أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد وردي - الأدب والسلم المجتمعي المستدام















المزيد.....



الأدب والسلم المجتمعي المستدام


محمد وردي

الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 09:39
المحور: قضايا ثقافية
    


إن مفهوم الأدب؛ ربما هو ما اجتمعت الثقافات الإنسانية على توصيفه؛ بأنه لسان وفكر الأمة، أي أحسن ما فيها. ولذلك اعتبرته العرب رياضة النفس على المكارم، وتجميلها بالمحامد الأثيلة. أما الحديث عن السلم المجتمعي المستدام، فيعني السكينة والطمأنينة التي يُفترض أن تسود أفراد المجتمع. وهذا يحيلنا بدءاً إلى أصل الاجتماع البشري، الذي قام بصورته الأولى؛ كنتيجة فطرية، دافعها الغريزة، ويتساوى بذلك الحيوان مع الإنسان. ذلك لأن الكائن يلوذ بقطيعه؛ عند الصراع من أجل البقاء. ولكن تطور لاحقاً دافع الغريزة الاجتماعي مع تفتح وعي الإنسان، وإدراك حقيقة ضعفه وهشاشته، ومدى حاجته للتعاون مع الآخر، ليس على مستوى تدبير أمنه الشخصي وأمانه المعيشي فحسب، وإنما أيضاً بحثاً عن الدفء الإنساني؛ بالمعنى الذي يجعل الإنسان إنساناً. ومن هنا تطورت عملية التواصل التي كانت قائمة على الصوت.. وهكذا بات الإنسان حكاءاً، فاخترع الفنون والآداب، وراح يرسم ويكتب على جدران الكهوف، لتصوير أحواله والتعبير عن ذاته، أو ما يحاكي جوهره من حيث حقيقته أو مآلاته الوجودية، وصارت الفنون والآداب الطريق الأقصر والأسرع والأجمل والأنبل؛ لاكتشاف ذواتنا وتلمس إنسانيتنا. وطبعاً أنا أقدم الرواية على غيرها من صنوف الأدب؛ لأنها الإطار الأوسع، الذي يتسع الحياة بكل ما لها وعليها، أي تستوعب القصة والشعر والفنون والفلسفة، وكل أشكال العلوم والمعارف، وسأوضح ذلك لاحقاً.
ولطالما اعتقدت بذلك. وكنت في كتابي "من أين ندخل إلى التسامح"، قد ناقشت تاريخ التسامح في آخر حضارتين (الغربية والعربية)، وحاولت ضبط المشتركات والمختلفات في التجربتين، وانتهيت إلى خلاصات لن أتوقف عندها الآن. ولكن في الفصل الأخير اجتهدت في رسم خارطة طريق إلى التسامح، وتوقفت عند أربعة عناوين رئيسة، هي: استعادة العقل العربي (أقصد العقل العارف الذي أنجز الحضارة العربية والإسلامية)، وفلسفة الجمال والحب والصداقة. ورفدتها بحاضنة تساعد على ذلك بأيسر وأسهل ما يكون عليه الأمر، تحت عنوان "الآداب والفنون وصفة للأنسنة عابرة للهُويات والثقافات"، وقلت فيه:
ما من شيءٍ في هذا الوجودِ، يمكنُ أن يساعدَنا على اكتشافِ ذواتِنا واستردادِ إنسانيتِنا المختطفةِ أو المغيبةِ؛ تحت وطأةِ ضغوطِ الحياةِ والواقعِ المعيشِ؛ بأيسر السبل وأهونها - دون أن ندري- مثلما يفعل الأدب. بمعنى أن البشر دون أن يعوا تأخذهم الدنيا في تفاصيلها ويقعون في أحابيلها تحت ضغوط مختلفة، ونجد بعضنا يتعايشون مع الشر؛ من ظلم وقهر وتعسف وأشكال عديدة من الآلام، ويحسبون أنها أقدار مقدرة لا فكاك منها، إنما هي في الواقع من صناعتهم – إذا صح التعبير – لأنهم يتناسون أن الله سبحانه وتعالى يسَّرَ لهم أمر الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى "وهديناه النجدين". ومن يتأمل النظام اللغوي القرآني، يكتشف أنه قائم على اليُسر والتيسير، (من يريد التوسع في ذلك عليه العودة إلى كتابنا "الأنسنة والتجديد في فكر العلامة الشيخ عبدالله بن بيه"). ومن أحابيل الدنيا الحماقات، مثل: الكبرياء، والتعصب، والحسد، والكراهية، والانسياق وراء حاجات وهمية كاذبة مثل الوجاهة أو المزايا الاجتماعية والنفوذ والقوة وغيرها، فينجرُّ البشر إلى ظلم بعضهم البعض بتأثير مثل هذه الحماقات. الأدب هو وحدُهُ قادرٌ على إعادةِ تشكيلِنا كأحسنِ ما يكونُ؛ بإكسير المعرفة وسحرِ الجمالِ، اللذين يعيدان هندسةَ المشاعرِ وصفاءِ النفسِ، أو ما أحب أن اسميه، جلاءِ الروحِ من صدأ الدنيا، فتغتسلُ الذاتُ بالإيمان، وتشتعل باليقينِ، وتنتعشُ الآمالُ وتتجددُ الثقةُ بالنفسِ والآخر، وبالتالي تتجدد الثقة بالمستقبلِ المتعايش بسلام مع الجماعة.
