|
العقلانية الإيمانية ما بين ابن رشد وابن بيه
محمد وردي
الحوار المتمدن-العدد: 8420 - 2025 / 7 / 31 - 14:08
المحور:
قضايا ثقافية
ما بين الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (الحفيد)، والعلامة الشيخ عبدالله بن بيه، قرابة نسب في الأصول والفروع الفكرية (إنْ صح التعبير)، تشد بعضها إلى بعض؛ بوشائج تكاد تكون سحرية، من خلال ما أحب أن أسميها، تلك "الغواية العقلانية الإيمانية" الفارهة، القائمة (في الخطابين) على النظر في الموجودات بمنظور يُتوْئم"الحكمة والشريعة"، التي وسمت مشروع الأول الفلسفي بميسمها النظري، المؤسس من جهة أولى، على مقاصد الشريعة في ظاهرها ومُأَوّلِها، وما يقتضيه بيان مقصود الشارع (الكتاب والسُنّة) الذي يتوجه إلى عموم الناس. ومن جهة ثانية؛ بمقتضى الحكمة في التفكُر القرآني، وما يُمليه من طبقات أو مستويات، أي شروط وحدود التفكُر، أي التأويل، ومن يتوجه إليه التأويل، حيث يعتقد ابن رشد "أن طباع الناس متفاضلة، فمنهم من يُصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان؛ إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأوقايل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية"(1)، أي منهم من يصدق في إيمانه بالقياس العقلي؛ من خلال معقوله للشريعة في منزلة النص الواحد. ومنهم من يصدق بظاهر النصوص وما يمكن أن يبدو عليه هذا الظاهر من تعارض أو تناقض؛ دون القدرة على الجمع بين الأصول والفروع، وفك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وبين الأول منهما ومنظومة المصالح والمفاسد، وإغفال سياقات التنزيل عامةً وخاصةً. ومنهم من يصدق بالتلقي ومن ثم الحكم بموجب ما يسمعه أو يتلقاه من دون تفكُّر. ولذلك يرى أنه لا يتوجب على أهل الحكمة أن تجادل غير أهل التصديق بالبرهان العقلي. وابن رشد في هذا؛ إنما قريب (بوجه من الوجوه) من الحكمة، التي تُنسب في بعض الأقاويل للإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وفي بعضها الآخر للإمام الشافعي (رحمة الله عليه)، ومفادها: "ما جادلتُ عالماً إلا غلبته، وما جادلتُ جاهلاً إلا غلبني"، وأي كان صاحبها فمجادلة العاقل للجاهل تعني الخسران؛ لأن العلماء بما لديهم من القدرة على الفهم والتأويل العقلي (سواء على مستوى الظواهر الاجتماعية، أو على مستوى النصوص في ظاهرها وباطنها)، هم أعجز عن اقناع محدودي الفهم أو المحرومين من نعمة البصيرة أو التفكُّر أو التدبُّر (بالمعنى القرآني)؛ لأن الملكات العقلية لهؤلاء محدودة، وقاصرة على فهم الظاهر ولا تستطيع تجاوزه. والطامة الكبرى بنظر ابن رشد، إذا دار الجدل بين العلماء وما دونهم حول النظر في المشكلات الفلسفية العويصة، المتعلقة في أصول العقيدة الإسلامية، مثل مسائل "قِدم العالم"، و" خلق القرآن"، و"القضاء والقدر"، و"المعاد"، و"التوحيد"، و"الصفات الإلهية".. وغيرها من المسائل التي شغلت أهل الحَجَاج في صدر الإسلام. فمثل هذا الجدل؛ (بين العلماء أو الفلاسفة أو بين طرف منهم وعموم الناس) حول قضايا العقيدة لا ينتهي بالخسران فحسب، وإنما قد يحمل ما دون العلماء والفلاسفة من محدودي الملكات العقلية إلى التضليل ومن ثم التشكيك بإيمانهم، وربما يحملهم الجدل إلى الكُفر بالله نعوذ به من شرور أنفسنا. أما فضْل الحكمة أو العلم أو العقل، فيكمن بالقدرة على الرفق بالناس وحمْلهم على ما هم عليه من استطاعة. وابن رشد يهتدي بقوله تعالى، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" (المائدة: 101)، ويقتفي أثر النظام اللغوي القرآني، القائم على اليُسر أو التيسير؛ بقدر المستطاع الإنساني، الذي يعتبره من شروط التكليف هو والعقل سواء. وأما من حيث مشروعية الجدل العقلاني بين الراسخين بالعلم في مثل هذه القضايا، فيقول: "وإذا كانت هذه الشريعة حقاً، وداعية النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم، على القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يُضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له"(2). ما يعني أن النظر البرهاني إنما هو حق، ولا يخرج عن معقول الحق في الشريعة. وبالتالي إذا وصل النظر البرهاني إلى معرفة بموجود ما، فالمؤكد أن الشرع قد عرَّفَ به، أما إذا سكت عنه، فيتعين على العلماء (الراسخين في العلم) طَلَبَ تأويله؛ بالاستنباط والانضباط بحرفة القياس والتنزيل في التعليل والتدليل والتأصيل والتأويل، وفتح آفاق النص الكامنة. ويوضح ابن رشد: "وإذا كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النُطق أن يكون موافقاً لِما أدى إليه البرهان فيه، أو مخالفاً، فإن كان موافقاً فلا قول هناك، وإن كان مخالفاً طُلب هنالك تأويله" في ما يجعله على اتساق وتناسق مع العقل بالبرهان اليقيني. "ونحن نقطع قطعاً أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاوَل هذا المعنى وجرّبهُ، وقصد هذا المقصِدَ من الجمع بين المعقول والمنقول(3)، أي الجمع بين ما تواتر من النقل عن الكتاب والسُنّة والتأويل أو التفسير، وما تواتر عن العقل على حد سواء. بل نقول (يضيف ابن رشد): "إنه ما من منطوق به في الشرع، مخالفٍ بظاهره لِما أدى إليه البرهان إلا إذا اعتُبِر وتُصُفَّحَتْ سائرُ أجزائهِ، وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد، ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تُحملَ ألفاظُ الشرعِ كلُّها على ظاهرها، ولا أن تُخرجَ كلُّها عن ظاهرها بالتأويل، واختلفوا في المُأَوّلِ منها من غير المُأَوَّلِ، فالأشعريون، مثلاً، يتأولون آيةَ الاستواءِ، وحديثَ النزولِ، والحنابلةُ تحمِل ذلك على ظاهره. والسبب في ورود الشرع فيه الظاهرُ والباطنُ هو اختلاف نظر الناسِ وتبايُنُ قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهرِ المتعارضةِ فيه، هو تنبيهُ الراسخين في العلم على التأويلِ الجامعِ بينها وإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى في سورة آل عمران - آية 7: "هو الذي أنزلَ عليك الكتابَ منه أياتٌ مُحكماتٌ"، إلى قوله: "والراسخونَ في العلم"(4). ومن جهة ثانية، فمشروع ابن رشد مؤسس على منطوق الحكمة أو الفلسفة كعلم يقيني في التفسير والتأويل، ارتكازاً على التأويل العربي (كما ذكر آنفا) وعلم المنطق الأرسطي وأدواته في "القياس العقلي" أو "البرهان اليقيني"؛ باعتبار أن مقصود الحكمة في الاصطلاح الفِقهي، إنما هو "السبب الغائي (...) معنى الحكمة... أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به"(5). والغرض كما عبّر ابن رشد نفسه، إنما هو إصلاح ديني هدفه: "تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير". والرجوع بها إلى "الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، ووضعْ قانون للتأويل يُبيِّن للعلماء ما يجب تأويله وما يجوز وما لا يجوز... وكيف"؟، حسبما يقول محمد عابد الجابري في تقديم كتاب "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد المِلّة". وهي السمات عينها التي وسمت مشروع الشيخ عبدالله بن بيه، الذي تقصد الإصلاح أو التجديد والتنوير "العقلاني الإيماني" في الخطاب الإسلامي المعاصر، على جناحين: أولاً: تصحيح المفاهيم؛ لتنظيفها مما علق بها من تحريف وتجريف أو سوء تأويل، نتيجة الجهل بفهم النصوص أو القصور في الجمع بين الأصول والفروع، وفك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وبين الأول منهما ومنظومة المصالح والمفاسد، وإغفال سياقات التنزيل عامةً وخاصةً، والغفلة عن سُنن الله عز وجل في الاجتماع والتاريخ البشريين. ما يقتضي إعادتها إلى بعدها الرحماني الأصيل. ذلك لأن "جملة من المفاهيم كانت في الأصل تشكل سياجاً على السلم وأدوات للحفاظ على الحياة، ومظهراً من مظاهر الرحمة الربانية، التي جاء بها الإسلام على لسان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، فُهمت على غير حقيقتها وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن مقصدها الأصلي وهدفها وغايتها، فتحولت الرحمة إلى عذاب للأمة، اكتوى به المذنب والبريء واستوى في إشاعته العالم والجاهل"(6). ثانياً: تأصيل ثقافة السلم في الإسلام. ذلك لأنه أولوية في فلسفة الحقوق بالمعنى المقاصدي؛ باعتبار أنه من "دون سلام لا حقوق؛ لأن فقدان السلم هو فقدان لكل الحقوق بما فيها الحق في الوجود (...) ويجب أن لا يُفهم السلام بأنه مجرد كلمة؛ بل هو قول وسلوك وقيمة كبرى ومبدأ ثابت"(7). ما يعني أن الغرض من تصحيح المفاهيم وترسيخ أو تعزيز السلم في السردية الإسلامية المعاصرة، إنما هو التأكيد مجدداً على قيمة "حق" الإنسان بالوجود الكريم، الوجود العزيز، الذي يحدده فهمنا العقلاني للطبيعة البشرية، كما أرادها لنا الله سبحانه وتعالى في فطرة الخلق، وما يمكن أن يتأسس عليها من معايير سلوكية قائمة على هذه الطبيعة، فهي التي تهدينا إلى أقصى نماء وبناء، وأسمى سعادة ورخاء. ذلك لأن مقتضى الإنسانية أو المذهب الإنساني، يعني "أن الإنسان هو مقياس الأشياء كلها (في هذا الوجود، أي أن قيمتها تتقرر بحدود ما يعني منها الإنسان)، وأن تطوره الكامل (باعتباره مقصود الحكمة والشريعة، وأنه غاية الأنسنة، أو جوهر الترقي)، يجب أن يكون هدفاً للجهود الاجتماعية كلها ومعياراً لها"(8). فهذا الحق بالوجود العزيز، كما يحيلنا إليه الخطاب ويعمل عليه، هو حق أصيل لا تحريف له ولا تبديل؛ بمقتضى الحرمة القرآنية، كما في قوله تعالى: ﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً﴾. ولا يكون ذلك إلا من خلال استعادة البعد الإنساني المختطف أو المغيب في الخطاب الإسلامي المعاصر وانفتاحه على العالم؛ لأنه للناس أجمعين، كما في قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾، وقوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا﴾. وذلك لا يكون أيضاً إلا من خلال استعادة إنسانية الشخصية العربية والإسلامية؛ باعتبارها حاملة الرسالة أو خطاب التبليغ للعالم، وهي الشخصية التي عرفت أجمل وأنبل تجلياتها الإنسية في العصور الإسلامية الذهبية خلال القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية، وكان