|
التنوير بالمحبة والإحسان في بناء الإنسان
محمد وردي
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 16:29
المحور:
قضايا ثقافية
تتعالق قيم "المحبة" و"الإحسان"، و"السلم" في خطاب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه بوشائج إنسانية عصية على الانفكاك، وهي حاضرة في مختلف مفاصل الخطاب؛ سواء على مستوى التجديد في الخطاب الديني وتصحيح المفاهيم الإسلامية، أو على مستوى تأصيل السلم في الإسلام. ويمكن اعتبارها بحق؛ علاقة اللازم والملزوم، من حيث التكاملية في النفي أو التواصلية في ما بينها، فكل واحدة من هذه القيم تعطي الأخرى معناها الأسمى في التعبير وقيمتها الأثرى في التصوير؛ بل كل واحدة تعطي الأخرى كمالها على مستوى الفاعلية أو التأثير، أي الاستجابة الوجدانية التي تجمع ما بين القلب والعقل على هدي النظام اللغوي القرآني في اليُسر أو التيسير؛ بقدر المستطاع الإنساني. وفي الوقت عينه إن غياب كل واحدة من هذه القيم يمكن أن ينفي الأخرى طردياً؛ بمعنى أنه لا قيمة لواحدة دون الأخرى، فالسلم لا معنى له من دون محبة، والمحبة لا قيمة لها من دون إحسان، كما أنه لا مكان للمحبة والإحسان من دون سلم أو أمان، وبالتالي لا مكان للحياة النامية، الطيبة؛ من دون محبة وإحسان وسلم. لذلك باتت في الخطاب "الدعوة إلى السلم أحق (...) فما كل عدل أو حق أو إيمان أو طغيان لا يبرر وسائل أسوأ ونتائج أردأ (...) لأن البحث عن السلم حق؛ بل هو أحق في كثير من الأحوال من الحقوق الحقيقية أو المزعومة؛ لأنه حق الكافة في الحياة والراحة في الحركة والسكون والسعي في مناكب الأرض"( 1). والسلم أحق لأنه يصون حق كلّي الإنسان من حيث المعنى، أي حقه بالوجود كما يقول ابن عربي؛ باعتبار أن "الحق الذي يتجلى في جميع صور الوجود يتجلى في الإنسان في أعلى صور الوجود وأكملها. وهذا ما جعل الإنسان مقدماً على سائر المخلوقات؛ بما فيهم الملائكة، ومنهم من استكبر السجود لأدم بعلية أصل الخلق، ومنهم من استنكر السجود بذريعة التسبيح والتقديس؛ دون أن تعلم أن كل موجود يسبح الله ويقدسه؛ بقدر ما يتجلى فيه من صفات الكمال الإلهي التي هي الصفات الوجودية. وهنا لا فرق في ذلك بين صفات الجمال وصفات الكمال. فالإنسان في أعلى مراتب الكمال، ولم تجتمع كمالات الوجود العقلي والروحي والمادي إلا بالإنسان. ولذلك ربط النبي صلى الله عليه وسلم معرفة الحق بمعرفة النفس فقال "من عرف نفسه عرف ربه"(2) ما يعني أن معرفة النفس تتقدم معرفة الله؛ لأنها نتيجة عن معرفة النفس. والخطاب في ما يرومه؛ إنما هو يتقصد "خير الإنسان للإنسان"؛ بتعبير فلسفي. وذلك تأسيساً على مقصود الحكمة والشريعة في تحقيق السعادة على أساس من المحبة والإحسان والوئام والسلام بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ باعتبار أن الآخر "أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْقِ"، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أي نظير لك بالإنسانية. وكذلك انطلاقاً من فِقه المقاصد في الرعاية أو العناية بمصالح الإنسان؛ باعتبار الشيخ عبدالله بن بيه علّامة مقاصدي بامتياز، يثق ثقة العارف الحكيم، بأن "نهر السلم لا بُدَّ أن يمر بالعالم ويروي عطاش المحبة (...). لأن السلم يُوجد بيئة الحب والسعادة والانتماء إلى الأمة والوطن والانخراط في مصالحه، وهو قبل كل شيء مصالحة مع الذات قبل أن يكون مصالحة مع الغير، إنه قِيم ونِعم لا يدركها إلا من ذاق طعم الحرب"(3). أما كيف تتعالق قيم "المحبة"، و"الإحسان"، و"السلم" على مستوى التجديد في الخطاب، فذلك لأنه "لا مفر ولا بديل عن تجديد صياغة الخطاب الديني؛ بإعادته إلى أصوله، وإعادة تركيب المفاهيم الحقيقية الصحيحة لغة وعقلا ومصلحة، ومقاربة إعادة برمجة العقول وتوجيه الإرادة إلى البناء بدل الهدم، والإيجاد بدل العدم (...). فبهذه المنهجية الجديدة وحدها، يمكن معالجة الأخلال؛ كاجتزاء النصوص، والإعراض عن الكليات في تصور مفاهيم دقيقة عظيمة الأثر في استقرار المجتمعات المسلمة، وفك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وبين الأول منهما ومنظومة المصالح والمفاسد، وإغفال سياقات التنزيل عامةً وخاصةً، والغفلة عن سُنن الله عز وجل في الاجتماع والتاريخ البشريين. إن هذه المنهجية الجديدة كفيلة بمصالحة المسلمين