لماذا يكونُ الأمرُ كذلك؟
لأن الأدب يتميز بخصوصية التعبيرِ عمّا هو عام أو كليٌ في حياة الإنسان، ولكنه ينطلق مما هو جزئيٌ وخاصٌ في الواقعِ الإنساني؛ ليصلَ إلى ما هو عامٌ وكليٌ في التجربةِ البشريةِ عموماً؛ بمعنى أنه ينطلق من تجربة شخصية أو ملاحظة اجتماعية، ولكنها تنتهي إلى تقديم صورة أو لوحة تعرض تجربة بشرية متكاملة، اي سيرة حياة متكاملة. وهذا هو بالضبطِ ما يجعلُ الآدابَ عموماً - والروايةَ بوجه خاص - كونيةً إنسانيةً بامتياز، عابرة للهوياتُ والثقافاتُ، فتتجاوزُ الحدودَ اللغويةَ والإثنيةَ والدينيةَ إلى المشتركات الإنسانية. وعلى الرغمِ من تفاوتِ درجاتِ الوعيِ بين الناسِ، إلا أنّ الرواية تمارسُ ما أحب أن اسميها سطوتهَا الرقيقةَ وغوايتَها الأنيقةَ على جميعِ البشرِ، فيتقبلونَها بأريحيةٍ متناهيةٍ من أينما جاءت؛ لأنها وإنْ كانت شرقيةَ أو غربيةَ المنشأِ، إنما هي حكاياتُهُم ممسرحةُ أمام وعيهِم وذاكرتِهم. فهي تضيءُ الخفيَ والمستورَ في شخصياتِنا، وتكشفُ قباحاتنا السريةَ، وتفضحُ عيوبَنا ونواقصَنا الاجتماعيةَ. وفضلاً عن ذلك، تأخذُنا إلى عوالمَ سحريةٍ عامرةٍ بالدهشةِ والمفاجآتِ، مطرزة بالبهجةِ والمسراتِ، بعيداً عن تفاصيلِ الواقعِ الذي نعيشُهُ، التي لا تخلو من العناءِ أو القليلِ من الشقاءِ.
ومرةُ تلوى الأخرى، نؤكدُ أن الحديثَ هنا عن الأدبِ الجيدِ، وجودتِه تقاسُ بمدى تمردِهِ على الأنساقِ الثقافيةِ الحاكمة في الوعي من دونِ تفكيرٍ في الغالبِ الأعمِّ، حيث يكشفُ الأدبُ عبثيةَ أو دوغمائيةَ بعضَ الممارساتِ الاجتماعيةِ القبيحةِ، التي تقادمت ولم تعد تتواءم مع اللحظة الراهنة، كما يكشف عن بعض وجوه قسوتنا وعنفنا اتجاه أنفسنا واتجاه الآخرين، وما يمكنُ أن ينتجَ عن ذلك من خساراتٍ معنويةٍ باهظةٍ في حياةِ الإنسانِ. فيدفعُنا الأدب تلقائياً للتحررِ من هيمنتِها أو تسلطِها، ومن ثم التخلصِ من كلِ أشكالِ السيطرةِ الثقافية. ذلك لأنَّ المعاييرَ الفنيةَ التي تحكمُ عمليةَ الإبداعِ الأدبيِ؛ إنما هي قيمُ الحريةِ والجمالِ والسعادةِ. فالحرية هي بالتمرد على الأنساق الثقافية ورفض المسلمات الأيديولوجية والتحرر من كل أشكال الزيف والتضليل أو القهر والتعسف، كما أسلفت. ولكن هناك وجه آخر للحرية، لا يمكن اكتشافه كما يجب أن يكون في أي ميدان آخر؛ مثلما يساعدنا على ذلك الأدب العظيم، يتعلق ذلك بإطلاق فاعلية التفرد في الذات الإنسانية، فهي السبيل الأهم إلى عملية الخلق والإبداع ومن ثم الإنجاز الحضاري. ذلك لأن الله سبحانه وتعالى عندما أراد الإنسان على صورته - حسبما تواضع على ذلك علماء الأديان - إنما أراد الشخصية الإنسانية متفردة في الفاعلية الوجودية، أي متفردة عن نظائرها في صناعة الخير والجمال والمسرة؛ بما يحاكي تفرد الله عزَّ وسما. أما الجمال فهو من يعلمنا رقة المشاعر ورهافة الحس وتذوق بدائع الوجود وضرورة الموجود. وأما السعادة فهي هدف الإنسان من المهد إلى اللحد، وكنت قد قلت: قلَّما يدرك الإنسان أن السعادة كما يجب أن تكون، هي رهينة الإنسان كما يجب أن يكون. وهذا هو ما يعلمنا إياه الأدب، أي كيف يجب أن يكون الإنسان كما يجب أن يكون.
أما على مستوى المجتمع أو الدولة، فتراكم الأدب الجبد، أو ما يمكن أن نسميه "الرأسمال الأدبي" الذي يتشكل بالتقادم، يسمح بالاستقلال الذاتي التدريجي لمجمل الفضاء الثقافي، أي أن المخزون الأدبي، من حيث أنه الأكثر استقلالاً، يمنح المجتمعات قدرة تشكيل وضع نوعي ومنطق خاص لا يتصلان بالسياسة أو بالاقتصاد، يعملان ضد تحيزات الإيديولوجيا التي تفصل البشر عن بعضهم البعض تحت مصطلحات سياسية تتدثر بعباءات مختلفة، أحياناً إثنية عرقية وقومية، وفي غالب الأحيان دينية، والأديان الصحيحة منها براء.
