فاتن عامر خاطر
كاتبة، باحثة، روائية، مترجمة، صحفية
(Faten Khater)
الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 23:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مايكل د.ماكجراناهان
ترجمة وتحرير: فاتن خاطر
في هذا المقال نكتشف المقاربة بين "غودل" (١) "فتغنشتاين" (٢) حول حدود المعرفة استنادا إلى "راسل"، "هيلبرت"، "هايزنبرغ".
تقودنا هذه المقاربات للوصول أن جميع الحقول المعرفية الكبرى مثل، العلم، اللغة، الرياضيات تؤكد أن المعرفة محدودة، وأن هناك دائما شئ لا يمكن معرفته
يرفض البشر التسليم أو تصديق تلك الحقائق، مثلا لا يصدق الناس أن هناك أسئلة بلا إجابات قاطعة، أوليس لها إجابات كلية، وأن هناك غوامض لا يمكن معرفتها، وأن مبدأ عدم اليقين سيبقى حاضرا دائما.
هذه المسلمات لا يؤمن بها البشر، نحن جميعا لدينا يقينا راسخا بأننا نستطيع حل جميع الألغاز والوصول للحقيقة، لكن هذا ليس سليما أو صحيحا، المعرفة البشرية عن العالم قاصرة ومحدودة.
ما حدود قدراتنا المعرفية؟
تبدو بعض الأمور أو الأشياء، أوالصور واضحة من بعيد، تشبه صور السحاب البعيد حينما يبدو تكوينه كأنه أرنبا، قطعا هو أرنبا، ولكن كلما اقتربت خطوة، يهتز الشكل، يبدو ضبابيا، كلما اقتربت أكثر تشوه الشكل، حتى يظهر في صورته الواقعية بأنه لا شئ مجرد ضباب.
ذلك ما يجعل الأشياء غير منطقية، لماذا بدت هذه الصورة هكذا، ثم اهتزت وتلاشت شيئا فشيئا؟
هكذا هو الفحص الدقيق الواقع يفتح بابا للكثير من التساؤلات التي تبدو أحيانا لا نهائية.
مثلما تعمق اثنين من الفلاسفة هما "كورت غودل"، "لودفيغ فتغنشتاين" قبل مائة عام تقريبا في بحث العديد من المفاهيم الصعبة التي ترتبط بشكل أساسي بموضوعنا، الآن ما علينا إلا الاقتراب بشكل بسيط نحو تبسيط ما يكشف بعضا من تلك المسألة، ما حدود قدرتنا على المعرفة؟
في عام 1921 نشر "فتغنشتاين" كتاب "أطروحة عن المنطق الفلسفي" الذي يتألف من ملاحظات كتبها أثناء فترة أسره في الحرب العالمية الأولى التي أدى فيها مهام الجندية، كان المحفز لجمع هذه الملاحظات ونشرها صديقه الفيلسوف برتراند راسل، يبدو أن تلك الفترة دعمت ذاتية الفيلسوف وقناعاته بنفسه التي ظهرت في تصورات إيجاد حلول لجميع المشكلات الفلسفية، يركز الكتاب على سؤالا واحدا، ما حدود العالم، والفكر، واللغة؟.
أطروحة عن المنطق الفلسفي
هذا الكتاب يبني "فتغنشتاين" على الأساس الميتافيزيقي في موضوع تقسيم العالم إلى فئات، لكنه ينتهج نهجا مغايرا، في أطروحته، العالم لا يتألف من موضوعات، العالم يتألف من حقائق، الحقائق هي الحالات الفعلية أو المحتملة التي تشكل العالم، الصور المنطقية لهذه الحقائق تسمى الأفكار، حينما تتحول الأفكار مادة مكتوبة تكون القضايا، القضية هي جملة أو عبارة تامة مكتوبة عن العالم تخلق صورة العالم، فإذا كانت القضية صحيحة، كانت الصورة مطابقة للحقائق، تلك الصور اللغوية انعكاس جوهري ومبتكر المفاهيم التي تشكل العناصر، التي يعكس كل عنصر منها موضوعا أو شذرة من الفكرة.
