المايسترو- فنان الشعب وخالد الذكر سيد درويش

فاتن عامر خاطر

الحوار المتمدن-العدد: 7683 - 2023 / 7 / 25 - 04:49
المحور: الادب والفن
    

المايسترو
خالد الذكر وفنان الشعب
السيد درويش البحر

وقف ذات يوم شابا ضئيل الحجم، خمري اللون، يموج شعره بسحر البحر، بحر الإسكندرية العظيم، السر، الذي تركه وأتى للقاهرة ليغرد على الجمهور أنشودة لم تروق لهم كثيرا أئنذاك، عاد الشاب للكواليس حزينا لا يدري ماذا يفعل أيعود من حيث أتى أم يصبر قليلا ويعود مرة أخرى ربما يروق لهم، فما كان من أستاذه ومكتشف عبقريته الشيخ سلامة حجازي إلا أن خرج على الجمهور في نفس اللحظة قائلا:
"احترسوا من هذا الشاب، ولتذكرون أننى فخور به، ولتعلمون نبأه بعد حين"
كان هذا الشاب هو السيد درويش البحر المعروف بالشيخ سيد درويش الفنان الذي لفظه الجمهور أول مرة على خشبة المسرح كان هو الفنان الوحيد الذي ارتفع بهذا الجمهور المتمثل في الشعب بكل فئاته، العامل، الفلاح، العربجي إلى أعلى المقامات الموسيقية الإصطفائية التي صنعت منه أسطورة الشعب التي خلدت في وجدان الفن الإبداعي الملتزم على مر الأجيال وستبقى طويلا، الفنان الذي قال فيه الأستاذ "مارسيل خلفية" أعظم جملة موسيقية وأقوى توصيف يكرم به أستاذ أستاذه: "تعلمنا من الشيخ سيد درويش الإلتزام بالقضايا العادلة"
يعد درويش أهم موسيقارلمع فى بداية القرن العشرين، بصم على الذاكرة بألحان ومقطوعات موسيقية شكلت ركنا أصيلا من وعي الشعوب، ورسخت لذكراة سمعية خاصة جدا ومتفردة.
فجردرويش لثورة موسيقية، وهو رائد التغيير الموسيقي والإبداعي بلا منازع الذي رسخ للكيان الموسيقى العربى بأكمله، استحدث شكلا إبداعيا فلسفيا يمثل إعجازا في الفن واستمر فى البناء عليها عدد من الملحنين بعده.

