|
|
أخلال فلسفية أم مشكلات التفلسف
محمد وردي
الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 10:06
المحور:
قضايا ثقافية
نُسب إلى نيتشه "التفلسف بالمطرقة"، أي طَرْقُ ما يَرْكُنُ إليه العصر من أفكار ومعتقدات؛ باعتبارها "أصنام فارغة"، وأن طرقها يجعلها تحسّ فراغها وخواءها. هذا ما شاع وجرى تداوله على نطاق واسع على اختلاف المذاهب النقدية التي تناولت فكره من يومه إلى يومنا هذا. فهو ناقد قاسي للتاريخ والأديان. ونظن أن التفلسف بالمطرقة أو ما هو أثقل منها، إنما هو أمر معقول من حيث المبدأ؛ باعتبار أن أهم خصوصيات التفلسف هي المعيارية النقدية، ولم يكن النقد يوماً خفيفاً على القلب - بوجه خاص على قلب الفيلسوف - ومن يقل غير ذلك يبدو أنه يتألّه. أما إذا كانت المطرقة النيتشوية تحيل إلى هدم ما قام في عمارة الوعي من أمثولات ميتافيزيقية، أي تفكيك القيم، تأسيساً على مقولته "مات الإله، ونحن قتلناه"، فهذه مبالغة؛ لأنه تقصد تقديم نظير أو بديل قيمي - بغض النظر عن صوابه أو خطأه - وبالتالي لا يجوز اعتبار المقولة على أنها تعني زوال الله، أو "أن العالم ما فوق الحسي أو عالم المعقولات الميتافيزيقي قد بات من دون قوة فاعلة، وصار غفلاً من المعنى، خلواً من الأثر؛ بل تجري هاتيك العبارة أيضاً، على لسان نيتشة كبشارة بميلاد نحوٍ جديد من الإنسانية" (محمد الشيكر، هيدغر وسؤال الحداثة، ص 61-62). وعلى العموم هذه مسألة قابلة للجدل؛ لأنها مبنية في جملة منظورات نيتشه الفكرية على نقد سرديات الدين (اليهويدية والمسيحية بشكل خاص)، وثوابت الأخلاق (من اليونان إلى عصره الذي وُسم بالتنوير)، حيث قامت رؤيته على مستويين من النظر أو التفلسف: الأول: السردية المسيحية تقول إن بيلاطوس هو الذي صلب المسيح عليه السلام بعد أن وشى به اليهود. فكيف يقتل الإنسان ابن الإله أو الإله؟ والأمر عينه في السردية اليهودية، التي تقول إن "النبي يعقوب غلب الرب" (سفر التكوين، الإصحاح 32، الآيات 24-30) وتعرف القصة باسم: "مصارعة يعقوب مع الله" أو مع "رجل" يُفهم في التقليد التوراتي على أنه تجلي إلهي أو ملاك الرب. وفي سفر التثنية أن الله أمر موسى فلم يسمع كلامه، وتراجع الله أمام موسى). فكيف يغلب الإنسان الرب؟ الثاني: الأخلاق بالأصل الجينالوجي، وبالمعنى الأنطولوجي، إنما هي منتج حدسي بشري سابق على الأديان. ولكن هذا المنتج (بالتداول والعادة والتقادم) شكّل نسقاً حاكماً بالوعي في الفلسفة اليونانية الأولى، وبخاصة مع الرواقية والأفلاطونية والأرسطوية (وما تلاهم من اتجاهات عقلانية)، حيث صارت الأخلاق بمثابة البنية الأساسية للفكر الميتافيزيقي والديني (المسيحية واليهودية بوجه خاص)، القائم على ثنائيات الخير والشر، والحسن والسيء، والخطأ والصواب.. وهكذا صارت الأخلاق بمقتضيات العقل؛ بمثابة العمود الفِقري للميتافيزيقا في الحداثة الغربية. ومعروف ما ترتب على أسطرة العقل من عدمية وخواء إنساني بدءاً من زمن نيتشة. وهو ما شكّل جوهر مطرقته النقدية، وانقلابه على اليقين المعرفي وقيمه الكبرى متمثلة في مفهوم العقل، وفي فلسفتي الذات والوعي، وفي أيديولوجيا التقدُّم، وفي غائية التاريخ. وبالتالي تفكيك الثنائية الأخلاقية، وعلى رأسها "الخير والشر"، وهي موضوع كتابه "ماوراء الخير والشر". وإذا كانت الأخلاق منتج بشري (كما هو عليه الأمر في سيرورة الحداثة الغربية) فلماذا نرتعب من الشك فيها أو مساءلتها؟ وإذا كانت المعرفة هي عمل الفكر، فلماذا نخاف من مراجعتها أو نقدها؟ ولكن الواضح؛ أن اقتفاء أثر المطرقة النيتشويه يبلبل الفكر اليقيني، ويستثير انطباعات متناقضة لدى من لا يستطيعون مغادرة الصندوق، وبخاصة على مستوى نقد الأخلاق والدين في ترسيمات نيتشة. ولذلك تبدو مآخذه في "ماوراء الخير والشر" التي يسجلها على الفلاسفة من معاصريه إلى سابقيه، وكأنها "كارثة فلسفية" في نظر البعض، في حين يمكن اعتبارها نظرات مستحقة، ولا تعدو حقيقةً أنها بمثابة انتباهة متمايزة، أو تغريدة خارج السرب. الأمر الذي يدعو للتأمل والتمحيص؛ بل التوقف عندها طويلاً وإمعان النظر في انقلاباتها على الشائع في النظر الفلسفي في زمن نيتشه؛ لأن انقلاباته على تقادمها لا تزال تكتسب فاعليتها أو مشروعيتها الموضوعية حتى اللحظة الراهنة، من حيث أن التفلسف في حصيلته النهائية يتقصد حل مشكلة الوجود الإنساني، وبالتالي المحافظة على كينونته وتحقيق سعادته كما يجب أن تكون. ألم يقل ديكارت إن عدد الفلاسفة هو مقياس للازدهار الحضاري. في ضوء هذا الرأي يمكننا القول ببساطة: إذن؛ لا بُدَّ من المطرقة، بل لا غنى عن الصدمة بأكثر من المطرقة؛ لأن التفلسف على مدى عمره الطويل (كما كشفت التجربة البشرية) لم يكن نعمة خالصة للإنسان، وإنما كان في بعض وجوهه نقمة ثقيلة أو شديدة الوطأة على روح أو جوهر الإنسان، وبخاصة في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر. ولا يحتاج الأمر إلى الكثير من العناء في البيان، فالواقع الإنساني الراهن يفقأ الأعيان إلى درجة يكاد فيها أن يطلسِم الأذهان؛ بسبب الحيرة والشكوك بكل شيء التي انتهى إليه التفلسف. وليس أقل الدلالات على ذلك ما يجري في غزة الجريحة المجوّعة من مقتلة مريعة، شنيعة. وعلى الرغم من فظاعاتها المهولة التي تترى فصولها على مدى عامين بالتمام والكمال (من دون يقين أنها توقفت بالاتفاق الذي نسقه ترامب ونتنياهو، ووافقت عليه المقاومة الفلسطينية)، كما تتوالى دورات الأيام والشهور والفصول، ولا يأبه أحد لكل ما يحصل فيها من بشاعات وفظاعات، وكأن فصولها الدموية باتت من طبائع معقولات الوجود! أليست هذه الوقائع الهمجية الوحشية مشكلة حقيقية؛ يُفترض أن تكون من أولويات النظر الفلسفي في الموضوع الإنساني؟ ألا تكشف بلادة الحس الإنساني تجاه ما يجري من أهوال في غزة عن مشكلة فلسفية، بل محنة إنسانية حقيقية واقعية، تستدعي إعادة النظر في هذا المنظور الفلسفي الذي جعل الإنسان المعاصر إلى هذه الدرجة من انعدام الضمير والإحساس واللامبالاة العبثية أو العدمية؟ فما هي إذن وظيفة الفلسفة؛ إنْ لم يكن استكشاف طبيعة الموجود في لوحة الوجود، وعلى رأسها مراجعة حال الإنسان ومدى فاعليته وتحقيق سعادته، كما يراها أو يريدها العقل العارف، الذي أنتج الحضارة؟ في الواقع؛ يحصل مسخ الذات الإنسانية على الرغم من كل ما أنجزه العقل من معرفة، استفادت البشرية من خيراتها العميمة في ميادين، وتفاوتت في ميادين أخرى. وهذا الأمر لا يمكن تجاهله أو نكرانه بأي حال من الأحوال. ولكن في المقابل لا يمكن التغافل عن حقيقة أن كل تلك الخيرات والثمرات بدت وكأنها منافع مادية عابرة، لحظوية أو موقتة. ومع ذلك لم تمر من دون أثر فادح على البشر، حيث أنها بقدر ما أنعمت على الإنسان؛ زادته قلقاً واغتراباً وخوفاً من المستقبل، لا بل فتكت بأسمى وأنبل ما فيه من حيث لا يدري. ذلك لأن ما قدمته المعارف والعلوم للإنسان على مستويات "حفظ البقاء"، و"تحقيق الإشباع"، أو "تحقيق السعادة"، تحقق منها الأصل فقط، أي تحقيق الحاجات الضرورية للبقاء، وهو ما نراه مؤكداً في المستوى الأول. ولكنه أقل تأكيداً في الثاني والثالث، لا بل راح هذان المستويان يتبادلان الضغط على بعضهما البعض طردياً وعكسياً، حيث تبيّن أن السعادة نسبية؛ لأنها لا تنفك أن تفتر؛ حتى تطلب المزيد من الإشباع لتجديد جذوتها أو لتحقيق ما يظنه الإنسان السعادة الحقيقية أو السعادة الكاملة. الأمر الذي ترتب عليه نوع من النزوع الخفي إلى المزيد من الطمع والجشع في الإشباع، وبالتالي إلى مزيد من القسوة والظلم.. وهلمّ دواليك. وهكذا بات الإشباع لا يعرف الإشباع كما هو حال جهنم؛ دائما تطلب المزيد حتى تكون جهنم بحق. وكلما تزايدت وتائر الإشباع لتحقيق ما نظنها حاجات ضرورية، تزايدت وتائر الإنتاج لتقديم المزيد منها وكأنها زيادة في منسوب السعادة، فيزداد الإنسان لهاثاً وراءها، ما يجعله ينزلق في متاهات التشييء والاغتراب في سبيل نوال هذه الحاجات. وكان ماركس قد تنبأ بصورة الإنسان في ظل "الرأسمالية"، حيث يرى أن إنتاج الكثير من الشيء النافع المفيد؛ لينتج الكثيرين من السكان غير النافعين. "إن الإنسان ليملك الكثير في النظام الحالي. على أن وجوده هزيل" (إيريك فروم، ماوراء الأوهام، ص- 66-67). وهذا يعني أن الإنسان بقدر ما يتراءى له أنه يحقق الإشباع الذي لا يتوقف عن حتمية ديمومة الإشباع، من خلال اللهاث وراء الأشياء، ليس بوصفها حاجات ضرورية للبقاء في الحقيقة أو الواقع، وإنما بوصفها حاجات وهمية، تندرج بالغالب الأعم في إطار المزايا الاجتماعية، أي الكماليات أو الوجاهة والنفوذ والقوة.. إذن بقدر ما يتراءى للفرد أنه يحقق الإشباع؛ بقدر ما يبتعد عن جوهر ذاته الإنسانية؛ لأن المرء يصبح معادلاً موضوعياً للأشياء التي يمكن استبدالها