ابن رشد آخر رموزها الإنسانيين. وهذا يحيلنا بالضرورة العقلانية أو المنطقية إلى ما يتجاوزه ظاهر الخطاب في مراميه التنويرية، أي ما يتجاوز استعادة البعد الإنساني في الخطاب الإسلامي، واستعادة إنسية الشخصية العربية والإسلامية إلى ما هو أعم وأشمل؛ بمعنى أن محمولات السردية الجديدة في خطاب الشيخ ابن بيه يمكن قراءتها؛ كمصالحة ذاتية، تؤسس انفتاحاً على العالم مقبولاً، بل مرغوباً لِما فيها من كمال؛ كشرط معرفي، مفاده: أنه قد يكون من الصعوبة بمكان إحداث التغيير الاجتماعي المطلوب على المستوى الكوني، والوصول إلى مجتمعات جديدة، إلا في حال حدوث تغيير جذري على مستوى إعادة تشكيل الضمير الإنساني، أي استعادة معنى مفقود راهناً، يستحق أن يعيش الناس من أجله، أو ما يمكن أن يكرس الناس حياتهم من أجله، فيحل محل ما هو موجود حالياً، أو ما هو مشطوب أو مغيّب في الحداثة المعاصرة. ولا نقصد بطبيعة الحال عبادات أو طقوس بعينها فقط، وإنْ كانت داخلة في جوهر ما نرومه؛ باعتبارها مكوناً رئيساً في صميم البِنية الاجتماعية (بالمعنيين الذهني والروحاني) في غالب المجتمعات البشرية شرقاً وغرباً، حسبما يعتقد العديد من المفكرين المعاصرين والقدامى، وإنما نعني "نظاما للفكر والعمل (أي نظام إنساني، أخلاقي وعملي، يستجيب لحاجات البشرية المادية والمعنوية أو الروحية)، تشترك في اعتناقه جماعة من الناس، يعطي لكل فرد في الجماعة (سواء الوطنية أو الكونية) إطاراً للتوجه، وموضوعاً يكرس من أجله حياته"(9). وهو ما يندرج في إطار ما سميته "إمكانية اجتماعية عقلانية إيمانية علمية" واقعية أو عملية، يتيحها خطاب الشيخ المجدد بأريحية متناهية، وبخاصة على مستوى إعادة هندسة ذهنية، روحية وأخلاقية، إلى جانب تغيير في البنية الاجتماعية على أساس (ولو شيء قليل) من التضامن والتعاون بالمعروف أو بالمحبة والإحسان. (من يريد التوسع عليه العودة إلى كتابنا "الأنسنة والتجديد في فكر العلامة الشيخ عبدالله بن بيه). وهو ما نعتقده ونكرره باستمرار، من حيث أن جوهر نقد الحداثة في فكر الشيخ يقوم بوجه من الوجوه على ما نحب أن نسميه، وصل ما انقطع بين السماء والأرض، أو وصل ما انقطع بين الله والإنسان في الحداثة الراهنة، حيث غاب وجود الله في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثلاً؛ بإقرار شارل مالك العضو العربي الوحيد في لجنة صياغته، كما يلاحظ الشيخ عبدالله بن بيه نفسه. وهذا الوصل هو جوهر التنوير في سردية السلم الجديدة في فكر "شيخ السلام"؛ بتعبير عبد الحميد عشاق. والشيخ المجدد لا ينفك يؤكد المرة تلو الأخرى، أن الدين طاقة للوئام والسلام وصناعة الحياة النامية، وبالتالي يمكن أن تكون الدوافع الدينية أو الأخلاقية مصدر الطاقة الحيوية الدافعة للرجال والنساء لإنجاز مثل هذا التغيير الاجتماعي الجذري؛ باعتبار أن "الإيمان الصحيح، الذي هو بجوهره مصالحة روحية بين الإنسان والوجود، وبين صناعة التدين التي هي صناعة بشرية أحالت الدين الذي هو في أصله طاقة تصنع السلام، إلى طاقة تُصنع منها القنابل المميتة، المهلكة للحرث والنسل"، حسبما يتكرر ذلك في مواضع عدة في الخطاب. إذن؛ كما هو واضح أن الباعث على التجديد أو الإصلاح لدى ابن رشد، كما هو لدى الشيخ ابن بيه، إنما هو واحد، فالغرض هو بيان تلاقي مقصود الحكمة والشريعة في مسألة خلاص أو نجاة الإنسان في الدارين، والعناية بحاله على الوجه الصحيح؛ بمقتضى فلسفة العقل والإيمان من دون زيغ أو نكران، أو من دون تحريف أو تضليل أو بهتان. أما على مستوى التوافق في مقصود الحكمة والشريعة في خطاب الشيخ عبدالله بن بيه، فهو أصيل، حيث يتمايز تأويله أو اجتهاده الفِقهي منذ بواكيره الأولى، وعلى مدى عقود عدة؛ بالتوسيط والمصالحات، كما هو الحال في جوهر فكر ابن رشد، وبخاصة على مستوى المصالحة بين الحكمة والشريعة. ولا يحتاج الخطاب إلى مرافعة في هذا الخصوص، فالشيخ الجليل يكشف عن هذا الاتجاه التصالحي، أو الانحياز العقلاني إلى الاتجاه الرشدي؛ في سياق تاريخي متكامل، يمكننا وصفه بأنه سياق تأصيل المصالحة بين العقل والنقل؛ باعتباره سياقاً ممتداً على مدى تاريخ الفكر الإسلامي. وكل ذلك بوضوح ما بعده وضوح، حيث يقول الشيخ ابن بيه: "إن الحوار بين الفلسفة والدين قد يتوتر والخلاف بين ممثليها قد يحتدم، كما جرى بين الغزالي وابن سينا وأبونصر الفارابي. إلا أن ذلك لا يدفعنا للاعتقاد باستحالة الحوار، بل أننا نؤمن بأن هذا الوصل ممكن وضروري، وأن هذه الخصومات التاريخية لا ينبغي أن تُغيّب نجاحات وتحجب لقاءات سعيدة، جرت على يدي فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء، من أبرز هؤلاء رائد المصالحة ابن رشد الحفيد في كتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، حيث انطلق في مجال وحدة الموضوع بين الدين والحكمة (الفلسفة). ذلك لأن الحكمة هي نظر في الموجودات والمصنوعات لمعرفة الصانع أو لِما سوى ذلك، والشريعة كذلك تأمر بالنظر في الموجودات للآيات: "قل انظروا ما في السموات والأرض"، والقصد التعرف على الصانع كذلك، ولذا بذل جهداً لدرء وصمة التكفير عن الفلاسفة وعن طرق تأويلهم"(10). وهو تأكيد ما بعده تأكيد على خيار الخطاب الفكري والإنساني؛ بكل المعاني الإيمانية والعقلانية في انحيازه للفلسفة الرشدية. أما انتصار الشيخ عبدالله بن بيه للعقل أو للحكمة (أي الفلسفة) من حيث التناغم والتكامل مع روح الشريعة، فهو يأتي في سياق تأصيلي تاريخي ممتد وصريح أيضاً، حيث يقول: "لقد نجح المسلمون إلى حد كبير في وقت من الأوقات في إيجاد تساكن وتعايش بين العقل والفلسفة والدين والحياة الروحية". ويوضح الشيخ المجدد: "لقد كانت مسألة العقل من أهم القضايا التي شغلت المسلمين منذ القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، واشترك في الجدل حولها الفلاسفة والمتكلمون والأطباء والفقهاء كما يقول الزركشي. ويمكن أن نضيف اللغوين المهتمين بالاشتقاق اللغوي وبالمعاني والمترادفات، وكلٌّ نظر إليه من زاوية الاستعمال الذي يخدم فيه. وقد اختلفت الفرق في تعريفه إلى ألف قول كما يقول بعضهم (...). إن الإسلام يمجد العقل مرتبطاً بالفضيلة والأخلاق، ويعطيه أكثر من اسم كلها تشير إلى حقيقته الراشدة وعلاقته بالحكمة. فهو العقل والحجر والنُّهى، وسمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن ارتكاب القبائح والرذائل أي يمنعه من ذلك، وكذا سمي حجراً أيضاً لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من ارتكاب الرذائل، ويفسر العقل أيضاً بأنه نور روحاني به تدرك النفس الأمور أو العلوم الضرورية والنظرية. ويفسر العقل أيضاً بأنه القوة التي بها يكون التمييز بين الحسن والقبيح (...). وهكذا نرى أن "الإسلام يجعل العقل مصدراً من مصادر المعرفة الأساسية؛ بل المصدر الأول المنتج في العقائد والإيمان وأحد المصادر الأربعة المؤسسة في التشريع الإسلامي"، كما يقول الغزالي في المستصفى. "والعقل أحد الضرورات الخمس التي يقوم عليها التشريع الإسلامي على حمايتها إلى جانب الدين والنفس والنسل والمال. هذه هي الكليات التي تحكم منظومة التشريع في الإسلام"(11). يقول ابن رشد في الرد على التيارات الفكرية الإسلامية في زمنه وما قبله (الخوارج، المعتزلة، الأشعرية، الصوفية، الباطنية أو الحوشية بتعبيره)، فيبدأ من كتاب أبو المعالي الجويني "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد"؛ باعتباره خلاصة المذهب الأشعري الذي كفَّر أهل الكلام (وممثله أبو حامد الغزالي في كتاب "تهافت الفلاسفة"، تأسيساً على "بيان الاعتقاد" الذي أصدره الخليفة العباسي "القادر"، وجدده وأضاف عليه، عبد القادر البغدادي، الذي يعتبر وريث الباقلاني(12)، رجوعاً إلى أبي هذيل العلاف ثم أبو الحسن الأشعري. فيقول ابن رشد مؤكداً في كتابه(13): "رأيت أن أفحص هذا الكتاب (يقصد كتاب الجويني) عن الظاهر من العقائد التي قصد الشارع حمل الجمهور عليها، وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع (...) بحسب الجهد والاستطاعة، فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب، في هذه الشريعة؛ حتى حدثت فرق ضالة (...) اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيراً من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزَّلُوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قَصَد بالحمل عليها جميع الناس (...)، وإذا تُؤُمِّلَت جميعها وتُؤمل مقصِد الشرع، ظهر أن جُلَّها أقاويل محدثة وتأويلات فارغة"(14). وكان ابن رشد قد أوضح ما يرومه في تقديم "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال"، الذي يعتبر كتاب "الكشف عن مناهج الأدلة" تتمة له؛ سواء على مستوى تفنيد "تهافت الفلاسفة" في إبطال سبعة عشرة مسألة خطّأ الغزالي فيها الفلاسفة، وتكفيرهم في ثلاث مسائل، أو على مستوى المغالطات والوهن وسوء التأويل، وعدم التمييز بين المتلقي البسيط أو العادي والمتلقي العليم أو "الراسخين في العلم"، حيث نبَّه ابن رشد إلى أن "التأويل الحق (...) ليس يوجد لا في مذهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة، أعني أن تأويلاتهم لا تقبل النُصرة، ولا تتضمن التنبيه على الحق ولا هي حق، ولهذا كثرت البدع". ثم يؤكد أن الفريقين في الخطأ سواء، حيث "أوَّلت المعتزلة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، وصرحوا بتأويلهم للجمهور (يقصد عموم الناس البسطاء)، وكذلك فعلت الأشعرية، وإنْ كانوا أقل تأويلاً، فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق"(15). فذلك "ما فعله بالشرع الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية، ثم جاء أبوحامد (الغزالي في "تهافت الفلاسفة") فطمّ الوادي على القرى (أغرق)، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور، وبآراء الحكماء، على ما أدّاه إليه فهمه"(16). أما الشيخ عبدالله بن بيه، فربما يتمايز قليلاً عن ابن رشد؛ باعتباره رائد الوساطات والمصالحات بامتياز كما أسلفنا، وبالتالي – وعلى سبيل القطع واليقين – هو لا يتقصد في خطابه الرد