المفردات الإبداعية للشيخ سيد درويش
لحن الدرويش ألحانا مر عليها ما يقرب من مائة عام ولازالت حتى الآن متعة الجمهور وكذلك جل الفنانين، فلحن "زوروني كل سنة مرة" لا تتجاوز مدته 60 ثانية يقال مرة واحدة بمقدرة السامع حفظه من أول مرة، أكد الأستاذ زياد رحباني في أحد الحوارات أنه عند عمل مكساج لهذا اللحن تحديدا بأحد أستوديهات ألمانيا لتعيد غناءه السيدة "فيروز" ظن بعض السامعين أن هذا اللحن لفنان عالمي، تحققت نبوءة الشيخ سلامة مرات شهد للدرويش القريب والبعيد، الحبيب والشخص الذي ربما يكون حفيدا لأحد المحتلين الذي وقف أمامه الدرويش بأوتارعوده النحيل ليحث الشعب بأكمله على الثورة ضد الإستبداد والقهر وإستغلال الشعوب.
انتقل درويش البحر من مقام موسيقى لمقام أخر ليس فقط فى حياته أوالموسيقى العربية، وإنما فى تاريخ الموسيقى بأكمله فى لحنه "أنا هويت" قطع الأستاذ في الدقيقة 7:33 ثانية منتقلا لمقام موسيقي أخر بلا أي نشاز وهو مالم يحدث حتى وقت قريب في تاريخ الموسيقى العربية بل وإن حدث فيعد الدرويش الرائد الذي فعلها قبل ما يقرب من مائة عام.
ولد السيد درويش في عام 1892 لأسرة لا تختلف كثيرا عن كل الأسرالمصرية العادية المشترك بينها الكد والسعى على مطالب الحياة، وبمسقط رأسه بحى كوم الدكة بالإسكندرية تشرب درويش المفردات الصوتية الشعبية التي امتزجت بصوت البحر، فشكلت ذكراته الموسيقية المبكرة، وهوما تجلى بعد ذلك في جميع أعماله فى محاولة عبقرية أكد بها أن كل ما هو مكتوب يمكن تلحينه وغنائه، وليس لحنا عاديا وإنما من روائع الأستاذ الأكبر شيخ مشايخ الموسيقي الأسطوري بلا منازع الذي لحن كلمات مثل لحن العربجى، والصنايعية، والشيالين، والبحربيضحك ليه، نفس الألحان التي تعزف الآن في دار الأوبرا المصرية وربما يتغنى بها أساتذة الغناء العربي فى أعظم مسارح الدنيا، فتذكروا قول حجازي "احترسوا من هذا الشاب.."
(1)
مرحلة النشأة والتكوين الإبداعي
فى عمرخمس سنوات ألحقه والده بأحد الكتاتيب لحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة، بعد وفاة الوالد انتظم السيد بأحد المدارس، وهناك ظهرت موهبته الموسيقية، لكنه ترك الدراسة بعد فترة قصيرة متجها للعمل لمساعدة الأسرة، اشتغل الشيخ فى عدة مهن مختلفة؛ منها عاملا للبناء،
لكنه لم يتخلى وقتها عن شغفه بالموسيقى والغناء، كان يغنى فى مكان العمل فيردد معه زملائه، كان يعبر بذلك عن طموحه الموسيقي الذي تشربه فأصبح جزءا من يومه وحياته ووجوده ورفيق ومعين العمل.
فى يوم لاحظ صاحب العمل أن هذا الغناء يحمس العمال، ويرفع طاقاتهم أكثرعلى العمل، فطلب من الشيخ سيد التوقف عن العمل، والغناء فقط للعمال مقابل أجره بالكامل.
كانت بداية الشيخ سيد، وارتباطه بالعمل الجماعى والعمال، المكون الأساسي مع موهبته الفذة فى ابتكارالنشيد والغناء الجماعي المعتمد على أكترمن صوت مثل "القلل القناوى، عشان ما نعلا ونعلا" يعتبرهذا اللحن برغم بساطته من أعظم ألحان سيد درويش استخدم فيه لأول مرة فى الموسيقى العربية وقتها، المدرسة التعبيرية في التلحين، استخدم الأسلوب المسرحي، استخدم التيمة أوالشكل الشعبي، وإمكانية اللحن للتوزيع الهارموني.
ثبت القدرأهم مراحل مشواره القصير حين لقاءه ب "أمين وسالم عطا الله" أشهرالمشتغلين بالفن أئنذاك، وإعجابهم بموهبته ودعوته للسفرمعهم عام 1908 في رحلة لبلاد الشام، هناك التقى الشاعر"عثمان الموصلي" الذي تحمس لموهبته وتبناه وعلمه مما يعلم، وساعده في حفظ التواشيح، وتعلم النوتة الموسيقية أوكتابة اللحن، والعزف على العود، فجمع الدرويش تراثا موسيقيا ضخما من السماع والكتب الموسيقية، وحصيلة مناسبة من الاحتكاك الفني، فكانت البداية التي ساعدته بعد سنوات قليلة فى تأسيس المسرح الغنائي.

الإسكندرية ولقاء العظيمان
عاد درويش بعد فترة إلى الإسكندرية لحن أول ألحانه "يا فؤادي ليه بتعشق"، ظل فترة منقسما بين العمل والموسيقى حتى وصل صيته للشيخ سلامة حجازي فاستمع إليه، وصحبه معه للقاهرة.
وكانت شهادة الشيخ سلامة عن الشيخ سيد:
"احترسوا من هذا الشاب، ولتذكرون أننى فخور به، ولتعلمون نبأه بعد حين"
بدأت انطلاقة فنان الشعب وتجليه، لحن لجميع الفرق المسرحية الموجودة وقتها، منها فرقة نجيب الريحاني، على الكسار، جورج أبيض، فتنوعت ألحانه وقوالبها الغنائية بتنوع هذه الفرق، وكان أول من أبدع البناء الدرامي فى اللحن، وأول من اختار كلمات له جذور شعبية، ومن أوائل الفنانين الذين ربطوا الفن بالسياسة والحياة الإجتماعية فنسمع فى أنشودة "الحلوة دي" كلمات عكست يوم الفلاحة المصرية، وكد العمال فى قالب موسيقي غنائي لا ينفصل عن الفكرة.

