أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق سعيد أحمد - هندسة الخوف: كيف تصنع السلطةُ النفسَ في رواية -للقطط نصيب معلوم-















المزيد.....

هندسة الخوف: كيف تصنع السلطةُ النفسَ في رواية -للقطط نصيب معلوم-


طارق سعيد أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 16:09
المحور: الادب والفن
    


تمتلك رواية " للقطط نصيب معلوم"الصادرة مؤخرا للروائي "طلال سيف" قدرة على كشف البنية العميقة للمجتمع الريفي المصري، ليس من خلال الأحداث وحدها، بل عبر شبكة العلاقات والرموز والانفعالات التي تُشكّل نسيج الحياة اليومية.

تطرح الرواية أسئلة إنسانية حادة حول السلطة، والخوف، والنصيب، والكرامة، وتقدّم شخصيات تتحرك داخل نظام اجتماعي مغلق لا يمنح أحدًا فرصة النجاة إلا بثمن.

من خلال لغة واقعية شفافة وعمق دلالي متماسك، تبدو الرواية أقرب إلى مرآة تكشف ملامح الروح حين تُعاد صياغتها بقوانين المكان.

إنها نصّ يلتقط لحظة الإنسان وهو ينجو، ينهار، ثم يحاول أن يبدأ من جديد.


وتأتي هذه القراءة لتضع رواية "للقطط نصيب معلوم" ضمن سياقها الأوسع؛ ليس بوصفها حكاية محلية عن قرية مصرية فحسب، بل بوصفها نموذجًا مكثّفًا للعلاقة المعقدة بين البنية الاجتماعية والنفس الإنسانية.

ويحاول هذا المقال أن يكشف كيف تُعاد صياغة الوعي الفردي تحت ضغط النسق، وكيف تتشكّل مشاعر الخوف، والحياد، والانتماء، والتمرّد من خلال اقتصاد القوّة وميراث الهيبة الذي يحكم الحياة اليومية.

وتبرز هذه القراءة التوتر الداخلي للشخصيات، وتُضيء تراجيديا الذات حين تحاول النجاة داخل نظام يسبقها ويعلو فوقها.

إنها محاولة لإعادة طرح سؤال قديم في صياغة جديدة: كيف يتشكّل الإنسان حين يكون العالم حوله مصممًا لإبقائه في مكانه؟


حين تتحوّل الذات إلى ساحة تجارب لنظامٍ أكبر منها

ليست" للقطط نصيب معلوم" رواية عن قرية فقط، بل عن النفس حين تُقاس لا بعمقها الداخلي، بل بموقعها داخل شبكة اجتماعية لا ترحم. هنا، لا يُقرأ الإنسان بصفته فردًا يختار، بل حلقةً ضمن منظومة تُعيد تشكيله سلوكًا ومشاعر وقلقًا.

بهذا المنظور تصبح النفس ليست سرًا غامضًا، بل نتاجًا لترتيب القوّة، وتوزيع الهيبة، وطقوس الخوف التي تحكم الحياة اليومية.


الحياد كاستراتيجية وجود

يقدّم النص شخصية مصطفى بوصفها نموذجًا لما يمكن تسميته “سيكولوجية البقاء”.
إنه لا يثور، ولا يرفع صوته، ولا يطالب بموقع أعلى. لكنه أيضًا لا يستسلم؛ بل يتقن فنّ السير بمحاذاة الجدار. حياده ليس فضيلة، بل تقنية للعيش في عالمٍ يعرف جيدًا كيف يعاقب الاندفاع، وكيف يكسر من يحاول القفز فوق دوره المرسوم.

تهتز هذه التقنية حين تمرض الأم، فينكشف عمق معاناته الداخلية: خوفٌ يضغط صدره، صوت رانيا الذي يقطّع تأمله، وذهنٌ يتنقل بين الذكر والصلاة والحسابات المادية القاسية.

في تلك اللحظة، نرى إنسانًا يحاول إنقاذ أمه، لكنه في الوقت نفسه يحاول إنقاذ بقايا ذاته المتشظية.