كل لحظة، فيشعر في أعماقه بالفراغ أو الخواء الداخلي. وكلما حاول السعي إلى تحقيق هذا النوع من الإشباع؛ لا ينفك ينغمس بالمزيد من التشييء والتغريب؛ حتى يبيع روحه للشيطان مقابل الإشباع، دون أن يشعر بالطمأنينة أو أي نوع من السعادة المستدامة، وعندما يتعذر تحقيق السعادة المستدامة لفرد ما، يتعذر تحقيقها باستدامة للجميع. وبالتالي نجد الإنسان الحداثوي وكأنه الطفل الرضيع، لا ينفك يصيح بأعلى الصوت، طالباً بزازة الرضاعة؛ بتعبير إيريك فروم. وفي مثل هذه الظروف تكون العناصر الاجتماعية مهيأة لذلك من الناحية الاقتصادية؛ باعتبار أن الجميع تعلموا كيف يرون الأمور من خلال النماذج - دون إخضاعها لأي تفكير- من خلال تعابير تقنية تشكل باستمرار الحد الأدنى المتبقي من إنسية في طور التفكك. ويصبح فاعل الإدراك غائباً في سيرورة الإدراك، من حيث أنه لا يمارس الفاعلية النقدية في العملية المعرفية، حيث العناصر الخاصة بالمقولات أو المفاهيم تترك نفسها لنماذج ما هو معطى بشكل مسبق محدد الشكل، وحيث يعاد نمذجة هذه المعطيات من خلال هذه العناصر، بحيث يصبح المنطق أو العدالة موازية للموضوع المدرك، وكأنهما سيان للامنطق وللاعدالة. فأين دور الفلسفة، وأين هو المنظور الفلسفي الذي يستطيع أن يستشرف آفاق هذا المعطى الجديد، ومدى ما يشكله من مخاطر على إنسانيتنا؟ وطالما تواصل الأمر على هذا المنوال، فمن الطبيعي جداً أن نفقد قدرتنا على التمييزات الأخلاقية أو الإنسانية، وأن يفقد الفكر فاعليته؛ بل ينتفي حضوره في سيرورة الإدراك، "إن نزعة بذل جهد عبر إطلاق حكم (قيمي) ما، تتبدد، ومعها يتبدد الفارق بين الخطأ والصواب. وبقدر ما يصبح الفكر في ظل شكل متخصص ممثلاً للعدة الضرورية في تقسيم العمل (وتلبية الحاجات التي نظنها ضرورية)، حينها سيصبح (الفكر) مشبوهاً كما لو كان الكماليات الزائدة. وبقدر ما يؤدي التطور التقني في جعل العمل الجسدي أمراً زائداً، بقدر ما ينسحب هذا العمل إلى عمل ذهني يجب بكل الوسائل منعه من استدرار النتائج المترتبة له" (هوركهايمر وأدرنو، جدل التنوير- شذرات فلسفية، ص-236). وفي ظل هيمنة العقلانية الآداتية أو العقلانية العلمية التي آزاحت جانباً العقلانية الأخلاقية، تتكرس نزعة استهلاكية لا واعية ولا عقلانية.. "نزعة استهلاكية عبثية أعادت بعث الطبيعة الحيوانية في وعي أو روح الإنسان المعاصر من جديد. طبعاً الحيوانية المقصودة أو التي نحيلها إلى الإنسان ليست رديفاً لِما هو بهيمي أو خسيس أو مرذول في الإنسان، أو أنها حسية خالصة ومطلقة؛ بل إن الحيوانية هي الجسد في تجسده، أي الجسد الغني باندفاعاته الخاصة والذي يفرض وثوبه المندفع على الأشياء" (انظر: محمد الشيكر: هايدغر وسؤال الحداثة، ص-29). وبالتالي لم يعُد لتلك المعارف من قيمة حقيقية لها؛ بمعيار الترقي الإنساني الحقيقي، أي الترقي الحضاري في جوهر الإنسان؛ في داخله كما في خارجه. ما