إن الأدب الجيد ينحت مصطلحاته النوعية، جمالية، أو شكلية، أو سردية، أو شعرية، من روح الجوهر الإنساني في التلاقي والمحبة والتعاون في عمارة الأرض بالخير والجمال، فيعبر الهُويات والثقافات؛ لأنه يتمثل الحياةَ الحقةَ، ويتطلعُ إلى ما يجبُ أن يكونَ عليه الإنسانُ نفسُهُ؛ من منظورِ سعادتِه وقيمتِه الوجودية الفاعلة.
ومع أنّ الخيالَ هو شرطُ الإبداعِ الأدبيِ، وطبعا هذا ما يأخذُهُ على الأدبِ بعضُ "الفتوجيين" (أمثال ابن باز وآخرين كُثر موجودون على المواقع الالكترونية)، الذين يعتبرون الخيالَ ضدَّ الواقعِ، وبالتالي هو كذبٌ، والكذبُ حرامٌ !؟ أقولُ ومع أنَّ شرطَهُ الخيالُ، وكونُهُ لا واقعياً (بالمعنى الذي يذهب إليه أمثال هؤلاء)، لا يعني أنه ليسَ أقلُّ من الواقعِ القائمِ، وإنما لأنهُ شيءٌ أكبرُ من الواقعِ القائمِ، ويختلفُ عنه نوعياً. إنه من النوع الموصوف بسحر البيان. أظن أكثركم يعرفون الواقعة التي تلاحى فيها الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم في مجلس رسول الله (ص)، وهما من سادة تميم، وكان الأول فارساً شجاعاً، ولاه الرسول على الزكاة، وكان الثاني نسابة بليغاً. وبعد الفراغ من حاجاتهما، وعلى سبيل المباسطة سأل الرسول الكريم (ص) ابن الأهتم عن الزبرقان، فقال: إنه لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ، مَانِعٌ بين ظهرانيه، مُطَاعٌ فِي أدنَيْهِ. فعلَّق الزبرقان: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يعلم مِنِّي أكثر من هذا، ولكنه حسدني. فقال عَمْرٌو: والله إنك أحمقُ الوالدِ، لَئِيمُ الْخَالِ، ضيقُ العطن. واستدار إلى الرسول لما رأى الإنكار في عينيه قائلاً: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ في الأولى وما كذبت في الثانية. رضيت عن ابن عمي فقلت أحسن ما فيه، وسخطت فقُلْتُ أَقْبَحَ مَا فيه. فجاد رسول الله (ص) بقوله الشهير: إن من البيان لسحراً. فالمتخيل في الأدب إنما هو من جنس هذا النوع البديع من السحر.
إن الأدب بوصفه عالمٌ متخيلٌ، يتضمنُ من الحقيقةِ أكثرَ مما يتضمنُهُ واقعُ الحياة اليومية. وِعندما يتجاوزُ الأدبُ الواقعَ، إنما هو يبشرُ بواقعٍ جديدٍ، ويقدمُ حقيقةً جديدةً مختلفةً، لها مشروعيةٌ منطقيةٌ وعقلانيةٌ أكبرُ من مشروعيةِ حقيقةِ الواقعِ أو الحاضر الراهن، عن طريق تقديم حاضر أكثر حضوراً، أي أكثر إقناعاً وفاعلية في المخيال الإنساني. وهي حقيقةٌ جذابةٌ ومغريةٌ؛ لأنها تصوّرُ الأملَ في مستقبلٍ أجملَ وأفضلَ وحياةٍ أسهلَ وأنبلَ من الواقعِ. وهذا ما يبررُ صبرَ الإنسانٍ على كلِ القباحاتِ والبشاعاتِ، واحتمالَ كل العذاباتِ والمظلماتِ، وعدمَ استسلامِهِ للتغييبِ أو التهميشِ. وبهذا المعنى، يمثّلُ الأدبُ "نهايةَ العنفِ، ويسمحُ باستردادِ الإنسانِ من غربتِهِ، وينفي كلَّ أشكالِ القمعِ والقهِر والتشييءِ"، كما يقول لوكاتش.
إنَّ وظيفةَ الأدبِ الحقيقيةَ هي مواجهةُ التشييءِ، مواجهةُ الموتِ البطيءِ الذي يحيطُ بالإنسانِ المعاصرِ. والتشيؤُ هو نوعٌ من النسيانِ، ويمثّلُ بالنسبةِ إلى أصحابِ النظرياتِ النقديةِ؛ الخطرُ الذي يداهمُ الإنسانَ ويفقدُهُ إنسانيتَهُ، ويجعلَهُ ضحْلاً في عواطفهِ، فقيراً في علاقاتِه الإنسانيةِ، من دون ذاتٍ ولا حريةٍ ولا كرامةٍ؛ بل مجردَ شيء أو على أحسن تقدير مجرد سلعةٍ، يمكنُ أن تنتفيَ الحاجةُ إليها إذا استبدلتها بأخرى، وقد تفقد قيمتها حالما تنتهي صلاحيتُها. وطبيعةُ الأدبِ ترفضُ ذلك، فيستحيلُ إلى نوعٍ من الاحتجاجِ على الواقعِ الميؤوسِ منه؛ من خلالِ تأسيسِ يوتوبيا أخلاقيةٍ أو إنسانيةٍ تبشّرُ بواقعٍ سعيدٍ وعالمٍ جديدٍ، يحفظ كرامة الإنسان، ويحافظ على قيمته الوجودية كفاعل في هذا الوجود.
