غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 18:48
المحور:
المجتمع المدني
بين الانغلاق الضروري والكشف القسري
إن العبارة الفلسفية "الذات هي جسد عارٍ في عصرالنسبية التكنولوجية للخصوصية" لا تمثل مجرد وصف عابر لتناقص الخصوصية، بل تشير إلى تحول وجودي عميق أعاد تعريف الذات في العصر الرقمي. لقد أصبحت الهوية الفردية، بجوهرها النفسي والسلوكي، خاضعة لعقد اجتماعي رقمي ضمني يفرض الانكشاف كشرط للمشاركة الفعالة.
يجب تفكيك مجاز "الذات العارية"؛ فهو لا يشير إلى التعرّي المادي، بل يرمز إلى فقدان الحصانة والحدود الشخصية، والتعرض الدائم لآليات المعاينة والتصنيف والحكم. تؤدي هذه الحالة إلى هشاشة قصوى. فالهشاشة، في هذا السياق، تنشأ من التفاعل بين الخصائص الفردية والظروف الخارجية، داخل سياق يتم فيه إعاقة الأهداف الشخصية وتتأثر فيه التصورات الذاتية والاجتماعية للهوية. تكمن الخطورة في أن الظروف الخارجية، ممثلة في البنى التحتية التكنولوجية واقتصاديات المراقبة، مصممة بطريقة هيكلية لتعظيم استخراج البيانات، مما يجعل "التعرية" حالة سياسية واقتصادية مفروضة، حيث يصبح ثمن عدم المشاركة في المجال الرقمي باهظاً.
أما الجزء الثاني من المقولة، "النسبية التكنولوجية للخصوصية"، فيشير إلى كيف أدت التكنولوجيا إلى إزاحة القيمة الثابتة والمطلقة للخصوصية، لتحل محلها قيمة متغيرة تحددها سياقات الاستخدام والتفاعل. لقد أصبح مفهوم الخصوصية، تماماً كما في الفيزياء الحديثة حيث تعتمد القياسات على الإطار المرجعي للمراقب، بات يعتمد على متغيرات تتجاوز إرادة الفرد. هذا التحول الفلسفي يفرض دراسة متعمقة لـجذور قياس الذات المستمدة من علم الجريمة والطب النفسي، وتحليل القوى الاقتصادية الدافعة للانكشاف (رأسمالية المراقبة لشوشانا زوبوف)، ونظام السيطرة النفسية الذي يصفه بيونغ تشول هان.
الجذور المعرفية للانكشاف الذاتي
إن تمثيل الذات في العصر الرقمي، كما يحلله الكاتب الألماني أندرياس برنارد في كتابه "نهاية عصر الخصوصية: انكشاف الذات في الثقافة الرقمية"، يقوم على بنية تحتية معرفية مظلمة. إن "الملف الشخصي" على وسائل التواصل الاجتماعي هو الشكل السائد لعرض الهوية الشخصية على الإنترنت، وهو مركز تتجمع فيه البيانات الشخصية والنصوص والصور ومقاطع الفيديو.
إن أساليب تمثيل الذات في أيامنا، سواء في الملفات الشخصية، أو وظائف تحديد المواقع في الهواتف الذكية، أو قياسات الجسم (القياس الكمي للذات)، ترجع في أصلها جميعاً إلى طرق اُبتُكرت وطُوِّرت في علم البحث الجنائي وعلم النفس والطب النفسي منذ نهاية القرن التاسع عشر. هذه الأوصاف الشخصية المتعلقة بالمظهر الخارجي والمرتبطة ببيانات السيرة الذاتية تُستخدم اليوم بمفهوم تواصلي ويتم استلهامها اقتصادياً أو عاطفياً.
يُفهم من هذا التأصيل التاريخي أن جوهر بناء الهوية الرقمية الحديثة ليس التواصل أو التعبير عن الذات بالمعنى الوجودي الحر، بل التصنيف والمعايرة الجنائية. أي أن البنية التحتية للذات الرقمية تستند إلى أنظمة مصممة في الأصل لـتشخيص الانحرافات، وتحديد المخاطر، وإثبات الهوية لأغراض المراقبة والسيطرة. بالتالي، فإن الوظيفة الجوهرية للذات الرقمية ليست الوكالة الحرة، بل التقييم المسبق للمخاطر. المستخدم يعتقد أنه يبني هويته، بينما التكنولوجيا تبني نموذجاً احتماليًا لسلوكه ونقاط ضعفه المحتملة. الذات المنكشفة هي بالضرورة "دليل إدانة" محتمل، تخضع باستمرار للتصنيف من قبل أنظمة بُنيت أساساً لمنطق التدخل أو العقوبة.
