|
مآلات الحداثة.. تقدم الفرع وهرم النوع
محمد وردي
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 09:26
المحور:
قضايا ثقافية
مآلات الحداثة.. تقدم الفرع وهرم النوع
لن نتوقف في هذا الاستهلال عند الإشكاليات المفهومية أو الجينالوجية حول مصطلح "الحداثة"؛ بقدر ما نود توضيح ما بات يحيل إليه المصطلح في الفكر الغربي المعاصر عموماً، وما انبنى عليه أو ما انتهى إليه التفلسف في سيرورات الحداثة ومدى تطورها منذ بداياتها الفعلية: من جهة أولى؛ ترسّمَ مقهوم الحداثة في الأدبيات الغربية تحت مسمى إزاحة الوعي الأسطوري، أو بتعبير ماكس فيبر "نزع الطابع السحري عن العالم"، وردّه إلى نظريات محكومة بتعليلات عقلانية، ولا شيء آخر غير العقل، أو بمعنى آخر؛ إحلال العقل في الوصاية على العالم. ولكن مع الأسف لم تقتصر وصاية العقل على نزع السحر أو إزاحة الأسطورة فقط، وإنما في الواقع شطبت معها الميتافيزيقا، التي شكلت عماد التفلسف منذ فجر الفلسفة الأول، وكانت السبيل إلى نظرية المعرفة، كما كانت السبيل إلى صحة الإيمان بالعقل. فبالنسبة إلى نظرية المعرفة، تعني الميتافيزيقا أن فهمنا للواقع أو الوجود يؤثر على فهمنا للمعرفة، والعكس صحيح. هذا فضلاً عن حقيقة أن "نظرية المُثُل" أو "الصُوَر" (بالفلسفة الأفلاطونية وما قبلها وما بعدها عموماً)، إنما هي نظرية منطقية في بعضها، ميتافيزيقية في بعضها الآخر؛ فأما الجانب المنطقي فيُعنى بمعاني الألفاظ الكلية، أي صورة الشيء أو الكائن المثالي "الأبدي"، وأما الميتافيزيقي فيُعنى بالمعاني الجزئية، أي الصور التي تشارك في طبيعة "المثالي"، غير أنها تختلف في مشاركتها قرباً أو بعداً عن الكمال، والسبب في تكثُرِها ليس إلا هذا البعد منها عن الصورة الكاملة. الكائن (المثالي) حقيقي، أما الصورة الجزئية فظاهرة لا أكثر. وهكذا باتت نظرية المُثُل من الدعامات الرئيسية في نظرية المعرفة على ما شابها من نقص. أما بالنسبة إلى صحة الاعتقاد، فالميتافيزيقا - الأفلاطونية والأرسطوية - شكلت لاحقاً – إلى حدٍ ما – المداميك الأولى في بناء فلسفة التديُن في المسيحية مع القديس أوغسطين، وبشكل أخص مع توما الأكويني( )، الذي "مسحن أرسطو"، كما يقول فرانسيس بيكون. وهذا يعني بدءاً، أن وصاية أو سيادة العقل على العالم، باتت بمثابة نفي للنواميس الأخلاقية أو الدينية؛ بل نفي للمثل الأعلى (كمرجعية) نفياً مطلقاً، واستطراداً يعني ذلك؛ زعزعة المنطق وخلخلة أسس نظرية المعرفة. الأمر الذي أدى إلى تعددية في القيم وفراغ في المعنى. علماً أن محاربة التدين كانت تعني في بدايات التفكير العقلاني، رفض هيمنة سلطة الكهنوت على شؤون الدنيا، التي أثّمَت الجسد، وقيدت العقل، حيث صار تنصُّر قسطنطين العظيم "فاتحةً لألفِ عامٍ عاشها الفكر في الأغلال، واستُعبدَ فيها العقلُ استعباداً بيّناً، وتوقفت فيها حركةُ العلمِ والعِرفان"( )، وبالتالي كانت محاربة التدين تعني – على الوجه الغالب - محاربة الاعتقاد غير المعقول؛ بمعنى أن إقصاء الإيمان كان المراد منه إقصاء الإيمان الشائه، أي كان تعبيراً عن الإيمان بعقل الإنسان على تصحيح الإيمان، ومن ثم كان تعبيراً عن قدرته على تأسيس نظامه الاجتماعي الذي تحكمه مبادئ الحرية والمساواة والعدل والإخاء الإنساني؛ باعتبارها حقوق طبيعية في أصل فطرة الخلْق، يشتقها العقل من القانون الطبيعي. أما اليوم فصارت العقلانية العلمية أو العقلانية الأداتية - في بعض وجوهها - تعبيراً خالصاً عن التشوّش العميق واليأس والعدمية. "فيما مضى كانت الريبية والعقلانية قوتين تقدميتين لتطور الفكر، وأصبحتا الآن تبريرين للنسبوية والشك (والإلحاد في بعض الوجوه). والاعتقاد بأن تجميع المعارف بالأمور الواقعة أكثر فأكثر سوف يؤدي لا محالة إلى معرفة الحقيقة؛ قد صار خرافة. ويُنْظَر إلى الحقيقة نفسها، في جهات معينة، على أنها مفهوم ميتافيزيقي، وإلى العلم على أنه مقصور على جمع المعلومات. وخلف واجهة اليقين العقلي المزعوم، يوجد شك عميق يجعل الناس يقبلون أو يتصالحون مع أية فلسفة تُغرز فيهم. هل يستطيع الإنسان أن يعيش من دون إيمان؟ أينبغي ألا يكون لدى الرضيع "إيمان بثدي أمه؟" أينبغي ألا يكون لدينا جميعاً إيمان بإخوّتنا البشرية، وبالذين نحبهم وبأنفسنا؟ أنستطيع أن نحيا من دون إيمان بصحة معايير حياتنا؟ بالفعل؛ إن الإنسان من دون إيمان يغدو عقيماً ويائساً وخائفاً في صميم وجوده"( ). وهكذا فقدَ الإنسان تفردُه ككائن عقلاني مؤهل لاستنباط المعياريات الموضوعية على مستوى معرفة القيم - التمييز بين الفضيلة والرذيلة أو الخطأ والصواب - التي يشتقها بالأصل فطرياً من غريزة البقاء في طبيعته البشرية على قاعدة "ما ينفع وما يضر"، وتنتظم من خلالها حياته؛ بقدر من الطمأنينة أو السكينة الروحية، ومعها تزعزعت نظرية المعرفة من أساساتها الأولية، وتقلقلت إمكانية معرفة الحقيقة، وما تمثله من أهمية في بناء نعمة "اليقين"، التي تجعل المرء يثق بالمستقبل من خلال ثقته بنفسه والآخرين وبالحياة عموماً. من جهة ثانية؛ أسست الحداثة (بما تعنيه سيادة العقل على العالم) نزعة الذاتية الغائية؛ بالمعنى النفعي الأنوي الضيق، وبالتالي إحلال مركزية "الأنا المتعالية" في السيادة على موجودات الوجود، ومن ضمنها وأخطرها أو أكثرها شراً؛ السيادة على "الآخر"، أي السيادة التي تجاوزت الطبيعة إلى التحكم بالنظير الإنساني، أي "النظير بالخلق"، حيث "بدأت الفلسفة الحديثة بديكارت، الذي وضع يقينه الأساسي في وجود (ذاته) نفسه، ووجود أفكاره التي يستدل منها على وجود