عند وضع/ترتيب هذه العناصر معا تتكون القضايا/الجمل التي تنشأ توصيفات أو صور العالم ، بالرغم أن هناك إجمالية كونها صحيحة أو خاطئة.
القضايا أو الجمل الصحيحة تتوافق مع الواقع بينما تتنافر القضايا/الجمل الخاطئة.
يعرض "فتغنشتاين" في الأطروحة بعض الأفكار التالية حول المعرفة:
١ يبدأ "فتغنشتاين" في "مدخل" الأطروحة بتأهيل القارئ للتعرف على حتمية محدودية الفكر يرى أنه " إذا رسم كتاب معين ..حدودا لأمر معين؛ وليكن التعبير عن الأفكار، فيجب علينا لرسم حدود هذه الأفكار أن نستطع التفكير في كلا جانبي هذا الحد" [أن نعرف بدايته ونهايته أي حيزه في العالم]. هنا يلاحظ "فيتجنشتاين" أن التفكير في كلا جانبي "حد" الفكر أمر مستحيل، لأنه يفرض علينا التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه.
٢ حد الفكر "يرسم؛ أو يحدد أو يمكن تصوره، لغويا فقط، ما يقع على الجانب الآخر من هذا الحد مجرد هراء" (المدخل).
٣ لاحقا، يقيد "فيتغنشتاين" اللغة بأنها "حدود لغتي هي حدود عالمي".
٤ "يمكن للقضايا/الجمل أن تقدم الواقع بأكمله، لكنها لا يمكن أن تقدم شكلا منطقيا لطبيعتها الخاصة "لكي نكون قادرين على تقديم الشكل المنطقي، يجب علينا أن نكون قادرين على وضع أنفسنا مع تلك القضايا خارج حدود المنطق، أي خارج حدود العالم".
٥ نستنتج من ذلك أن "ما يعبر عن ذاته باللغة، لا يمكن التعبير عنه باللغة".
٦ أخيرا، "ما نستطع قوله قولا واحدا فلنفعل ذلك بوضوح، وما لا نستطع قوله، علينا الصمت عنه". (المدخل).
تقودنا هذه الدلالات إلى الجملة الختامية الشهيرة، التي تعد خلاصة هذا الكتاب " ما لا يمكن للمرء التعبير عنه بالكلام، يجب الصمت عنه".
تتضمن هذه الأفكار العديد من الاقتراحات والدلالات، والتفاصيل، والارتباك الواضح، سوف نتعرف الآن على "غودل" قبل العودة إلى "فيتجنشتاين".
غودل
في عام 1929 نشر كورت غودل "اللامكتمل" نظرياته المدهشة التي أحدثت صدمة في الأوساط العلمية لا تزال قائمة حتى وقتنا هذا.
يقول كلا من "إرنست ناجل"، "جيمس نيومان" في كتابهما "برهان غودل" الصادر عام 2005 "أن اللامكتمل لم يزل عصيا على الفهم" نتفق مع ذلك تماما يبدو "اللا مكتمل" عميقا وغامضا، برغم أنه يمنحنا بعض الرؤى الفكرية البسيطة الرصينة.
يبحث "غودل" في العمل الفذ الذي أنتجه "برتراند راسل" مع "ألفريد نورث وايتهد"(٦) ونشر بين عامي 1910، 1913، كتاب "المبادئ الرياضية" (٧) حاول راسل في هذا المؤلف حل العديد من القضايا الشائكة منها التناقضات في علم الرياضيات، بهدف إنشاء بنية نظامية راسخة لجميع الأفرع التي يتألف منها علم الرياضيات.
جاء عالم الرياضيات "ديفيد هلبرت" بعد مبادئ "راسل، وايتهد" يضع نظاما أكثر عمقا لا يحتوي تناقضات ويتميز بالتكامل، مما برهن أن كل بيان رياضي صحيح يمكن اشتقاقه من داخل المنظومة نفسها.