مع ذواتهم ومع غيرهم؛ ليشاركوا البشرية ما وصلت إليه من قيم، هي في حقيقتها تجسيد؛ لِما سبق في علم الله من قابلية بني آدم للخير والنبل، وما أودع في فطرتهم من بحث عن المحبة والتعارف والسلم" (4). إذن، غرض التجديد إنما هو البحث عن المحبة والتعارف والسلم، تأسيساً على الخيرية الوجودية الأولى، التي قامت من دون سببيات ضرورية أو حتميات طبيعية، أي قابلية الكمال الكامنة في فطرة الخلق، التي سماها ابن رشد الحفيد، "أوصاف الكمال الموجودة في الإنسان، وهي سبعة: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام"(5). أما على مستوى كيفية تعالق قيم "المحبة" و"الإحسان" في تأصيل "سردية السلم" في الإسلام، فهو كما سبق ونصَّ الخطاب: "أن السّلام هو النهج وهو الغاية (...). وهو معنى عظيم يقوم في النفوس محبة وشفقة وأخوّة، ويُظهر على السلوك تعاوناً وتضامناً". مستلهما في ذلك المنطوق القرآني من جهة أولى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، و"أدخلوا في السلم كافة"، والمأثور النبوي الشريف من جهة ثانية: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار". فبذل السلام للعالم، هو عبارة كريمة أو لفظ شريف.. عبارة كريمة؛ لأنها تفيض بالسماحة من نفس سمحة، هي نفس أكرم الناس؛ بل خير الأنام طراً. أما أنه لفظ شريف، فذلك لأنه يتغيا معنى شريفاً، كما تقول العرب. ولذلك يقرر الخطاب: إن الله سبحانه وتعالى هو السلام، ونبينا نبي الرحمة ورسول السلام، رحمة في الأولى والآخرة، وسلام في الظاهر والباطن، سلام في النفوس وفي القلوب وسلام مع الذات ومع الآخرين، وهو الذي أمر بإفشاء السلام كما في الحديث الصحيح: "لا تدخلوا الجنـّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم". وأمر بقراءة السلام كما في الحديث المتفق عليه: أيّ الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". والسلام هنا ليس لفظ السلام فقط كما أشار إليه الحافظ بن حجر، وإنما السلام هو الأخلاق وأسباب المحبة"(6). ما يعني أن السلام هو المهاد الخصبة للمحبة والإحسان. ولمّا كان الإحسان شرط لازم للمحبة، كانا لا بُدَّ أن يكونا معاً عنواناً للسلام. فالمحبة تبعث الحيلة من العدم، وتصون النفس من الندم، وتحمي الروح من الألم. أما الإحسان فهو نعمة النِعَم؛ بل زينة الإنسان، حيث تفيض الذات؛ بمآثر الهُدى وكريم الندى وخالص الرجاء في غيث السلام.. وهكذا تتعالق القيم الثلاث في الخطاب بأسلوبية تتشابك فيها أصالة المعنى مع سلامة المبنى؛ بتناغم وانسجام يتماهيان مع فلسفة الخَلْقِ وبدائع الوجود وجمال الموجودات.
النظر في الطبيعة البشرية يتركز الخطاب بادئ ذي بدء على النظر في الطبيعة البشرية، من حيث مقاربة النفس أو الذات الإنسانية، وما يمكن أن يتناهبها من قلق وحيرة في كل الأزمان، وبخاصة في زمن "العولمة" الذي يشهد "تغييرات هائلة من الذرّة إلى المجرّة"؛ بتعبير الشيخ الجليل، وما يترتب على ذلك من تبِعات تتناهب الإنسان المعاصر. ويسميها الخطاب، "رباعية التجاذبات"، وهي: "التجاذب بين حفظ النَّفْسِ والمال، ومنطق العلم والسوق، واليقين والشك، والضعف والقوة"(7). ولذلك تتقدم سردية السلم في معالجة هذه المشكلات، قيمتا "المحبة" و"الإحسان" في الخطاب؛ باعتبارهما سبيلاً ميسراً لطمأنينة وسكينة النفوس. ولا ينفك الشيخ المجدد يؤكد عليهما في كل ما أصدره من أدبيات فقهية وفلسفية، ويكررهما على اختلاف المحافل والملتقيات أو المناسبات؛ باعتبار أن "الأخلاق الدينية ما تزال قادرة على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية، من خلال تقديم مفهوم جديد للإنسانية يتجاوز المبدأ المحايد لحقوق الإنسان إلى إيجابية قيم المحبة والأخوة"(8). والإنسان ليس أمامه للرفق بنفسه وحياته أو حياة سواه، أكان قريباَ أم بعيداً؛ سوى الامتثال للفضيلة أو الأخلاق الدينية لأنها قائمة في أصل مُركّبه الإنساني، فالتدين ديدنه منذ أن درج على هذه الأرض؛ برأي الحكماء المعاصرين والقدماء. وهذا الأمر يحيلنا إلى ما يمكن أن نعتبرها حقيقة بشرية، وهي أن الإنسان "ليس حراً في أن تكون لديه أو لا تكون لديه مُثُل (أو معتقدات)، ولكنه حر في أن يختار بين أنواع مختلفة من المُثُل (أو المعتقدات)، بين أن يكون متفانياً في عبادة القوة والتدمير، أو أن يكون مخلصاً للعقل والحب"(9).