التحدي الاقتصادي: رأسمالية المراقبة واستغلال النسبية
تُستغل هذه النسبية التكنولوجية بطريقة منهجية من قبل رأسمالية المراقبة. إذا كانت قيمة الخصوصية نسبية وتعتمد على سياق-الزمن، فإن الجهة التي تتحكم في السياق الذي تُحلل فيه البيانات وتُتداول، تمتلك قوة هائلة. يتم تعمية هذا السياق عن المستخدم (كما لاحظت زوبوف بخصوص غياب الوعي الكامل أو الموافقة)، مما يسمح للنظام الاقتصادي بتقليل القيمة المتصورة للخصوصية لدى المستخدم (جعله يرى بياناته رخيصة أو بلا قيمة) بينما يزيد قيمتها التنبؤية القصوى للشركات. إن الذات العارية ليست فقط مكشوفة، بل إن قيمتها الحقيقية مخفية ضمن تحول سياقي نسبي يتم التحكم فيه خارج إطار وعي الفرد.
اقتصاد استخراج الفائض السلوكي
تقدم شوشانا زوبوف تحليلاً مفصلاً لكيفية تحويل العصر الرقمي إلى نظام قائم على اقتصاد استخدام التجربة الشخصية كـ "مادة خام" للتحويل إلى سلع ذات قيمة يمكن التداول فيها.
الآلية الرئيسية التي تفرض "التعري القسري" هي استخراج ما يسمى "الفائض السلوكي". وهو البيانات التي تتخطى الحدود المطلوبة للخدمة ويتم جمعها وتجميعها في ملفات شاملة، مثل سرعة الكتابة وحركة الماوس والأماكن التي نقرأ عنها. يتم هذا الاستخراج دون وعي كامل أو موافقة من الجمهور، وتتخطى تداعياته مجرد استهداف الإعلانات، بل تؤثر على مفاهيم الاستقلالية والخصوصية في ظل الديمقراطية.
تكتمل قسرية هذا الاقتصاد بما تسميه زوبوف "التبعية والاستئثار بالبدائل". حيث أصبح من المستحيل تقريباً المشاركة بفعالية في الحياة اليومية (مثل التوظيف، التعليم، الرعاية الصحية) دون استخدام قنوات الإنترنت التي هي في الأساس سلاسل التوريد لرأسمالية المراقبة. هذا الاعتماد الضروري يُنشئ حالة لا يمكن فيها "تسجيل الخروج"، مما يرسخ حالة "الجسد العاري" كشرط لا مفر منه للمشاركة الاجتماعية.
في هذا النموذج، يصبح التعري الذاتي عملية يطلبها الفرد للحصول على مكافأة. فمن ينشئون ملفات شخصية مبتكرة يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية في عرض ذواتهم على الملأ، وكلما زاد الابتكار في بناء شكل الملف، زادت قوة ردود أفعال المستخدمين الآخرين. يصبح الكشف الذاتي استثماراً في الهوية الرقمية يسعى للقبول الاجتماعي، ولكنه يخدم بالضرورة منطق النظام الاستغلالي.
إن التهديد الأعمق للذات العارية، سواء من منظور زوبوف أو هان، هو تآكل الاستقلالية الديمقراطية. إذا كانت سلوكياتنا وتفضيلاتنا تخضع باستمرار للتنبؤ والتعديل لأغراض اقتصادية أو سياسية (عبر التخصيص أو الاستهداف)، فإن قدرتنا على اتخاذ قرار سياسي أو اجتماعي حقيقي وغير مشروط تتضاءل. يتم تحريك الذات الرقمية نحو استهلاك أو تصرف يخدم منطق المنصة الاقتصادي، مما يحوّل البيانات المكشوفة إلى آلية للسيطرة الاجتماعية، حتى في سياق الحركات الاحتجاجية، حيث تُعرّى من التنظيم المستدام وتوضع تحت رحمة الخوارزميات.