لنكتشف أن مصطفى ليس ضعيفًا؛ إنه ناجٍ يتعامل مع الحياة كما لو كانت حقل ألغام.


العنف بوصفه لغة وموقعًا في البنية

عمر بن سليمان شخصية محورية في الرواية لا يحتاج إلى تعقيد نفسي كبير لفهمه، فهو يُجسّد البنية في أوضح صورها.

العنف بالنسبة له ليس انفعالًا، بل خطابًا؛ وسيلة تذكّر الآخرين بمكانتهم.

حين يضرب، أو يهين، أو يهدد، فهو لا يتصرّف بصفته فردًا يغضب، بل بصفته ممثلًا لطبقة كاملة تُدرك أن سلطتها لا تدوم إلا إذا تواصل إنتاج الخوف.

بهذا يصبح عمر نقيض مصطفى: الأول يملك فائض قوة لا يحتاج إلى تفسير، والثاني يملك فائض قلق يتطلّب كل يوم تفسيرًا جديدًا.


الأم: العمود الذي يحمل المعنى

لا تُقدَّم الأم بوصفها صوتًا ثانويًا، بل بوصفها “نقطة الجاذبية” التي تستقر حولها كل انفعالات العائلة.

مرضها ليس حدثًا عابرًا، بل لحظة انكشاف لبنية عاطفية كاملة:
إذا انهارت الأم، ينهار البيت، ويضيع التوازن، ويصبح الأمان سؤالًا مُعلّقًا.

في هذه الشخصية يتحول الحب إلى نظام حماية، والمرض إلى تهديد وجودي، والشفقة إلى مقاومةٍ هادئة تبقي العائلة واقفة حتى في أشد اللحظات قتامة.


زكية ورانيا: مقاومتان.. بطريقتين مختلفتين

وتكشف الرواية عن شكلين نسويين من المقاومة:
• زكية:
تقاوم بالصبر والترميم.
تمنح الحياة طاقتها الصامتة، وتعيد بناء البيت كل مساء، مثل امرأة تعرف أن العالم يمكن أن يسقط فجأة، لكنها تقف تحته بيديها العاريتين.
• رانيا:
تقاوم بالرفض والاختلاف.
تقول ما تخشاه الأخريات، وتفكك “أخلاق الطاعة” التي صارت جزءًا من نسيج المجتمع.

إنها الشرخ الذي يكشف هشاشة السقف، والصوت الذي يجعل البنية أقل إحكامًا.
بهذين الخطين، تصبح المرأة في الرواية ليست تابعًا، بل عينًا أخرى ترى ما لا يراه الرجال.

حين يتورّث الجرح شكله الجديد

يظهر أحمد كامتداد مؤلم لعجز مصطفى. هنا الطفل يتعلم لغة العالم قبل لغته الخاصة، ويتلقّى الضرب قبل أن يتلقّى المعنى.
وهكذا يتحوّل—منذ لحظته الأولى—إلى مرآة لما لم يستطع الأب مواجهته.
إنها آلية قاسية:
حين لا يُسمح للآباء بتغيير مواقعهم، يصبح الأبناء هم الحامل الجديد للصراع.


الفلسفة التي تخفي القهر بعباءة الإرادة

تتسلل العبارة المحورية في الرواية—“الغنى قرار، الفقر قرار”—ليس بوصفها حكمة، بل بوصفها آلية أيديولوجية.
إنها العبارة التي تُعفي البنية من مسؤوليتها، وتحمل الضحية ثقل فقره، وتحوّل الظلم إلى “اختيار سيّئ”.
هكذا يولد قناع جديد: الإنسان “المسؤول عن كل شيء”، حتى عن الموت الذي يُقال له إنه “قرار”.
تكشف الرواية هذا القناع بهدوء، وبسخرية مبطنة، تجعل القارئ يبتسم لكنه يدرك أن الابتسامة ملغومة.