التدرج في الأخلاق القرآنية
ربما ما يجعل العلاّمة الشيخ عبدالله بن بيه أحد أهم رموز الفلسفات الأخلاقية على مستوى العالم في المرحلة الراهنة، وبخاصة على مستوى إعادة بناء إنسية الإنسان على أساس ما سبق، إنما هو جهده المائز في إطلاق "ميثاق حلف الفضول العالمي الجديد"، القائم في جوهره على قيمتي المحبة والإحسان، الذي أصدره "منتدى أبوظبي للسلم"؛ بمشاركة ممثلين عن مختلف الأديان السماوية والوضعية ونخبة رفيعة من الحكماء والعقلاء الإنسانيين. وهذا الأمر لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ في استناد بنود الميثاق إلى الأبعاد القيمية والأخلاقية في الطبيعة الإنسانية وفي مقدمتها قيم "المحبة" و"الإحسان" و"السلم". فالميثاق يستلهم جوهر حلف الفضول (أو الفضائل) العربي القديم، الذي قام بمكة في مطالع القرن السابع الميلادي قبل الإسلام، ويمكن تلخيصه بدقة وأمانة: رعاية وضمان أخلاق المروءة والتراحم والضيافة والجوار ونصرة المظلوم وإنجاد المستضعفين. وهذه كلها تختزلها القيم الثلاث الآنفة الذكر. وإذا كان ذلك ممكناً في القرن السابع الميلادي، فلماذا لا يكونُ ممكناً اليوم وعلى المستوى الأوسع، فالعالم أجمع مُخاطَبٌ بهذه السردية، لا بل مطالب بالالتزام في هذا الحلف الإنساني، أو "العهد" أو "الحلف" الأخلاقي الجديد، القائم على قيم "المحبة" و"الإحسان" و"السلم". ذلك لأنّ المجتمعات البشرية تمتلك مشتركاتٍ أخلاقية كبرى، وهي تنفتح على كل الأديان والثقافات الأخرى، نظراً إلى الطبيعة البشرية من حيث قابلية الكمال، بالإضافةً إلى النزعة الإنسانية التعارفية الشاملة؛ وفق المنطوق القرآني، "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا".
المؤكد أن قيمتي "المحبة" والإحسان" لهما مكانة سامية في الخطاب، من حيث الاعتبار والتقرير بقطعية تأويلية، دلالية ومفهومية، مؤسسة على معرفة بالحكمة القرآنية. ذلك لأن أخلاق القرآن تتدرج على ثلاثة مراحل، "ففي المرحلة الأولى يوقظ التوجيه الإلهي شعورنا بالحب، ذلك المحرك الممتاز، كيّما يدفعنا قدماً في طريق تحقيق القيم الإيجابية( 10). ولذلك يقرر الخطاب: "أن الحبّ قيمة من أعظم القيم، وشيمة من أمثل الشيم، فهو وحده الذي يقوي روح التواصل، وينسج لحمة التضامن والتكافل، ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل"(11). وهو ما يجعل "الحب في غاية الصلاح؛ لأنه يصلنا بخيرات حقيقية، ويعطينا كمالاً موازياً لها. وكل ما يستطيع الحب الشديد والأكثر تطرفاً أن يفعله هو أن يصلنا بالتمام بهذه الخيرات؛ حتى أن الحب الذي نخص به ذواتنا لا يقيم أي تمييز بينها، ولا يمكن أن يكون سيئاً. هذا الحب يتبعه بالضرورة الفرح؛ لأنه يصور لنا ما نحبه كخير ينتمي لنا ويخصنا"(12). فهذا هو شأن العقلاء والحكماء على مدى سيرة الحكماء الإنسانيين في التاريخ البشري. يتقصد خطاب الشيخ عبدالله بن بيه استثارة "الوجدان الإنساني"، تأسيساً في محاولة علاج أسقام النفس من أصولها؛ باعتبار "أن الأصل يأتي على الفروع. أما علاجها من فروعها، فلا يقدم دواءً شافياً من الأسقام؛ وإنما قد يفاقم المرض"، كما عبَّر الشيخ بنفسه في مواضع عدة من الخطاب. ولما كان الأصل في أسقام البشرية كامناً في النفس، فالخطاب (عموماً) يروم غرس قيم الخير على قاعدتي "المحبة" و"الإحسان" في الأصل الإنساني، أي في وعي وروح الإنسان؛ باعتبار أن الخير (كما ورد في التمثلاث التاريخية للعلماء والمفكرين المسلمين) من النوافل، والنوافل لا تخلو من خلائق السوء، ولذلك وجب تقويم أو إصلاح النفس قبل عمل الخير؛ لأن الخير إذا خالطه الشر أصبح شراً كله، والإنسان بحكم المستطاع الإنساني، الذي انبنى عليه اليُسر أو التيسير القرآني، إنما هو مطالب بترك الشر كله، وليس مطالباً بفعل الخير كله. إذن؛ الإضاءة أو الكشف في الخطاب عمَّا يعتري النفس، وهو بمعظمه يرتبط بالخوف من المستقبل، أو بحث المرء عن جاه أو نفوذ، أو في أقل الأحوال البحث عن رفاهية؛ يظن أن غيره ينعم بها، وهو يشقى ليل نهار ولا يلحق الكفاف، هو من أبرز أو أهم الأسباب التي تجعل روح الإنسان تضيق به. ولكن من أين للإنسان الاستهلاكي أن يكون لديه الوقت، أو تكون لديه الفرصة للتأمل ولو لهنيهات قصيرات؛ لعله يدرك حقيقة أن مثل هذه الرغبات