العالم الخارجي، ولم تكن تلك إلا خطوة أولى في طريق من التطور مرَّ خلال باركلي وكانط؛ ليصل إلى فخته، الذي ذهب إلى أن كل شيءٍ إنْ هو إلا فيض الذات، وهذا منه ضرب من الجنون". وهو ما أدى إلى نوع من الفوضى، دفعت إلى قيام "حركات كثيرة تناهض ما ظهر في العصور الحديثة من ألوان هذه الذاتية التي أمعنت في جنوحها إلى الجنون"، من خلال التوسيط بين الدولة والفرد، يمثلها جون لوك، وانتهت "إلى مذهب يقول بعبادة الدولة"، بدأ ذلك مع هوبز وروسو وهيغل، فهؤلاء يمثلون وجوها محتلفة لنظرية عبادة الدولة، إلا أنها على اختلافها أو تباينها، اجتمعت على ضرورة؛ للحد "من نمو النزعة الفردية واستقلال الأشخاص استقلالاً يجعل التعاون مستحيلاً"( ) فيما بينهم، أو بمعنى آخر؛ يجعل التعاون مستحيلاً بين بنيات المجتمع عموماً، أفراد ومؤسسات المجتمع المدني أو الهيئات الثقافية على اختلاف أشكالها أو مستوياتها، لا بل أشرَّ من هذا وأخطر، من حيث أن استحالة التعاون توطئ للنزاعات أو الفوضى على أقل تقدير. وهكذا انتهت "سيادة العقل" و"مركزية الأنا" المتعالية إلى ضرب من ضروب الفردانية الأنانية التي دفعت إلى عدميات عبثية؛ بات توصيفها من الصعوبة بمكان في اللحظة الراهنة، إلا أنها كانت بكل وجوهها الحداثية بمثابة تفريغ للجوهر الإنساني في روح الإنسان المعاصر، وتفريغ للمعنى الجمالي أو القيمي في الوجود؛ سواء من حيث العدوان على إنسية الإنسان، التي نشهد تجلياتها السافرة على مدى قرن ونيف من عمر الحداثة (كما أسلفنا - راجع مقالتنا السابقة)، أو من حيث العدوان على الطبيعة التي شكّلت على الدوام نموذجاً للتوازن. فضلاً عن كونها نبعاً للخيال، يستثير قريحة المبدعين في استلهام إمكانيات النظر وأدوات التعبير والتفكير في الآداب والفنون، كما في الفلسفة والأخلاق والدين. وحصل ذلك التفريغ الحداثوي (إذا صح التعبير) من خلال شطب القيمة التي تجعل للحياة معنى يستحق أن يعيش من أجله الإنسان، بعد عطب البعد الإنسي في روحه، الذي استتبع شطب البعد الرحماني في علاقات البشر بين بعضهم البعض، أو في علاقتهم مع الطبيعة، فصارت الحداثة وكأنها لا تقدم وسائل تحقيق سعادة الإنسان وتمكينه من الطبيعة فحسب، وإنما باتت تسوقه إلى استباحة الطبيعة، وتدفعه إلى التغوَّل على جنسه؛ بل تحطيم كينونته، وتدمير بيت سلامه الداخلي نفسه، أي راحت الحداثة تأكل روح الإنسان المعاصر؛ لأنها في الواقع صارت تقدم له وسائل السيطرة على الإنسان، وتمكينه في ممارسة كل أشكال القهر والتعسف على الآخرين - على المستوى القريب أو البعيد - دون أن يُدرك أن الآخر نظير له في الخلق، أي أخوه في الإنسانية على أقل تقدير. وفي الحالين (أي العدوان على الطبيعة وعلى نفسه) إنما هو يقوم بذلك من دون أي رادع قانوني، ومن دون أي وازع إنساني أخلاقي أو ديني عموماً. والمشكلة العويصة التي لا يختلف عليها أحد من الإنسانيين عموماً، أن إمكانية استعادة الإنسان إلى ذاته أو إلى حقيقته الوجودية التي بدأت تتبلور مع فجر الأنسنة في الحضارة العربية والإسلامية، وتطورت مع عصر النهضة الأوروبية، واكتملت ملامحها مع الثورة الفرنسية؛ بأطروحات الحرية والمساواة والعدالة، وحسبناها نضجت مع شرعة حقوق الإنسان، ولكن مع الأسف تراجعت مثل هذه الإمكانية؛ بل باتت شبه مستحيلة، ليس لأن الحداثة باتت وكأنها قدر لا راد له فحسب، وإنما أيضاً، لأن مثل هذه الإمكانية في الوقت الراهن باتت شبه مستحيلة؛ لأن النزعة العلمية (كتخصصات تتيح وظائف أسهل وأسرع وأجدى دخلاً) قطعت طريقها تماماً، حيث اجتاحت العلوم الإنسانية، وأزاحتها إلى هوامش الترف أو الكماليات. وهو ما أدى إلى التصحّر الأخلاقي الذي نعيش يبابه و"هبابه" هذه الأيام. وهذا ما حذرت منه مارثا نوسباوم (وآخرين كُثر) منذ نهايات القرن الماضي. ويستحيل رتق هذا الخرق - طبعاً إلى جانب أمور أخرى، وهي موضوعنا الرئيس في الفصول المقبلة - من دون استعادة دور الآداب والفنون، وبخاصة في الواقع العربي؛ باعتبارها البلسم السحري لعلاج مشكلة انحطاط الإنسية في روح البشرية المعاصرة. فالآداب والفنون هي رديفة للحياة؛ لأنها "تعانق الكينونة كإرادة قوة جبارة في نفي نقيضها"( )، كما يقول مارتن هايدغر. وطبعاً لا نستثني الفلسفة إلا لأننا في الواقع غرباء عنها غربة يوسف (عليه السلام) في غيابة الجب. وربما هذا الأمر - في وجه من وجوهه - أدى إلى تفسير معنى الحداثة في فكر أساطين الحداثة أنفسهم؛ على أنه "ليس مفهوماً تاريخياً ولا مفهوماً سوسيولوجياً أو سيكولوجياً" (...) الحداثة بشكلها الغربي، هي انفتاح دائم، شرخ للمرايا والإيقونات وتشكيك في الأصول والثوابت" إيثيقية أكانت أو دينية أو إيديولوجية أو فلسفية"( ). وإذا كانت الحداثة لا تعني بأي حال من الأحوال أنها مجمل التحولات والانقلابات التقنية والعلمية والسياسية، فهي تعني بالتأكيد، حسب تعبير بودريار أنها "لعبة الرموز والعادات والثقافة، هذه اللغة التي تعكس التحولات في البنية على مستوى الطقوس والتهيؤ (أو التمثل) الاجتماعي". ما يعني أن "الحداثة هي أسلوب وجودي جديد أو ميثالوجيا جديدة برموزها الزئبيقة وقيمها الضالعة في الانمحاء، وطقوسها التي لا تقر على قرار"( )، وهي (بهذا المعنى) نسف لكل البنى المعرفية والقيمية التي حصلها الإنسان على مدى تاريخه الطويل. وما يجعل الأمر "ضِغثٌ على إِبَّالة" كما تقول العرب، أو ما يزيد الطين بِلَّة؛ بتعبير المثل الدارج، أن الحداثة عندما قامت على مركزية الذات، إنما هي استبدلت ما كان يُعتقد أنه أسطورة بأخرى جديدة، هي أسطورة