الدرويش والثورة
مع إندلاع ثورة 19 كرس كل إنتاجه الفني للجهاد الوطني وحث الشعب ضد المستعمر، وبعد لقائه الشاعربيرم التونسي توحدت الكلمة مع اللحن، فشكلوا معا ثنائيا من أشهر، وأهم الثنائيات الفنية الفذة، ومن أهم ألحان الشيخ سيد ل بيرم التونسي "النشيد الوطني، اليوم يومك يا جنود، أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا، وأنا المصري" الذي يعتبر تصاعده اللحني الأوركسترالي المذهل المجدول بالكلمة العربية والأصل الفرعوني من ابتكارالشيخ سيد.
الدرويش أيضا هو أول من حررالأغنية من القالب التركي، ومن أشهرألحانه التي خلدها الوجدان الثوري والوطني " يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح، سلمى يا سلامة، قوم يا مصري مصر دايما بتناديك " كلمات بديع خيرى.

(2)
الفن إلتزام
فى عام 1920 أنشأ فرقته الخاصة، وأنتج عدة أوبريتات غنائية على نفقته الخاصة، لأنه كان يرى أن الفن قضية وإلتزام وليس سببا للربح، منها " العشرة الطيبة، للشاعر محمد تيمور، شهرزاد، لبيرم التونسى".
يعتبر درويش أول من استخدم الأوركسترا، أول من رسخ النغم المحلى فوضع جمل لحنية جديدة فى تحفته شد الحزام على وسطك، يرى الباحثين إن تحليل البيت الشعري وعلاقته باللحن ، وانتقاله بين النغم فى هذا العمل يعد ابتكارمذهل.

القرآن الكريم سر عبقرية درويش
أضاف الشيخ سيد للمقامات الموسيقية مقام "الزنجران" وهومقام موسيقي جديد من إبتكاره، ويعتبر مثل هذا العمل صياغة من أصعب الصياغات فى الكيان الموسيقي.
قال فيلسوف النغم، رياض السنباطي: "أن درويش عبقرية لم تكتشف بعد".
بالفعل درويش عبقرية بكل المقاييس فهذا الفنان العظيم الذي غير التراث الموسيقي بأكمله، وأحدث طفرة فى عالم التأليف الموسيقى فى ست سنين هي مجمل عمره الفنى، لم يتلق تعليما نظاميا، فكان للجانب والتكوين القرآنى أثرا فذا فى موسيقاه، وهو سره، وهوما ميزه، وأضاف لجميع الملحنين العرب الذين كان لحفظهم أو دراستهم للقرآن الكريم أثرا بارزا فى مشوارهم وصياغاتهم وترانيمهم اللحنية وأصواتهم.
لم تكتشف عبقرية درويش البحر، فما زالت ألحانه الخالدة لم تحلل التحليل الموسيقى الذي يرتقي لروعتها، فنشيد "بلادي بلادي" يوازي الملحن العالمي بيتهوفن كما أكد الباحثين، ووعت الأذن الجميلة والقلب السليم.

وفاة غامضة وتاريخا خالدا
"درويش البحر" أول فنان فى التاريخ العربي صاحب المشروع الفني الفكري الأصيل والمكتمل.
تركنا فنان الشعب عام 1923 فى وفاة ملتبسة، بعد ما كتب عدة دراسات عن الموسيقي، وضم كل نوتاته الموسيقية فى كتاب، منها النشيد الوطني المقتبس من كلمات الزعيم مصطفى كامل، "بلادي بلادي بلادي، زوروني كل سنة مرة، خفيف الروح، يا ناس أنا مت فى حبه، والله تستاهل يا قلبي، شد الحزام على وسطك، يا شادي الألحان، طلعت يا محلا نورها"
كان خالد الذكرحقا هو فكرة العصرالتى بزغت فى لحظتها تماما، ثورة موسيقية إبداعية خلاقة صاحبت ثورة الشعب المصري التي بفضلها لحن الملحنون بهذا الأسلوب الحديث المتشبع بالتراث، وبفنه أيضا أدرك الشعب أن الفن بإمكانه مصاحبة، بل، والتجذر في قلب التغيير والحراك الإجتماعي.
إن كانت القصة خرجت من عباءة غوغول.
فالموسيقى خرجت من عباءة سيد درويش.
فسلاما لروح أسطورة الموسيقى العربية، الأستاذ الأكبر، شيخ مشايخ الموسيقى الذي خرج من عباءته الطاهرة الفن الحديث بأكمله، فنان الشعب، وخالد الذكر.
الشيخ سيد درويش البحر.

كتبت: فاتن خاطر

#فاتن_عامر_خاطر (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات