حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث
(Hossam Aldin Fayad)
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 00:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- الملخص:
يقدم المفكر السوري جورج طرابيشي (1939-2016) في هذا العمل قراءة نقدية معمقة لمسار الثقافة العربية منذ انطلاق مشروع النهضة في القرن التاسع عشر وحتى التحولات المعاصرة في عصر العولمة، مركزاً على التمزقات البنيوية التي أصابت الوعي العربي والمعرفة. يعتمد طرابيشي منهجية إبستمولوجية، تاريخية، نفسية، ثقافية، تمزج بين التحليل النقدي للخطابات الفكرية، ودراسة بنيات الوعي الجمعي، ومساءلة التراث، وتحليل التوترات بين الذات والآخر، وبين الماضي والحاضر والمستقبل.
يهدف المقال إلى استعراض وتحليل ما ورد في كتاب " من النهضة إلى الردة " للراحل طرابيشي حول تشخيص أسباب تعثر النهضة العربية، وفهم التحولات الفكرية والثقافية التي أدت إلى ما يسميه " الردة الفكرية "، وطرح آليات لاستعادة عقل نقدي عربي قادر على التعامل مع تحديات العصر الحديث.
تشير النتائج الرئيسة للتحليل إلى مجموعة من المآزق المعرفية والثقافية المتشابكة، أبرزها هيمنة الذاكرة المثالية على الوعي، الانقسام بين الدفاع عن التراث ونقده العدمي، سيادة لاهوت نفي الآخر، ازدواجية العلاقة بالغرب وتحولها إلى رهاب العولمة، انطفاء الأفق النقدي الذي مثلته الماركسية، تحويل التراث من مادة للتحليل إلى سلطة مطلقة، وانغلاق الهوية في قوقعة دفاعية تحد من التجديد والإبداع. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى شلل القدرة النقدية العربية، وإعاقة مشروع النهضة منذ بدايته.
يتوصل الكتاب في خاتمته إلى مجموعة من المقترحات التي يرى أنها ضرورية لإعادة تأسيس العقل النقدي العربي، إذ يبدأ بالدعوة إلى إعادة تأويل التراث بدل تقديسه أو إلغائه، بما يسمح بتحويله من كتلة جامدة إلى أفق معرفي يفتح إمكانيات للتجديد. وفي السياق نفسه يؤكد أهمية بناء هوية نقدية مرنة، قادرة على الحوار مع الآخر، ومهيأة للتفاعل مع الحداثة والعولمة دون خوف أو انغلاق. كما يشدد على ضرورة استعادة القدرة على التفكير النقدي المستقل، ومساءلة الذات والجماعة بأدوات عقلية ومنهجية حديثة تعيد للعقل وظيفته التحليلية. ويخلص إلى أن تجاوز الثنائيات التقليدية بين التراث والحداثة، والذات والآخر، والإيمان والعقل، يمثل شرطاً أساسياً لبناء عقل نقدي متجدد قادر على مواجهة تحديات الواقع المعاصر وإعادة توجيه مسار النهضة المؤجلة.
وفي النهاية، يمكن القول إن الكتاب يمثل تشريحاً إبستمولوجياً للوعي العربي في زمن العولمة، ويقدم رؤية شاملة لإعادة إطلاق مشروع النهضة عبر تأسيس عقل نقدي عربي جديد، يعتمد على النقد الذاتي، والحوار، والقدرة على الابتكار والتجديد. إنه دعوة صريحة لمواجهة الردة الفكرية بإحياء الروح النقدية التي يمكن أن تحول الصراعات الداخلية إلى فرص للتجدد والمعرفة المستنيرة.
- المقدمة:
يأتي مشروع جورج طرابيشي الفكري في لحظة مفصلية من تاريخ الفكر العربي، لحظة يتشابك فيها سؤال الهوية بسؤال المعرفة، ويتقاطع فيها النقد الثقافي مع الأزمات البنيوية التي يعانيها العقل العربي منذ أكثر من قرن. فكتاب " من النهضة إلى الردة " ليس مجرد قراءة في أزمة ثقافية، ولا هو بياناً حداثياً ضد التراث، بل هو محاولة لإعادة بناء خريطة الوعي العربي من الداخل، من خلال مساءلة الأسس الابستمولوجية التي وجهت مسار النهضة منذ بداياتها الأولى في القرن التاسع عشر.