العقل كإرادة معرفة مطلقة، واستحالت مركزية الذات أو "الأنا" مع الكوجيطو الديكارتي "أنا أفكر فإذن أنا موجود"، الذي ألغى وجود الآخر إلى حدٍ ما، استحالت إلى أنا متعالية أكثر فأكثر مع "الخارق النيتشوي"، أي "الإنسان الأعلى" الذي يضطلع بوجود الموجود بما هو إرادة قوة في ماهيته (أي قوة بكل ما تعنيه القوة البدائية – بالمعنى الغريزي - التي لا تبالي بالحق أو القانون، كما يحصل في غزة هذه الأيام)، وعَود أبدي في نمط كينونته (أي عودة إلى البدائية من حيث الإقبال على الحياة بكل ما يمكن من اندلاق أو جموح من دون أي كابح إنساني، أخلاقي أو ديني)، ولكنه يشير في الآن عينه، إلى نمط جديد للإنسانية، وشكل أعلى للذاتية لم تفكر فيه الميتافيزيقا من ذي قبل"( ). ذلك لأن "الإنسان الأعلى" الذي تجاوز الموجود وساد على الوجود، جعل الآخر خادماً له على أقل تقدير. وهذا هو بالضبط ما جعل الذاتية - في الحداثة - وكأنها ماهية ميتافيزيقية متعالية على التاريخ وعلى النقد، فصارت الحداثة مغامرة فوضوية، سادت فيها القيم العدمية الأكثر نذالة وخسة. ومن هنا جاءت نظريات ما بعد الحداثة؛ كانقلاب على الحداثة، متمثلة بتيار مدرسة فرانكفورت، حيث بدأت مرحلة النقض والتفكيك، حتى باتت أطروحات الحداثة كما يقول ج. ف. ليوتار "عنواناً على أفول المشروع الحداثوي وانسداد أفقه وعلامة على نهاية الخطابات الكبرى والمفاهيم الرائدة التي تم تداولها في عصر الحداثة كالعقل، والتقدم والإيديولوجيا وغيرها( ). وتلا ما بعد الحداثة تيار "البنيوية"، التي تعني من حيث كونها "منهجاً يضم أربعة عتبات مركزية، فهو منهج ينتقل من دراسة الظواهر اللسانية الواعية إلى محاولة استكشاف بنياتها التحتية اللاشعورية، كما أنه منهج لا يكتفي بمقاربة الحدود ككيانات مُبْتسرة ومستقلة؛ بل يحاول على العكس من ذلك أن ينفذ إلى العلاقات بين هاتيك الحدود. وهو في نظام ثالث منهج يُعنى بكشف الأنساق اللسانية والبنيات الفونولوجية. وهو في مقام أخير، منهج يحاول استخلاص القوانين عن طريق الاستنباط المنطقي أو من خلال استقراء الظواهر الصوتية"( )، إلا أنها في الواقع انتهت إلى فرقعات كلامية في صميمها ومن خلال روادها، وبوجه خاص مع كلود ليفي ستروس في "الأنثربولوجيا البنيوية" (وهذا ما سنوضحه في الفصل اللاحق). أما تيار "ما بعد البنيوية"، فهي "تعتبر نفسها فلسفة (أكثر من كونها مجرد منهج)، تنخرط في المسعى النيتشوي-الهايدغري لمجاوزة الميتافيزيقا، وتدمير بنيتها، وبالتالي مجاوزة كل ضرب من ضروب المثالية. منطلق البنيوية هو وصف البنيات بما هي أنساق مغلقة، ثاوية، لها قوانينها التي تكفل لها انتظامها الداخلي، وترعى تعالق عناصرها الداخلية. وبقدر ما صارت البنيوية في المشروع البنيوي تحيل إلى نظام وإلى لحظة انغلاق بامتياز، بقدر ما كانت تشير في ما بعد البنيوية إلى لحظة انفتاح وإلى تفكك للنظام. إنها بنية مهملة، ليس لها حدود معينة. وإنها بمثابة "نص عام" مشرع على التحولات، حسب تعبير جاك دريدا"( ). وعلى العموم يمتح تيار "ما بعد البنيوية" من مرجعيات فلسفية وفكرية مختلفة (نيتشه، فرويد، هايدغر). "ويأخذ نعوتاً مختلفة: فطَوراً ننعته بفكر الاختلاف، وفكر ما بعد الحداثة، وطوراً نسميه بما بعد البنيوية أو التفكيك أو الهرمينوطيقا الجديدة.. وغيرها من النعوت التي تختلف وتتفاوت في مدى صحة صدقها على ممثلي مشروع ما بعد البنيوية. وانفلات ما بعد البنيوية من النموذج الميتودولوجي (علم مناهج البحث) للبنيوية في طموحها العلمي، وموضوعيتها وصرامتها، هو ما جعل رموزها (من أمثال فوكو، ودريدا، ولاكان، وفاتيمو، وبودريار.. وغيرهم) يستنكفون بأنفسهم أن يكونوا فلاسفة حتى. وهو ما جعل مقارباتهم في مجملها تميل إلى التشذير والبلاغة الفلسفية والقبالة الأسلوبية وإلى نوع من الخيمياء اللغوية الجديدة التي تقطع مع صرامة "التناول البنيوي ودقة لغته ووضوح خطواته"( )، أي أنها أبعدت الإنسان عن مدارها، فلم تعد مركزية الذات مسيطرة، أو على الأقل لم تعد حاضرة بالمعنى الهايدغري الذي يجعلها "ميتافيزيقا"، أي "تفكيراً في الكائن في كليته، من جهة ما هو حقيقة تحضر في امتلائها وتمام تألقها؛ لذات واعية أو وعي متمثل، يتملك هذا الكائن المُدرك تصوراً وتصديقاً"( ). لقد أعلنت ما بعد البنيوية موت الإنسان، أو بتعبير فوكوي "موت المؤلف"، فصارت "مضادة للنزعة الإنسانية الحديثة، بحيث لم يعد الإنسان في هذه النِحلة منظوراً إليه كقيمة أنطولوجية عليا وكمثال في كينونته ومعاشه، فلقد فقد كل حضور ميتافيزيقي في العالم وكل نفوذ أنثربولوجي على الأشياء. إنه لم يعد قوة فاعلة تحرك التاريخ، وإنِية إِثيقية تخلص العالم من الأدران والشرور، أو "كوجيطو" ينتج الحقيقة، ويؤسس المعنى، ويخلع غائية على الأشياء. لقد صار الإنسان محض عرض في عماء يتغشّاه من دون معنى، ومحض كائن طارئ في عالم هيمنة التقنية الكوكبية، وسيادة الإنتاجية القصوى"، التي تجاوزت فلسفة التمثل وميتافيزيقا الحضور الذاتية. "وهكذا لم تعد الحقيقة تمثلاً وحضوراً وامتلاءً ويقيناً؛ بل مقاماً لصراع التأويلات وتدافع إرادات القوة"( )، والمزيد من الاغتراب والشك وانعدام اليقين، لأن العقل "وهو يخلع الأسطورة والدين عن عرشيهما، يظل عاجزاً عن محاكاتهما في القدرة على التوحيد العقائدي وعلى خلق لحمة وجدانية وروحية بين الأفراد". وكما يقول هابرماس: "إن العقل الذي يقدم نفسه على هيئة ديانة ثقافية، لم يعُد البتة قادراً على إيجاد توليف أو تركيب يمكن من الاستعاضة عن قدرة التوحيد في الدين التقليدي"( ).
تقدم الفرع وهرم النوع كشفت التجربة البشرية أن الحداثة التي انتهت إليها عملية التنوير على مدى القرون الخمسة الماضية، لم تكن سوى عملية التقدم؛ بالمعنى العلمي الحصري، أي كأدوات أو وسائل، جرى توظيفها من أجل تقديم خدمة للإنسان؛ بغض النظر عن طبيعة غاياتها. أما جوهر الإنسان عينه، أي بوصفه كائناً مسؤولاً أو فرداً أخلاقياً مؤنسناً، فنصيبه من التقهقر كان أكبر بكثير مما حازه من التقدم. وإذا كان التقدم العلمي لعب دوراً لا يُستهان به في تحقيق الرفاهية؛ سواء لجهة السيطرة على الطبيعة وتسخيرها بما يشاء الإنسان، أو لجهة توفير الجهد وتقصير المسافات واختزال الزمن على مستوى استحضار البيانات والمعلومات.. وما شاكل ذلك من ضروريات المعرفة العميقة وسرعة الاستجابة لتحديات العلاج ودقة البحث والتطوير، فالمؤكد أن هذا التقدم لم يأخذ منحى الرقي الشامل، أي منحى الارتقاء بجوهر الإنسان من حالته الهمجية الفوضوية إلى حالة حضارية مؤنسنة تليق بالإنسان كما يجب أن يكون؛ بمقتضى الفِطرة السوية، وإنما صار بمظهر من مظاهره، وكأنه يخدم بعداً فائدته أقل من ضرره. ما يعني "أن كل خطوات التقدم اللاحقة كانت في ظاهرها وبمقدارها خطوات نحو كمال الفرد، وكانت في الحقيقة خطوات نحو هرم النوع بأكمله" ( )؛ بمعنى أن التقدم الذي حصّله الإنسان يُفترض أنه حصل في إطار قابليته للكمال التي فُطر عليها، أو استعداده الفطري للترقي في أدواته وإمكانياته من أجل تسخير الطبيعة لخدمته وسعادته، أي الترقي في ظاهره كما في باطنه أو جوهره في آن واحد، في حين أن التقدم الذي حصل بالواقع اقتصر على ظاهره فقط. أما داخله أو جوهره بما يمثله من ذات إنسانية، يوجهها ضمير مسؤول؛ بمقتضى ما ينفع أو يضر، نحو نفسه ونحو غيره، فراح يتراجع، وكأن التقدم حصل بالطريقة عينها التي ينمو فيها الطفل، حيث يصير فتى، ثم رجلاً، فشيخاً، والنهاية المحتومة الفناء. وهذا يعني على أحسن تقدير؛ أن هذا الشكل من التقدم ليس أكثر من حل بعض مشكلات الإنسان؛ على طريق تأمين رفاهيته أو تحقيق سعادته التي ينشدها من المهد إلى اللحد؛ دون أن يحققها كما يريد؛ لأن شأن الإنسان في ذلك كما جهنم تطلب دائماً المزيد؛ حتى تكون جهنم بحق. ولكن مع الأسف كما قلنا في كتابنا "من أين ندخل إلى التسامح": قلَّما يدرك الإنسان تحصيل السعادة كما يجب أن تكون؛ لأنها رهينة الإنسان كما يجب أن يكون. بمعنى أن السعادة القصوى أو السعادة الخالصة غير متاحة إلا للإنسان الذي يجب أن يكون كما يليق به أن يكون من الكمال؛ بمقتضى فلسفة الخَلْق ومشروعية الخلافة في الأرض، كما بمقتضى الحكمة أو النظر الفلسفي لدى القدماء والمحدثين، الذي يحيل تحصيل السعادة الخالصة إلى التأمل (لدى القدماء) والخلق والإبداع (لدى المحدثين)، وبالتالي إلى الإنسان المسالم، الفاعل الخلاق، الذي يسهم إنشائياً في بناء الحياة النامية. ما يعني أن أسعد الناس هم أكرمهم وأكثرهم نبلاً وأشدهم احتراماً للآخرين وأسبقهم للخير والإنجاز. ذلك لأن مشكلات الإنسان الكبرى المتمثلة بنزعات العنف والبربرية التي كانت ولا تزال تشكل أكبر وأخطر التحديات في المسيرة البشرية حتى اللحظة الراهنة، ما زالت حاضرة بقوة، لا بل راحت تزداد بوتائر وحشية متمادية؛ بقدر ما تتزايد وتائر التقدم العلمي، حيث صار بإمكان الإنسان ليس السيطرة على الطبيعة فحسب، وإنما صار بإمكانه التهديد بفناء البشرية وتدمير الحياة على كوكب الأرض. هذا فضلاً عن إنتاج وسائل قهر وظلم وعبودية ما فتئت تتجدد وتزداد فتكاً باستمرار. فلماذا انتهى مشروع التنوير إلى حداثة عرجاء (إنْ صح التعبير)، أي حداثة اقتصرت على تطوير وسائل أو أدوات لتحقيق بعض وجوه السعادة، ولم تقم بتحديث الإنسان وعياً بذاته وبالآخر، وممارسة عملية عقلانية تجاه الحياة النامية؛ حتى يستحق السعادة كما يجب أن تكون. لا بل يمكن القول: إننا كلّما ازددنا تقدماً ازددنا جهلاً بالإنسان؛ إذ "كلّما حشدنا معارف جديدة، زدنا تخلياً عن الوسائل التي بها نكتسب أكثرها أهمية، وأنه قد أصبحنا، هكذا، نبتعد عن الحال التي تمكن من معرفة الإنسان، ابتعاداً يُقاس بنسبة انصرافنا إلى دراسته"( )؟ فمشروع التنوير عندما انطلق كانت غايته - بالدرجة الأولى- تنوير أو تحديث الإنسان، أي الانتقال به من الظلام إلى النور، من البربرية والهمجية إلى المدنية والعقلانية، على أن تكون الأنسنة هي تاج المدنية ودرّة الحداثة وليست الآلات أو الأدوات فقط. فلماذا وقع هذا القصور البنيوي في عملية الحداثة؟ أو ما هو الخلل أو الخطأ الذي حصل في مشروع التنوير؟ وكيف السبيل إلى تلافي هذا النكوص الفادح؟ لقد لاحظ جان جاك روسو في زمن مبكر هذا الخلل، وقارب المشكلة من زاوية أخرى متسائلاً: "أي تجارب قد تكون ضرورية للتوصل إلى معرفة الإنسان الطبيعي (معرفة شاملة)، وما هي الوسائل لإجراء هذه التجارب من داخل المجتمع"؟. وأجاب: "إن أعظم الفلاسفة لن يبلغوا من الصلاح أقصاه حتى يقودوا هذه التجارب، ولا كذلك ذوي السلطان حتى يتولوا أمر تحقيقها؛ وعلى كل حال، لا يمكن توقع مثل هذا التعاون لكثرة ما يفترضه من المثابرة أو بالأحرى من تواتر الأنوار والإرادة الخيرة"( ). يقصد أن السبب في ذلك هو الخلل في عدم التواتر بين التقني (أي الأنوار العلمية) وما تمثله سلطة الصناعة وفكرة التقدم، وبين الأخلاقي (أي الأنوار الإنسانوية) وما تمثله الحكمة والفضيلة. وبالتالي لا بُدَّ من لجم الإنسان في إطار الدولة الأخلاقية العادلة، الدولة الإنسانية التي ترعى وتصون مكتسبات الأنسنة. ولتلافي ذلك الخلل وإقامة الرادع الفعلي للشر؛ لا مناص بدءاً من العودة إلى معرفة الطبيعة البشرية معرفة شاملة، "والحال أنه إذا ما لم ندرس الإنسان، ما لم ندرس ملكاته الطبيعية وتطوراتها المتعاقبة، فلن نستكمل أبداً لا إقامة بهذه التمييزات ولا الفصل بين ما صنعته الإرادة الإلهية وبين ما يزعم الفن البشري أنه من صنعه طيَّ التكون الفعلي والراهن للأشياء"( ). وهذا يعني أن حل هذه المشكلة تقتضي العودة مجدداً إلى ضرورة إعادة النظر في إمكانيات دراسة ومعرفة الإنسان معرفة شاملة، دراسة ملكاته ومعرفة نزعاته الطبيعية؛ حتى يتسنى ضبط إيقاعاتها بقوة القانون، مرفوداً بقوة العرف الاجتماعي، أي الأخلاق والدين والعادات. إن مشكلات الحداثة وجنوحها العدمي شغل العديد من المفكرين الغربيين الكبار، وربما كان من أبرزهم هوركهايمر وأدرنو في كتابهما المشترك "جدل التنوير – شذرات فلسفية"، الذي صدر أربعينيات القرن الماضي، وخلصا إلى أن المكننة الصناعية بما تمثله من نظام اقتصادي شديدة الوطأة بسيطرة ميكانيزماته (آليات الإدارة والإنتاج والتوزيع) على الوعي الجمعي، تستحيل معها إمكانية مقاومتها أو صدها، كونها تقدم خدمات متعددة ومتنوعة.. لذلك كله، غلبت