المؤكدُ أنَّ الشعَر قد لعبَ دوراً بارزاً في صياغةِ حركةِ النهضةِ الأوروبيةِ. ولكن كان للرواية الدورُ اللاحقُ إذ تركتْ بصمتَها اللافتةَ على حركة التنوير الغربية؛ لقد صاحبَت الإنسانَ منذ بدايةِ الأزمنةِ الحديثةِ، "حينما سيطَرَ هوى المعرفةِ على الإنسانِ"؛ بتعبيرِ هوسرل. ومكّنَ هوى المعرفة الإنسانَ من أنْ يدرسَ الحياةَ العيانيةَ للبشرِ، ومن أن يحميَهُ ضدَّ "نسيانِ الكائنِ"، ومن أنْ يضعَ عالمَ الحياةِ تحت إنارةٍ مستمرةٍ. ويذهبُ هيرمان بروخ إلى أنّ الإنسانَ تمكّنَ من اكتشافِ ما يمكنُ للروايةِ وحدُها دون سواها، أن تكتشفَهُ".
وفي هذا الصددِ يقولُ ميلان كونديرا في كتابِ "فنّ الرواية": لقد اكتشفتْ الروايةُ، واحدةًُ بعد أخرى، بطريقتِها الخاصةِ، وبمنطقِها الخاصِ؛ مختلفَ جوانبِ الوجودِ. تساءلتْ مع معاصري سيرفانتس عمّا هي المغامرةُ. وبدأتْ مع صموئيل ريتشاردسون في فحصِ ما يدورُ في داخلِ الإنسانِ، وفي الكشفِ عن الحياةِ السريةِ للمشاعرِ. واكتشفتْ مع بلزاك تجذّرَ الإنسانُ في التاريخِ. وسبرتْ مع فلوبير أرضاً كانت حتى ذلك الحينِ مجهولةً، هي أرضُ الحياةِ اليوميِة. وعكفتْ مع تولوستوي على تدخلِ اللاعقلاني في القراراتِ والسلوكِ البشريِّ.. إنها تستقصي الزمنَ، اللحظةَ الماضيةَ التي لا يمكنُ القبضُ عليها مع مارسيل بروست، واللحظةَ الحاضرةَ التي لا يمكنُ القبضُ عليها مع جيمس جويس. وتستوحي مع توماس مان دورَ الأساطيرَ التي تهديْ خُطانا، وهي الآتيةُ من أعماقِ الزمنِ. إنّ الروايةَ التي لا تكتشفُ جزءًا من الوجودِ لا يزالُ مجهولاً هي روايةٌ لا أخلاقيةٌ. إنّ المعرفةَ هي أخلاقيةُ الروايةِ"، لا بل يذهب كونديرا إلى أبعدَ من ذلك، فيعتبرُ أنّ الروايةَ هي مبدعُ أوروبا الحديثة وهادي اكتشافاتِها.
وهذا ما يجعلُ الأدبَ بحقٍ؛ وصفةٌ للعقلنةِ والأنسنةِ، فهو يشكلُ مسباراً يستقصي عتماتِ النفسِ القصيةِ ويعرّي أعطابَها، ويفضحُ الزيفَ والنفاقَ الاجتماعيَ، ويقدّمُ إضاءةً ساطعةً على قباحاتِ الواقعِ، ويكشفُ المستورَ منها؛ وراءَ التقاليدِ الباليةِ المتدثرةِ بأنساقٍ ذهنيةٍ عقيمةٍ، تعطّلُ الوعيَ وتشلُّ الفاعليةَ الإنسانيةَ. فضلاً عن ذلك؛ الأدبُ هو كشّافٌ ساطعٌ للمستقبلِ كما قلتُ آنفاً، أي أنّه عندما يفتحُ البابَ واسعاً على الاحتمالاتِ الإنسانيةِ الممكنةِ؛ بمعنى أنّ الحكايةَ في الأدبِ هي فنُ الممكنِ أو فنُ المحتملِ. وهكذا يقدّمُ الأدبُ أنماطًا مغايرةً من التفكيرِ وبدائلَ مختلفةٍ عن الواقعِ، وهو في ذلك يعيدُ صياغةَ إنسانيةِ الإنسانِ، ويهندسُ مشاعرَهُ وتصوراتِه وأفكارَهُ على نحوٍ جماليٍ، أي على نحوٍ من أفضلَ ما يمكنُ أن يكونَ عليه الإنسانُ. وهذا ما يجعلُهُ على تناغمٍ وانسجامٍ مع شركائِهِ بالمواطنةِ، يتعاونونَ من خلالِ انتماءٍ صادقٍ للمجتمعِ أو للوطن، ويعملونَ بتفاهم على وئامِهِ وسلامِهِ المستدامِ، وبناءِ مجدِهِ الحضاري.
ولكن هل هذا يعني أنّهُ يتعينُ على المجتمعِ كلِّهِ أنْ يُصبحَ جماعة من الأدباء؟
بالقطعِ واليقينِ، لا. ومن البداهةِ أن تكونَ "لا" كبيرةً. فالإبداعُ الأدبيُ شأنُهُ شأنُ مختلفِ أنواعِ الإبداعِ في الحقولِ الأخرى، إنما هو من شأنِ القلّةِ. أما حضورَه الفاعلُ في هندسة الوعيِ الاجتماعيِ، فيكونُ من خلالِ قراءة الأدبِ الجيدِ.