ينطلق طرابيشي من فرضية بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها، هي أن مشروع النهضة العربية لم يتعثر بفعل العوامل الخارجية فقط، بل بفعل خلل بنيوي في آليات إنتاج المعرفة ذاتها. ولذلك، فالكتاب يناقش الأفكار على مستوى جذري، وهو مستوى البنية العميقة للوعي لا على مستوى مظاهره السياسية أو الفكرية فحسب. إنه تفكيك لطبقات ترسبت وتراكمت عبر التاريخ، وأنتجت ما يمكن تسميته " بذاكرة معرفية مغلقة " تفرض منطقها على التفكير، وتوجه علاقة الذات العربية بكل من الماضي والآخر والحداثة.
ومن هنا يبرز لنا السؤال المركزي الذي يحكم الكتاب: لماذا فشل مشروع النهضة العربية رغم طول المدة، وغزارة الجهود، وكثرة المفكرين الذين حملوا رايته؟
هذا السؤال، رغم مظهره التاريخي، هو في جوهره سؤال ابستمولوجي، لأن الإجابة عنه تمر عبر تحليل أنماط التفكير التي حكمت العقل العربي، لا عبر سرد وقائع سياسية أو اجتماعية. فالمشكلة بالنسبة لطرابيشي ليست في الأحداث، بل في الذهنية التي قرأت الأحداث، ليست في التراث ذاته، بل في الطريقة التي تحول بها التراث إلى قيد معرفي، ليست في الغرب بما هو آخر، بل في الصورة المتخيلة عنه التي صنعتها مخاوفنا وسردياتنا الدفاعية.
وتتضح قيمة الكتاب في كونه يكشف عن تلك المفارقة الزمنية التي يعيشها الوعي العربي، حيث يتعايش ماض مثالي تام مع حاضر مأزوم ومستقبل مؤجّل. هذه المفارقة ليست مجرد اضطراب نفسـي هجومي–دفاعي، بل هي عطب معرفي يعطل القدرة على طرح الأسئلة الأولى التي تشكل شرط النهضة: أسئلة النقد، وأسئلة العقل، وأسئلة الذات، وأسئلة التراكم التاريخي.
وبذلك، يتحول الكتاب من مجرد نقد لظواهر الردة الفكرية إلى محاولة لإعادة تأسيس فهم جديد لمسار النهضة ذاتها، من خلال إعادة تفكيك البنية المستترة التي أدت إلى انكسارها، وتبيان كيف تحولت تلك البنية إلى منظومة مغلقة تستعصي على التغيير.
إن امتياز هذا العمل يكمن في قدرته على الجمع بين التحليل الابستمولوجي والقراءة السيكولوجية الثقافية للوعي العربي، بحيث تصبح أزمة النهضة ليست فقط أزمة أفكار، بل أزمة وعي بنفسه وبالعالم. ومن هنا تتبدى الدعوة التي يوظفها طرابيشي في مجمل الكتاب التي تتمحور حول ضرورة إعادة تحرير العقل العربي من أسئلته المؤجلة، ومن ذاكرته التي تحولت من مصدر إلهام إلى عبء معيق، ومن تراثه الذي غادر فضاء النقد ليغدو سلطة مقدسة تمنع التفكير بدل أن تحفزه.
إننا أمام مقدمة لمشروع نقدي يريد أن يفتح ثقباً في الجدار السميك للوعي العربي، ثقباً يسمح بدخول هواء جديد، ويعيد للثقافة العربية قدرتها على السؤال، وعلى مساءلة ذاتها دون خوف أو ترهيب. وبهذا، يغدو كتاب " من النهضة إلى الردة " ليس فقط نقداً للردة، بل استدعاء جذرياً لنهضة معرفية جديدة، نهضة لا تقوم على استرجاع ماض مثالي، ولا على رفض عولمة لا مفر منها، بل على امتلاك القدرة على إنتاج معرفة حرة، عقلانية، ومفتوحة على التعدد. بناءً على ما تقدم سوف نناقش ونحلل العناصر التالية:
1- جدلية الوعي العربي بين إرث الذاكرة وضغوط اللحظة الراهنة: يفتح طرابيشي مشروعه النقدي من بوابة المأزق الأعمق في الوعي العربي ألا وهو العلاقة الملتبسة بين الذاكرة والواقع. فالذاكرة هنا لا تفهم بوصفها سجلاً تاريخياً حيادياً، بل بوصفها إنشاء متخيلاً يتجاوز الوقائع نحو صورة مثالية مكتملة، يتحول فيها الماضي إلى زمن ذهبي مصفى من تناقضاته. إنها ذاكرة لا تستعيد ما كان، بل تبتكر ما يجب أن يكون في المخيال الجمعي، فتغدو معياراً يقيس به العرب حاضرهم لا أداة تساعدهم على فهمه.
بهذا التحول، يصبح الماضي سلطة معرفية يحتكم إليها، لا مادة نقدية يمكن مساءلتها. ويتشكل وعي أعلى من الواقع، وعي معلق في زمن ميتافيزيقي يتجاوز التاريخ ويعلو عليه. وهنا يتبدى الانشطار العميق، فالذاكرة تنتفخ بسرديات المجد، بينما يطالع الواقع العربي ذاته بأزمات متراكبة، علمياً واقتصادياً وسياسياً. هذا التناقض ينتج ما يسميه طرابيشي " الانفصام الثقافي "، حيث يتغذى الداخل من يقينيات تمجد الذات وتعيد إنتاج صورة بديلة عن العالم، بينما يكشف الخارج هشاشة تلك الصورة تحت ضغط الوقائع والتجارب والتحديات الحديثة.
وفي ظل هذا التوتر، يتحول الماضي إلى تعويض نفسي أكثر منه أفقاً معرفياً. إنه يمنح شعوراً بالطمأنينة والهوية والاستمرارية، لكنه يفرض في المقابل قيوداً صلبة على إمكانيات التفكير النقدي. فكل محاولة لقراءة الحاضر قراءة عقلانية تحاصر بمرجعيات تراثية ترفع إلى مرتبة المثال الكامل. ومن هنا يصاب الوعي العربي بما يشبه " شللاً ابستمولوجياً " يمنعه من الانخراط الجاد في أسئلة الحداثة.
يلتقي هذا التشخيص مع رؤية محمد أركون في حديثه عن " العقل المغلق " الذي يتقوى بالأسطورة ويتحصن ضد المساءلة، كما يوازي نقد عبد الله العروي للإيديولوجيا العربية التي تشبثت بذاكرة مبرمجة للماضي لتحصين الحاضر بدل تفكيكه. فالعقل العربي، في نظر هؤلاء جميعاً، يعيش في زمن مفارق، الماضي فيه مهيمن، الحاضر مؤجل، والمستقبل عاجز عن التشكل.
إن أزمة الوعي العربي في هذا السياق لا تعود إلى نقص في المعرفة بقدر ما تعود إلى فائض في الذاكرة، ذاكرة تعلي من المثال وتهمش الواقع، وتحول التاريخ من مجال للفهم إلى ملاذ نفسي يستعاد كلما اشتد ضغط العصر. وهنا يصبح الخروج من المأزق مشروطاً بإعادة ترتيب العلاقة بين الذاكرة والواقع، بحيث يتحرر الماضي من طابعه القدسي، ويتحول إلى مادة تحليل لا إلى مرجع أحلام.
2- ازدواجية الدفاع والهدم مأزق العقل العربي بين تقديس الماضي ونفيه: يرى طرابيشي أن الوعي العربي يعيش حالة انشطار عميقة بين اتجاهين يبدوان متعارضين، لكنهما يلتقيان في إعادة إنتاج المأزق ذاته. ففي أحد الطرفين يقف خطاب يستميت في الدفاع عن التراث، لا بوصفه مادة تاريخية قابلة للفحص، بل بوصفه حقيقة مكتملة تقف فوق الزمن. يتحول الماضي هنا إلى يقين يفرض نفسه باعتباره النموذج الوحيد الممكن، وتغدو الهوية إطاراً مغلقاً لا يسمح بأي مراجعة أو مساءلة.
وفي الطرف المقابل يظهر خطاب آخر يرفع شعار النقد، لكنه يمارسه بطريقة عدمية تسقط الماضي بأكمله دفعة واحدة. هذا الخطاب لا يفكك التراث ولا يفهمه، بل يلغيه فوراً، فيقع في اختزال لا يقل بساطة عن الاختزال الذي يمارسه المدافعون عنه. كلا الاتجاهين، على الرغم من تباين لغتهما، يهرب من العمل النقدي الحقيقي الذي يستدعي صبر الفحص، وشجاعة الفهم، وقدرة التأويل.