لا قيمة جوهرية لها، وفق المعادلة الصفرية (إذا صح التعبير)، التي نحتها الخوارزمي، التي تقول: "إذا كان الإنسان ذا أخلاق فهو = 1. وإذا كان ذا جمال، فأضف إلى الواحد صفراً، فهو = 10. وإذا كان ذا مال، فأضف صفراً آخر، فهو = 100، وإذا كان ذا حسب ونسب، فأضف صفراً آخر، فهو= 1000. وإذا ذهب العدد واحد وهو الأخلاق، ذهبت قيمة الإنسان، وبقيت الأصفار". ومع ذلك فالرغبات تنقسم إلى "رغبات نشطة (بالمعنى الإيجابي) وأخرى سلبية. فالرغبات النشطة هي المغروسة في شروط وجودنا الطبيعي وليس المرضي (وهي التي تندرج في الخيرية الوجودية الأولى، أو في إطار قابلية الكمال). أما الرغبات السلبية فليست لها هذه الجذور، وإنما تولدها ظروف وملابسات داخلية أو خارجية تشوه طبيعتنا. الرغبات الأولى موجودة بقدر ما نحن أحرار، أما الأخرى فتسببها قوى داخلية أو خارجية. وكل الوجدانات النشطة هي بالضرورة خيرة: بينما الأهواء يمكن أن تكون خيرة أو شريرة. ويرى سبينوزا أن النشاط، والرشاد، والحرية، والسعادة، والفرحة، والكمال - كلها خصال – مترابطة برباط لا ينفصم بمثل ما تترابط السلبية، واللاعقلانية، والاسترقاق، والحزن، والعجز والنوازع المضادة لمتطلبات الطبيعة البشرية (...) و"إذا حركت الإنسان أهواؤه اللاعقلانية فإنه مريض عقلياً. ودرجة تحقيق النماء الأمثل لا تعني فحسب تحقيق درجة نسبية من الحرية والقوة والرشاد والفرحة، وإنما تعني أيضاً أننا أصحاء عقلياً. وبقدر ما نفشل في تحقيق هذا الهدف يكون شعورنا بفقدان الحرية، والضعف واللاعقلانية والكآبة"( 13). ما يعني أن الخير الحقيقي، الذي يمكن أن يحمينا من متاهة التشييء والتسليع، وعبودية الحاجات الوهمية الكاذبة (أي مقتضيات الوجاهة أو التشاوف والعنجهيات الفارغة)، وهيمنة الآداتية، وسطوة الإدارة والإنتاج أو ميكانيزمات التصنيع والتوزيع.. وكل رزايا الحداثة العرجاء، التي تعالت أو تطاولت في كل شيء ولكنها تقاصرت بالإنسان، وهي الأصل والفصل في محنة الإنسانية، التي أشار إليها العديد من المفكرين المعاصرين، وفي مقدمتهم الشيخ الجليل عبدالله بن بيه، الذي يؤكد أن "الإنسانية تشهد انفصاماً حادّا في منظومة الإنتاج والتوزيع بين فلسفة الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إلهية أو إنسانية نبيلة، وغدا الإنسان مخلوقا جسديا، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، لا ينظر في المآلات؛ إلا مآلات الربح من دون روح، والثروة من دون رائحة"( 14). وهنا يبدأ شقاء الإنسان أو تبدأ رحلة غربته وبيْع روحه لشيطان الاستهلاك، فيستوطن الشر في النفس، "ولا يسلم يا أخي من شره إلا من هرب من مواطنه، وعمل وهو لا يحب أن يطلع له مخلوق على عمل، وإن اطلع له على عمل وهو لا يحب اطلاعه، فمن صدقه: ألا يجب أن يحمده ذلك المخلوق على ما اطلع عليه من عمله. وإنْ حمده وهو لا يحب حمده، فلا يُسر بحمده له على عمله؛ فإنْ سره فلا يُسرنَّ لمعنى الدنيا بسبب من الأسباب"(15). هذا هو جوهر ما يرومه خطاب الشيخ عبدالله بن بيه؛ سواء على مستوى التجديد والإصلاح أو التقويم، أو على مستوى تقديم سردية جديدة للسلم العالمي، فالغرض إنما هو التنوير على أساس قيمتي "المحبة" و"الإحسان"، كما يؤكدها الشيخ الجليل في مبادئ "حلف الفضول العالمي الجديد"، التي تقوم على "قيم المحبة والرحمة والإحسان على الإنسان، وهي قيم ترتقي بالتسامح إلى مرتبة الإخاء، وبالمساواة في المواطنة إلى مرتبة التكافل والتكامل"( 16). وذلك لأن السعادة الخالصة، بل أرقى وأنبل أشكال السعادة، إنما هي المحبة والعطاء، ومن خلالهما نستطيع أن نستأصل إمكانية النزاع، ونستنبت بذور التعاون في الروح الاجتماعية؛ لتنمو فيها غراس المحبة والإحسان والتسامح تحت خيمة السلم المستدام التي تنفي العنف وتنبذ الشر، وتجعل الجميع يتعاونون ويتنافسون في سبيل الصالح العام أو "الخير العام". وهو ما يجعل الخطاب يشدد على ضرورة العمل من أجل جوهرة النفس وإعادتها إلى أصل الخيرية الوجودية الأولى، من حيث إمكانية القيام بالخير للخير، أي من دون مقابل مادي أو عيني، مثل المحمدة أو التقدير والشكر أو المكانة الرفيعة في عيون الآخرين.. أو سوى ذلك من فخاخ هوى النفس التي يمكن أن تقع في شراكها على غفلة من الوعي أو غياب العقل والحكمة.
الروح الاجتماعية إن مفهوم المحبة راسخ وممتد في بنية خطاب الشيخ الجليل، ويستحق دراسة موسعة، ولكننا سنتوقف عند أهم ملامحه، حسبما نعتقد. إن هذا المفهوم، فضلاً عن دوره أو حضوره الفاعل في أصل الخير الإنساني، وما يمكن أن يكون عليه مقصود الحكمة والشريعة، إنما يحيلنا النظر النقدي إلى إمكانية التدرج في بناء الروح الاجتماعية من خلال التعاون الإيجابي بالمحبة والإحسان؛ حيث يعرف المرء عفوياً أو تلقائياً أنه جزء من الإنسانية، وأنه يعيش طبقاً لنظام قيم هدفه خبرة المحبة والإحسان، أو العدالة والحقيقة، وأن يُخضع له كل شيء آخر. وإذا اتفقنا على أن "المحبة" هي درّة فلسفة الأخلاق، وأن "الحب" هو تاج فلسفة الجمال، فالمؤكد أن طريق بناء الروح الاجتماعية لن يكون بعيداً عن إرادة السلم أو بعيداً عن إرادة المحبة والإحسان التي يتغيَّاها الخطاب. ذلك لأن "الحب هو الوعي (باتحادي أو) بوحدتي مع الآخر؛ بحيث لا أكون في عزلة أنانية، لكني أظفر بوعي الذاتي فقط على أنه إلغاء لاستقلالي، ومن خلال معرفتي لنفسي بوصفها وحدتي"(17). وإلغاء استقلالي هنا؛ يعني اتحادي بالآخرين، بعيداً عن ذاتيتي الشخصية أو أنانيتي الضيقة، ويعني ذلك استطراداً، أن اجتماعيتي الحقة معيارها الصالح الجمعي أو الخير العام، حيث تكون سعادتي من سعادة الجميع، والعكس صحيح. وبهذا المعنى تكون المحبة؛ بمثابة نزعة عقلانية تختزل إنسانية الإنسان، وإذا ما افتقدها المرء لا يهدم الروح الاجتماعية فحسب، وإنما يهدم روحه؛ لأنه يصبح كما الجماد. ولعل أقرب الدلالات على ذلك ما يقوله الأحوص: وإنْ لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا. إن مقول الأحوص يحيلنا بوضوح؛ إلى أن النفس التي لا تعرف المحبة ولا تتنعم بخيرات دفئها ونعيم شفافيتها وجنائن رهافتها ورقتها؛ تفقد ماهيتها وتكون أقرب إلى الجماد أو العدم؛ من حيث انعدام الفاعلية أو فقدان جوهر الخيرية بمقتضى "التكليف الشرعي"، لا بل هو أقرب؛ بتعبير امرؤ القيس إلى "جلمود صخر حطّه السيل من علٍ" على رأس الإنسان؛ من حيث الأذية أو القسوة والعنف، الذي يمكن أن يطحن روح الإنسان نفسه أولاً، أي الذات التي لا تعرف الحب نفسها قبل غيرها. ما يقتضي أن تكون المحبة إحدى المكونات الرئيسة في فضاء الإيمان وممارسة التدين في السلوك الإنساني؛ باعتبارها أساس الروح الاجتماعية؛ بمقتضى التدرج القرآني. فهي السبيل الأمثل إلى تحقيق مقاصد الحكمة والشريعة في تحقيق سعادة الإنسان العاجلة والآجلة، حسبما يعلمنا خطاب الشيخ عبدالله بن بيه. وإذا كان التدين يشكل بعداً عميقاً للإنسان، وبنية أعمق للإنسانية؛ لأنه موجود في ماهية أو كينونة الذات البشرية في مختلف الأزمان وعلى تعدد الثقافات أو الحضارات البشرية، شأنه شأن الجمال والفن والقانون والفلسفة؛ من حيث الاتساق والتناسق، كما يقول الفلاسفة. فالمحبة هي كذلك بالتمام والكمال، وربما أكثر من ذلك، ليس لأنها نزعة أصيلة في الذات الإنسانية أو جوهر تكوين المركّب الإنساني فحسب، وإنما أيضاً لأنها أداة تجميل أو هندسة السوية الإنسانية - باعتبار أن العقل هو معيارها الوحيد - على أحسن ما يكون عليه الأمر في العلاقة مع الآخر، من حيث التمايز البشري عن الكائنات الأخرى. ولكن المحبة (في وجه من وجوهها المتعددة) فضلاً عن حقيقة أنها أصل الاتحاد مع الآخر وأساس بناء الروح الاجتماعية كما سبق آنفاً، إنما هي أصل آخر في الحقيقة العلمية؛ باعتبارها أداة تثوير فاعلية الإنسان التي تقوم على العقل. ذلك لأن المحبة - بالمعنى الحسي – تنشّط فاعلية النواقل العصبية في الدماغ، فهي مصدر الطاقة في تجديد وتفعيل القوى الحيوية في الإنسان، التي يتوقف عليها الإبداع والخلق الإنساني، كما تذهب إلى ذلك علوم النفس والاجتماع الحديثة على اختلاف مدارسها وتعدد فروعها. وهذا يقتضي أن تقوم الأنسنة أو إنسية الإنسان، ومن ضمنها أو في سياقاتها؛ التديّن الصحيح أو الإيمان العقلاني على المحبة الصريحة؛ كضرورة حتمية لتشكيل مرجعية معرفية بالمعاني الدينية والأخلاقية أو الفلسفية. فالمحبة باعتبارها نزعة ذاتوية إنسانية - بكل المعاني العقلانية والوجدانية والفيزيولوجية أو البيولوجية – هي غائرة في القدم، لا بل تعود إلى مبتدأ التكوين الإنساني. ولكن من المؤسف أن البشرية لا تتعلم إلا من خلال المعاناة والبؤس والشقاء وسفك الدماء وإراقة الدموع، وعبر المزيد من الرزايا والبلايا المتعاظمة في أزمنة التحولات المتوترة بسرعات قياسية، كما في زمن "العولمة"، الذي نعيش فصوله الدرامية المتلاحقة بوتائر تفاجئنا كل يوم؛ بل كل ساعة ولحظة. ولذلك من البديهي أن تتقدم خطاب الشيخ ابن بيه قيمة المحبة؛ بكل معانيها الفلسفية أو المعرفية، المجردة أو الحسية، الموضوعية أو الواقعية، على جميع القيم والمُثُل في السلوك الإنساني؛ لأنها تختزل جوهر المسرّة، وهي الأصل في المركّب الإنساني، الذي تحكمه فلسفة العقل، وتأمر به الأديان؛ إذ "عن طريق الله؛ يأمر الدين بمحبة النوع الإنساني، وعن طريق العقل الذي نشترك فيه جميعاً يثبت الفلاسفة كرامة الإنسان، ويبرهنون على حق الجميع في الاحترام"، كما يقول هنري فيرغسون في كتاب "منبعا الأخلاق والدين". والاحترام بهذا المعنى؛ لا يمكن أن يكون كما يجب أن يكون؛ بمقتضى العقل الرياضي والتمنطق الفلسفي - باعتباره الأعدل قسمة بين الناس؛ بتعبير نيتشة، إلا في ظلال نعمة المحبة، التي تشكّل جوهر السويّة الإنسانية. يقول براتراند راسل في مذكراته، "لقد عشت أولاً أنشد الحب بكل جوارحي؛ لأن فيه متعة كبيرة؛ بل نشوة آسرة، جعلتني مستعداً للتضحية ببقية عمري من أجل ساعات ضئيلة من الحبور. لقد لهثت وراء الحب جاهداً؛ لأنه يبعد عني شبح الوحشة المخيفة والوحدة المرعبة، التي ترتعد لها فرائص إدراكي، فكأنني أسير على شفير هاوية باردة مظلمة، لا قرار لها، وسأسقط فيها. وإنني بالحب الذي عرفته، تمثلت مسبقاً رؤيا سماوية صغيرة؛ كالتي ينشدها القديسون والشعراء. هذا ما نشدته وأراه ذا فائدة كبيرة في حياة الإنسان، وهذا ما وجدته في النهاية".
الممكن والمعقول في الخطاب المؤكد أن طيفاً واسعاً من الحكماء والعقلاء والفلاسفة والمفكرين وعموم المبدعين من مختلف الملل والنحل؛ يحلمون باليوم الذي ترفرف فيه بيارق السلام العالمي - في رحاب المحبة والإحسان - على مستوى العالم أجمع. والمؤكد أيضاً أن طيفاً ليس بقليل من البشر، يرى أن السلام أضغاث أحلام، وأن البوح عمَّا هو في الأماني لا يستقيم في عقول الأنام؛ إلا باعتبارها مجرد رغبات طوباوية متعالية على الواقع؛ باعتبار أن الرغبات في الأصل أمنيات تنضح من معين ذاتي فردي، حيث تفيض الذات برغبات متباينات، متناقضات ومتعارضات في الوقت عينه؛ بمعنى أن هناك رغبات شتى تصطرع في الذوات الإنسانية، فكيف يمكن الجمع بينها لتحقيق السلام؟ الإجابة سهلة (كما يحيلنا الخطاب)؛ بتوحيد رغبات الجميع من "أولي بقية" من العقلاء والحكماء، حول أحد أهم وأسمى أهداف الإنسانية في سماء المعقول وفضاء المنقول، والعمل معاً، متكاملين ومتضامنين بلحمة الأخوة الإنسانية أو النظارة في الخلق، في سبيل غرس بذور التعاون على أساس المحبة والإحسان في النفوس قبل النصوص، وذلك من أجل تحقيق السلام المستدام. وهل هناك ما ينوف على السلام من خصال تميل إليها النفوس بأريحية عفوية وبساطة فطرية، تعقلها الأفهام بخالص التمام، وكأنها البدر في سحر أو كرامة ليلة القدْر، التي "تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر"، فليلة القدْر أنصفت السلام، من حيث فاض المتعالي، "المَلِك القُدُّوس السَّلام المُؤمن"، من روحه النور على الوجود كله، فأسبغ على الدنيا السلام والبشرى على البشرية، فكان السلام روح الإسلام؛ بكل ما له من سطوة في العشق والهيام، يتهادى في النفس على إيقاعات من أعذب الأنغام، وكأنه بهجة الدنيا ومسراتها بخالص الكمال والتمام.. السلام يعني الوئام والأمان والإحسان.. يعني المحبة وما تعنيه من تجميل للروح الإنسانية، وتثوير للمَلَكات في قوى الإنسان الحيوية، وتسهيل للإنجازات الإبداعية العبقرية التي بنت مجد البشرية وأسست قيمها الحضارية. هذا دون أن نغفل عن حقيقة أن الرغبات أو الأمنيات في الخطاب، إنما هي الرهان على الخيرية الوجودية الأولى، أي على إنسانية الإنسان، ومدى قابليته إلى الكمال؛ إذ "من أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل (أي الذي يعرف نفسه فيعرف ربه)، وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان وإما إلى المكانة وهي المنزلة"( 18). وهذا هو بالضبط موطن التكليف في عمارة الأرض بالخير والجمال والمسرة. وبهذا المعنى تكون "الأمنيات" أو ما يمكن أن يحيلنا إليها خطاب الشيخ الجليل عبدالله بن بيه؛ على سبيل القطع واليقين، غير الرغبات الأخرى في تجارب الذوات البشرية، التي تعني الإشباع على ثلاثة وجوه، شخصية، وطنية/قومية، إنسانية/كونية. وما النقيض هنا، إلا على سبيل التحريض؛ بغرض البحث عن البدائل أو تطويعها. فكيف يمكن أن نجعل الرغبات المتناقضة في الذوات البشرية "متفقة الإمكان" (composible)، بتعبير ليبنتز، أي متوافقة من حيث إمكانية تحقيق الإشباع المتكافئ للجميع على قدر متساو من العدل، أو على الأقل الإشباع للأغلبية التي تسمح بتنامي قيم المحبة والإحسان من أجل تحقيق السلام؛ من دون اللجوء إلى استخدام القوة أو العنف والاستبداد؟ هذا هو جوهر جوهر ما يتقصده الخطاب. كيف يمكن أن تقوم نظرية "متفقة الإمكان" على إمكانية الجمع بين الرغبات الإنسانية والرغبات الفردية؛ على مبدأ إشباع الرغبات، التي تكاد أن تكون في النفوس، كما جهنّم في القاموس والعرف أو الناموس (كمان وكمان؛ بتعبير يوسف شاهين)، أي لا تنفك تطلب المزيد دائماً وأبداً. فالأمم التي تتسيَّد الموقف (بالمعنى الحضاري) ترى نفسها أنها المنذورة لتمدين العالم، وتكاد ترى رسالتها وكأنها قدسية أو سماوية. ما يقتضي على أهون الأسباب أن تنال من الطاقة أو الخيرات ما يكفي جهدها في التمدين، فيتقدم لديها إشباع رغباتها الخاصة؛ باعتباره يندرج في إطار "الخير العام"، أو الخير الإنساني الأكمل والأشمل على مستوى رسالة التمدين أو التحديث!؟ ولقد جرى التعبير عن ذلك في مجمل حداثة الفلسفات الوضعية، "فيوجد لدى هيغل "روح الكون"، أو "مسيِّر العالم"، الذي يشرف على نمو المدنية، ويستعمل الأمم المختلفة كأدوات في هذا العمل؛ الواحدة تلو الأخرى. ففي وقت ما؛ قسَّمَ (روح الكون) اهتمامه بين شعوب ما بين النهرين وضفاف النيل، ثم هاجر إلى اليونان ثم روما (...). وفي كل مرحلة من هذه المراحل (كان) يحق للأمة التي يتخذها أداة (للخير) أن تكون إمبربالية، وسيقيض لها النجاح في مشروعاتها حتى ينتهي عهدها. والأمم التي تقاومها كما قاومت قرطاجة روما، إنما تجهل مكانها التابع في نظام الكون، ومصيرها الذي لا نزاع فيه هو الهزيمة، (أي أن الله سبحانه وتعالى – بمعنى من المعاني - هو من يختار الأمم لرسالة التمدين أو التحديث في سيرة البشرية، فيضع العلوم والمعارف فيها لفترة من الزمن، وحالما تنقضي؛ ينتقل بها إلى أمة أخرى، وهكذا دواليك). وقد تبنى ماركس هذه الفلسفة في التاريخ، بعد أن أدخل عليها تعديلين طفيفين لا غير؛ فقد غير اسم "مسيّر العالم" إلى "المادية الجدلية"، وأحلَّ الطبقات محل الأمم. ففي وقت من الأوقات كانت الارستقراطية هي وسيلة التقدم، وفي الثورة الفرنسية انتقل هذا الدور إلى البرجوازية، وفي الثورة الشيوعية كان من المفروض أن الدور انتقل إلى البروليتاريا (أي الطبقة العاملة). ولما كانت الثورة الشيوعية قد حدثت في روسيا؛ فقد صار للامبريالية الروسية ما يبررها على أساس مبادئ كل من ماركس وهيغل"( 19). وهذا يعني أن "الامبريالية المتنورة"، التي تتمثل الخير العام في سلوكها الحضاري؛ بموجب تقسيم "روح الكون"، أو "مسيِّر العالم"، بقيت هي المهيمنة بالقوة وإن تغيرت هُويتها؛ باعتبارها "تحمل رغباتها (المُتَمدْينة)؛ إذ تحقق للأجيال المقبلة قدراً من الإشباع؛ أكثر مما تحمل رغبات أي جماعة أخرى (تابعة) فيما لو تحققت. وهذا المبدأ عندما يكون صحيحاً في الواقع، يعطي الحق لأنصاره في اعتبار أن سعيهم لتحقيق أهدافهم؛ إنما هو سعي لتحقيق "الخير العام"( 20). وأي خير هذا الذي يكون مفروضاً بالقوة؟ فالوسيلة السيئة تؤدي بالضرورة إلى نتيجة أسوأ، شأنها شأن الشر. وهو ما أسفر عن كل أشكال الغزو والاستعمار على مر التاريخ البشري. والأمر عينه بالنسبة إلى "الرجل الخارق"، أو "الرجل الأقوى" النيتشوي، فإن إشباع رغباته تتقدم على رغبات ملايين الآخرين من "الجماهير التي لا أهمية لها". ما يعني أن جزءاً من البشرية فقط هو الذي يُعتبر غاية الإنسانية، بينما الباقون مجرد وسائل. وهكذا لن يكون لنظرية سيادة جزء من البشرية؛ سوى نتيجة واحدة، هي، النزاع والحروب التي لا نهاية لها؛ حتى لو تغيرت هُوية "الامبريالية المتنورة"، ففي كل مرحلة لا بُدَّ من وجود الاضطهاد والقسوة؛ للمحافظة على سيادة "سادة العالم" الموقتين. وسيكون هناك دائماً خوف الجزء الأكبر من البشرية، المؤسس على الألم والكراهية والقسوة والعنف الكافي، الذي يمكن أن يحول دون السلام على أقل تقدير. وهكذا تستدعي نظرية "متفقة الإمكان" مقاربة عقلانية أخرى. وهو ما يقوم به، ويدفع إليه