ولكن؛ مع الأسفِ يَعتبرُ البعضُ أنّ قراءةَ الأدبِ ترفٌ، أو على أقلِّ تقديرٍ نوعٌ من الكمالياتِ التي يمكنُ الاستغناءُ عنها، وأنّ ذلك لا ضررَ منه. فهؤلاء يجهلونَ تلك المتعةَ السحريةَ التي تهندسُ روحَهمْ، ليس لأنّهم يفقدونَ نعمةَ الشعورِ بقوةِ المعرفةِ، التي تجعلهم يقبضونَ بيدِهِم؛ إنْ لم يكنْ على واقعِهِم، فعلى أقلِّ تقديرٍ على حياتهِِم فحسبْ، وإنّما لأنّهم أيضاً يجهلونَ أنفسَهُم، وبالتالي لا يعرفونَ كيف يتصالحون مع واقعهم، ويعيشونَه على وجهٍ أسهلَ وأفضلَ وأنبلَ. فمجتمع من دون أدب، لهوَ مجتمعٌ همجيُ الروحِ؛ بل هو يخاطرُ بحريتِهِ وكرامتهِ وسعادتهِ. وربما من رزايانا وبلايانا في هذا الزمن، أننا نفتقد ذلك الرأسمال الحديث من الأدب الجيد، لا بل أغامر وأقول إن أمة العرب أنتجت مكارم الأخلاق، لأنها كانت تمتلك أدباً جيداً. فالأدبَ الجيدُ يلعبُ دوراً كبيراً في تشكيلِ المجتمعِ الحديثِ؛ بكلِ ما تنطوي عليه الحداثةُ من تحولاتٍ وتقلباتٍ، تكادُ تكونُ وحشيةً في بعضِ وجوهِها، وهو ما نلاحظه كلّ يومٍ. إنّ الأدبَ الجيدَ يقومُ بتشكيلِ مجتمعٍ منَ المواطنينِ الأحرارِ السعداءِ، يعيشُ فيه الجميعُ بأمانٍ ووئامٍ وسلامٍ مستدامٍ.
كيف يقومُ الأدبُ بذلك؟
لعلَّ إحدى أكبرُ المشكلاتِ الزاحفةِ بقوةٍ على إنسانيتِنا في العصرِ الراهنِ، هي حقيقةُ أننا نعيشُ اليومَ في زمنِ تخصُّصِ المعرفةِ، بل زمن تجزء المعرفة؛ بفضلِ تطوّرِ العلومِ والتقنياتِ، التي قسمتْ المعرفةَ إلى وحداتٍ صغيرةٍ وعديدةٍ، تتداولُها وسائطُ التواصلِ الاجتماعيِ، وهو ما أفقد المعرفة شموليتها. وهذا الاتجاهُ الثقافيُ سوف يستمرُّ متصاعداً لسنواتٍ طويلةٍ مقبلةٍ. بالتأكيدِ إنّ التخصصَ لهُ منافعُ عدةٌ، فهو يسمحُ باكتشافاتٍ أعمقَ وتجاربَ أعظمَ وأكبرَ، وهو محركُ التقدمِ. غيرَ أنّ له عواقبَه السلبيةَ، فهو يمحي الصفاتِ الفكريةَ والثقافيةَ، أو ما يمكنُ أن نسميَها الخصوصياتُ الثقافيةُ – على المستوى الفردي - بينَ الرجالِ والنساءِ على حدٍّ سواءْ، تلك الخصوصياتُ الذاتية التي تميّزُ تفرُّدِ الشخصية الإنسانيةُ على كل مستويات الفاعلية الوجودية. وهو تفرد يُجَمِّع ويُقَرِّب، لا يُفَرِّق ويباعد، هو تفرد من نوع مختلف، ولكنه يسمحُ بتناغمِ المؤتلفات وتعايش المختلفاتِ بوئام وسلام، وبالتالي يسمحُ بالتعايشِ السعيد والتواصلِ الرشيد، والإحساسِ بالتضامنِ فيما بين الأفرادِ والمجتمعاتِِ أو الثقافاتِ.
ذلك لأن التخصُّصَ يؤدي إلى نوعٍ من العزلةِ، يحبُ أن يسميَها البعضٌُ "استقلاليةٌ"، وهي في الواقعِ أقربُ إلى الانفراديةِ. وكما يقول فرانسيس بيكون، "من يختار العزلة إما أن يكون إلهاً أو أحمق" وبطبيعةِ الحالِ إنّ تقسيمَ البشرِ إلى مجموعاتٍ من المتخصصينَ والتقنيينَ، وتجزئة المعرفة إلى وحدات صغيرة، يؤدي بداهةً إلى نقصٍ في الفَهمِ الاجتماعيِّ أو نقصٍ في التفاهمِ فيما بيننا. وذلك لأسبابٍ عدةٍ، يتحدث عن بعضها الروائي البوليفي العظيم ماريو فارغاس يوسا:
منها: لأنَّ تخصيصَ المعرفةِ يتطلبُ لغةً دقيقةً، ورموزاً تزدادُ غموضاً كلَ مرةٍ. ما يعني أنَّ المعلومةَ سوفَ تصبحُ أكثرَ انفراديةً وتشتتاً. وهذا ما حذرتْ منه الحكمةُ القديمةُ التي تقولُ: لا تركزْ كثيراً على غصنٍ أو ورقةٍ، وتنسى أنهما جزءٌ من شجرةٍ، ولا تركزْ على الشجرةِ فتنسى أنها جزءٌ من غابةٍ. الوعيُ بوجودِ الغابةِ يخلقُ شعوراً بالجماعةِ، شعوراً بالانتماءِ، الذي يربطُ المجتمعَ ببعضهِ، ويمنعُ تفككَهُ إلى عددٍ لا يُحصى من الأجزاءِ. وبهذا المعنى يكونُ تخصيصُ المعرفةِ بمثابةِ المعادلِ الموضوعيِّ لهوسِ النفسِ البشريةِ بخصوصيةِ الأنا أو الأنانيةِ بمعناها الحصريِ الضيقِ. وتعلِّمُنا تجربةُ التاريخِ، أنّ هوسَ الأُمَمِ والأشخاصِ بأنفسِهم أو بأنواتِهم، لم يَخلُقْ إلا الارتيابَ والحسدَ والحقدَ وجنونَ العظمةِ، وتشويهاً في الواقع، وهو ما يولِّدُ الكراهيةَ والنزاعاتَ والحروبَ وحتى الإباداتِ الجماعيةَ.