المكننة على حقيقة الإنسان؛ سواء من حيث ما يمثله فيزيقياً، هو في المحصلة شرط رئيس كطاقة للإنتاج، أو من حيث وعيه ميتافيزيقياً بذاته وجوهر فاعليته الوجودية، أو على أقل تقدير من حيث ما يحتاجه لحفظ البقاء الكريم وتحقيق قدر من التوازن بين الواقع والممكن في إطار السعي لتحقيق السعادة المأمولة. لقد فرضت المكننة الصناعية آليات جديدة، تحكم فلسفة السوق التي كانت في مرحلة ما قبل الصناعة قائمة على التبادل، سلعة مقابل سلعة، فصارت مع المكننة آلة مقابل إنسان. ما يترتب على ذلك ليس محاكاة الآلة، وليس الامتثال من خلال الاستجابة السريعة لمتطلبات الإدارة وشروط آليات الإنتاج والتوزيع فحسب، وإنما أيضاً ضرورة الاستجابة لشروط الممكن؛ مقابل تحديات الواقع القائم، فالآلة جوهرياً هي العنصر الرئيس في الإنتاج، أما الفرد/الإنسان فبات ثانوياً أو هامشياً؛ باعتبار أن الإنسان يتعب ويحتاج لقسط من الراحة والترفيه؛ لتجديد طاقته، بينما مدى تعب الآلة يقتصر على مقدار تزويدها بالطاقة، كما أن الإنسان يمرض ويحتاج للضمان (العلاج والنقاهة)، أما الآلة فتتعطل بمقدار تصليحها. وفي النهاية الآلة تنتج أضعاف مضاعفة عمَّا ينتجه الفرد. وهذا كله لعب دوراً مضافاً إلى جانب تقهقر الجوهر الإنساني في عملية التقدم، فساعد على عملية تهميش الإنسان، ولكن جرى ستْر ذلك ببدعة مقتضيات سرعة وكفاءة التسويق من خلال الدعاية والإعلان والإعلام على العموم؛ لإقناع المستهلك/المنتِج بأن كل منتَج إنما هو حاجة ضرورية وممكنة في الوقت عينه، فيزاد خضوع الفرد لفلسفة السوق التي لا تترك له فرصة مراجعة نفسه أو التأمل بأحواله. وعلى هذه الوتيرة راحت تمضي قدماً عملية تشييء الإنسان؛ وراحت معها تتزايد وتائر تسليعه وفردانيته وصولاً إلى "عبوديته الطوعية؛ بسطوة ضغط للحاجات الوهمية الكاذبة"، حسب تعبير روبرت ماركوز في كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد". ومع كل زيادة بوتائر التقدم العلمي، راحت تتزايد معها وتائر السيطرة والتحكم ليس بالإدارة وآليات الإنتاج وشروط التوزيع فحسب وإنما أيضاً بتطويع الفرد وقولبته، بل قبوله بسيرورة التهميش الضمني التي يمضي إليها. وهذه الوتائر المتزايدة في السيطرة والتحكم هي بطبيعتها لا تأخذ في حساباتها (في اللحظة الراهنة) أي شكل من أشكال تقديم الحقيقة أو حقيقة ما يحتاجه الإنسان، لا بل لم تترك له فرصة النظر إلى نفسه كذات بداخله، وإنما صار يرى نفسه من الخارج، وبالتالي لم يعد يعرف "كيف يعيش إلا وهو داخل آراء الآخرين، ومن أحكامهم فقط يستمد شعوره بوجوده الخاص"( ). وانصرفت جهوده وكامل طاقته لتحقيق حساباتها أو ما ترمي إليه وتائر السيطرة والتحكم، على الضرورة اللازمة التي تمسك بتلابيب المستهلك أي الفرد؛ بحيث لا تترك له فرصة إمكانية المقاومة، من خلال تقديم كل الحاجات بوصفها حاجات يمكن تلبيتها، على أن يُصار من جانب آخر؛ لتنظيم هذه الحاجات منذ البداية باعتبارها حاجات ضرورية لمستهلك أزلي. وهي ديناميكية لا تُبرز للمستهلك أن ما يجري تقديمه له بمثابة تعويضات هامشية لتغريبه وتسليعه أو تشييئه وانقسامه على نفسه، وإنما تُفهمه، ما دامت الأمور على ماهي عليه؛ بوجوب الاكتفاء بما يُقدم له من دون التفكير بتبعات ما يلحق به. وهكذا تتوالى فصول مطاردة الإنسان اليومية وراء مختلف السلع، التي يجري تسويقها على أنها حاجات ضرورية لرفاهية الإنسان، وهي في الغالب الأعم حاجات وهمية تندرج في إطار الكماليات الزائدة التي تقتضيها ما يمكن أن نسميها "الوجاهة الاجتماعية الزائفة"، أو التشاوف الأجوف. (وهذا ما سنفصله لاحقاً). وبقدر ما تتدنى وعود التقنية أو الأداتية العلمية بالأنسنة، تتدنى مقادير إيضاحها للحياة بما لها من معنى متكامل، وبالقدر عينه تصبح الأيديولوجية التي تروجها من دون معنى؛ بل عدمية عبثية. حتى أن المُثُل المجردة لمجتمع متعافي ومتناغم قد صارت في زمن الإعلانات الإعلامية مُثُلاً عينية؛ لأننا تعلمنا أن نعاين جانب التجريد في الإعلان لا الموضوع. فصار الخطاب الذي يدعو للحقيقة لا يثير إلا قلة الصبر في الوصول بسرعة إلى الغرض الغائي أو التجاري الذي يُفترض أن نراه في الواقع. والكلمة التي ليست وسيلة مباشرة للتعبير عن معنى كلّي أو جوهري تبدو عبثية، أما الآخرون فوهم وكذب، أي لا وجود لهم كذوات نظيرة تستحق من الاهتمام ما تستحقه الذات أو الأنا. وبالتالي؛ صارت الأحكام القيمية تُدرَك كما يُدرك الإعلان، على أنها ثرثرة لا فائدة ترجى منها. والأيديولوجية التي تلزم اليوم أن تظل في إطار العام لا تكتسب شيئاً من الشفافية، ومع ذلك تظل فاعلة: إن عدم الوضوح هذا، هذا الرفض شبه العلمي في التركيز على ما هو غير قابل للتحقق أيا كان، يعمل بوصفه أداة سيطرة وإخضاع، ويروج بقوة ومنهجية للوضع القائم، وكأنه قدر لا فكاك منه. وفي كل مهنة راحت ترتبط المعارف التقنية مع امتثالية السلوك. وهو ما يحمل بسهولة على الاعتقاد أن المهارات التقنية وحدها هي التي تُحتسب في صالح الإنسان لا حقيقته ولا حاجاته الحقيقية. وهكذا؛ صارت في الواقع جُلَّ أهداف التخطيط اللاعقلاني للمجتمع إنما تقوم على إعادة إنتاج حياة أعضائه، بحيث يتناسب مستوى حياة كل فرد مع قوة الروابط التي تربط الأفراد والمجتمعات بنظام العمل أو آلية السوق. فصار ما يتطور في أيامنا هو نوع من الرخاء في أعلى مستوى له، ولكنه من نصيب فئة قليلة العدد في المجتمع، غير أن الجميع راح يرنو إليه، وكأنه المثال الذي يجب أن يحتذى به، فراح الفرد يلهث بإثره معصوب البصر ومعمي البصيرة. ومن أجل الحفاظ على موقعهم الخاص يحافظ الناس بداهة على إيقاع اقتصاد، يعتبر الجماهير وبفضل تقنية متطورة جداً أناساً زائدون على الانتاج. وصار العمال أو الموظفون الذين هم في الواقع عماد المجتمع بكل المعاني التنموية الاقتصادية والاجتماعية.. صاروا أشبه بالطفيليين، أي يتغذون أو يعيشون- إذا ما صدقنا الأيديولوجيا – من قبل مديري الاقتصاد والإدارة الماهرة ونعيم آليات الإنتاج والتوزيع القائمة، في حين أن هؤلاء جميعاً يتغذون بالفعل من جهد الموظفين وتعب العاملين، الذين هم بحق رافعة المجتمع الاقتصادية؟!. وعلى أساس هذه الرواية الملفقة يصبح وضع الفرد عابراً جداً. أما الإصرار على الأخلاق والفضيلة أو ما يسمى طيبة القلب، فالمجتمع يعترف بالآلام التي يسببها هو لنفسه، ولكن لا حيلة له حيال ذلك؛ لأن الجميع يعرفون أن ليس بمقدورهم في ظل هذا النظام مساعدة بعضهم بعضاً، فهم منقادون بسطوة الآداتية والانتاج والتوزيع إلى حتفهم الإنساني، ويتقبلون ذلك مهما كانت تكاليفه، ومهما بلغت المنافسة من صور التوحش والعدمية، التي نراها متجسدة بالعنف المستطير كل يوم بأشكال مختلفة، من خلال قوة آليات الإنتاج والتوزيع وديماغوجية