على أحد، ولا الدخول في أي شكل من أشكال المماحكات أو السجالات الفكرية، العقلانية الإيمانية أو العَقَدية. فالأسباب الداعية للتصحيح والتجديد في المفاهيم وحقول الأصول، أو تقديم سردية دينية جديدة للإنسانية، عمادها تأصيل "السلم في الإسلام"، إنما هي مقتضيات "فقه الواقع والتوقع" وضرورات الاستجابة لشروط كلّي الزمان (على مستوى الواقع المعاصر) وكلي المكان (أي المسلمون في المهاجر). ولذلك يقول: "إن خطاب التجديد خطاب حضاري واعٍ، لا يوجه اللوم إلى أحد؛ إذ يعتبر الجميع؛ بفضائلهم ونقائصهم ومزاياهم ورزاياهم؛ ثمرة ثقافة هذه الحقبة التي نعيشها. إنه دعوة إلى بناء إنسان جديد فخور بأصالته، متفاعل مع عصره... (أما جوهر التجديد) "في الشريعة (فهو) تجْلية قيمها وفضائلها، قيم التسامح والعدل والشورى والتعايش والتواصل والروحانية والوحدة والتعدد في إطار الثوابت، وهو تعدد تجليه مرونة الفِقه وتنوع دلالته، وتوسع نطاق أدلته الإجمالية في ضوء الزمان؛ لتحقيق مقولة وهي بالتأكيد حق: إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان. وذلك بتسليط الاجتهاد على الربط المتواصل بين الزمان وبين الشريعة؛ نصوصاً ومقاصداً وأصولاً وقواعداً، انطلاقاً من مبدأين: العقل والمصلحة. وترجمة لثلاثة مقاصد: الضروري - والحاجي- والتحسيني، وتطبيقاً لخمس قواعد: - إلغاء الشك باليقين. - تحكيم أعراف الزمان. - إزالة الضرر وضرورة الإنسان. - رفع المشقات وإحلال اليُسر في التكليف محل العُسر. - الجريان في التكليف على المقاصد لا على الصور(17 ). هذا بالإضافة إلى الأدلة التي تستند إلى معقول الشريعة؛ كالقياس والاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة، أضف إلى ذلك التعامل مع سلم الضرورات والحاجات العامة التي تغير مقتضى الأوامر والنواهي في الشريعة؛ طبقاً لما يسمى بالرُخص في كل أنواعها". إذن الغاية ليست "تنصيب محكمة لفصل الخصام وتوزيع الأحكام"، كما عبَّر الشيخ الجليل نفسه، وإنما همَّه وانشغاله، يتركز على مواجهة التحديات التي بدت في الآونة الأخيرة "وكأنها مستعصية على المواجهة والحلول؛ بسبب الصراع الفكري والطائفي الذي طغى على سطح الوعي الإسلامي في الوقت الراهن، وهو ما صرف الأمة عن جهود استكمال هُويتها الإسلامية المعاصرة، ودفع بها إلى الشقاق والافتراق (...) فضعفت الثقة وغابت أجواء الأمن والطمأنينة"(18). ويقطع الشيخ الجليل بالأمر: "لعلكم لا تنتظرون مني فتوى أو إعلاناً صحفياً للحكم على معتقدات الناس وضمائرهم بالقيود ووضع الجدران والحدود، فهذا الأمر ليس إليّ؛ لأن ضمائر الناس لا يملكها إلا رب الناس"(19). ويجدد الشيخ الجليل التأكيد على ذلك في تأطيرية الملتقى الأول ل"منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة" مارس/ أذار 2014 (أصبح اسمه "منتدى أبوظبي للسلم" منذ عام 2019). فالدواعي إذن إنما هي "الأوضاع الكارثية لهذه الأمة، التي أصبحت لعبة الموت أمراً معتاداً فيها، وسبيل الحياة أمراً مستبعداً، تلك مشاهد الدماء والأشلاء والخراب والدمار لا تحتاج إلى تعليق. لقد أصبح من المذهل والمحزن أنه ما من أمة اليوم يستشري فيها الصراع وإراقة الدماء أكثر من هذه الأمة، تحت عناوين وذرائع وشعارات لا يُقرها شرع ولا يقبلها عقل". هذا فضلاً عن حقيقة الواقع الحضاري وشروطه، حيث "دخلت الإنسانية في القرن الأخير في سياق العولمة، فغدت تتجاذبها قوّتان، فمن جهة الاندفاع الجامح نحو إلغاء الخصوصيات الدينية والعرقية وتنميط العالم، ومن جهة أخرى التشبُّث المستميت بالهويات الضيّقة، وما يصحبها من خطابات الكراهية التي تُجذّر التناقض في شخصية الفرد، وتنمّي الشعور بعدم الانسجام مع النفس ومع المحيط؛ بشراً وبيئة وقيماً وحضارة"(20). ولذلك يقرر الشيخ ابن بيه في مستهل "سردية السلم" التي يتقصدها مشروعه التنويري، أنه يريد أن يقول: "كلمة بسيطة، هي حكم وحكمة: الدعوة إلى السلم أحق(...) فما كل عدل أو حق أو إيمان أو طغيان لا يبرر وسائل أسوأ ونتائج أردأ... (وهذا يعني أن سوء الفهم أو التأويل القاصر الذي لحق بالمفاهيم والنصوص الإسلامية، لا يبرر بأي حال من الأحوال النزاع والاحتراب)؛ لأن البحث عن السلم حق؛ بل هو أحق في كثير من الأحوال من الحقوق الحقيقية أو المزعومة؛ لأنه حق الكافة في الحياة والراحة في الحركة والسكون والسعي في مناكب الأرض". فحال الشيخ في ذلك كما "الإطفائي الذي يحاول إطفاء الحريق، والإنقاذي الذي يحاول إنقاذ الغريق، لا يسأل لِمَ؟ بل يسأل عن كيف"(21) يكون بناء الحياة النامية والعناية بالإنسان في العاجلة والآجلة على الوجه الأمثل أو الأكمل؟
لا ريب أن ابن رشد الحفيد شكّل علامة فارقة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، لا تزال ساطعة بقوة حتى اللحظة الراهنة، وبخاصة على مستوى ثلاثيته الخالدة: "فصل المقال"، و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد المِلّة"، و"تهافت التهافت"، التي صالح فيها الحكمة مع الشريعة، وأبطل فيها التأويل القاصر، وفنَّد فيها غلو الغالين وقطع دابر الخصام والتجريم والاحتراب، و"درء وصمة التكفير عن الفلاسفة وعن طُرق تأويلهم"؛ بتعبير الشيخ ابن بيه. ولكن مع الأسف الشديد، يتجدد كل ذلك في أيامنا هذه، وبأشكال أكثر غلوّاً وتطرفاً وابتذالاً ومسخاً للعقول. وهو الأمر الذي اقتضى - بدواعي الحكمة والشريعة الأصيلة، ومقتضيات الأخلاق والدين، أو بدواعي شروط الأنسنة كما تحيلنا إليها الحداثة الراهنة - حضور وريث مدرسته العقلانية الإيمانية، شيخ الإنسانيين، علامة العصر الراهن، الفقيه المقاصدي الشيخ عبدالله بن بيه. يقول ابن رشد إن "الحكمة ليست أكثر من معرفة أسباب الشيء"(22). ويعلق على هذه المقولة محمد عابد الجابري في الهامش، فيقول: قد يبدو هذا التعريف غريباَ، غير أنه يصبح مفهوماً تماماً إذا نحن استحضرنا معنى الحكمة في الاصطلاح الفقهي: فالحكمة من الصيام مثلاً هي الغاية منه (=مشاركة الفقراء في الإحساس بالجوع مثلاً). ومعلوم أن السبب الغائي عند أرسطو هو أهم الأسباب الأربعة (مادة، صورة، فاعل، غاية: الخشب سبب مادي للكرسي، وشكله كما يتصوره النجار هو سببه الصوري، أما النجار فهو سببه الفاعل، والجلوس عليه سببه الغائي). المتأمل في خطاب الشيخ المجدد عبدالله بن بيه، يجد هذه الملامح حاضرة بقوة ومن دون لبْس، وبخاصة علم المنطق، والقياس البرهاني؛ بمقتضى العلل الأرسطوية، حيث يقول: "وفي بحثنا هذا قدمنا المركب الأصولي من خلال العلل الأربع: المادة والصورة والغاية والفاعلية. وتوقفنا عند كل واحدة من هذا المركب لنرى إمكانية التجديد فيها أو من خلالها، فكانت المادة والغاية أقلها حظا من التجديد؛ لأن المساس بهما يعني استبدالا بمادة أخرى أو تبديلاً للعلم من أصله، أو عدولاً عن أهدافه وصدوفاً عن وظائفه. ومع ذلك فإن تعديلاً هامشياً يمكن أن يدخل على بعض العناوين الوافدة من علم الكلام على المادة؛ كالتحسين والتقبيح لتوضع تحت عنوان: مكانة العقل"(23). ذلك لأن "علم أصول الفقه، وهو مما يسمى بعلوم الآلة، وهي داخلة في علوم الشرع، وهي: التفسير وعلوم الحديث والفقه والنحو واللغة والمنطق (...) وفسروا النظر في المسطور بحركات الفكر في المنظور"(24). ما يعني أن الشيخ ابن بيه لا يقتصر على العلل الأربعة الأرسطوية في البحث عن المركب الأصولي قياساً وانضباطاً في الاستنباط والتأويل والتعليل فحسب، وإنما يأخذ بعين الاعتبار بعض التعديلات الوافدة على "المادة" من علم الكلام العربي، في إطار بناء المركب الأصولي؛ بما يتوافق مع الموروث الثقافي الأصيل في الفِقه الإسلامي، الذي تفاعل بعقلانية مائزة مع علم الكلام نقداً وبناء؛ باعتبار ذلك إضافة مطلوبة في سياق الإحاطة الوافية؛ بمقتضيات أو شروط البحث العلمي. وهو ما يؤكد موسوعية الشيخ عبدالله بن بيه، من حيث المعرفة الثقافية الإنسانية العميقة، وبخاصة على مستوى معرفة الموروث الثقافي العربي والإسلامي، كما هو حال ابن رشد (سنوضح هذا الجانب لدى ابن رشد لاحقاً). وحيث يشدد ابن رشد: "ونحن نقطع قطعاً أن كل ما أدى إليه البرهان (العقلي)، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"(25). نجد ابن بيه يدعو إلى "تحرير العقل بالدين، وتبرير الدين بالعقل، فلا تفاوت ولا تعارض"، والمعنى بذلك كما يوضحه الشيخ الجليل، أن الدين والعقل متناغمان؛ بل متكاملان. ولذلك "لا يمكن تعارض نقل صحيح مع عقل صريح، وإلا قُدِّمَ العقل الصريح الصحيح وحمل النقل على التأويل أو عدم الثبوت"(26). وعندما يتحدث ابن رشد عن مقصود الإنسان في البناء والعمران ومنافحة الزمان، يعتبر أن "معرفة السعادة الإنسانية والشقاء الإنساني، يستدعي معرفة ما هي النفس وما جوهرها؟ وهل لها سعادة أخروية وشقاء أخروي أم لا؟ وإن كان فما مقدار هذه السعادة وهذا الشقاء"(27). نجد أن الشيخ عبدالله بن بيه يحض "على معرفة النّفس أو الذات أوّلاً، وتزكيتها؛ لأن معرفة النّفس أولى درجات الإصلاح، ثم معرفة العالم، ثم معرفة الباري سبحانه وتعالى". فالخطاب (هنا) كفلسفة للأخلاق، يُلزم المتلقي باتباع مقياس ما، ويشترط لهذا التزام مبدأ معرفة الذات. وهكذا؛ فإلى جانب الحاجة إلى الأخلاق، تنشأ الضرورة السقراطية "اعرف نفسك". وهي أكمل السعادات وأجلّها؛ لأنها مُقدِمة لمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ بمقتضى المأثور النبوي الشريف، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه عرف ربه". وهو ما يندرج بشكل عام في إطار الفلسفة الرشدية (كما في فصل المقال) التي ترى "أنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتمَّ كانت المعرفة بالصانع أتمَّ"(28)؛ سواء أكانت المعرفة تتعلق بالنفس أو بالحكمة، أو بفهم موجودات الوجود. فضلاً عن معرفة النصوص لغة وتأويلاً، أو معرفة مقاصد الشريعة من حيث غاياتها الجوهرية على مستوى الاهتمام بالإنسان وتحقيق سعادته في العاجلة والآجلة. وعلى هذا المنوال، تتوالى المقاربات النظرية - الفلسفية والشرعية - المتناغمة في سياقات ما سميناها، "الغواية العقلانية الإيمانية" الفارهة في مشروع الشيخ الحكيم ابن بيه، والفيلسوف العليم ابن رشد.
الوجه الآخر في المقاربة بين الحكيمين
أما الوجه الآخر في المقاربة "العقلانية" التي تجمع بين الحكيمين ابن رشد وابن بيه، أن كليهما يتفاعلان مع عصرهما، وما خلص إليه الفكر الإنساني حتى زمانهما. وهذا جلي واضح في الخطابين، حيث يقوم ابن رشد في "تفسير ما بعد الطبيعة"، بمناقشة أفكار مختلف الفلاسفة السابقين واللاحقين على أرسطو حتى يومه ذاك، لا بل يذكر "مجموعات أخرى مثل القدماء والجدليين والمتقدمين لم يذكرها أرسطو؛ لأن الوعي التاريخي عند ابن رشد أعمق وأعم نتيجة للتراكم التاريخي من اليونان إلى الإسلام"(29). ويشرح مقولاتهم ويوضح مراميها، ويحدد مقولات القدماء في طبائع الجوهر المفارقة، ويفنِّد ويعلق ويرد وينقد ويدحض بثقة العالمين ومُكنة العارفين. ويتكشف ذلك استهلالاً من تقديم كتابه "تفسير ما بعد الطبيعة"، الذي "يبدأ أولاً بتحديد غرض العلم ومنفعته وأقسامه ومرتبته ونسبته ابتداءً من الأنفع، وهو التصور العام للعلم قبل الدخول في تفصيلاته"(30)، ثم يضيف موضحاً: "قصدنا في هذا القول أن نلتقط الأقاويل العلمية من مقالات أرسطو الموضوعة في علم "ما بعد الطبيعة" على نحو ما جرت به عادتنا في الكتب المتقدمة. فلنبتدئ أولاً، فنخبر بغرض هذا العلم، ومنفعته، وأقسامه، ومرتبته، ونسبته؛ وبالجملة فنبتدئ بالأمور النافع تقدم تصورها عند الشروع في هذه الصناعة"(31). وفي السبب الثامن "الهيولاني والمحرك الأقصى فثبتت هناك، أعني في العلم الطبيعي، مقدمات أمكن منها الوقوف عليها، بل ليس يمكن بيانها على التخصيص في غيره، وبخاصة السبب المحرك. وأما البيانات التي يستعملها ابن سينا في بيان المبدأ الأول في هذا العلم، فهي أقاويل جدلية غير صادقة بالكل، وليس تعطي شيئاً على التخصيص، وأنت تتبين ذلك من المعاندات التي عانده بها أبو حامد (الغزالي) في كتابه "التهافت"(32). وفي السبب الخامس عشر يلاحظ ابن رشد في منفعة "علم ما بعد الطبيعة" أنها "من جنس منفعة العلوم النظرية، وقد تبين ذلك في كتاب "النفس" (يشير هنا إلى كتابه "رسالة في النفس")، وقيل هناك: إن الغرض منها استكمال النفس الناطقة حتى تحصل على كمالها الأخير(33). ثم يستهل ابن رشد الكتاب بمقالته في شرح وتوضيح المصطلحات المستعملة في هذا العلم، وإمكانيات استعمالها؛ سواء عند الراسخين في العلم أو عامة الناس في "المقالة الأولى"، فمثلاً: "الهُوية، تقال بالترادف على المعنى الذي ينطلق عليه اسم الموجود، إلا أنها ليست تنطلق على الصادق، وهي أيضاً من الألفاظ المنقولة؛ لأنها عند الجمهور حرف وهنا اسم، ولذلك أُلحق بها الطرف المختص بالاسماء، وهو الألف واللام، واشتُق منها المصدر، فقيل: الهُوية من الهو، كما تُشتق الإنسانية من الإنسان، والرجولية من الرجل؛ وإنما فعل ذلك بعض المترجمين؛ لأنهم رأوا أنها أقل تغليطاً من اسم الموجود، إذ كان شكله اسم مشتق"(34). والأمر عينه في جميع المصطلحات مثل: الموجود، الجوهر، العَرَض، الهيولى، الصورة، السبب والعلة، الكمية، الكيفية، الاسطقس.. وغيرها. وهو يقوم في ما يقوم به؛ "باعتبار أن الشريعة الخاصة بالحكماء هي الفحص عن جميع الموجودات؛ إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها"(35). ويحرص ابن رشد على التمايز بينه وبيه سواه (أرسطو أو غيره)، حيث "يظهر التقابل بين الأنا والآخر في أفعال القول والتمايز بين المجتمعين مما يدل على وعي شديد بالفصل بين النص المشروح والنص الشارح... وعلاقة النصين الكمية هي أن النص الشارح في المتوسط يعادل ثلاثة أضعاف النص المشروح. وذلك يدل على أن الشرح ليس مجرد شرح لفظي بل هو تناول الموضوع نفسه وإعادة دراسته بحيث يكون النص المشروح مجرد البداية التاريخية. تراث السابقين من أجل تطويره بعد مراجعته ثم الإضافة عليه. بين أعلى نسبة وهي السدس وأقلها وهي المساواة الكمية بين النصين. لم يحدث في أية فقرة أو مقالة إنْ كانْ النص المشروح أكبر من النص الشارح؛ لأنه في هذه الحالة يصبح تلخيصاً لا شرحاً. النص المشروح ما هو إلا بداية لتأليف غير مباشر"(36). وما يدل على ذلك أن ابن رشد يزيد أحياناً الشرح أعلاماً ليست (حاضرة أو موجودة) في نص أرسطو؛ لوضعه في إطار أعمّ في تاريخ الفلسفة اليونانية ابتداءً من مقارنته مع غيره. وفي أحيان أخرى يبدأ؛ بالشرح وليس المشروح. وفي كل الأحوال؛ يتجدد حرصه عند استخدام أي عبارة تنطوي على فكرة، سبقه إليها أحد أن يردها له؛ حتى في حالة أرسطو وما قبله وما بعده من فلاسفة اليونان والرومان(37)، والعرب والمسلمين عموماً، حيث يلاحظ ابن رشد في "المقالة الرابعة" من كتاب "تفسير ما بعد الطبيعة" فيقول، "فأما وجود فلك تاسع ففيه شك؛ فإن بطليموس ظن أن هنا حركة بطيئة لفلك البروج غير الحركة اليومية يتم دورها في آلاف من السنين، وآخرون رأوا أنها حركة إقبال وإدبار، وهو الرجل المعروف ب"الزرقالي" من أهل بلادنا هذه، وهي جزيرة الأندلس. ومن تبعه منهم وضعوا لذلك هيئة تلزم عنها هذه الحركة، وإنما دعاهم إليها إثبات هذه الحركة أنهم رصدوا عودات الشمس إلى نقطة معلومة من فلك البروج فوجدوها تختلف. وآخرون رأوا أن هذا الاختلاف قد يكون لمزيد حركة أو حركات في فلك الشمس. وآخرون رأوا ذلك الخلل في الآلات أو لتقصير في الآلات نفسها عن إدراك ذلك على كنهه فيها. وبالجملة فيبعد عندي أن يلفى هناك فلك تاسع غير مكوكب؛ لأن الفلك إنما هو من أجل الكوكب. وهو أشرف أجزائه"(38). ويضيف: "وقد يظن في بادئ الرأي أن هذا هو الذي يذهب إليه أرسطو. وأما الإسكندر فصرح بخلاف ذلك في مقالته المشهورة في "مبادئ الكل"، وجعل المحرك لجميع الأفلاك في هذه الحركة محركاً واحداً؛ فأما أي الأمرين هو الأولى والأليق ففي ذلك لعمري موضع نظر؛ فإنه متى أنزل لكل كوكب من الكواكب السبعة فلك يخصه. عليه يتحرك هذه الحركة أعني اليومية – وذلك على ما جرت به عادة أهل التعاليم، فالأولى أن نضع لكل واحد منها في هذه الحركة، أعني اليومية، محركاً خاصاً. وإلا فتكون الطبيعة قد فعلت باطلاً. فإنّ وضعنا فلكاً لا تكون عليه حركة خاصة عبث"(39). ويخلص ابن رشد إلى وحدانية الخالق، فيقول: "وبالجملة الحال في العالم كما الحال في مدينة الأخيار؛ فإنها وإنْ كانت ذوات رئاسات كثيرة، فإنها ترتقي إلى رئاسة واحدة، وتؤم غرضاً واحداً. وإلا لم تكن واحدة"(40). وبكل الأحوال؛ يهدف ابن رشد من وراء التفسير، الذي قدم به عنوان كتابه "إلى البيان والإيضاح والقصد والمسار والاستدلال والتعليل. فالشرح هو وسيلة للإيضاح. وقد لا يكون الأمر في حاجة إلى إيضاح عندما يكون بيّناً بنفسه، مفهوماً أو معروفاً بذاته. وقد يكون المعلوم بنفسه باطلاً ساقطاً ليس بالضرورة صحيحاً مقبولاً. ويزول الغموض بإزالة الشكوك كما هو واضح في المقالة الثالثة في توضيح الغموض والانتقال من الشك إلى اليقين"(41). ويظهر الغرض "بوضوح في المقالة السابعة، مناقشة موضوع الصور المفارقة ومعركة أرسطو ضد أفلاطون، ومع أرسطو ضد بدايات الاغتراب الديني، أزمة كل عصر، ومنفعتها من أجل تحرر الإنسان من أسر الطبيعة وضررها بعد تحقيق الغاية في التجرد والتكلس، ووظيفتها في إعادة التوازن إلى الشعور بين الواقع والمثال"(42). ويفسر ابن رشد الجزء بالكل. النص بالعلم. والعلم بالنسق كله. فالكل هو الذي يضبط معنى الجزء، فيتفادى التكرار، ويلمّ جوانب الموضوع، ويرى البناء أولاً، يضع فيه مكوناته المختلفة التي تظهر عبر مقالات ما بعد الطبيعة المتتالية. وهذا هو الذي يفسر الإحالات إلى باقي العلمين الآخرين. فمع التحليل يوجد التركيب، ومع الغرض توجد البنية"(43). ويبدع ابن رشد في تركيبه الوافد على الموروث وفي استعماله الوافد لنقد الموروث؛ وبالتالي يحقق التفسير (أي تفسير ما بعد الطبيعة) هدفين؛ الأول: تخليص نص الوافد مما علق به من سوء تأويل الشراح اليونان والمسلمين، والثاني: استعماله لنقد الموروث الداخلي من سوء تأويل المتكلمين. الهجوم الرئيسي من أجل تخليص الوافد من التأويل الأفلاطوني (ثامسطيوس) الإشراقي (ابن سينا) لأرسطو، ومن علم الكلام والمتكلمين عامة والأشعرية خاصة ضد سوء استخدام العقل في فهم العقيدة(44). وفي مسألة "العلم الطبيعي" و"العلم الإلهي" يحدد ابن رشد العلاقة بينهما. فبعد أن "يبيّن خطأ ابن سينا في الخلط بين العلمين، يضع تصوره الخاص للصلة بينهما مع مراجعة نقدية للموضوع في تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان والمسلمين على حد سواء"(45). وفي هذا المبحث يكشف ابن رشد ارتباط العلم الإلهي بالعلوم الإنسانية؛ فيما يتعلق بعلم النفس ونظرية الاتصال وبعلم الأخلاق، الخير والخير الأقصى والسياسة والاجتماع، نظام المدينة وشرف الرئاسة فيها. ويظهر مدى إلمامه وفهمه للموروث العربي "بصورة واضحة أكثر من الجوامع المنطقية والطبيعية نظراً لإمكانية التعشيق بسهولة بين الوافد والموروث في الإلهيات. فيتصدر ابن سينا على الإطلاق وكأن جوامع ما بعد الطبيعة قد كتبت ضده. ثم محمد بن عبدالله، والفارابي، والغزالي، والزرقالي"(46). وربما هذا الاتجاه هو ما يُبقي للحكمة من فاعلية، وما يمكن أن يُبقي للبشرية من آمال بالتغلب على مشكلاتها العضال. هذا هو ابن رشد، ولا يستطيع أحد أن ينكر فضله في محاولة إعادة صياغة المسار الفلسفي على المستوى الإنساني، وبخاصة الإسلامي (في عصره)، ويحدد إمكانيات التفلسف العقلاني؛ في كل ما وصلت إليه الحكمة أو الفلسفة على مستوى النظر في الموجودات، وبيان ليس مقصود النظر الفلسفي فحسب، وإنما كيفية التفكير الفلسفي، ويبسطها ويتوسع فيها، ثم يجمع ما بين فروعها وأصولها في علم المنطق، من حيث أولويته في علم الطبيعة وعلم ما بعد الطبيعة، من خلال البرهان؛ حتى يصير بيان المعنى على أسهل ما يكون عليه الأمر. ذلك لأن القصد هو المعنى الكلي؛ باعتبار أن المعنى ليس تصوراً منطقياً أو رمزاً رياضياً؛ بل هو توجيه الشعور نحو الفكرة/المعنى مجازاً أو الشيء الموجود؛ إذ لكل مقالة أو نص، "غاية" و"قصد" و"هدف"، ويكون مجموع هذه المقاصد؛ المقصد الكلي للمقول أو للكتاب. وهو ما يُعرِفه الأصوليون بالاستقراء، أي بالإحصاء المعنوي؛ حتى تصل القرائن إلى حد إعطاء اليقين. وهذا الاستقراء الأصولي عرضه بن حزم قبل ابن رشد وعرضه بعده الشاطبي. وتتأكد موسوعية ابن رشد ومدى اطلاعه على الموروث الثقافي الإنساني عموماً، من خلال الإحالة الحاضرة في متن النص، إلى "الموروث الفلسفي واللغوي والكلامي في تفسير ابن رشد (...). يأتي ابن سينا ثم الفارابي من الفلاسفة، ثم المتكلمون والكلام وعلم الأشعرية من المتكلمين، ثم الشريعة والعرب (...)، وأخيراً الصابئة وبنو إسرائيل"(47). إذن؛ ليست من المبالغة بمكان أن نقول: إن ابن رشد ليس بشارح أرسطو (كما يحب أن يصفه البعض) فحسب، وإنما هو "الشارح الأعظم ليس كلقب لاتيني بل كلقب إسلامي؛ لأن الكندي والفارابي وحكماء الإسلام لم يشرحوا كل شيء. وإخوان الصفا جمعوا الوافد والموروث دون المزج بينهما في صياغة واحدة، وتمثل ابن سينا بسرعة بعد أن جمع ونظر وصاغ وتحول من النقل إلى الإبداع. وألقاب ابن رشد كثيرة: الفقيه، الأجلّ، العالم، المحصل، الكافي، فلقب الشارح أحد الألقاب؛ لأنه قام بالشرح كما قام بالقضاء فهو القاضي، وبالدفاع عن الفلسفة فهو الحكيم، وبنقد علم الكلام الأشعري فهو المتكلم، وكتابه بالطب فهو الطبيب. لا تعني الشارح الأعظم أنه تابع لأرسطو وأن كل رسالته في التاريخ هو أنه شارح لأرسطو خاصة في تصور شائع أن الشرح هو الفرع والمشروح هو الأصل"(48). فمؤلفاته في الشروح والتلاخيص والجوامع تجاوزت خمسة وأربعين مؤلفاً، يجدولها حسن حنفي حتى ست خانات: 1- أن المنطق أكمل العلوم؛ لأنه يتوزع على الأنواع الثلاثة. 2- أن الطبيعيات تنقصها الشروح كما أن الإلهيات تنقصها التلاخيص. 3- هناك نوع كامل من كل حكمة، تلخيص المنطق، جوامع الطبيعيات، شروح الطبيعة. 4- لكل كتاب واحد على الأقل، وتلخيص وجامع. 5- بعض الكتب لها نوعان؛ شرح وتلخيص مثل البرهان، وتلخيص وجامع مثل الجدل، والخطابة، والشعر، والسماء والعالم، وشرح وجوامع مثل ما بعد الطبيعة. 6- لا يوجد كتاب واحد لهذه الأنواع الأدبية الثلاثة باستثناء السماء والعلم بعدما تم العثور على النص العربي للتلخيص. التلخيص للمقولات والعبارة والقياس والسفسطة والجامع للسماع الطبيعي والكون والفساد والآثار العلوية والنفس والحس والمحسوس"(49). وذلك على أقل تقدير؛ أن الشرح ليس تكراراً للمشروح، وإنما هو إضافة تأويل جديد أي معنى جديد، كما تعرفه العرب بلغة أو صناعة النقد. ولذلك؛ من الإنصاف والعدل اعتبار ابن رشد (هو وحده وليس سواه) من بسط العقلانية في أساس عصر النهضة الأوروبية. وليس أدل على ذلك؛ ما أكده العديد من المفكرين الغربيين؛ من دون الإشارة إلى فضل ابن رشد، منهم عل سبيل المثال، جون بيوري، حيث يقول في كتاب "حرية الفكر" أن تنصُّر قسطنطين العظيم صار "فاتحةً لألفِ عامٍ عاشها الفكر في الأغلال، واستُعبدَ فيها العقلُ استعباداً بيّناً، وتوقفت فيها حركةُ العلمِ والعِرفان"(50). وقريب منه يقول كوندرسيه (1743-1794) في كتاب "مخطط لوحة تاريخية لألوان تقدم العقل البشري": إن احتقار العلوم الإنسانية كان إحدى الخصائص المميزة للمسيحية، الذي كان بمثابة انتقام من الفلسفة في أخص ما تختص به وهي الروح النقدية"(51). وآخرون كُثُر قالوا وأطنبوا في ذلك في هذا الشأن. ولكن جُلَّهم تجاهل من نَقَل العقل وأسس العلم إلى الغرب.