يعني أن كل منتجات المنظور الفلسفي - وبالمحصلة الفلسفة عموماً – الأخلاقية والمعرفية، وصار معها التقدم والتطور والمدنية عبارة عن معارف زائفة، معارف لا حياة فيها، وكأنها رائحة من دون روح. لقد فقد إنسان الحداثة برأي هايدغر، كل سبب استطيقي يحمله إلى موعد الأرض – الأم، واجتث كل شأفة تشده إلى مسكن الأرض، فلقد صار نمط كينونة الكائن الحديث يتحدد تقنياً وعلمياً وليس ميتا-شعرياً، كما صار العالم، بالنسبة للإنسان الحديث موضوع هيمنة تقنية، ومناط تناول علمي حسابي ورياضي، وليس ملاذاً يلوذ به هذا الإنسان الحديث، ومسكناً يأوي إليه. إنسان الحداثة، إنسان منخلع من جذوره، متقصف ومنقطع عن أصوله. لا "وطن" يسكن إليه، ولا "أرض" يفزع إليها في ليل أفول الآلهة الطويل. "لقد شرع الإنسان الحديث كما يقول هايدغر، في الابتعاد عن الأرض من أجل الدخول إلى الفضاء الكوني"، أي من أجل الانخراط في العالم كما يتصوره العلم الحديث، وتتقصده التقنية المعاصرة" (انظر: محمد الشيكَر، هايدغر وسؤال الحداثة، ص 82). لقد منحنا القرنان التاسع عشر والعشرين ثمالة من الرعب؛ بتعبير جان فرانسو ليوتار (جان فرانسوا ليوتار، في معنى ما بعد الحداثة، ص -67). ذلك لأن الحداثة في واقع الأمر؛ لم ترتق بروح أو جوهر الإنسان إلى ما يُفترض أن يليق به من الارتقاء والسمو أو التعالي على كل الموبقات والدناءات من أخوات الخسيسات، أي التسامي إلى المثل الأعلى؛ باعتبار أن الإنسان أكرمَ الموجودات، فيهتدي بسيد الوجود؛ كخليفة على الأرض. ما يقتضي عليه التكليف في عمارتها بالخير والجمال. يرتبط ظهور الحداثة حسب هايدغر: 1 – بحلول ليل العدمية؛ بما هو ليل أفول الآلهة، وبما هو قلب للقيم السائدة وانحسار للعوالم المثالية والمرجعيات المتعالية. هكذا "لم تعد العدمية فحسب، كما يقول بالمييه، قدر أوروبا أو الغرب؛ بل صارت قدر الأرض العالمي"، وصارت علامة "تصحر العالم" وشروعه في طور اليباب النهائي (J. M. Palmier : Les Ecrits politiques… Op. Cit. P. 219) 2 – بتدشين ميتافيزيقا الذاتية، حيث صارت الحداثة هي لحظة "أقنمة" الإنسان وتوليته على العالم و"استخلافه" وتأليهه على مصير الأرض وعلى صيرورة التاريخ وإنتاج اليقين" (محمد الشيكَر، مرجع سابق، ص -139) "لم يكف هايدغر أبداً عن اعتبار أن الحداثة هي مشروع يقصف الأصول، ويعصف بالثوابت الأصيلة والقيم الأثيلة، وهي مشروع ميتافيزيقي، ساق الغرب إلى "صحراء يباب" وإلى "مفازة قفر"، لا آلهة ترعاها، ولا معنى يغشاها، ولا "بيت" فيها للكينونة، ولا "وطن" يتنزله الكائن الغربي، ولا مقدس يفزع إليه في شتاء الحداثة الطويل وفي ليلها الديجوري القائم" (محمد الشيكَر، مرجع سابق، ص-141). وهكذا يصبح بالإمكان اعتبار "التفلسف بالمطرقة" حكمة، تزلزل حضور الثوابت على مستوى ضرورة التفكير أو الأشكلة العقلانية اليقينية أو البرهانية؛ بتعبير ابن رشد، وتستعيد فاعلية