التلفيق وسطوة تسويق الحاجات الوهمية المتسارعة والتنافس المحموم على الاستحواذ والسيطرة؛ بدافع الحق المشروع بالرفاهية أو حفظ البقاء بالحد الأدنى. "لقد أسهمت الحضارة في كل الأزمان في ترويض الغرائز البربرية. أما الحضارة المصنّعة فقامت بشيء يتجاوز ذلك، إنها تبرز الشروط الوحيدة التي تسمح لنا أن نعيش فيها حياة عديمة الشفقة. والفرد ملزم باستعمال الاشمئزاز الذي تلهمه الأشياء ليجعل منه القوة التي تسمح له أن يترك نفسه للسلطة الجمعية التي اشمأز منها. وهكذا تصير المجتمعات ضحية سهلة للنذالة والسفالة" ( ). ويصير الأفراد هم الضحايا والقتلة، أو الأخيار والأشرار في الوقت عينه. وهكذا تستحيل إمكانية أن يكون الفرد ذاتا إنسانية فاعلة بالمعاني الاقتصادية والاجتماعية. فالاستقلالية بمعنى الحرية في اختيار ما يقوم به الفرد تصبح معدومة من حيث أن الجميع باتوا عاملين، وسط حضارة من الموظفين الثانويين أو حتى العاملين الهامشيين. والموقف الذي يتعين على المرء مواجهته في هذا الوضع، هو البرهنة دون انقطاع أنه من الناحية الأخلاقية مستعد أن يكون جزءاً من الكل، وإلا مصيره النبذ والإقصاء؛ باعتبار أن الجميع هم نماذج عن ما أجبرهم نظام الإنتاج والتوزيع أن يكونوا عليه من التوهم والتلفيق، حيث بات كل فرد يعتقد أنه بإمكانه – من حيث القوة - أن يكون شبيهاً بالمجتمع كلّي القوة، كما بإمكانه أن يكون سعيداً، مع أنه سيكون مكبلاً ويزعم ادعاء السعادة. وفي ضعف الفرد يتعرف النظام الاقتصادي على قوته ليزيد من وتائرها، ومعها تزداد وتائر إخضاع الإنسان للمزيد من التشييء والتغريب والفردانية والعبثية العدمية؛ على الرغم من "أن الرغبة الإنسانية في التوحد مع الآخرين متأصلة بجذورها في شرط الوجود المميز للجنس البشري، وهي من أقوى دوافع السلوك الإنساني. لقد فقدنا - ككائنات بشرية تجمع بيننا حد أدنى من الاستجابة لحكم الغريزة، وحد أدنى من الاستجابة إلى معياريات الروح، وحد أقصى لاستخدام العقل - لقد فقدنا توحدنا الأصلي مع الطبيعة. ولكيلا نشعر بالعزلة التامة، وهي التي يمكن أن تدفعنا - حقيقة - إلى الجنون، فإننا بحاجة إلى التوحد مع الطبيعة، ومع إخواننا في البشرية"( )، حتى نحافظ على إنسانيتنا في طور مقبول من المعقولية؛ باعتبار "أن انتصار النزعة الإنسانية أو نجاحها وديمومتها، لا يتوقف على مدى الغنى الاقتصادي والتقدم التكنولوجي للمجتمع؛ بقدر ما يتوقف على مدى تقريره لِما سأدعوه حقوق الروح"( ). وذلك لأن الروح هي ملكة الفكر والخيال التي تجعل منا بشراً، وتجعل علاقاتنا أكثر ثراء من الناحية الإنسانية، وليست مجرد علاقات قائمة على الاستغلال، والسعي لتحقيق الربح والاستحواذ والسيطرة. مع الأسف؛ يحصل كل هذا الانحطاط بالنوع، ويمضي إلى العدم بوتائر متسارعة، لا تنفك تتزايد أخطارها المحدقة، ومع ذلك يسود الوهم بأن خصوصية الذات وتفردها تحفظها أو تصونها المجتمعات الحديثة، ولكنها في الواقع إنما هي خصوصية صورية، خصوصية الشوارب التي تميز الرجل، و"التنورة" التي تميز المرأة؛ لا أكثر ولا أقل. الثقافة والضمير في هذا السياق من السيطرة الإعلانية، وطغيان الحاجات الوهمية الكاذبة على الوعي الجمعي، والحرية المزعومة؛ انتشرت الثقافة التي يفترض أنها معرفة أو تنوير يختزل حياة الجماعة أو روح المجتمع، ولكن مع الأسف انتشرت الثقافة ليس بوصفها فكراً مفهومياً أو معرفة موضوعية، وإنما بوصفها معطيات سائدة أو بأحسن الأحوال بوصفها معلومات قد لا تنفع أو تضر. وبما أن تطور الإنتاج والتوزيع كما هو في اللحظة الراهنة لم يحصل مع الوقت الذي حصل فيه تفتح العقل أو تفتح الإنسان العارف الذي أنتج الحضارة، وإنما سابق عليه (من يريد التوسع عليه العودة إلى كتابنا الآنف ذكره)، فإن الثقافة بالذات قد أصيبت جراء ذلك. "وبقدر ما تكبر المسافة بين الوعي المتعلم والحقيقة الاجتماعية، فإن هذا الوعي كان أكثر تأثراً بسيرورة التشيؤ. فانتهى الأمر بالثقافة إلى التحول؛ باعتبارها بضاعة منتشرة؛ بوصفها معلومة دون أن تؤثر بالأفراد الذين يتلقونها. لقد ضمر الفكر، وأصبح محدوداً بفهم الأحداث المعزولة. أما إقامة العلاقات المفهومية فقد صارت أمراً متروكاً لما تمثل من جهد صعب ولا طائل تحته. لقد تم تناسي مظهر الفكر التطوري وكل ما هو من طبيعة ورائية وفوقية؛ إذ صار ملازماً لما هو مباشر. لم يترك تنظيم الحياة الحالية مساحة للأنا للتوصل إلى نتائج فكرية. فالفكر الذي يتسم بالمعرفة صار مُحيّداً ومستخدماً كمجرد توصيف في سوق العمل الخاص؛ بهدف إنماء قيمة الشخصية التي باتت سلعة. ولذلك فإن هذا التأمل في الذات الذي يسمح بمقاومة (نوع من) الذهان (أو عدم الاتصال بالواقع) قد صار ملازماً للعدم. ولننتهي من ذلك، إن شروط الرأسمالية المتقدمة قد جعلت وظيفة الفكر الموضوعي تحيل الثقافة إلى نصف ثقافة"( )، وربما مسختها إنْ لم تكن مسحتها بالفعل. أما الضمير الأخلاقي فيعتبر بحكم المعزول في هذا الواقع، فالمسؤولية تجاه النفس لحفظ البقاء على قاعدة ما ينفع أو يضر، أو تجاه الآخر، المرأة والطفل والعاجز والآخر عموماً، التي تطورت بصعوبة مع بدايات الحضارة الصناعية الجديدة وما أفرزته من حالة نهضوية، قد تركت المكان إلى الضرورة الثابتة بالتوجه تبِعاً لقواعد رسمية تُفرض على كل فرد؛ باعتبار "أن هذا الضمير الأخلاقي (في عصر الحداثة العرجاء) قد قام على إهداء الأنا إلى جوهر العالم الخارجي، وأن يكون قادراً على الاستحواذ على مصالح الغير الحقيقية. هذه القابلية هي قابلية التأمل باعتباره نسقاً من التقبل ومن المخيلة. وبما أن مصالح الصناعة الكبرى قد حيّدت المجال الاقتصادي عن القرار الأخلاقي (إما بإقصاء الذات الاقتصادية المستقلة، أو من خلال إقصاء قادة المنشآت المستقلة، أو من خلال تحويل العمال إلى موضوعات تتحكم فيها النقابات) فإن التفكر بحد ذاته يصاب بالضمور. والروح التي بموجبها ينال فرد نصيبه من توبيخ الضمير قد جرى إتلافها ... إن الضمير الأخلاقي حُرم من كل شيء. ذلك أن الشعور بالمسؤولية عن الفرد تجاه نفسه وتجاه من هم معه قد استبدل بإسهامه بالجهاز (أي بالنظام أو آليات السوق)؛ حتى مع استمرارية العناوين الأخلاقية (أي أن الشعور بالمسؤولية الأخلاقية بات من ضمن الشعور بمسؤوليته تجاه الحكم الذي يفرضه على المرء الجهاز الاقتصادي في دائرة الإنتاج والتوزيع). فالفرد لا يستطيع أن يعيش الصراع داخلياً بين النزوات وأن يشكل تالياً محكمة الضمير. لا وجود للشعور داخلياً بأوامر اجتماعية يضفي عليها صفة إلزام أقوى وأكثر انفتاحاً تنفتح من المجتمع لتعود وتنقلب ضده، بدل ذلك ما يحصل يوازي التماهي المباشر مع سلم القيم الجديدة"( )، التي تفرضها التقنية والأداتية العقلانية. إن العناصر الاجتماعية تكون مهيأة