النظير بالنظير من دون أدنى مبالغة يمكننا أن نقول أيضاً: هذا هو بالدقة والتمام ما يقوم به ويمارسه اليوم؛ بجدارة أصولية عقلانية مائزة وحكمة إيمانية أخلاقية لافتة، علامة العصر الشيخ عبدالله بن بيه، في كل اجتهاداته الفِقهية، وفتوحاته النظرية، وإشراقاته الإنسانية. ذلك لأن خطاب الشيخ المجدد أيضاً، يتناغم مع عصره، ويتفاعل مع أفكار السابقين واللاحقين، ويتماهى في انشغالاته مع مشكلات الإنسان وروح الزمان، من حيث مقتضياته الحاقة أو الملحة في تدبير أو تيسير الشأن الإنساني، الذي يتغيّا الفلاح والصلاح وتحصيل السعادة على أحسن ما تكون عليه. وهو ما يشكل منهجية الخطاب في مبناها الفِقهي والفلسفي على السواء، من خلال مبدأ التوسيط أو المصالحات. وهو ما يجعلنا نعتقد أن النزعة النقدية في الخطاب تنحو منحى التداول أو المباسطة التي تذهب إلى حد التماهي في الحوار أكثر من النقض، وبعيداً عن الدحض، كما في الآتي: "نتفق مع الفيلسوف سبينوزا عندما يقول: ليس السلم عدم الحرب وإنما السلم اتحاد الأرواح"، فاتحاد الأرواح يعني اعتماد قيم راسخة في النفوس تمثل السلم الاجتماعي، تجلب الطمأنينة وتنزل السكينة، وتتشكل في مظاهر التضامن والتعاون والتعاطف والتجاوب في الأفراح والأتراح"(52). وعندما يقول نيتشه "إن الحضارة تمرض كما يمرض الناس، ودواؤها الفلاسفة"، فالشيخ الجليل يقول: "حضارتنا مريضة، ولكن الأدوية التي وصفت والعلاجات التي استعملت، مركبة تركيباً فاسد فأهلكتها"(53). ويوضح في نص آخر: "إن حضارتنا العالمية مريضة، ودواءها الحوار والتعارف والتعاون". ولا يُغفل ذكر الآخر؛ عندما يتحدث عن المشتركات الإيمانية "المبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء، أولئك الذين قال عنهم نيتشه في لحظة وعي شارد إنهم القلة الذين أوجدوا القيم في التاريخ"(54). وهكذا نجد الشيخ ابن بيه يتفاعل بإيجابية عندما يدعو داعي الحقيقة؛ مع فكر صاحب مقولة "مات الإله ونحن قتلناه"، ولا يتحرّج أو يتردد في إنصافه. وفي نص آخر؛ عندما يتحدث الشيخ عن أهمية الموروث يضيف في هذا السياق: "يجب أن نقدم هذه العادات والتقاليد في مقابل الإنسان الآخر، وهو صورة لإنسان الغرب المستقبلي؛ عند فوكوياما اقتباساً من الفيلسوف نيتشه، حيث يرى أن إنسان الديمقراطية الليبرالية؛ سيكون حراً بأخلاق العبيد، نذلاً لا قيم له ولا خلق ولا غيرة، أناني لا يهتم إلاّ بمصلحته الشخصية وشهوته المنحطة؛ سيخلع إنسانيته! إنه "الهلباجة"، كما تقول العرب"(55) وفي سياق حديثه عن التسامح يقول الشيخ الجليل: "يعتبر كارل بوبر أنه ما من أحد يضاهي فولتير في روعة التعبير عن التسامح؛ حين ربط بين التسامح وبين الوعي بالضعف الملازم لكينونة الإنسان، الذي يعرفه كل واحد من نفسه، فيجعله قادرا على تفهم خطأ الآخر وضعفه. ورغم هذا التصور الإيجابي، لم يكن دعاة التسامح أنفسُهم يعتبرون الحق في التسامح حقا مطلقا، وإنما ربطوه - على غرار ما فعل جون لوك وفولتير- بمقصِد السلم"(56). وهكذا؛ نجد أن الشيخ الجليل في سياق محاولته لإصلاح أخلال الحداثة؛ يُلمّح دون أن يفصح عن مراميه النهائية، أنه يتقصد الأصل أو الجذر في الموضوع، أي ما ذهب إليه كانط عندما أحال الحق في سردية "السلم الدائم" إلى العقل المحض، وهو الأمر الذي أحال بالتبعية الحداثية الغربية عموماً؛ "الحق" في فلسفة التشريع والقانون إلى العقل فقط، مقابل تغييب مرجعيات الدين والأخلاق على كل المستويات القانونية والحقوقية الدولية حتى اللحظة الراهنة. وهو ما ينجم عنه الإساءة للمعتقدات والمقدسات؛ بذريعة وهمية كاذبة تحت مسمى "حق حرية التعبير". في الواقع لقد تباين الشيخ عبدالله بن بيه مع كانط حول أولوية "الحق" أم السلم"؛ دون أن يسميه. ومعروف أن كانط في مشروع "السلام الدائم" اختار الحق؛ باعتباره المعيار العقلي الوحيد في فلسفة التشريع والقانون، التي تشكلت بضوئها نواة القوانين الدولية في الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان وملحقاته. أما الشيخ الجليل فاختار السلم. ذلك لأن "الحقوق فرع عن السلام، ولا ثبوت لفرع دون أصل"(57) والمعنى بذلك ليس المفاضلة، وليس ضياع الحقوق جملة في غياب السلم فحسب، وإنما يُضاف إلى ذلك إعادة الإنسية (بالمعنى الأخلاقي) إلى روح القوانين الباردة أو العقل البارد، الذي استحال في الحداثة الراهنة إلى الآداتية العقلانية التي مسخت الإنسان. ولكن هذا لا يعني أبداً؛ أن الشيخ الحكيم في إشراقاته التنويرية يعرف المهادنة، وإنما يدافع عنها بعزم إيماني راسخ، وحزم معرفي عقلاني رصين (إنْ صح التعبير)، وبخاصة في الموضوعات التي تندرج في إطار "فقه الواقع"، أو "واجب الوقت"، وله فيها بحوث ومؤلفات عدة، مثل قضايا حقوق الإنسان (الأقليات، والأغلبية والأقلية، والمواطنة الشاملة) والديمقراطية وحرية التعبير.. وغير ذلك من قيم الحداثة الراهنة (راجع مقالتنا السابقة). فيرافع عن وجهة نظره في أهم المحافل، ويقول في هذا الشأن: "قد تكون مرجعية حقوق الإنسان؛ كما تجسدت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي انبثق عن الثورة الفرنسية سنة 1789، وما عقبه من مواثيق وطنية وإعلانات عالمية، وما لحق ذلك من أجيال الحقوق، تعتبر الأساس الصالح المعتمد لدى المنظرين المعاصرين. ولكن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة، الذي يعتبر أسمى وثيقة دولية، هو نفسه غير حاسم في هذا الصدد، إذ يتصف بازدواجية تعبّر عن وعي واضعيه؛ بعُسر الجمع بين كونية المبادئ ونسبية التنزيل. ففي الفصول الأولى من الإعلان، تتوالى الحقوق مفصلة مطلقة، ثم يأتي الفصل 29 بمثابة الفصل المقيّد لإطلاق كل ما سبقه، حيث يعيد التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الفرد والجماعة، وبين الحريات والنظام العام. ونص هذا الفصل: على كلِّ فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموّا حرا كاملا. يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقرّرها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للشأن العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي" (58). ما يقتضي التنسيب والتدرج والمراجعة عموماً. ولكن يبدو أن الغير هنا (في الميثاق الذي يتشبث به المحاورون الغربيون) يقتصر على الآخر القريب ضمن الحدود الوطنية أو الثقافية، ولا يتعداه إلى المجتمعات الكونية أو الثقافات العالمية، وبالتالي لا تراعي "حقوق الغير في الميثاق" اختلاف البيئات، الأمر الذي "يفرض علينا عدم تجاهل الفروق المجتمعية والتباينات التاريخية والثقافية، والخصوصيات المحلية. فلا يمكن أن نؤسس لمواطنة متينة متجذرة في نسيجها المجتمعي؛ إلا بالحرص على ربط مفاهيمها؛ بثقافتها الموروثة، فلا يغترب الناس عن موروثهم، فتلتبس عليهم المفاهيم. (ويؤكد الشيخ قائلاً): إن ذلك ما نقوم به من خلال ترجمة لغة الدين إلى لغة المدينة والفضاء العمومي، لغة الحياة والقانون، حيث نستعير من نصوص التاريخ؛ لإنزالها على العصر الحاضر، مع الاحتفاظ لكل عصر بلغته وبيئته الزمانية والمكانية(59). ويضيف موضحاً: أن المواطنة تقوم على أسس كبرى هي المساواة في الحقوق والواجبات، ومبادئ الحرية وقبول التعددية، وهي أسس تحميها الدساتير، فلا ينبغي أن تكون محلّ خلاف. والإسلام كسائر ديانات العائلة الإبراهيمية، لا ينافي ما وصلت إليه التجربة الإنسانية في هذا المفهوم الحديث للمواطنة. وإن زاد عليها بالروح الأخلاقية التي يصبغها بها، والتي قد تعوز الصيغ المعاصرة أحيانا كثيرة"(60). وما سبق؛ في الحقيقة إنما هوإشارة مواربة، اي تلميح دون تصريح؛ إلى حقيقة أن الشيخ الجليل عبدالله بن بيه قد تحاور مع مركز "ويلتون بارك" التابع لوازة الخارجية البريطانية، ورديفه مركز رشاد للحوكمة الثقافية في مؤسسة "أديان" ومقره لبنان (بالإضافة إلى أكثر من خمسين شخصية مرموقة من المفكرين والعلماء اللاهوتيين أو الحكماء والعقلاء الإنسانيين على مستوى العالم)، على مدى عامين ونيف حول هذه القضايا، التي يتقدم فيه الشيخ ابن بيه بتصورات تراجع هذه القيم وتراعي الخصوصيات الثقافية وضرورات التناسب والتدرج في تنزيلها على تباين البيئات واختلاف الثقافات، إلا أن المركزيات المتعالية حالت دون أدنى مس بالقيم الغربية كما يراها واضعوها. ما دفع بحكم الأمر الواقع؛ الشيخ الجليل إلى إطلاق "إعلان أبوظبي للمواطنة الشاملة" الذي أصدره "منتدى أبو ظبي للسلم" في ملتقاه السنوي الثامن 2021 في ظل غياب هاتين المؤسستين. ولا يسعنا في هذا السياق إلا التأكيد المرة تلو الأخرى؛ على ضرورة إعادة التفكير في الجسور الممدودة بيننا؛ باعتبار أن "الأنسنة ليست نزعة تأليهية للإنسان أو لثقافة بعينها، فلا وجود للإنسان أو للثقافة بهذا المعنى المطلق والمجرد (..)