محمد وردي
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 16:16
المحور:
قضايا ثقافية
لقد سقطت نتيجة المقارنة من البحث سهواً فاقتضى التنويه والنشر منفصلة.
1- عاش ابن رشد في سياق عصر (القرن الثاني عشر ميلادي)، حيث كانت لا تزال هناك بقية باقية من القوة الحضارية للخطاب العربي والإسلامي (بالمعنى الثقافي الواسع)، ولذلك انشغل في إصلاح البيت الداخلي، من حيث إعادة مقاصد الشريعة - في الفِقه والتأويل – إلى مساراتها الإنسية الرحمانية الأصيلة في روح الإسلام، وذلك بموازاة الجهد العقلاني الوازن في إطار الحكمة ودورها في عملية استنهاض الشخصية العربية والإسلامية، وتفعيل قواها الحيوية – في إطار محاولة فكرية علمية - من أجل إرساء دعائم نهضة حضارية جديدة.
2- الشيخ عبدالله بن بيه يعيش في سياق زمن موسوم بضعف وهزال، بل باستضعاف حضاري لا سابق له في تاريخ الأمة على كل المستويات الثقافية.. زمن محفوف بمهاوي التخلف والانقسامات العميقة والفتن السحيقة التي تضرب خبط عشواء بأوصال الجسد وتفتك بروح الإنسان، ما يجعل العالم العربي والإسلامي كما القصعة يتهافت عليها الآكلون من كل حدب وصوب، وهو ما تنبأ به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا". ولذلك انشغل الشيخ الجليل بالإصلاح وتحصين البيت الداخلي؛ بموازاة تعزيز التسامح وترسيخ قيم السلم، من أجل المصالحة مع الذات والانفتاح على الآخر وملاقاة العالم في منطقة وسطى، أساسها الحوار الندي المتكافئ، والتعاون والتفاعل بالحُسنى، بل التكامل بالحُسنى إن أمكن؛ بَدَل التنابذ والاحتراب، رحمة بالبشرية وتجميلاً للإنسانية كما أرادها الله لنا، التي هي مغزى ومعنى الحياة الطيبة في تحقيق السعادتين.
3- ابن رشد وقف بوجه التحريف والتضليل أو سوء التأويل في مقاصد الشريعة، وأعاد موضعة العلم الحق من خلال رسم إمكانيات التفلسف العقلاني، وذلك بمراجعة سيرة الفلسفة منذ بداياتها الأولى حتى زمنه؛ باعتبار أن الحكمة إنما هي معرفة أتمّ بموجودات الوجود، أي معرفة سببيتها أو علتها الغائية ومآلاتها النهائية - ما كان وما سيكون - أسوة وهداية بآيات النظر والتفكُر أو التدبُر القرآني.
4- الشيخ ابن بيه أعاد موضعة الفروع في سياقات الأصول، وضبط سلطة الأصول في مقتضيات الفروع، أي حضورها الأصيل في كل ما تنتهي إليه الفروع في مقاصد الشريعة؛ على تباين أحوال الإنسان أو اختلاف المكان والزمان، من دون أدنى زغل أو أقل خطل. أما على مستوى ملاقاة العالم وفاعلية المشاركة الندية في صياغة مستقبل البشرية، فراجع ما انتهت إليه المعرفة ورصد مسارات الحداثة، فضبط أخلالها، وهو ما شاركه في بعضها العديد من المفكرين الغربيين أنفسهم، قدماء ومعاصرين، ولكنه تباين عنهم مجتمعين في تشخيص بعض أسبابها، من خلال تقديم سردية سلمية إسلامية جديدة، لاقت قبولا عالمياً واسعاً من حيث المنطلقات والغايات، غير أنها من حيث إمكانيات تصويب أو ترشيد مسارات الحداثة الراهنة، اصطدمت في الواقع بالمركزيات الثقافية المتعالية، التي تجعل القوة الحضارية - على مستوى الخطاب - عمياء في بعض وجوهها، كما أسلفنا، على أمل تتغير التابوهات الدوغمائية.
5- ابن رشد دفع غالياً ثمن موقفه الإصلاحي والعلمي، ولم يشفع له إبداعه النقدي، فعاش أيامه الأخيرة منبوذاً منفياً عن مراتع شبابه وإزهاره وإثماره العقلاني الطيب. والسبب – من دون شك - تلك البقية الباقية من القوة الحضارية التي كانت تشهدها الأندلس، والتي حالت دون أن تستشعر السلطة خطر الغلو ومخاطر التطرف والتضليل أو مهاوي التخلف وضلالات العَمَاء والتجهيل.
6- الشيخ ابن بيه لم يدفع أثمان مواقفه النقدية والإصلاحية تضييقاً وظلماً أو نبذاً ونفياً؛ لأنه يعيش في زمن لا يحتاج بيان رداءته وانحطاطه مناصراً أو مؤازراً، فالكل يرى ويتغافل أو يتجاهل، يسمع و"يطنِّش" أو يطأطئ، من دون تفاعل واستجابة، وبخاصة من النخب العقلانية، آملين أن يتغير الحال في المستقبل، وليس ذلك ببعيد في فلسفة الموضوعية ومقتضيات العقل والمنطق، وإنما أصاب الشيخ الجليل في الواقع ما يصيب المثمرات الحانيات من حدف بالحجارة في كل أوان أو زمان. أما على المستوى الشخصي فهو آمن في سربه (ولله الحمد والمِنّة)؛ لأن وراءه سلطة (وإنْ كانت في دائرة ضيقة، ولكنها حازمة أو فاعلة تنموياً بحق) تدرك سوءات الجهل وفداحات التخلف. فضلا عن إدراكها العميق من مخاطر الفِتن والنزاعات والصراعات الدموية ليس على الخاصرة العربية والإسلامية الرخوة فحسب، وإنما على مستقبل التنمية البشرية جمعاء؛ باعتبار أن الحروب تأكل الحرث والنسل، ولا تستثني من أهوالها الطير والحيوان.
7- ابن رشد علم من أعلام الفكر الإنساني، منارة عقلانية هادية كلما عصفت العواصف وادلهمت الظلمات على شواطئ النجاة أو قصفت القواصف واشتدت الجهالات.. كلما ضاقت المسارات أو انسدّت سُبُل الحياة في وجه الإنسان العاقل، أي الإنسان العارف الذي أنتج الحضارات في مسيرة البشرية.
8- ابن بيه حاضر ناضر، شاهد على المأساة، ينافح بعزم وثبات اللا معنى، ويكافح اللايقين باقتدار وثقة العارفين، حيث يفكك المتعاليات الثقافية، ويقوض سرديات العبث أو بؤس العدميات، فيبعث الأمل من المستحيلات. وكلما ضاقت سُبُل النجاة، نجد فكره كيف يجعل للحياة معنى يستحق أن نعيش لأجله، وكيف يخط علامات الخلاص؛ من خلال الانتصار للإنسان وبناء الحياة النامية. ومع ذلك لا نهتدي بنور فكره التنويري إلى أيسر ما نروم وأقصى ما يتقصده العقل من غايات. وربما هذا من سوءات الزمان، وربما هذا من غرائب الإنسان في زمن اضمحلال القيم وغلبة النسيان أو تهافت معنى الكرامة وبعثرة إنسية الإنسان!
#محمد_وردي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