القطط: جهاز قياس للنفس الجماعية

تلعب القطط دورًا محوريًا في الرواية—لا كحيوانات، بل كرموز.
من خلال طريقة توزيع الأسماك، ومنطق “النصيب المعلوم”، نفهم أكثر مما نفهم من دروس علم الاجتماع أن:
• المجتمع يعيد توزيع الأدوار كما يُعاد توزيع اللحم.
• كل كائن يعرف حصته.
• والنظام ينهار حين يحاول أحدهم أخذ ما ليس مكتوبًا له.
في لحظة هروب القطط من مصطفى، نرى الحقيقة الأكثر مرارة:
حتى الكائنات التي كانت تستأنس قربه تتخلى عنه حين يفقد مكانته.
كأن البنية تقول:
“من يسقط… يسقط وحده.”

الإنسان بين رغبة قلبه وموقعه في الخريطة

في نهاية القراءة، يتضح أن الرواية ليست عن مصطفى وحده، ولا عن القطط، ولا عن العنف.
إنها عن الإنسان حين يجد نفسه محاصرًا بين “أريد” و“يجب”—بين صوته الداخلي، وصوت المجتمع الذي لا ينام.
تنجح رواية " للقطط نصيب معلوم" للروائي طلال سيف في تقديم نصّ يحمل قسوة الواقع وشفافية الروح في آن واحد، ويُظهر كيف تتداخل السيكولوجيا مع البنية الاجتماعية بحيث لا يمكن فصل واحدة عن الأخرى.
إنها رواية عن البقاء، والكرامة، والفقد، والجرح الذي ينتقل من جيلٍ إلى آخر، لكنّها أيضًا رواية تُذكّرنا بأن أخطر ما قد يخسره الإنسان ليس ماله ولا مكانته… بل قدرته على أن يحكي جرحه بصوتٍ مسموع.



#طارق_سعيد_أحمد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دين الحمقى وضرورة الوهم.. تحت سقف النقد
- ملحمة المطاريد.. تفكيك البنية العميقة للثأر والسلطة
- كتاب مصريون: الكتاب الأول.. شبح يجيد المطاردة
- د. محمد خير الوزير يكتب كيف تصنع شعبًا جاهلًا.[2]
- مقولات طارق سعيد أحمد
- توحه سوسو سارة
- طارق سعيد أحمد يحاور السيناريست الكبير دكتور وليد سيف
- حوار علجية عيش مع الشاعر والإعلامي المصري طارق سعيد أحمد
- كيف تصنع شعبًا جاهلًا.[1]
- طارق سعيد أحمد يحاور الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد
- ترتيب منطقي.. أو هكذا يبدو لي
- طارق سعيد أحمد يحاور السيناريت الكبير ناصر عبد الرحمن
- طارق سعيد أحمد يحاور السيناريست الكبير مجدي صابر
- إنْسَانٌ
- -تقيل- قصيدة للشاعر طارق سعيد أحمد
- كلاكيت أول مرة.. -أشرف ضمر- روائيًا في -سيما ألف ليلة-
- -آيس هارت فى العالم الآخر- رواية تراهن على المجاز الشعري
- طارق سعيد أحمد يحاور د.شهرت محمود أمين العالم
- «فى الثقافة المصرية».. ما بين الأدب القديم والتقدمى.. كتاب ه ...
- طارق سعيد أحمد يحاور الدكتورة شهرت العالم


المزيد.....




- الأونروا تطالب بترجمة التأييد الدولي والسياسي لها إلى دعم حق ...
- أفراد من عائلة أم كلثوم يشيدون بفيلم -الست- بعد عرض خاص بمصر ...
- شاهد.. ماذا يعني استحواذ نتفليكس على وارنر بروذرز أحد أشهر ا ...
- حين كانت طرابلس الفيحاء هواءَ القاهرة
- زيد ديراني: رحلة فنان بين الفن والشهرة والذات
- نتفليكس تستحوذ على أعمال -وارنر براذرز- السينمائية ومنصات ال ...
- لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
- انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما ...
- رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام ...
- الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق سعيد أحمد - هندسة الخوف: كيف تصنع السلطةُ النفسَ في رواية -للقطط نصيب معلوم-