بهذا المعنى، لا ينتج أي منهما نقداً خلاقاً، بل يساهمان في شلل الوعي وجره إلى صراع عقيم، أحدهما يحصن الماضي ضد أي قراءة جديدة، والآخر يبتر جذور الحاضر عن ذاكرته. ويختفي بذلك الأفق العقلاني الذي يمكن أن يحول التوتر بين الماضي والحاضر إلى طاقة معرفية، فيتحول الاختلاف إلى مواجهة، والنقد إلى ردة معرفية لا إلى نهضة.
3- بين الذات والآخر تفكيك البنية الإقصائية في المخيال العربي: يقدم طرابيشي قراءة تكشف كيف تحول الوعي العربي، عبر مسار طويل من التراكمات التاريخية والفكرية، إلى وعي يقوم على منطق نفي الآخر، سواء كان هذا الآخر دينياً أو مذهبياً أو قومياً أو إيديولوجياً. فالمسألة بالنسبة إليه لا تتعلق فقط بعقائد أو انتماءات، بل ببنية ذهنية رسخت معادلة حادة تختزل العالم في ثنائية مغلقة، نحن بوصفنا جوهراً نقياً مكتملاً، وهم باعتبارهم خطراً وجودياً يستدعي الحذر والرفض والشيطنة.
وهذا المنطق لا يعمل بوصفه موقفاً سياسياً فحسب، بل يتحول إلى لاهوت معرفي يعيد إنتاج نفسه في كل مستويات الخطاب. ففي ظل هذا التصور، لا يعود الآخر موضوعاً للفهم أو الحوار، بل مرآة معكوسة تُعرف الذات عبر نفيه. وبذلك تتسع دائرة الإقصاء لتشمل المختلف القريب كما تشمل البعيد، وتصبح الهوية درعاً دفاعية أكثر من كونها أفقاً منفتحاً على التفاعل والتجدد.
ومع هيمنة هذا الوعي، تتفشى أمراض معرفية عميقة، يتراجع الإحساس بالثقة، ويتضخم الخوف من المختلف، وتتحول الهوية إلى قوقعة تحتمي بنفسها حتى وإن كان الثمن هو تعطيل القدرة على فهم العالم. وهنا يلتقي طرابيشي مع إدوارد سعيد، الذي نبه إلى خطأ تحويل الآخر إلى شماعة نعلق عليها أزماتنا، فالنقد الحقيقي يبدأ من الذات ومن مراجعة التصورات التي تصنع العدو أكثر مما تكشف عنه.
إن هذه الأزمة لا تخص الماضي وحده، بل هي آلية مستمرة تصوغ علاقتنا بالواقع وتحد من إمكان بناء فضاء تعددي يتيح للعقل أن يتنفس خارج سطوة اليقين المغلق.
4- الوعي العربي بين افتتان الحداثة ورهاب العولمة: تعامل طرابيشي مع إشكالية العلاقة بالغرب باعتبارها جرحاً معرفياً لم يلتئم بعد، إذ يرى أن الوعي العربي يعيش حالة التباس مزمنة تجمع بين الانبهار بالإنجازات العلمية والتقنية للغرب، وبين شعور عميق بالتهديد من قيمه ومفاهيمه وتصوراته للعالم. إنها علاقة أقرب إلى اضطراب نفسي جماعي يجذبها الغرب بحداثته، لكنها ترتد عنه في لحظة خوف، كمن يلامس ناراً تشده ويخاف احتراقها في آن واحد.
ومع اتساع العولمة، ازداد الشرخ اتساعاً. فالعالم يتحرك بزمن متسارع، بينما ظل الزمن العربي مثقلاً بعقبات داخلية لم تُحل بعد، من أزمات سياسية وانسدادات فكرية وانكسارات إيديولوجية. ولهذا بدا استقبال العولمة، في المخيال العربي، أقرب إلى اجتياح يهدد الهوية لا إلى فرصة لإعادة بناء الذات ضمن ديناميكية عالم جديد.