؛ لأنها لا تستطيع أن تقرر بشأن المجتمع والتاريخ؛ إلا عبر المساءلة المتواصلة؛ لوضعنا الشخصي والاجتماعي". وبعيداً عن أي نزوع إلى رفض العولمة. إلا أنه من الضروري إبداع نظام (منظمة أو حكومة عالمية أو تشريع دولي جديد)، يقنن المال والاقتصاد المعولم وضبطهما؛ لتحقيق "السلم المستدام" الذي يسمح بتنمية متوازنة ومستدامة، من خلال إرساء ضابطة عالمية أخلاقية كونية متضامنة، مؤسَسة على رؤى عقلانية/أخلاقية تعيد النظر في الطبيعة البشرية، وتصوب مفهوم واتجاهات "الأنسنة" كما يجب أن تكون؛ بمقتضى النواميس الكونية. ذلك لأن "الأنسنة لا تتطور إلا عبر قطائع معرفية متلاحقة مع الماضي أو التاريخ". ما يستدعي إعادة النظر في كل ما أنتجته الحداثة الراهنة. "ولا سبيل إلى محاربة التوحش، ثم تسهيل التعايش بين الذاكرات الثقافية التي تمَّ بناؤها عبر التاريخ؛ إلا بالمعرفة الدقيقة للموروث"، وتعريضه لفحص دقيق وعميق؛ بغرض الاستفادة من كل التجارب البشرية في سبيل الارتقاء بقيم "الحداثة"؛ باعتبار أن "الأنسنة هي ملتقى الاختلافات الثقافية، التي يُفترض تشجعها العولمة والرقمنة الحادثة الآن؛ لأنها تحترم وتترجم صيغ الحاجات إلى الإيمان والرغبات في المعرفة"، التي هي مشترك بشري كوني بين مختلف الثقافات أو الحضارات. "لا يصنع الإنسان التاريخ، لكننا نحن التاريخ، فلأول مرة يغدو الإنسان العارف قادراً على تدمير كوكب الأرض بنفسه؛ باسم ديانته أو معتقداته"، أو آيديولوجياته أو بدوافع من حاجاته بغرض تحقيق الإشباع الذي من المؤكد أنه لن يتحقق إلا على حساب الآخرين؛ قهراً واغتصاباً. الأمر الذي يؤدي إلى الأحقاد والكراهية وما تثيره من نزاعات وحروب قد تنتهي إلى العدم؛ بما كسبت يدا الإنسان من قوة أو وسائل التدمير، وبما اكتسبت ذاته من جشع وطمع وإخلال بالنظام الإيكولوجي، التي كلها تقود إلى حتفه الأنطولوجي(61). وبالتالي لم يَعُد مقبولاً بالمطلق (بمقتضى المنطق أو العقل والأخلاق) ادعاء الحق المقدس بالحصريات القيمية أو الثقافية. كما لم يعد مقبولاً أن تكون الليبرالية (بالمفهوم الغربي السائد) جنرالاً ضابطاً للأنسنة. ولكن؛ طالما أننا لا نزال نفكر في إطار خطاب من سماته الوساطات أو المصالحات بالحوار (نقصد خطاب الشيخ ابن بيه)، فلا حيلة لنا إلا الاقتداء بسنته العقلانية، فنواصل ونقول: ما دمنا حريصين على الحق أو العدل والإنصاف في التفكير والتدبير، يتعين علينا الحرص على الصدق في الممارسة العقلانية.. الصدق الذي يعني "تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان"، كما تقول العرب؛ بمعنى أنه بمقتضى صواب المفاضلة العقلانية، أو معقول المنطق؛ كان لا بُدَّ من الصدق بالمفاضلة بين نظرية هي الأعم والأشمل، من حيث أنها الأجدى والأفضل أو الأكثر نفعاً للناس، وبين نظرية نكتشف أنها غير دقيقة (حتى لا نقول خاطئة)، أو أنها لا تقدم إجابات وافية على أسئلة الواقع؛ لأننا بهذه الطريقة نعثر على النظرية الأكثر صدقاً، من حيث أنها الأكثر استجابة لتحديات الواقع، وبالتالي هي الأكثر عدلاً وإنصافاً؛ لأنها جمعت ما حملته النظرية الأولى أو القديمة، وعلاوة على ذلك؛ قدمت إضافة عجزت الأولى عن تقديمها. والحديث هنا عن قيم الحداثة الراهنة التي لا يختلف أحد على نكوصها بالمعنى الإنساني. وما يقوم به الخطاب هنا إنما هو تصويب أو ترشيد الحداثة (كما أسلفنا) ليس أكثر. ولكن التعالي الثقافي المستوطن في اللاوعي، حال دون رؤية ذلك. ومع ذلك؛ كان من المفترض، أو بحكم العقل والمنطق، أن لا يجري التغافل عن حقيقة أن جميع النظريات الأخلاقية، وبما فيها نظريات الحداثة الغربية هي افتراضات حدسية، مؤسسة على مرجعيات تأويلية للنصوص الأولى؛ سواء في الفلسفة اليونانية أو في الأديان عموماً. وبالتالي هي تخمينات مفتوحة دوماً على الاختبار؛ حتى لو كانت مرجعياتها دينية خالصة (كما هو حال النظريات الأخلاقية في خطاب الشيخ ابن بيه)، فهي مفتوحة للتأويل أولاً، وللحوار والجرح والتعديل ثانياً، ولعل بإمكاننا إذ ذاك أن نقول إن بعض الحدوس أفضل من بعض؛ لأنها صمدت للاختبار أكثر من غيرها. وبكل الأحوال لا يعني ذلك، تجاهل النظريات الأولى أو ترذيلها أو شطبها، وإنما تتوقف المسألة على العدل والإنصاف. الأمر الذي تترتب عليه ضرورة التمييز - بمقتضى الحكمة والفضيلة - بين أمرين: - الأول: ما إذا كانت نظرية صادقة أو كاذبة بصفة موضوعية من حيث هي متطابقة أو غير متطابقة مع الوقائع (بمعنى أنها متناسبة مع وقائع العصر والزمان أو غير متناسبة). - الثاني: أن نعرف ما إذا كانت (النظرية الجديدة) متطابقة مع الوقائع (62)، أي تتناسب مع الواقع. وهي مسالة في غاية البساطة. أما التصديق أو التكذيب؛ إذا كان يتقصد الخير العام أو النفع الكوني، فهو لا يعني القدح أو المدح بأي حال من الأحوال. وهذا ما يتغيّاه خطاب الشيخ عبدالله بن بيه؛ من دون مغالاة أو زيادة في التحليل والتعليل أو التأويل. ما يعني أنه ليس من الضروري أن تكون تحيزاتنا أو اقتناعاتنا الفكرية أو الثقافية يقينية أو مبنية على اليقين. علينا الثقة بإمكانية وجود الصواب في مكان آخر، وقد يأتينا البيان في برهان جديد يدفعنا للمراجعة في أوانه. فالأسلم والأكرم - بمقتضى الحكمة - الاقتداء بمقولة الإمام الشافعي رحمه الله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وفي الحق علينا أن نعتصم بهذه الروح، التي تتذرع بهذا الموقف (وهو هنا موقف الشيخ ابن بيه)، وإلا وقعنا في الارتيابية. وهو ما يضعنا في منزلة من منزلتين، وكلاهما معيب: الموقف الدوغماتي الوثوقي من ناحية، والموقف الارتيابي الشكي من ناحية أخرى(63). وبالتالي يمكن القول إن الشيخ الجليل "واقعي ميتافيزيقي (Metaphysical Realist)؛ بمعنى أن الشيخ يرى النظريات؛ إنْ صدقت، تشير إلى واقع مستقل عن الذهن ومستقل عن النظريات عينها. وبالتالي لا ضير إذا ما حصلت مراجعتها أو تعديلها أو حتى تبديلها؛ باعتبار أن الغرض من الأفكار أو النظريات (حتى الأخلاقية) إنما هو الخير العام. وعلى الرغم من ذلك، فالخطاب في بنيته الدلالية والمفهومية لا تتيح لهذه الواقعية الميتافيزيقية في التأويل أن تأخذنا بعيداً، أو أن تكون أكثر من "فكرة تنظيمية" أو ما سميناها "إمكانية اجتماعية عقلانية إيمانية" واقعية أو عملية، تساعدنا على تدبير معايشنا بسلام وأمان ومحبة وإحسان. "فلا يزال علينا أن نقرر متى تكون نظرياتنا متطابقة مع الأشياء (أو الموجودات في الواقع) كما هي عليه بالفعل. ونحن لا يسعنا أن ننظر "من خارج" نظرياتنا إلى الواقع، ولا نملك إلا أن نعدّه واقعاً ذلك الذي تخبرنا أفضل نظرياتنا، في ضوء النقد والاختبار الجاريين، أنه الواقع"(64). ومن المؤكد الذي لا يرقى إليه شك، أن خطاب الشيخ المجدد عبدالله بن بيه يحيلنا في هذا الموضوع بدقة، إلى ما انتهت إليه الحداثة من حيث أنها أسطرت العقل، واعتباره المرجعية المطلقة في حصاد المعرفة، التي انتهت بدورها إلى الذاتية الفردية، المختنقة بالأنا المركزية المتعالية مع الخارق النيتشوي، وما ترتب على ذلك من مشكلات ومفاصلات لايزال صداها يتفاعل بالفكر الفلسفي منذ عقود عدة. وبهذا المعنى (حسبما نعتقد) يحيلنا خطاب الشيخ المجدد إلى ما أشار إليه كارل بوبر على مستوى ضرورة التمييز بين "عوالم ثلاثة متبادلة التأثير والاعتماد: العالم الفيزيقي، العالم العقلي الذاتي، العالم الموضوعي للنظريات والرياضيات والأدب والفن.. إلخ، الذي توجد داخله علاقات منطقية موضوعية، وهي موضوعية بمعنى أنها مستقلة عن وعي العقول الفردية ودرايتها. تنشأ موضوعات العالم الثلاث بواسطة عقول العالم الثاني، استجابة في الأغلب مشكلات مدرَكة في العالم الأول، غير أنها ما إنْ تتم صياغتها حتى يصبح لها وضع موضوعي يتجاوز نِيات الفرد. ومع ذلك فقد ركزت الفلسفة التقليدية على المعرفة بمعناها الذاتي، أي ما يتسنى للشخص الفرد أن يعرفه، وكان منطلقها هو أنه العقل الفردي فقط، ومما يمكن أن يعرفه العقل الفردي بالفعل يمكن تبرير أية دعاوى معرفية جديدة"(65). وهذا ما يجب التوقف عنده ومراجعته. وهو ما يقوم به خطاب علّامة العصر الشيخ عبدالله بن بيه، ليس من حيث النقد للنقد فحسب، وإنما - وهو الأساس - من حيث الاهتمام بالإنسان ومراعاة واقع الزمان؛ بمقتضى الحكمة والشريعة في تحقيق السعادتين. ولعل أهم الدلالات على الحكمة الصافية التي تجمع ما بين ابن رشد وابن بيه في هذا المقابلة النظرية؛ باعتبارها سمة إنسانية خالصة مُخَلّصة، ولا تحتاج إلى مزيد تأويل أو تعريف، أنهما يتشاركان دماثة الخلق، وسلامة الطوية أو نقاء السريرة، وصفاء الروح، وإباء الجِبلة. وهي علامات إذا ما اجتمعت بالنفس، فاضت بالجمال، وتلاقت فيها خصال النُبل الإنساني الفطري، الذي يشرعن بالسلوك - حسبما تحيلنا إليه مرويات العرب في مكارم الأخلاق - التواضع العفوي والتسامح، وتقدير الفضل وإجلال أهله أيما إجلال، وإنصاف الحكمة، وكأنها الحق المستحق، والانتصار لأهلها من أينما جاءت، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن". ولذلك نجد ابن رشد لا يتردد في الثناء على أهل الحكمة من كل المِلل والنِحل، حيث يسبغ عليهم آيات العرفان بالفضل والسناء الجميل، وفائق الشكر والامتنان النبيل، وجزيل التقدير والاحترام الأثيل. فهي لوازم أخلاقية حاضرة في الثنايا والمتون بكل ما كتب ودوَّن من نصوص، وكأنها من متلازمات الإبداع وأخوات الفنون. ونجد مثل هذه الروح الشفيفة الرهيفة، ليس في الترسيمات الفكرية في خطاب الشيخ الجليل فحسب، وإنما أيضاً هي حاضرة في نَفَس الفيلسوف الأصولي عبدالله بن بيه.. حاضرة دائماً وأبداً؛ بسماحة وملاحة بائنة لا تخفى على نظر، متلألئة وكأنها في النهارات شمس وفي الليالي الظلماء قمر. بشاشة تملأ الحيّ والمُحيّا كلما ذُكر عن الإنسانيين خبر، أو لاح لهم طيف أو عَبَرْ.