النفي أو النقض والدحض، من حيث أنها تقوض منطلقات النظر التقليدي تأسيساً، وتشكل نوعاً آخراً من التفلسف. ولذلك نعتقد أن "التفلسف بالمطرقة" نظرة تكتسب مشروعيتها الموضوعية؛ بمقتضى العقلانية في التفلسف، التي يتحدد معيارها من خلال شروط التفكير النقدي. وعلى العموم هي نظرة لا تعني (بأي حال من الأحوال) أنها "تناقض توسل البرهان والحِجاج للاقتناع بصواب فكرة أو رأي، الذي يشوه طبيعة الفكر الحقيقية"، كما ذهب إلى ذلك موسى وهبه في تقديم كتاب "ماوراء الخير والشر" (طبعة دار الفارابي، بيروت/لبنان ط، 2003)، وإنما هي في الواقع مقاربات تستشرف إمكانيات جديدة في التفكير أو الأشكلة الفلسفية، من حيث هي نظرات تضيء على مشكلات حقيقية، يمكن اعتبارها من مشكلات الفلسفة أو من أعطاب منطلقات التفكير الفلسفي، أي أخلال الآليات أو الميكانيزمات التي تأسس عليها النظر الفلسفي منذ فجر الفلسفة الأول (وليس مهماً إن أصابت نظرة نيتشه أم أخطأت فيما ذهبت إليه؛ لأنها مؤسسة على معيارية نقدية فلسفية وليست من خارج التفلسف). أما في واقع الأمر فنحن نعتقد أن أغلبها صحيح من حيث أنها تنبني انطلاقاً مما يظنه نيتشه ونوافق عليه؛ أوهام وأعطاب الذات المُتفلسفة نفسها، أي نزعات الفلاسفة الخفية على مستوى التعميم والتأبيد والانتحال (إذا صح التعبير) والتأليه (إلى حد ما) والأطماع الدغمائية الأنوية (من الأنا). وهو محق في الكثير مما ذهب إليه؛ بمعنى أنه مصيب في بعضها، كما سنرى تالياً. يأخذ نيتشه على الفلاسفة ذاك النزوع الخفي إلى ما يمكن أن نسميه "المطلق الفكري" أو "تأبيد الحقيقة"؛ بالمعنى الفكري. ذلك لأن جميع الفلاسفة يحبون حقائقهم، ويعتبرونها الأسمى أو الأصدق، وهي فكرة ورغبة خفية، تختبئ وراء "أطماع دغمائية" شخصية في اللا شعور؛ سواء أكانت على مستوى الطموح إلى الخلود أو التأليه، أو على مستوى احتكار الحقيقة؛ دون أن يصرح بها أحد. ولكنها حاضرة في روح التعبير أو جوهر المفهوم. والمستوى الثاني (أي تأبيد الحقيقة) ليس عقلانياً، فضلاً عمَّا يحيل إليه من جمود وثبات، هو في الواقع ليس مواتاً للحقيقة فحسب، وإنما هو موات للفلسفة من أصلها؛ باعتبار أن الحقيقة نتيجة للتفلسف. في حين أن "فلاسفة المستقبل" الذين تنبأ بهم نيتشه، يحبون حقائقهم، و"لكنهم لن يكونوا، بالتأكيد، دغمائيين. ويجب أن يُنافي كبرياءَهم وذوقهم أيضاً، أن تكون حقيقتهم حقيقةً لكل طالب" (ماوراء الخير والشر، شذرة – 43، ص - 73)؛ لأن حقيقتهم إذا صارت حقيقة كل طالب تفلسُفٍ، فهي لا تجعل الحقيقة أزلية فحسب، وهذا يفقدها حيويتها أو فاعليتها بالتقادم؛ باعتبار أن الحقيقة متغيرة بمقتضى قانون التغيُر في الطبيعة، أي التغير الأبدي الذي يحفظ التماسك في الوجود والموجود، وإلا اختل نظام الكون، وإنما أيضا تئد روح التسامي لدى طالب الحقيقة.. ذلك التسامي الفكري (بالمعنى الفلسفي) الذي يقوم بجوهره على الشك، أو على المراجعة والمساءلة النقدية؛ للتأكد من صِحة الحقيقة أو ضرورة نفيها، أو (على أقل تقدير) تجديدها من خلال التسامي فيها إلى حقيقة أحق من سابقتها، أي التعالي بها إلى مرتبة أصدق، أو مكانة أكمل وأنبل وأجمل من الحقيقة السابقة التي هي موضوع النظر. يقول نيتشه: "ما الحقيقة؟ إنّها جيش متحرك من الاستعارات، من المجاز المرسل، أو التشبيهات بالإنسان، أو قل، بإيجاز مجموعة من العلاقات الإنسانية، التي تم التسامي بها على طريقة شعرية وبلاغية، والتي بعد طول استعمال تبدو لشعب ما راسخة وإلزامية، إن الحقائق هي أوهام نسيت أنها كذلك، واستعارات ضاعت قوتها الحسية، وقطعاً نقدية ضاعت نقوشها". كما يأخذ نيتشه (في سياق الأطماع الدغمائية) ركون الفلاسفة الإنسانيين إلى وهم ما يسمونه إمكانية تحقيق "سعادة المراتع الخضراء للقطيع كله"، (أي أن انتفاء المعاناة والآلام، يمكن أن يحقق) سعادة خالية من الخطر، بل طافحة بالانشراح والأمان وبكل ما يُهوِّن حياة الجميع؛ بمقتضى "قاعدتين هما) الأكثر ابتذالاً، "المساواة في الحقوق" و"الشفقة على من يتألم". ويتناسى هؤلاء أن نبتة الإنسان نَمَتْ وسَمَتْ؛ بأقوى نمو نحو الأعلى (عن طريق التحديات والأخطار المتفاقمة إلى حد الفظاعة)، وعلى قوة اختراعه وريائه أن تتطور تحت طول الضغط والإكراه إلى حدّ الرهافة والإقدام، وعلى إرادته للحياة أن تُفَعّل إلى أن تغدو إرادة لا مشروطة للقدرة. إننا نظن أن القسوة والعنف والعبودية، والخطر في الزقاق، والقلب، والسريّة الرواقية، وفنّ التجريب والتعويذ على أنواعه، وكل شر مرعب ومستبد، وكل ما يشبه الأفاعي والضواري في الإنسان، يصلح جيداً، شأنه شأن ضده؛ لإعلاء النوع المسمى إنساناً" (أي باختصار أن القفزات الإنسانية إلى الأعلى لا تتحقق إلا في ظل المعاناة، وأن تحقيق المراتع الخضراء للجميع ليست واقعية؛ لأننا جميعاً) ننضح بالخبث حيال مغريات التبعية الكامنة في الأمجاد والأموال، في المناصب وملذّات الحواس، إننا ممتنو الشِّدّة والمرض المتقلب الذي حررنا كل مرة من قاعدة ما ومن "تحكيمتها"، ممتنو الله والشيطان والخروف والدودة فينا، حشريون إلى حد الرذيلة، باحثون إلى حد الضراوة؛ بأصابع لا تتردد في لقف ما لا يُلقف؛ بأسنان وأمعاء تهضم ما لا يُهضم، مستعدون لأي صنعة تتطلب رهافة حسّ وحواسّاً مرهفة؛ مستعدون لكل مجازفة بفضل فائض من "الإرادة الحرة" بنفوس أمامية وخلفية لا يبصر أحد بسهولة مقاصدها الأخيرة". ذاك هو الإنسان (كما يقول نيتشه، وهو مصيب في ذلك إلى حد بعيد). وهو لا يبتعد كثيراً عن أهم فلاسفة الأخلاق، سبينوزا، الذي وسم الإنسان بالذئبية. الأمر الذي يقتضي على التفلسف العقلاني (وفق مذهب التفلسف بالمطرقة) أن يكون أكثر جدوى في فهم ورسم طبيعة الإنسان المتحركة أو المتغيرة، ومن ثم إطلاق العنان لتحقيق فرادته بوصفه "الإنسان الأعلى"، وإنجاز سعادته الديونيسوسية (الفطرية أو البدائية) التي