لذلك من الناحية الاقتصادية؛ باعتبار أن الجميع تعلموا كيف يرون الأمور من خلال النماذج - دون إخضاعها لأي تفكير- من خلال تعابير تقنية تشكل باستمرار الحد الأدنى المتبقي من لغة في طور التفكك. وهكذا يصبح فاعل الإدراك غائباً في سيرورة الإدراك، من حيث أنه لا يمارس الفاعلية النقدية في العملية المعرفية، حيث العناصر الخاصة بالمقولات أو المفاهيم تترك نفسها لنماذج ما هو معطى بشكل مسبق محدد الشكل، وحيث يعاد نمذجة هذه المعطيات من خلال هذه العناصر، بحيث يصبح المنطق أو العدالة موازية للموضوع المدرك، وكأنهما سيان للامنطق وللاعدالة. "إن نزعة بذل جهد عبر إطلاق حكم ما، تتبدد، ومعها يتبدد الفارق بين الخطأ والصواب. وبقدر ما يصبح الفكر في ظل شكل متخصص ممثلاً للعدة الضرورية في تقسيم العمل، حينها سيصبح مشبوهاً كما لو كان الكماليات الزائدة. وبقدر ما يؤدي التطور التقني في جعل العمل الجسدي أمراً زائداً، بقدر ما ينسحب هذا العمل إلى عمل ذهني يجب بكل الوسائل منعه من استدرار النتائج المترتبة له"( ). وهذا يحيلنا إلى نتيجة واحدة: لقد صار الفرد عائقاً أمام الإنتاج. وما شرحه علماء الاجتماع على مستوى عدم التزامن التطوري التقني والإنساني والتخلف الثقافي؛ قد بدأ بالاختفاء، حيث أن العقلانية الاقتصادية أو العقلانية الأداتية التي طالما امتدحت في بدايتها، راحت تعيد نمذجة وحدات الاقتصاد الكبيرة المنشأة إلى جانب الإنسان، وبالتالي راحت تُنَمْذج الإنسان نفسه؛ عندما أزاحت جانباً العقلانية الأخلاقية أو العقلانية الإنسانية. فصار الشكل الأكثر تطوراً هو الشكل المسيطر، وهو هنا الآلة وما تفرزه من آليات الإنتاج والتوزيع. والفرد/الموظف أو العامل الذي حررته فلسفة السوق أو آليات الإنتاج والتوزيع من الوصاية الأخلاقية فلم يعد يهتم إلا بنفسه، بوصفه يبيع خدماته في سوق العمل، وبالتأقلم مع الشروط التقنية الجديدة وبالإجهاد اللازم لِيُحقق دون ملل النموذج المثالي، نموذج الإنسان الاقتصادي الناجح! أما الإنسان من وجهة نظر التحليل النفسي الذي يتألف من نظام ديناميكي معقد، من الوعي واللاوعي، ال"هو" وال"أنا" وال"أنا الأعلى" المتصارعة، فإن الرقابة الاجتماعية (عبر وحدات فكرية أو ميكانيزمات ثقافية مطلقة، أخلاقية أو دينية) تحفظ الأنا في صراعها مع الأنا الأعلى، أي تضبط النزوات داخل حدود الحفاظ على الذات وما هو ممكن أو متاح في الواقع. وهو ما جعل العلاقات بين الذوات الحرة نسبياً والتي يقوم عليها اقتصاد السوق؛ تبدو وكأنها ممكنة بصورة طبيعية. إلا أن صراع الأنا والأنا الأعلى مع ال"هو"، أي مع الآخر، راح يزداد هوة في زمن الحروب العالمية والتجمعات الصناعية الكبرى، فراحت تتراجع وساطة السيرورة الاجتماعية الرقابية التي تتشكل من ميكانيزمات ثقافية مختلفة كما أسلفنا. وبالتالي لم يعد للفرد أن يقرر فيما خص جدل الضمير الأخلاقي الداخلي، وحفظ بقاء الذات والنزوات. فالقرارات التي تخص الإنسان الفاعل قد صارت بيد التراتبية التي تمتد من التجمعات الصناعية الكبرى وآليات الإنتاج والتوزيع حتى الإدارة الوطنية أو الدولة، والجمهور ملزم باستهلاك ما يقدم له؛ باعتبار أن التجمعات بما تمثله من إنتاج، والمشاهير بما يمثلونه من قوة إعلانية، أخذت دور الأنا والأنا الأعلى، وفقدت الجماهير شخصيتها ولم يبق أمامها إلا الامتثال للأمر وللنماذج التي تعطى لها. وبات التأقلم اللاعقلاني مع الواقع أكثر عقلانية من العقل بالذات. "إن تقدم المجتمع الصناعي الذي يدعي أنه جاء مع نهاية قانون الإفقار الذي أوجده هذا المجتمع بالذات قد قتل الفكرة التي تبرر كامل النظام: الإنسان بوصفه شخصاً، الإنسان بوصفه ممثلاً للعقل قد تم إلغاؤه. إن جدل التنوير قد انقلب موضوعياً وتحول إلى جنون"( ). فلم تعد هناك ميكانيزمات ثقافية/اجتماعية رقابية أو مرجعيات أخلاقية أو دينية؛ لقد صارالأفراد يتلقون قيمهم من السلطة الفعلية أي العقلانية الأداتية التي يفرضها النظام الاقتصادي، كما يتلقى المستهلكون "الهامبرغر" من ماكدونالد، عبر منهجية إعلانية كاسحة ومنظمة. ما يعني أن معنى الحقيقة الواقعة والتأقلم مع السلطة ليس نتيجة جدلية بين الذات والواقع، وإنما بات الأمر محدداً بالآليات الصناعية أو التقنية، التي لم يتحقق انتصارها بإعطاء الفرد كفايته، وإنما بتنحيته جانباً كذات إنسانية. وبذلك تتحقق عقلانيتها (أي العقلانية الأداتية) الكاملة التي تتحد مع الجنون. وهذا الأمر (أي مآلات الحداثة الجهنمية) دفع مبكراً بالعديد من علماء الاجتماع، وبخاصة جماعة "مدرسة فرانكفوت" إلى اعتبار أن الميثولوجيا عادت وحلَّت في مجال الدنيوي في العالم المتنور؛ بحيث يعاود الوجود الذي تخلص من كل الشياطين، ومن مخلفاتها المفهومية، إيجاد حالته الطبيعية في الحضارة الراهنة، ويتخذ السمة المقلقة التي ألصقها العالم القديم بالشياطين. بمعنى أنه "في ظل الوقائع الفظة يصبح الظلم الاجتماعي الذي منه انبثقت هذه الوقائع؛ مقدساً لا مساس به، تماماً كما كان الرجل (المشعوذ) الذي يمارس الطب في ظل حماية آلهته. لم يكن لسيطرة الإنسان من نتيجة تغربه عن الموضوعات التي يسيطر عليها وحسب؛ فمع تشيؤ العقل تصبح العلاقات بين الناس وعلاقة الإنسان بذاته بمثابة علاقات مسحورة؛ بمعنى أن العلاقات الاجتماعية، وحتى علاقة الفرد مع نفسه، لم تعد قائمة على أسس أخلاقية (أصيلة بالأعراف والعادات) في الحالة الأولى، وعلى أسس عقلانية (في الحالة الثانية)، وإنما هي في الواقع صارت قائمة بمقتضى ميكانيزمات تلقائية أو أتوماتيكية لا تحتاج إلى التفكير أو المساءلة النقدية. إن الفرد الذابل يصبح نقطة التقاء ردات الفعل والسلوكات الانتقائية المنتظرة منه عملياً. لقد أعطت الإحيائية في زمن النهضة الأول روحاً للشيء، أما الانتماء للصناعة في زمن الحداثة الراهنة فقد حول الإنسان إلى شيء. وبانتظار التخطيط الكلي تعطي (الأداتية أو) الأداة الاقتصادية من ذاتها قيمة للطبائع، قيمة تحدد سلوك الناس. فبعد أن فقدت البضائع صفاتها الاقتصادية مع نهاية نظام المقايضة؛ باستثناء السمة السحرية، صارت هذه تطال كل مظاهر الحياة الاجتماعية التي تثبته باضطراد. ألزمت وكالات إنتاج الجمهور والحضارة التي أوجدها الإنسان بسلوكيات مبرمجة كما لو كانت هذه السلوكيات وحدها الطبيعة المناسبة والعقلانية. وصار الإنسان لا يتحدد إلا بوصفه شيئاً، أو عنصراً إحصائياً ينجح أو يفشل. معاييره هي حفظ البقاء والاندماج الناجح أو الناقص مع موضعة وظيفته ومع النماذج التي أتيحت له. "أما ما تبقى من أفكار أو من جنوح فيخضع لمعارضة الجماعة التي تعلي من شأن العناية (العلمية) بدءاً من المدرسة وصولاً إلى النقابة. إلا أن هذه الجماعة بالذات ليست إلا المساحة الخادعة، وتحتها تنطوي القوى التي تقود