هؤلاء الفلاسفة الرياضيين؛ راسل، وايتهد، هيلبرت أثاروا العديد من البحوث منها بحث غودل الذي كان يأمل فيه إثبات تكامل الرياضيات لكن انتهى به الأمر إلى العكس.
قبل الانتقال إلى نقطة تالية علينا إيضاح ما يلي:
مفاهيم ضرورية
النظام الصوري/الشكلي؛ نظام من المسلمات/البديهيات المنطقية لها قوانين من الاستدلال العقلي، كلا منها يعبر عن حقيقة في ذاتها لا تتطلب برهانا. [قاعدة ذات إجماعا عالميا]
مبدأ الثبات/الاتساق؛ يحقق النظام الصوري الاتساق في حالة انعدام الجملة النافية التي يمكن اشتقاقها من النظام نفسه. [انعدام التناقض]
التكامل؛ يحقق النظام الصوري مبدأ التكامل إذا كانت كل جملة داخل لغة نظامه، سواء المثبتة أو النافية يمكن اشتقاقها من المنظومة نفسها (أي ما يسمى بالبرهان)، بمعنى أبسط أن كل جملة صحيحة يمكن إثباتها.
يتضح من التعريف الأول والثاني أنه يجب البدء بنظام، ولا يمكن الارتكاز على نظام غير متسق يحتوي على تناقضات بنيوية.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما مدى تكامل هذه النظم؟
يخلص غودل إلى إثبات قضيتين في نظرية "اللامكتمل"؛ الأولى، أن كل نظام متجانس اصطلاحيا في الرياضيات هو نظام غير مكتمل، على الرغم من إمكانية إجراء العديد من العمليات الحسابية الأولية خلاله؛ بمعنى أن يحمل جملة واحدة أو أكثر صحيحة يمكن بنائها بلغة النظام، ومع ذلك لا يمكن إثباتها أو نفيها بنفس لغة النظام،هذا يخلص إلى نوعين من البدائل؛ الأول، أي مجموعة من المسلمات المتجانسة غير مكتملة، الثاني، في النظام المتجانس لا يمكن إثبات صحة كل جملة.
لاحظ: وجود احتمالية إثبات العديد من الجمل الصحيحة داخل النظام، لكن استحالة إثبات جميع الجمل الصحيحة، على الأقل هناك جملة واحدة صحيحة لا يمكن إثباتها.
يبرهن غودل في قضيته الثانية، أنه لا يمكن لأي مجموعة من البديهيات إثبات انسجامها الذاتي.
بناء على ذلك فإن غودل قد توصل لعدم وجود ضرورة قاطعة للنظام الرياضيات الكلاسيكي.
يتناول الكاتب في الثلث الأخير من المقال التناسق والانسجام بين "راسل، غودل، فتغنشتاين" ويؤكد ثانيا أن الملهم لكتاب "أطروحة في المنطق الفلسفي" لغودل كان كتاب "المبادئ الرياضية" برتراند راسل، مؤكدا أن المشترك في بنية القضية المنطقية لدى كلا منهما:
"البنية الشائعة/العمومية تجعل [ قضية ما] صورة واقعية حية للحقيقة، لكن نفس هذه البنية لا يمكنها إثبات نفسها أو تحديدا بناء ذاتها الخاصة بالمفردات/الكلمات لأن بنية الكلمات ما هي إلا صورة الواقع المشار إليه"
بمعنى أن ما نعبر عنه باللغة يبقى قاصرا عن التعبير عنه باللغة، كما ينتهي إلى أن "الأفكار الرياضية مجردة عن الأفكار"، كذلك "التجربة الحدسية" معطى أساسي في العلم والتفكير الفلسفي، واللغة هى العامل الحاسم والمشكل للتجربة الإنسانية.