يشير طرابيشي إلى أن مأزق الوعي لا يكمن في حداثة الآخر أو في اندفاع العالم نحو منظومات معرفية متجددة، بل في بنية عقل لم يتجاوز صدمة النكسة ولا ارتباكات المشروع القومي ولا الخوف المزمن من التغيير. وهكذا يتحول الحذر من الغرب إلى رهاب شامل من الحداثة نفسها، ويغدو الدفاع عن الهوية رد فعل لا فعلاً، وانكماشاً لا مواجهة معرفية تنتج بدائل أو رؤى جديدة.
إن هذا " المرض بالغرب " ليس حكماً أخلاقياً بقدر ما هو توصيف لحالة وعي مأزوم يتأرجح بين حاجته إلى التقدم وخوفه من أن يفقد ذاته في طريقه إليه، فيعيش دائماً في منطقة رمادية لا تسمح بانخراط نقدي واع في زمن عالمي لا ينتظر أحداً.
5- انطفاء الأفق النقدي انهيار الماركسية وأزمة العقل العربي: يقدم طرابيشي قراءة معمقة لفترة ازدهار الماركسية في العالم العربي، التي لم تكن مجرد إيديولوجيا سياسية أو برنامجاً ثورياً، بل أفقاً معرفياً متكاملاً سمح للعقل العربي بأن يخرج من دائرة التقليد المألوف والتكرار الذهني، ليعالج المجتمع وهياكله بموضوعية نقدية. فالماركسية، في فهم طرابيشي، مثلت تجربة فريدة لموازنة التاريخ بالتحليل، والواقع بالنظرية، إذ وفرت أدوات عقلانية لرصد الأزمات الاجتماعية والسياسية، ووسائل لتفكيك أنماط السلطة والهيمنة، ورؤية لتجاوز اللحظة الراهنة المحدودة والانتقال إلى أفق تقدم شامل يربط بين الفكر والممارسة.
لم تكن الماركسية مجرد نظرية اقتصادية أو خطاباً سياسياً، بل تجربة معرفية ثرية شكلت مجالاً لتشكيل وعي نقدي قادر على مواجهة التراث والانغلاق الفكري من جهة، والانبهار الأعمى بالغرب من جهة أخرى. لقد أتيح للعقل العربي فرصة النأي بنفسه عن ثنائيات التراث والحداثة أو الذات والآخر، ومنحته القدرة على استعادة مشروع عقلاني كان يفتقده منذ بدايات النهضة العربية.
إلا أن انهيارها في التسعينيات لم يترك فراغاً سياسياً فحسب، بل أحدث فراغاً معرفياً وأخلاقياً عميقاً في البنية الفكرية للعقل العربي. فالانطفاء لم يخل من ردود الفعل، بل أعقبه صعود الأصوليات الدينية والسياسية، وانكماش الخطاب النقدي، وتحول الهوية من مشروع مفتوح إلى قوقعة دفاعية مغلقة، مع تراجع القدرة على استيعاب التحولات العالمية والتفاعل معها بوعي عقلاني. وقد تحولت هذه المرحلة إلى لحظة انعكاسية مؤلمة، حيث لم يعد هناك أفق كلي للعقلانية النقدية يمكنه توجيه المجتمع نحو مشاريع تحديثية، بل ظهر وعي محاصر بين الأمس المفقود واليوم غير المستعد لمستقبل معرفي مستنير.
وهنا يطرح طرابيشي السؤال الابستمولوجي الأكبر كيف يمكن للعقل العربي أن يستعيد حيويته النقدية في غياب أطر معرفية تتجاوز الانغلاق على التراث أو الردة إلى الذات، وفي ظل التحديات الجديدة التي فرضتها العولمة والتغيرات الاقتصادية والسياسية؟ إنه سؤال عن استعادة القدرة على التفكير الحر، وعن بناء مشروع معرفي متكامل يوازن بين النقد الداخلي ومواكبة الحداثة، بحيث لا يكون مجرد تكرار لخطابات الأمس أو مجرد انبهار بلا فهم بالآخر. فالسقوط الماركسي لم يكن نهاية لإيديولوجيا، بل نهاية آخر أفق معرفي حقيقي حاول خلق عقل عربي حداثي قادر على مواجهة ذاته والعالم بموضوعية وحرية.