خطاب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه، من خلال التدرج في بناء الروح الاجتماعية؛ لتشكيل ما يمكن أن نسميها "إمكانية اجتماعية عقلانية إيمانية" واقعية أو عملية؛ من خلال إعادة بناء إنسية الإنسان، وتجديد القيم الكونية المشتركة، وإعادة أشكلة مفاهيم وقيم الحداثة (21)، التي يمكن أن تؤسس إمكانية التوافق الاجتماعي على اجتراح مبادئ قيمية كونية مشتركة، تكون قابلة على الانفتاح والتجديد المستمر للمواءمة مع التحولات والتغييرات التي تحصل بفضل القطائع المعرفية، والتطورات التقنية، وبوجه خاص تطور الخوارزميات الرقمية، أو ما تنتجه "العولمة" التي تجتاحنا من دون هوادة. ==============
المراجع والهوامش: 1 - أنظر: الشيخ عبدالله بن بيه، تأطيرية ملتقى "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة" الأول مارس/أذار 2014، الذي بات اسمه "منتدى أبوظبي للسلم" منذ عام 2019. 2 - ابن عربي، فصوص الحكم، فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية، شرح، الشيخ عبد الرازق القاشاني، آفاق للنشر والتوزيع – القاهرة، ط - 2016، ص- 69. 3 - أنظر: الشيخ عبدالله بن بيه، المرجع السابق. 4 - أنظر: الشيخ عبدالله بن بيه، المرجع السابق. 5 - الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تقديم محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة التراث الفلسفي العربي- ابن رشد2، ص- 129. 6 - أنظر: الشيخ عبدالله بن بيه، المرجع السابق. 7 - أنظر: الشيخ عبدالله بن بيه، تأطيرية الملتقى التاسع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (أصبح اسمه منتدى أبوظبي للسلم منذ عام 2019. 8 - انظر: كلمة الشيخ عبدالله بن بيه، الفاتيكان، أكتوبر/ تشرين الأول-2019. 9 - أريك فروم، الإنسان من أجل ذاته، ت- محمود منقذ الهاشمي، ص- 83 (مع الأسف النسخة المذكورة لم يرد فيها تاريخ النشر ولا اسم الناشر). 10 - محمد عبدالله دراز، دستور الأخلاق في القرآن – ص- 326. 11 - انظر: كلمة الشيخ عبدالله بن بيه، مخاطر التصنيف والإقصاء، المؤتمر العالمي للوحدة الإسلامية – المملكة العربية السعودية. 12 - ديكارت، انفعالات النفس، ت، جورج زيناتي، دار المنتخب العربي – بيروت ط1، ص 60. 13 - إريك فروم، الإنسان بين المظهر والجوهر، عالم المعرفة العدد 140، ط-1989، ص-86-87). 14 - انظر: الشيخ عبدالله بن بيه، صناعة المستقبل رهينة الاهتمام الصادق بالحاضر، حوارات شرق غرب - نحو عالم متفاهم، أبوظبي 2016. 15 - الحارث بن أسد المحاسبي، آداب النفس" دراسة وتحقيق عبدالقادر أحمد عطا، مؤسسة الكتب الثقافية، ط2- 1991، ص – 31-32. 16 - أنظر: الشيخ عبدالله بن بيه، التسامح وأسسه المنهجية في الإسلام، حوارات المواطنة الشاملة، أبوظبي 2018. 17 - هيغل- أصول فلسفة الحق – ترجمة إمام عبد الفتاح إمام – مكتبة مدبولي- القاهرة – ط 1- ص 407. 18 - ابن عربي، مرجع سابق، ص – 75. 19 - براتراند راسل، المجتمع البشري، ت- عبدالكريم أحمد منشورات جامعة الدول العربية – الإدارة الثقافية، ص – 57. 20 - براتراند راسل، المرجع السابق -ص – 59 – 60. 21 - انظر: محمد وردي، الأنسنة والتجديد في فكر العلامة الشيخ عبدالله بن بيه.
#محمد_وردي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شيخ الإنسانيين.. التنوير بالحكمة والشريعة
-
سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه
-
سردية السلم والتنوير والأنسنة والغواية العقلانية الإيمانية
المزيد.....
-
روسيا تعرض هدنة قصيرة وأوكرانيا تقترح لقاء بين زيلينسكي وبوت
...
-
الشراكتان الدفاعية والتجارية.. ملفات عديدة على طاولة البحث
...
-
عاجل | الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية فلسطينييْن قرب بلدة الخضر
...
-
ماذا قال الرئيس الإيراني للجزيرة في أول لقاء تلفزيوني بعد ال
...
-
تجويع غزة يُذكر بجرائم النازية والعالم يتجاهل القاتل والقتيل
...
-
أبرز عمليات القسام التي نفذتها في مدينة رفح خلال يوليو
-
ربيع جديد يبرق في تونس
-
إجلاء 500 شخص من عائلات العشائر في السويداء ضمن الدفعة الثان
...
-
عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: صاروخ أطلق من اليمن سقط قبل وص
...
-
كاتبة إسرائيلية: وحدة عسكرية تدمر 409 مبان بغزة انتقاما لمقت
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|