ينتهي الكاتب إلى محدودية المعرفة كما ذكرنا سابقا، ويؤكد في الاستدلال الأخير أن العلم والمنطق الرياضيات تبرهن أن هناك شئ غامض غير معروف لا يمكن كشفه على الإطلاق.
يختتم المقال بهذا المقطع الشعري من أغنية حديثة للمطربة "إيرس ديمنت" بعنوان "لا تكشف السر"، تلخص فيها قضية الغيب بأن جميع البشر قلقة بشأن هذا الغيب، هذا المكان البعيد، إذا دعه لحينه، ولا تكشف السر.
الهوامش: -
المقال للكاتب مايكل د.ماكجراناهان، 2025، بكالوريوس جيولوجيا، ماجستير في الجيوفيزياء بجامعة "ستانفورد" دارس للفلسفة، كاتب متمرس في الفلسفة.
رابط المقال الأصلي :
https://philosophynow.org/issues/169/Godel_Wittgenstein_and_the_Limits_of_Knowledge
١ كورت فريدريش غودل 1906-1978
(Kurt Godel): أحد أبرز علماء العصر الميتارياضي الحديث، عرف بنظرية "اللاتكامل" التي تعد أحد أهم نظريات علم الرياضيات الرائدة في القرن العشرين، اقتربت نظرياته من جميع مجالات المنطق الرياضي، دافع غودل في أعماله عن الأفلاطونية الرياضية التي ترى أن الرياضيات علما وصفيا موضوعيا، وبناء عليه وضع نظرياته التي نظام التحليل المفاهيمي في نظرية المجموعات.
٢ لودفيغ فيتغنشتاين 1889- 1951(Ludwig Wittgenstein): أهم فلاسفة القرن العشرين، يرى بعض المفكرين بأن تأثيره أهم من إيمانويل كانط، تأثرت بدايته الفكرية بأعمال آرثر شوبنهاور ( Arthur Schopenhauer )، كما تأثر بأستاذه برتراند راسل، وغلوتوب فريجه (Gottlob Freg) الذي أصبح فيما بعد صديقا له، توجت هذه الصداقة بالعمل الأهم في تاريخ الفلسفة والاوحد في حياة فيتغنشتاين "أطروحة في المنطق الفلسفي" الذي تصور أنه حل جميع المشاكل الفلسفية الأساسية، تكمن فكرة الكتاب الأساسية أن جميع المشكلات الفلسفية تنشأ من سوء فهم اللغة، حظي الكتاب بتقدير كبير من جماعة برلين ، جمع الفلاسفة الوضعيين.
٣ برتراند راسل 1872-1970(Bertrand Russell): فيلسوفا إنجليزيا، كاتبا، وناقدا إجتماعيا، نظرياته ومناقشاته لعلم الرياضيات والمنطق التحليلي هي أساس إنتاجه الفلسفي، يعد أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية الحديثة.
٤ دافيد هيلبرت 1862-1943 (David Hilbert): عالم رياضيات ألماني، أعاد تنظيم الرياضيات الكلاسيكية بداية من عام 1900، لكنها تبلورت خلال عام 1921 عندما قدم "برنامج هلبرت" وهو برنامجا جديدا لتأسيس الرياضيات الكلاسيكية يقوم على وضع جميع الصيغ الرياضية في نظام بديهيات منسقة على أساس برهاني.
٥ وارنر هايزنبرغ 1901-1976 (Werner Heisenberg): فيزيائي ألماني اشتهر بأبحاثه في الانشطار النووي، ومبدأ عدم اليقين.
٦ ألفريد نورث وايتهيد 1861- 1947(Alfred North Whitehead): عالم رياضيات و فيلسوف بريطاني، تأسست أعماله على المنطق الرياضي وفلسفة العلوم، اشترك مع راسل في تأليف كتاب "مبادئ الرياضيات".
٧ "مبادئ الرياضايات" principia mathematica
مؤلف ضخم في المنطق الرمزي صدر في ثلاثة أجزاء بين (1910-1913.
#فاتن_خاطر (هاشتاغ)
Faten_Khater#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