6- التراث كفضاء للتفكير من الجمود إلى التجديد: يؤكد طرابيشي أن أي مشروع نهضة حقيقي لا يبدأ من مجرد استرجاع التراث أو تقديسه، بل من إعادة تأويله بوعي نقدي يوازن بين ما كان وما يمكن أن يكون. فالتراث، في جوهره، ليس حقيقة جامدة، بل نسق من القراءات المتراكمة عبر الزمن، طبقات متغيرة تتفاعل مع كل سياق اجتماعي وفكري. وعندما يتحول التراث من فضاء مرن قابل للنقد إلى سلطة مغلقة، فإنه يفقد دوره كأداة للعقل، ويصبح قيداً يمنع التفكير النقدي ويكبح التجديد.
ويبدو أن طرابيشي يلتقي في هذا الرأي مع عميد الأدب العربي طه حسين الذي دعا إلى تحديث أدوات قراءة التراث في " مستقبل الثقافة في مصر "، ومع محمد أركون الذي طالب بتفكيك العقل الإسلامي عبر مناهج العلوم الإنسانية لتجاوز الجمود المعرفي. كلاهما يدعو إلى استعادة التراث كوسيلة لفهم الذات والمجتمع، لا كمرجع مطلق يحد من حركة العقل.
لكن الثقافة العربية، وفق طرابيشي، اختارت طريقاً معاكساً، حيث عاد التراث ليصبح يقيناً مطلقاً، قوة ضاغطة على الفكر بدل أن يكون مادة للتحليل والتأويل. هذا الانغلاق يحرم العقل العربي من فرصة مواجهة التحديات المعاصرة بمرونة، ويحول الهوية الثقافية إلى قوقعة دفاعية تصون الذات بدل أن توسع آفاقها. في هذا السياق، يصبح النقد الحقيقي للتراث شرطاً لا غنى عنه لأي نهضة، إذ يتيح تحويل الإرث الثقافي من سلطة إلى أفق معرفي يفتح إمكانات التجديد والإبداع.
7- الهوية والتماهي والثقافة المغلقة الوعي العربي بين الذات والخوف من المختلف: ينطلق طرابيشي في هذا المحور من فكرة أن أزمة الوعي العربي المعاصر ليست مجرد أزمة معرفية أو سياسية، بل أزمة وجودية تتعلق بالهوية نفسها. فالهوية، في نظره، ليست جوهراً ثابتاً أو حقيقة مطلقة، بل مشروع متحرك يتكون من خلال الحوار والتفاعل مع الذات والآخر، ومع تطورات الزمن. غير أن مسار الردة الفكرية حول هذا المشروع إلى قوقعة دفاعية مغلقة، يصير فيها الدفاع عن الذات أكثر أهمية من فهم الآخر أو مواجهة الواقع بعقل نقدي.
في هذه البيئة، تتحول الهوية إلى حصن نفسي، يحمي الفرد والمجتمع من الاختلاف، لكنه في الوقت ذاته يحد من قدرتهما على التجديد والإبداع. كل محاولة للانفتاح أو التفكير الحر تفسر على أنها تهديد، فيختلط البحث عن الذات بالتمسك باليقينيات، ويصبح الحوار مع الآخر شبه مستحيل. وقد وصف طرابيشي هذا الانغلاق بأنه " ردة معرفية وثقافية "، حيث تتبدد القدرة على التعلم من التجارب المختلفة، ويغدو الانغلاق قاعدة لتثبيت الماضي بدل تحويله إلى مادة للتأمل النقدي.
وينتقل طرابيشي في تحليله من المستوى الفردي إلى المستوى الجمعي، موضحاً كيف أن هذه القوقعة الدفاعية تصبح ثقافة مغلقة على نطاق المجتمع ككل، ما يؤدي إلى تعزيز رهاب المختلف وإعادة إنتاج الخطابات الأصولية والدفاعية. فالخوف من الآخر يصبح جزءاً من البنية النفسية والثقافية، والعقل العربي، بدلاً من أن يكون أداة للفهم والتحليل، يتحول إلى منظومة مقاومة للمعرفة الجديدة، مكرساً الانغلاق على الذات بدل الانفتاح على الحوار والتعددية.
وهنا تتضح الدعوة الكبرى لطرابيشي أي نهضة عربية حقيقية لا يمكن أن تقوم إلا بإعادة بناء الهوية على أساس النقد الذاتي والحوار مع الآخر، بدل حبسها داخل قوالب مغلقة تعيد إنتاج الخوف والجمود، وتجعل من الثقافة العربية ساحة لتثبيت الردة بدل صناعة النهضة.
- الخاتمة (نحو تأسيس عقل نقدي عربي جديد): ينتهي مشروع طرابيشي النقدي في " من النهضة إلى الردة " إلى استنتاج مركزي وحاسم أن الأزمة العربية ليست مجرد تراكم سياسي أو اقتصادي، بل أزمة في بنية التفكير نفسها، في الطريقة التي ينتج بها العقل العربي معرفته ويتفاعل مع الواقع والماضي والمستقبل. لقد كشفت العناصر السابقة أن الوعي العربي يعيش في مأزق مزمن، نتيجة للتمزق بين الذاكرة والواقع، والصراع بين الدفاع عن التراث ونقده العدمي، ولادة لاهوت نفي الآخر، والازدواج المرضي تجاه الغرب، وانطفاء الأفق النقدي الذي مثلته الماركسية، وتحول التراث إلى سلطة مطلقة، وانغلاق الهوية في قوقعة دفاعية.
هذه الأزمة، في جوهرها، ابستمولوجية بامتياز. فهي تشير إلى ضعف القدرة على إنتاج معرفة نقدية متحركة، على مساءلة الذات ومراجعة الموروث، وعلى تطوير أدوات تحليلية تسمح بالتعامل مع الواقع المعقد والمتغير. إنها أزمة تحدد شكل العقل العربي وطريقة عمله، وتجعل من النقد الذاتي والموضوعي شرطاً أساسياً لأي نهضة حقيقية، بدل الانغماس في الحنين إلى الماضي أو الانغلاق على الذات.
ويمكن القول إن طرابيشي لا يكتفي بتشخيص المسالب، بل يضع أمامنا أفقاً معرفياً جديداً يتمحور حول إعادة تأسيس عقل نقدي عربي قادر على تجاوز ثنائيات التراث والحداثة، الإيمان والعقل، الذات والآخر. عقل يمكنه استيعاب التجارب العالمية دون استلاب الهوية، ومواجهة التحديات الداخلية بجرأة السؤال وبمرونة الفكر، دون الانكفاء على الذات أو الانبهار بالآخر. وهو عقل يرفض الردة ويستعيد الروح النقدية التي كانت في أصل النهضة العربية الأولى، ويحول الصراع بين الماضي والحاضر إلى حوار خلاق، بين التقليد والابتكار، بين الثابت والمتغير.
وفي هذا الإطار، يبدو المشروع المعرفي لطرابيشي دعوة لا تقتصر على الفكر وحده، بل تمتد إلى ممارسة المجتمع ككل من خلال إعادة قراءة التاريخ، وفهم الذات والجماعة، وبناء هوية مرنة قابلة للحوار مع المختلف، والقدرة على مواجهة العولمة كفرصة معرفية لا كتهديد. إنه مشروع لإحياء العقل العربي، ليس باعتباره أداة سياسية أو إيديولوجية، بل كفضاء للتفكير النقدي المستقل، الذي يوازن بين الإرث والتجديد، ويعيد إنتاج الذات في ضوء المستقبل الممكن.
باختصار شديد، يقدم لنا طرابيشي رؤية ابستمولوجية شاملة تنادي بأن النهضة لا تبدأ من استعادة الماضي ولا من إلغاء الآخر، بل من تأسيس وعي نقدي داخلي قادر على إعادة صياغة العلاقة بالمعرفة والتاريخ والهوية، وإنتاج عقل عربي جديد، حر، متجدد، وقادر على مواجهة أسئلة العصر بوعي عميق وثقة معرفية متجددة. إنها دعوة صريحة لإحياء الروح النقدية التي يمكن أن تحدث الفارق بين الردة والنهضة، بين الجمود والانفتاح، بين القوقعة والإبداع، لتصبح الثقافة العربية مسرحاً للحوار، والتجديد، والابتكار، بعيداً عن الإقصاء والانعزال.
------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
1. جورج طرابيشي: من النهضة إلى الردة (تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة)، دار الساقي، بيروت، ط1، 2000.
2. جورج طرابيشي: إشكاليات العقل العربي، دار الساقي، بيروت، ط1، 1998.
3. إدوارد سعيد: الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط3، 2024.
4. علي شريعتي: النباهة والاستحمار، الدار العالمية، بيروت، ط1، 1984.
5. طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2014.
6. محمد أركون: الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، ط1، 1991.
7. عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1995.
#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)
Hossam_Aldin_Fayad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