منها أيضاً: مشكلةُ أنَّ العلمَ والتكنولوجيا لا يمكنُ أن يُكمّلَ بعضُهُما الآخر. وذلك للثراءِ اللامُتنَاهي من المعرفةِ وسُرعةِ تطوُّرِها، والذي قادَنا إلى التخصُّصاتِ وغموضِها. ولكنْ لطالما كان الأدبُ وسيبقى واحداً من القواسم ِ المشتركةِ في التجربةِ البشريةِ، التي يتعرَّفُ البشرُ من خلالهِ على أنفسُِهِم وعلى الآخرينَ؛ بغضِّ النظرِ عن اختلافِ وظائفِهِم، خطةِ حياتِهم، أماكنِهم الجغرافيةِ والثقافيةِ أو حتى ظروفِهم الشخصيةِ. لقد استطاعَ الأدبُ أن يساعدَ الأفرادَ على تجاوزِ التاريخِ كقراءٍ، ابنُ طفيلٍ في "حيّ ابن يقظان، المعرّي في "رسالةِ الغفرانِ"، حتى المعلقاتِ وشكسبير ودانتي وبوشكين وتولستوي وديستوفسكي وكافكا وأورويل.. وكلُّ قافلةِ صنّاعِ الجمالِ الذين مضَوا بعيداً في التاريخ. فنحن عندما نقرأُهُم اليومَ نفهمُ بعضَنا عبر الزمانِ والمكانِ، ونشعرُ بأنفسِنا ننتمي لذاتِ الأحلامِ والتطلعاتِ، ونعاني من ذاتِ المشكلاتِ، ونصبُو إلى عينِ تلكَ المسراتِ. فمن خلالِ ما كتبوه نتعلمُّ ما نتشاركَهُ كبشرٍ، وما الذي يبقى متواصلاً فينا رغمَ كلِّ الفروقاتِ التي تفصُلنُا. لا شيءَ يحمي الإنسانَ من غباءِ الكبرياءَ والتعصبِ والفصلِ الدينيِّ والسياسيِّ والقوميِّ أو العرقيِّ؛ أفضلُ من تلك الحقيقةِ التي تظهرُ دائما في الأدبِ العظيمِ. إنَّ الرجالَ والنساءَ من كلِّ الأممِ متساوون بشكلٍ أساسيٍّ، وأنَّ الظلمَ بينهُم هو ما يزرعُ التفرقةَ والخوفَ والاستغلالَ. ولا يوجدُ من يعلِّمُنا ذلك أفضلُ من الأدبِ، فمن خلالِ الأدبِ نرى على الرغمِ من الفروقِ الاجتماعيَّةِ؛ ثراءَ الجنسِ البشريِّ. ولا يوجدُ ما يجعلُنا نكافئُ ونمجدُّ هذه الفروقَ الثقافيةَ أو تفرُّدَ الذواتِ الإنسانيَّةِ الفرديةِ؛ بوصفِها مظهراً من مظاهرِ الإبداعِ الإنسانيِّ متعددِ الأوجهِ، مثلما يفعلُ الأدبُ الجيدُ..
إنَّ قراءةَ الأدبِ الجيدِ هو مصدرٌ للمتعةِ كما أسلفتُ، ولكنَّه أيضاً تجربةٌ لنعرفَ من نحنُ؟ وكيف نكونُ بعُيوبِنا ونقصِنا وأحلامِنا وأشباحِنا وحيدينَ وفي العلاقاتِ التي تربطُنا مع الآخرينَ، في صورتِنا العامةِ الظَّاهرةِ لدى الآخرينَ، أو في تلافيف وتجاويفِ وعيِنا السريَّةِ. هذا المجموعُ المعقدُّ منَ الحقائقِ المتعارضةِ، كما يصفُها أشعيا برلين، تشكِّلُ جوهراً للحالةِ الإنسانيةِ في عالمِ اليومِ. هذا المجموعُ الضخمُ والحيُّ منَ المعرفةِ في الإنسانِ لا يوجدُ إلا في الأدبِ. لم تستطعْ حتى فروعُ العلومِ الإنسانيةِ الأخرى كالفلسفةِ والتاريخ أو الفنونِ أوالعلومِ الاجتماعيةِ أنْ تحفظَ هذه الرؤيةَ المتكاملةَ والخطابَ الموحَّدَ؛ لأنَّ العلومَ الإنسانيةَ خضعتْ أيضًا لتقسيمِ التخصُّصاتِ، وعزلَت نفسَها في أقسامٍ مجزأةٍ وتقنيةٍ؛ بأفكارٍ ومفرداتٍ لا يستوعبُها سوى قلَّةٌ من المتخصصينَ، وفي الغالبِ الأعمِّ ينفرُ منها الشخصُ العاديُّ. بعضُ النقادِ والمنظرِّينَ يَودُّونَ تحويلَ الأدبِ إلى علمٍ، وهذا ما لن يحصُلَ أبداً لأنَّ الكتابةَ التخيُّليَّةَ لم توجدْ لتبحثَ في منطقةٍ واحدةٍ من تجربةِ الإنسانِ، وإنَّما وُجدتْ الكتابةُ الأدبية لكي تُثري الحياةَ البشريةَ بأكمَلِها من خلالِ الخيالِ، والتي لا يمكنُ تفكِيكُها أو تجزِئتُها إلى عددٍ من المخطَّطاتِ أو القوانينِ؛ دون أن تضمحلَّ. هذا هو معنى ملاحظةِ بروست حينما قال إنَّ الحياةَ الواقعيةَ هي آخرُ ما يُكتشفُ ويُنوَّرُ، وأنَّ الحياةَ الوحيدةَ التي تعاشُ بكامِلِها هي الأدبُ. بروست لم يكنْ يبالغُ أو يعبِّرُ عن حبِّه لما يُجيدُ، وكان يقدِّم قناعتَهُ الشخصِّيةَ بأنَّ الأدبَ يساعدُ على فهمِ الحياةِ وعيشِها بطريقةٍ أفضلَ، وأنَّ العيشَ بطريقةٍ أقربَ إلى الكمالِ يتطلبُ وجودَ الآخرينَ إلى جانبِكَ ومشاركتَهُم الحياةَ. هذا الرابطُ الأخويُّ الذي ينشأُ بين البشرِ بسببِ الأدبِ يُجبِرُهم على التحاورِ، ويُوعِّيهم بالأصلِ المشتركِ، وبهدفهِم المشتركِ، وبالتالي فهو يَمحي جميعَ الحواجزِ التاريخيةِ والثقافيةِ، كما يقول يوسا.