الحماية القانونية للجسد العاري
إن الذات العارية التي تعيش حالة الهشاشة الهيكلية تضع النظم القانونية التقليدية أمام تحدٍ يتمثل في موازنة الكشف التكنولوجي الضروري لحركة الاقتصاد مع حق الحماية.
يعد مبدأ الطرف الثالث (Third-Party Doctrine) في القانون الأمريكي أحد أبرز الأمثلة على قصور الأطر التقليدية. ينص هذا المبدأ، الذي أُرسيت قواعده في سبعينيات القرن الماضي، على أنه عندما يسلم شخص معلومات طواعية لطرف ثالث (كشركة اتصالات أو مزود خدمة)، فإنه يخاطر بفقدان الحماية الدستورية لتلك المعلومات، وبموجبه يُسمح للحكومة بالوصول إلى هذه البيانات دون الحاجة إلى مذكرة تفتيش في حالات معينة.
في عالم الحوسبة الشبكية اليوم، التي تنتج كميات هائلة من البيانات المخزنة والمدارة بواسطة مزودي خدمات طرف ثالث، فإن هذا المبدأ يحمل آثاراً كارثية. القراءة الصريحة للمبدأ تعني أن الغالبية العظمى من بيانات الذات العارية، مهما كانت حساسة وكاشفة (الفائض السلوكي)، لا تحصل على الحماية الكافية بموجب التعديل الرابع للدستور. هذا المبدأ يشرعن حالة التعري القانوني للذات أمام سلطة الدولة والشركات.
الهشاشة ذاتية المنشأ وتحديات المسؤولية
غالباً ما تعزز السردية القانونية فكرة "التنازل الطوعي" أو "الوكالة الفردية المطلقة"، حيث ترى أن الفرد ليس لديه "توقع مشروع للخصوصية في المعلومات التي يسلمها طواعية لأطراف ثالثة". هذا يضع عبء حماية الخصوصية بالكامل على الفرد المكره على المشاركة الرقمية، ويهمل الدور الهيكلي للنظام الاقتصادي في إجبار هذا الكشف.
إن مقولة "الذات هي جسد عارٍ" تصف تحولاً بنيوياً حيث تم تجريد الذات من حدودها التقليدية ومن استقلاليتها الكاملة. إن انكشاف الذات المستمر، المدعوم بالأساليب التي تعود في أصلها إلى علم الجريمة، وإخضاعها لمنطق رأسمالية المراقبة (استخراج الفائض السلوكي)، وتحويلها إلى الأداء السطحي الذي يفتقر إلى العمق، يؤدي إلى تآكل الهوية الوجودية.
المجتمعات والتحديات الخطيرة:
فقدان العمق: تصبح الذات "أكثر واقعية وحيوية لكنها فارغة من المحتوى"، حيث تركز على المظهر والقياس على حساب التجربة العاطفية والحياة الواقعية.
السيطرة الخوارزمية: حتى الحركات الاجتماعية والاحتجاجات، التي يمكن أن تكتسب زخماً وانتشاراً في البيئة الرقمية، تُعرّى من التنظيم المستدام وتُخضع للخوارزميات وأدوات الرقابة، مما يحد من قدرتها على التحول إلى قوة تغييرية فعلية.
---------------------------
المراجع
جودت شاكر محمود. رأسمالية المراقبة وآفاق حضارة رقيق المعلومات. الحوار المتمدن.
برنارد، أندرياس. عصر نهاية الخصوصية: انكشاف الذات في الثقافة الرقمية. ترجمة غير مذكورة. مكتبة بنيان (binyanbooks.com).
"Choice Architectures in the Digital Economy: Towards a New Understanding of Digital Vulnerability." (“Behavioral Economics in The Era of Digital Sub-script-ions: Choice´-or-...”) PMC - PubMed Central (pmc.ncbi.nlm.nih.gov).
THE GENERAL RELATIVITY OF PRIVACY. (idw-online.de).
The Case for Logging Off (And Back on Again). Transdisciplinary Design (sds.parsons.edu).
ورﻗﺔ ﺗﺄﻣﻠﯾﺔ ﺣول ﻣﻔﮭوم ﺷوﺷﺎﻧﺎ زوﺑوف ﻟرأﺳﻣﺎﻟﯾﺔ اﻟﻣراﻗﺑﺔ. ResearchGate (researchgate.net).
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