعد الحداثة – بحث في أصول التغيير الثقافي. ط1. (ترجمة، محمد شيّا). بيروت: المنظمة العربية للترجمة والمعهد العالي العربي للترجمة.
8. بيك، أولريش. (2009). مجتمع المخاطرة. ط1. (ترجمة، جورج كتورة؛ إلهام الشعراني). بيروت: المكتبة الشرقية.
9. هابرماس، يورغن. (2020). نظرية الفعل التواصلي: عقلانية الفعل والعقلنة الاجتماعية. ط1. المجلد الأول. (ترجمة، فتحي المسكيني). الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
10. هابرماس، يورغن. (2020). نظرية الفعل التواصلي: في نقد العقل الوظيفي. ط1. المجلد الثاني. (ترجمة، فتحي المسكيني). الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
11. جيدنز، أنتوني. (2005). علم الاجتماع (مع مدخلات عربية). ط1. (ترجمة، فايز الصياغ). بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
12. أبو السعود، عطيات. (2001). الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى. ط1. الإسكندرية: منشأة المعارف.
13. أبو النور، حسن. (2009). يورجين هابرماس: الأخلاق والتواصل. بيروت: دار التنوير.
14. خلف عبد الجواد، مصطفى. (2011). نظرية علم الاجتماع المعاصر. ط2. عمان: دار المسيرة.
15.كريب، إيان. (1999). النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس. (ترجمة، محمد حسين غلوم؛ مراجعة، محمد عصفور). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 244، أبريل.
16. ليلة، علي. (1991). النظرية الاجتماعية المعاصرة دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع (الأنساق الكلاسيكية). ط3. دار المعارف. القاهرة.
17. Beck, Ulrich. (1992). Risk society: Towards a new modernity. London: Sage.
18. Giddens, Anthony. (1990). The consequences of modernity. Stanford, CA: Stanford University Press.
19. Habermas, Jürgen. (1987). The philosophical discourse of modernity. Cambridge, MA: MIT Press.
20. The Editors of Encyclopaedia Britannica. (n.d.). Modernization – Secularization, Rationalization.
Encyclopaedia Britannica. Retrieved from https://www.britannica.com/topic/modernization/Secularization-and-rationalization
21. Fellwell, Frank. (n.d.). Max Weber. Max Weber’s HomePage, Rogers State University. Retrieved from https://faculty.rsu.edu/users/f/felwell/www/Theorists/Whome.htm
22. -dir-ectorate of Distance and Online Education. (n.d.). Formulation of Modern Rational Capitalism. MA Sociology Study Material. Retrieved from https://www.distanceeducationju.in/studymaterial/MA%20Sociology%20401.pdf
#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)
Hossam_Aldin_Fayad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