ومنها أيضاً (أي من مشكلاتِ نقصِ التفاهمِ الاجتماعيِّ): إنَّ أحدَ منافعِ الأدبِ للقارئِ في المقامِ الأوَّلِ تكمنُ في اللغةِ. المجتمعُ الذي لا يملكُ أدباً مكتوباً؛ يعبِّرُ عن نفسهِ بدقةٍ أقلُّ وأقلُّ وضوحاً؛ من مجتمعٍ يحمي طريقةَ التواصلِ الرئيسيةِ لهُ، وهي الكلمةُ؛ بتحسينِها وتثبيتِها عن طريقِ قراءةِ الأعمالِ الأدبيةِ. إنسانيةٌ بلا قراءةٍ ولا يصاحبُها الأدبُ؛ ستُنتِجُ ما هو أشبهُ بمجتمعٍ صُمٍّ وبُكمٍ، ناقصِ الفهمِ، كما يقولُ فارغاس يوسا. وذلك لعلتِه اللغويةِ، وأنَّهُ سيعاني من مشاكلَ هائلةٍ في التواصلِ، نظراً للُغتِهِ البدائيةِ.
فالشخصُ الذي لا يقرأُ أو يقرأُ قليلاً أو يقرأُ كتباً سيئةً؛ سيكونُ لديه عائقٌ، ستجدُه يتحدثُ كثيراً، لكنَّ التعبيرَ هزيلٌ، وبالتالي المفهومُ قليلٌ؛ لأنَّ مُفرداتِهِ ضعيفةٌ في التعبيرِ عن الذاتِ، وهذا الأمرُ لا يعني وجودَ قيدٍ لفظيٍ فقط، ولكن أيضًا وجودَ قيدٍ في الخيالِ والتفكيرِ، هو فقرٌ فكريٌ؛ لسببٍ بسيطٍ؛ لأنَّ الأفكاَر والتصوراتِ التي يمكنُ من خلالِها فهمُ حالاتِنا، لا يمكنُ لها التكونُ خارجَ الكلماِت. نحُن نتعلّمُ كيف نتحدثُ بعمقٍ وبدقةٍ وبمهاراتٍ من الأدبِ الجيدِ. لن يُجديَ أيُّ انضباطٌ آخرُ في أيِّ نوعٍ من فروعِ الفنِّ ما عدا الأدبَ في صناعةِ اللغةِ التي نتواصلُ بها. أنْ نتحدثَ جيدًا وأنْ يكونَ تحت تصرُفِنا لغةٌ ثريةٌ ومنوعةٌ؛ أنْ تجدَ التعبيرَ الملائمَ لكلِّ فكرةٍ، ولكلِّ شعورٍ نودُّ أنْ نتواصلَ بهِ، يعني بالضُّرورةِ أنْ تكونَ جاهزاً للتفكيِر، أنْ تعلمَ وأنْ تتعلَّمَ وأنْ تناقشَ، وأيضاً لأنْ تتخيلَ وتحلُمَ وتشعُرَ بطريقةٍ خفيةٍ. تُردِّدُ الكلماتُ صداها في جميعِ أفعالِنا؛ حتى تلك الأفعالُ التي لا يمكنُ أنْ نعبِّرَ عنها. وكلما تطورتْ اللغةُ وذلك بفضلِ الأدبِ الجيد، ووصلتْ إلى مستوياتٍ عاليةٍ من الثقلِ والأخلاقِ، زادتْ من مقدرةِ الإنسانِ على عيشِ حياةٍ أفضلَ. ذلك لأن خلفيات الكلمة تتشكل من نظامين متشابكين:
أولهما: يحتاج الإنسان أن يعرف نوع التبادل الاجتماعي، الأهداف المشتركة أو الحاجات المتبادلة، وكيف يسير الأمر على ما يرام في المجتمع، حيث يجري توظيف الكلمة.