للحركة مع ما يرافقها من عنف. أما فجاجتها التي تبقي الإنسان في وظيفته فهي ليست معبرة عن صفة الإنسان، كما أن القيمة لا تمثل صفة الأشياء المستعملة. يحيلنا الشكل الشيطاني الذي يخضع له الإنسان (المعاصر) والأشياء على ضوء المعرفة الخالية من الأحكام المسبقة إلى السيطرة، إلى المبدأ الذي تنتجه القوى الحية في الأرواح والآلهة، والذي يزهر في أعين السحرة ومن يمارسون الطب" ( ) بالشعوذة والخزعبلات. ما يعني أن التنوير؛ بمعنى من المعاني، بات مهدداً بزحف الأساطير، إذ يكتشف حضوره لا في المفاهيم والمقولات أو الكلمات، التي تظل غامضة كما يتخيل السيميائي؛ بل في كل مطلب إنساني لا يقع في إطار حفظ البقاء الغائي. ولكن مع الأسف "إن من يكتفي بالحياة دون معيار عقلاني يتناول حفظ البقاء، إنما يتراجع إلى مرحلة ما قبل تاريخية. بالنسبة للتنوير تعتبر الغريزة بوصفها غريزة أمراً أسطورياً يوازي الوهم: أن تخدم إلهاً لا تقوم الأنا بتمثله لهو أمر عبثي يوازي الارتماء إلى الشراب... وبقدر ما تتأمن سيرورة حفظ البقاء عبر التوزيع البرجوازي للعمل بقدر ما يفترض ذلك آليته- ذاتية عند الأفراد الذين يتوجب عليهم إعادة تطويع أجسادهم وأرواحهم تبعاً للتجهيزات التقنية. وبالمقابل يأخذ الفكر المتنور كل شيء بعين الاعتبار: وفي نهاية الأمر يبدو أن ذات المعرفة المتعالية قد تم التخلي عنها كما لو كانت آخر إحياءات الذاتية وقد استبدلت بالعمل السهل... إن السيرورة التقنية التي تشيأت الذاتية فيها بعد أن استلت من الوعي قد تمنعت ضد غموض الفكرة الأسطورية وكل دلالة بشكل عام. ذلك أن العقل بالذات ليس أكثر من مساعد للآلة الاقتصادية التي تشمل كل شيء، إنها تعمل كما لو أنها أداة كونية تناسب صناعة كل الآلات الأخرى العقلانية المحضة المثقلة بالأخطار؛ شأن مداولات الإنتاج المادي المحسوبة والتي لا يمكن للناس احتساب نتائجها"( ). وهكذا ينتهي الأنا الذي يخضع كلياً لسلطان الحضارة، حينما يتحلل لعنصر اللإنسانية التي تحاول الحضارة الانفلات منه. وإذا كانت عملية التنوير تعني حفظ البقاء وحماية الذات من التشييء فمع تطور النظام الاقتصادي، حيث السيطرة للجماعات الخاصة الضاغطة على الآلة الاقتصادية قد قسمت الناس، فصار حفظ البقاء كما تأكد بواسطة العقل والنزوات المتشيئة عند الأفراد البرجوازيين.. صار قوة طبيعية هادمة لا انفصال لها عن الفناء الذاتي. فالعقل المحض صار لا عقلاً؛ بمعنى أنه بات طريقة في التصرف دون خطأ، ولكنه دون جوهر يمضي إليه. المراجع والإحالات: 1 - راجع: برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ميتافيزيقا أفلاطون وأرسطو، ت- زكي نجيب محمود، مؤسسة هنداوي، ط-2017. 2 - جون بيوري، حرية الفكر، المركز القومي للترجمة – القاهرة، ت- محمد عبد العزيز إسحاق، ط-2010، ص-49. 3 - أريك فروم – الإنسان من أجل ذاته، ت- محمود منقذ الهاشمي، ص- 229 (مع الأسف النسخة الإلكترونية لم يرد فيها تاريخ النشر ولا اسم الناشر). 4 - برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ص-20-21-22-23. - محمد الشيكَر، هايدغر وسؤال الحداثة، إفريقيا الشرق، ط - 2006، ص -11. 6- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص-11. 7- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص-13. 8- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص 79. 9- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص-20. 10- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع اسابق، ص- 25. 11- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص- 24. 12- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص 25. 13 - هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص 26. 14- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص 27-28. 15- هايدغر وسؤال الحداثة، مرجع سابق، ص 56 - 57. 16 - جان جاك روسو "خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر" ت، بولس غانم، مركز دراسات الوحدة العربية، ط، 2009، ص، 126. 17- روسو، خطاب في أصل التفاوت، مرجع سابق- ص،52. 18- روسو، خطاب في أصل التفاوت، مرجع سابق – ص، 54. 19 - روسو، خطاب في أصل التفاوت، مرجع سابق- ص، 59. 20- أدرنو – هوركهايمر، جدل التنوير، ت- جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط - 2003 - ص، 157. 21- هوركهايمر – أدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، مرجع سابق، ص - 178. 22- إريك فروم، الإنسان بين المظهر والجوهر، عالم المعرفة العدد 140، ط-1989، ص-96. 23- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي، ت-هاشم صالح، دار الساقي، ط-1997، ص39. 24 - هوركهايمر – أدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، مرجع سابق، ص - 231. 25 - هوركهايمر – أدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، مرجع سابق، ص - 232. 26- هوركهايمر – أدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، مرجع سابق، ص-236. 27 - هوركهايمر – أدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، مرجع سابق، ص - 238. 28- هوركهايمر – أدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، مرجع سابق، ص 49- 50. 29 - هوركهايمر – أدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، مرجع سابق، ص 51-52.
#محمد_وردي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكاليات اصطلاحية أم قصور بالمعنى والوعي
-
نتيجة المقارنة بين ابن رشد وابن بيه
-
العقلانية الإيمانية ما بين ابن رشد وابن بيه
-
التنوير بالمحبة والإحسان في بناء الإنسان
-
شيخ الإنسانيين.. التنوير بالحكمة والشريعة
-
سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه
-
سردية السلم والتنوير والأنسنة والغواية العقلانية الإيمانية
المزيد.....
-
لص غير متوقّع.. دب أسود يفتح باب سيارة بمهارة مدهشة
-
تحت الشمس الحارقة.. صور توثّق أناقة ودقّة وقوّة راكبات خيل م
...
-
انتبه إذا كنت ممن يرغب بالهجرة للولايات المتحدة.. تفاصيل فحص
...
-
خيام تتحول إلى غرف أخبار: هكذا يعيش ويعمل صحفيو غزة
-
قمة ثلاثية محتملة بين ترامب وبوتين وزيلينسكي في بودابست
-
وزارة الدفاع الإسرائيلية تقر خطة السيطرة على مدينة غزة وتستد
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يصادق على خطة السيطرة على مدينة غزة و
...
-
مينار وجوبينو ومولينا ولوري الأربعة الذين أسسوا -مراسلون بلا
...
-
سيباستيان سولورزا.. ممثل تحدى متلازمة داون ويطمح لرئاسة تشيل
...
-
تقرير: أفريقيا تواجه عالما يتقلص فيه الدعم الدولي
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|