الخاتمة: يمكن أن نقول: إن الشيخ المجدد عبدالله بن بيه يتبنى في خطابه الفكري منهجاً يجمع بين أصول الفِقه ومقاصد الشريعة ومواءمتها مع الواقع المعاصر؛ بروح برهانية عقلانية إيمانية. وذلك من خلال نظرة كلية تجمع بين الحكمة والشريعة، فتنطلق من الكليات إلى الجزئيات ذهاباً وإياباً، في استقراء الدلالات واستنباط المعاني من محمولات النص، على خطى الفيلسوف ابن رشد الحفيد، مع تركيز أكبر في خطاب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه على البعد القيمي الأخلاقي، وتفعيل المشتركات في النواميس الإنسانية من خلال حوار الثقافات، إلى جانب التوظيف العملي للمنطق والفلسفة في خدمة المقاصد وتحقيق المناط؛ بجذالة لغوية ماتعة، وأسلوبية رائقة تحاكي العقل والقلب، فتتناغم مع الروح أو الوجدان في الإقناع والإمتاع بقدر المستطاع الإنساني في ألفة حميمية مدهشة؛ باعتبار أن "الاستطاعة شرط من شروط التكليف كما العقل سواء"(66). وعلاوة على ذلك؛ تجمع منهجية الشيخ ابن بيه بين الروح الأكاديمية، حسب مقتضيات البحث العلمي، والنزعة السوسيولوجية، التي ترصد الظواهر الاجتماعية، وتقلبات أحوال الإنسان على اختلاف تصاريف الزمان. هذا بالإضافة إلى دوره الحاسم في إعادة مفاهيم التنوير إلى أصلها أو جوهرها الرحماني أو الإنساني كما هو في روح الإسلام الرحماني الصحيح. وتجسر العلاقة بين الإسلام والعالم في زمن العولمة وعصر الرقمنة، وبين الموروث وضرورات المعاصرة، من خلال اجتهادات مائزة في فقه الواقع والتوقع من أجل تحقيق المناط؛ من دون تفريط أو عدول لا في الفروع، ولا في الأصول. إن العلامة الشيخ عبدالله بن بيه، بحق، يصح عليه قول الرسول الكريم: "يحمل هذا العلم من كل خًلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"(67) وقصور العاقلين أو عجزهم عن التفكير خارج الصندوق. وبالتالي؛ لا نبالغ بالقول: إن العلامة الشيخ عبدالله بن بيه، يشكل بدوره، علامة فارقة ليس في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر فحسب، وإنما في تاريخ الفكر الإنساني عموماً، وبخاصة على مستوى تقديم سردية دينية جديدة، عمادها التصحيح والتجديد والتسامح، وهي بحق سردية فلسفية جديدة، ترسي دعائم أنموذج إرشادي (براديغم) للسلم، يشمل المعاقد الأساسية لرؤية تنويرية "عقلانية إيمانية"، تعيد للإسلام بعده الكوني، وتتيح في الوقت عينه الفرصة لتحقيق سلم مستدام، جوهره السلام بين الإنسان وذاته، والسلام بين الأديان. وهي بحق جديدة على كل المستويات العلمية وعلى اختلاف المعايير الفلسفية والدينية، ليس لأنها مغايرة للسرديات الإنسانية قاطبة، وإنما أيضا؛ لأنها لأول مرة تمتح معينها من روح الإسلام الرحماني الصافي. ذلك لأن سقف التنوير أو الأنسنة فيها إنما هو "الكتاب والسُنّة"، كما يُعبّر الشيخ نفسه، ويكرر ذلك في مختلف محاضراته. فكلا الفيلسوفين الحكيمين صنوان، ينهلان من المعين عينه، "الحكمة والشريعة"؛ بغرض استعادة الإنسية إلى جوهرها المتآخي بالفطرة السوية والحكمة الإنسانية، وتحقيق مقصودهما في النماء والرخاء والسلام والأمان من أجل سعادة الإنسان الآجلة والعاجلة. فهذا النوع من المعرفة أو التنوير الإنساني هو بحق نموذج فذ للحوار بين الثقافات؛ مع اعتزاز بحضارة الذات، واحترام كامل لحضارة الآخر. ويدل ذلك على فكر إنساني متفتح، مشرئب دائماً وأبداً إلى المستقبل؛ بحثاً عن الحقيقة المشتركة التي ينافح الجميع في سبيل معرفتها؛ باعتبار أن غاية المعرفة الحصيفة إنما هي الحقيقة بالعبارة الشريفة.. إنها معرفة تنويرية أصيلة تحيي التراث القديم، وتكمل جهود السابقين في البناء المعرفي، من خلال إبداع الوازن الجديد في سياق عملية تواصل التراكم الحضاري الذي يساهم بفاعلية في عمارة مجد الإنسانية. ومن بداهات العقل أو معقول المنطق أن يُعتبر الشيخ عبدالله بن بيه رائد التنوير المعاصر، الذي يؤهله بجدارة إلى أن يكون الوريث الشرعي لتيار الحكمة والشريعة في مدرسة ابن رشد العقلانية الإيمانية، التي كان لها (ذات يوم) فضل على العالم أجمع، لا ينكره سوى الغافلين أو من يريدون التغافل، وهؤلاء لهم بالجاهلين أسوة، تجعلهم مع الحاقدين والكارهين أخوة.
المراجع والهوامش: 1- ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد المِلة، تقديم - محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، سلسلة التراث الفلسفي العربي- ابن رشد2، ص-31. 2- ابن رشد، المرجع السابق، ص-31. 3- ابن رشد، المرجع السابق، ص-32. 4-ابن رشد، المرجع السابق، ص- 32-33. 5- ابن رشد، المرجع السابق، ص- 113. 6- تأطيرية الملتقى الأول لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (بات اسمه "منتدى أبوظبي للسلم" منذ عام 2019، ص51-52. 7- المرجع السابق، تأطيرية الملتقى الأول. 8- إيريك فروم، ماوراء الأوهام، ت، صلاح حاتم، دار الحوار للنشر والتوزيع - سوريا، ط1، 1994، ص –143. 9- إريك فروم، الإنسان بين المظهر والجوهر، عالم المعرفة العدد 140، ط-1989، ص-127. 10- أنظر: كلمة الشيخ عبدالله بن بيه في افتتاح جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، 16 نوفمبر 2020، بصفته رئيس مجلسها العلمي الأعلى. 11- الشيخ عبدالله بن بيه، مشاهد من المقاصد، مسار للطباعة والنشر – دبي، الطبعة الخامسة، ص 79-80-81- 82 -83. 12- ملحقان أثبتهما محمد عابد الجابري في نهاية تقديمه كتاب ابن رشد "الكشف عن مناهج الأدلة". 13- الاسم الكامل لكتاب ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشُبهِ المزيَّفة والبدع الضالة. 14- المرجع السابق، ص- 67. 15- فصل المقال، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، تحقيق - محمد عمارة، ص-121-122. 16- المرجع السابق، فصل المقال، ص 163. 17- أنظر: كلمة الشيخ عبدالله بن بيه، "الثقافة العربية والمستقبل"، مهرجان الجنادرية-الرياض - فبراير/شباط 1999. 18- انظر: تصورية الشيخ عبدالله بن بيه في ملتقى "منتدى أبوظبي للسلم" الأول. 19- انظر: كلمة الشيخ عبد الله بن بية في حوار الشرق والغرب -نحو عالم متفاهم ومتكامل، أبوظبي عام 2016. 20- انظر: كلمة الشيخ عبدالله بن بيه، في "حوارات المواطنة الشاملة"، أبوظبي 2018. 21- مرجع سابق، تأطيرية ملتقى منتدى أبوظبي للسلم الأول. 22- مرجع سابق، الكشف عن مناهج الأدلة، ص- 113. 23- انظر: عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، "إثارات تجديدية في حقول الأصول"، ص. 159-160. 24- الشيخ عبدالله بن بية، إثارات تجديدية في حقول الأصول، ص- 17. 25- مرجع سابق: الكشف عن مناهج الأدلة، ص-33. 26- أنظر: إثارات تجديدية في حقول الأصول. 27- مرجع سابق: الكشف عن مناهج الأدلة ص- 182. 28- ابن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق- محمد عمارة، ط -1969، دار المعارف - القاهرة، ص-22 29- حسن حنفي من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل: (3) الشرح)، مؤسسة هنداوي -2017، ص- 162. 30- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-393. 31- عثمان أمين، تلخيص ما بعد الطبيعة- ابن رشد، القاهرة ط – 1958، ص-3. 32- تلخيص ما بعد الطبيعة، مرجع سابق، ص-6. 33- تلخيص ما بعد الطبيعة، مرجع سابق، ص-8. 34- تلخيص ما بعد الطبيعة، مرجع سابق، ص13. 35- تفسير ما بعد الطبيعة، مرجع سابق ص-22. 36- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-124. 37- حسن حنفي، مرجع سابق، (يذكر نحو ستين مفكراً بالهامش)، ص- 134. 38- تلخيص ما بعد الطبيعة، مرجع سابق، ص-133. 39- تلخيص ما بعد الطبيعة- ابن رشد، مرجع سابق، ص-134-135. 40- تلخيص ما بعد الطبيعة- ابن رشد، مرجع سابق، ص-143 41- حسن حنفي، مرجع سابق، ص- 125. 42- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-126. 43- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-127. 44- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-180. 45- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-185-186. 46- حسن حنفي، مرجع سابق، ص- 399. 47- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-178-179. 48- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-14. 49- حسن حنفي، مرجع سابق، ص-14-15. 50- جون بيوري، حرية الفكر، المركز القومي للترجمة – القاهرة، ت- محمد عبد العزيز إسحاق، ط-2010، ص-49. 51- مونيس بخضرة، تاريخ الوعي.، الدار العربية للعلوم ناشرين، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، ط-1 ،2009، ص-176. 52- انظر: الشيخ عبدالله بن بيه، تأطيرية منتدى أبوظبي للسلم الأول. 53- تأطيرية ملتقى أبوظبي للسلم الأول، مرجع سابق. 54- الثقافة العربية والمستقبل، مرجع سابق. 55- الثقافة العربية والمستقبل، المرجع السابق. 56- التسامح وأسسه المنهجية في الإسلام، مرجع سابق. 57- تأطيرية ملتقى منتدى أبوظبي الأول، مرجع سابق. 58- انظر: كلمة الشيخ عبدالله بن بيه، الملتقى الثالث من "حوارات المواطنة الشاملة" لندن. 59- (الشيخ عبدالله بن بيه، المرجع السابق). 60- انظر: كلمة الشيخ عبدالله بن بيه، في الملتقى الثالث من "حوارات المواطنة الشاملة" في لندن. 61- المقتبست بتصرف من المبادئ العشرة التي قدمتها جوليا كريستبفا اكتوبر 2011 في كنيسة القديس فرانسيس الأسيزي، بدعوة من البابا بنديكت السادس عشر؛ لبحث سؤال الأنسنة في مسار الحداثة الراهنة. 62- عادل مصطفى، كارل بوبر مائة عام من التنوير، ط-مؤسسة هنداوي 2017، ص-43. 63- برتراند راسل، حكمة الغرب، ت-فؤاد زكريا، عالم المعرفة، ط-1983، ص-242-243. 64- مائة عام من التنوير، مرجع سابق، ص-45. 65- مائة عام من التنوير، مرجع سابق، ص-47. 66- مرجع سابق، الكشف عن مناهج الأدلة، ص- 188. 67- مرجع سابق، الكشف عن مناهج الأدلة، ص- 61.
#محمد_وردي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التنوير بالمحبة والإحسان في بناء الإنسان
-
شيخ الإنسانيين.. التنوير بالحكمة والشريعة
-
سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه
-
سردية السلم والتنوير والأنسنة والغواية العقلانية الإيمانية
المزيد.....
-
مقطورات مغمورة ومركبات عالقة.. شاهد نتائج الفيضانات الخطيرة
...
-
بايدن يُحذر: أمريكا تواجه -أياما مظلمة- في عهد ترامب
-
مصر.. تداول فيديو لشخص يدعي أنه ضابط شرطة -مختف قسريا- والدا
...
-
-هذا موت وليس مساعدة أو طعامًا-.. شاهد ردود فعل سكان غزة على
...
-
-مصالح مشتركة-.. أيّ دور لعبته حرب غزة في تقارب السيسي وأردو
...
-
البرلمان السلفادوري يمنح الرئيس بوكيلي قابلية الترشح إلى ما
...
-
قوافل المساعدات تدخل السويداء وسط هدوء حذر
-
خطة سحب سلاح المخيمات.. حسابات ما بعد -دبور-
-
دمشق تشكل لجنة تحقيق في أحداث السويداء
-
بعد وفاة شاب وإصابة 6 بحفلة محمد رمضان يزعم: كانت محاولة اغت
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|