ثانياً: يحتاج المرء أن يعرف التمييزات النوعية التي يقوم الناس بإنشائها. (ولا أقصد هنا بالتمييزات النوعية، التمييز بين الخير والشر، أو بين الحسن والقبح، وما شاكل ذلك، وإنما نقصد التمييزات بين قوة المعنى ودقة الدلالة، كأن نقول هذا لطيف، وذاك جميل، فاللطف من التلطف، أي القبول، الذي يجعل الأمر ممكن التعايش معه، أما الجمال فهو المحبوب والمرغوب. وهكذا يتدرج المعنى). ولا يكون ذلك ممكناً إلا بقراءة الأدب الجيد.
إن البحث المستمر عن المعنى لا يكون في حدود تلفظه المجازي الاعتباطي، وإنما في مستوى مجسداته النفسية والتاريخية المحسوسة؛ لأنّ روح المعنى وحيويته أمران متناسبان طردياً مع تضاد الوعي وتقابله لدى الأفراد. هذا التضاد الذي ينحت المعنى ويوزعه على مستويي القبول أو الرفض؛ لدى ذاتيات تحت الاختبار، أو قيد التشكل، وستبقى كذلك ما دام الإنسان يسعى إلى كماله.
منها أيضاً: لعلَّ من أهمِّ الأسبابِ التي تمنحُ الأدبَ منزلتَهُ الهامةَ في حياةِ الأممِ، هو قدرتُهُ على تكوينِ العقلِ النقديِّ. يعتقد البعض أن الفلسفة هي التي تبني ملكة النقد. وأنا لا أنفي ذلك. ولكن أقول هيهات؛ أن تتيسر عملية التفلسف في المجتمعات العربية التي وأدت الفلسفة منذ ألف عام ونيف، وهيهات ثم هيهات أن تكون قراءة الفلسفة بسلاسة قراءة الأدب وغوايتها. وكما أسلفت أن الأدب يتمرد على الأنساق الثقافية والمسلَّمات الأيديولوجية، وبالتالي هو يعلمنا عفوياً أو تلقائياً القدرة على النقد أحسن وأيسر من الفلسفة بمرات ومرات. نعم إن العقل النقدي هو المحركُ الحقيقيُّ للتغييِر والانتقالِ من طورٍ اجتماعيٍّ إلى طورٍ آخرَ أعظمَ وأهمَ بكلِّ المعاني الحضاريةِ. فمجدُ الإنسانِ الحضاريِّ قامَ على العقلِ النقديِّ.
وأخيراً أقولُ: إذا أردْنا أنْ نتجنبَ فقرَ خيالِنا، ونتجنبَ اختفاءَ ذلك الاستياءِ الثمينِ، الذي يهذِّبُ حساسيتَنا، ويعلِّمُنا التحدثَ ببلاغةٍ ودقةٍ، والتواصلَ فيما بينَنا بمحبةٍ وائتلافٍ وتعايشٍ حرٍّ كريمٍ، وبوئامٍ وسلامٍ مجتمعيٍّ مستدامٍ، فيجبُ أنْ نُوليَ الأدبَ بعضَ اهتمامِنا ونمنحَهُ ولو ساعةً أو على أقلِّ تقديرٍ نصفَ ساعةٍ من يومِنا، وبعبارةٍ أخرى، يجبُ أنْ نقبل على قراءة الأدبَ الجيدَ كاستراحةٍ للحظاتٍ قصيرةٍ من عناءِ يومِنا. وعلينا أن نتذكر دائماً، أن القراءة تقيم علاقة جدلية بين المتلقي والكتاب، حيث تجتمع في القراءة خلاصة تجربة الكاتب؛ مع خلاصة تجربة القارئ، فتتمازج التجربتين في عملية تداولية معقدة ومثيرة، ينتج عنها حسب النظريات النقدية معرفة جديدة تُغني وعي القارئ وتُثري تجربته الإنسانية، بعيداً عن النص.



#محمد_وردي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بين الفلسفة والعلم عناق أم طلاق
- أخلال فلسفية أم مشكلات التفلسف
- في الفلسفة ووظيقتها وشروط التفلسف
- مآلات الحداثة.. تقدم الفرع وهرم النوع
- إشكاليات اصطلاحية أم قصور بالمعنى والوعي
- نتيجة المقارنة بين ابن رشد وابن بيه
- العقلانية الإيمانية ما بين ابن رشد وابن بيه
- التنوير بالمحبة والإحسان في بناء الإنسان
- شيخ الإنسانيين.. التنوير بالحكمة والشريعة
- سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه
- سردية السلم والتنوير والأنسنة والغواية العقلانية الإيمانية


المزيد.....




- هل اتخذ ترامب قرارًا بشن هجوم بري على فنزويلا؟ مسؤولان يكشفا ...
- السعودية.. اصطدام شاحنة وقود بحافلة معتمرين من الهند قرب الم ...
- تعليق على رد تيتان: يجب أن ينعكس سعي تيتان نحو التحسّن في اح ...
- كونغو الديمقراطية.. لحظة انهيار جسر في منجم نحاس وكوبالت وسق ...
- الزواج.. عريس جزائري يترك قاعات الأفراح ويختار مشاركة فرحته ...
- جون برينان.. كيف تندّر المصريون على تصريح مدير الـ-سي آي إيه ...
- كيف تتوزع القوة البحرية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا؟ ...
- بن سلمان في البيت الأبيض بعد 7 سنوات من مقتل خاشقجي.. ما الذ ...
- صفقة رافال التاريخية: 100 مقاتلة فرنسية تدعم أوكرانيا في موا ...
- منتجع تزلج فرنسي يبدأ مبكرا صنع الثلج الاصطناعي استعدادا للش ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد وردي - الأدب والسلم المجتمعي المستدام