يلهث بإثرها من المهد إلى اللحد. وكما هو معروف من خلال أولى مؤلفات نيتشه "مولد التراجيديا"، أنه درس الفلسفة اليونانية بعمق ودرّسها لطلبته، وبالتالي ليس ببعيد أن يكون تأثر في ما ذهب إليه - في هذا الشأن - بفلسفة هيرقليطس و"تيوتاموس" الذي أفرده هيرقليطس دون فلاسفة عصره وسابقيه بقوله عنه "إنه يَرجحُ بفضله فضل الباقين جميعاً"، فإذا أردنا أن نعرف سبب هذا الثناء، وجدنا أن "تيوتاموس" قال، " معظم الناس أشرار". وقد انتهى به ازدراؤه للناس جميعاً إلى الظن بأن القوة وحدها هي التي تستطيع أن تُرغمهم على العمل لصالح أنفسهم. "إن كل حيوان يسافر إلى مرعاه بالضربات". قال أيضاً "إن الحمير تؤثر لنفسها القش على الذهب". وهيراقليطس على هذا المنوال. فهو "ممَّن يؤمنون بالقتال، فهو يقول "الحرب أب للجميع ومَلكٌ على الجميع، والحرب هي التي جعلت بعض الأفراد ناساً وبعضهم آلهة، وهي التي جعلت بعض الناس أحراراً وبعضهم عبيداً". ويقول أيضاً "لقد اخطأ هومر حين قال: "وددت لو أن الكفاح امحَّى (انتفى) من بين الآلهة والناس! فهو بذلك لم يُدرك أنه كان يدعو بخراب العالم. ذلك لأنه لو استجيبت دعوته، لزال كل شيء". ويقول أيضاً: "لا بُدَّ أن نعلم أن الحرب مشتركة بين الجميع، وأن الكفاح عدل، وأن كل شيء يوجد ويفنى بالكفاح"(برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ج-1، ت-زكي نجيب محمود، مؤسسة هنداوي، ط-2017، ص-75). ويقول هيراقليطس "إن الخير والشر واحد". "كل الأشياء بالنسبة لله عادلة وخيرة وصحيحة، أما الناس فيرون بعض الأشياء خطأً وبعضها صواباً" (راسل، مرجع سابق، ص-78). كذلك يأخذ نيتشه على الفلاسفة ما يصفه ب"الذوق الرديء"؛ باعتبار أن الأفكار المرتبطة بالتصرفات البشرية ليست موضوعية (بالمعنى العلمي)، وإنما هي جمالية تتشكل بمقتضى الأحاسيس والمشاعر أو الذوق المرهف. ما يتعين "على المرء أن يتخلص من الذوق الرديء الذي يريد الاتفاق مع الأكثرية (أي التوافق الجمعي المركون في اللاشعور)، فيما يتعلق بالقيم أو الأخلاق. ذلك لأن "الخير" لا يعود خيراً إذا تفوه به الجار". ويعني ذلك أن الترداد والتكرار لا يعطيه مصداقية أو فاعلية؛ بقد ما يجعل معناه هزيلاً. (وبالمحصلة يريد نيتشة القول: إن انتفاء الشر هو نفي للخير؛ إذ لا قيمة له إلا بضده، ولا يمكن إدراك الخير من دون حضور الشر، فقوة الخير أو فاعليته هي رهينة قوة أو فاعلية الشر). "فكيف يمكن أن يكون ثمة "خير عام"!. إن اللفظ يناقض ذاته. ما يمكن أن يكون عاماً، له أبداً قيمة ضئيلة وحسب. وفي النهاية يجب أن تكون الأمور على ما هي عليه وعلى ما كانت عليه"، (المرجع السابق). قد لا نوافق على كل ما ذهب إليه نيتشة، إلا أننا في الواقع لا يمكن إنكار التغافل عن مقتضيات الموضوعية العلمية، من حيث "أن البحث عن الحقيقة حين يصدر عن إخلاص تام، لا بُدَّ أن يغض النظر عن الاعتبارات الخلُقية، فليس في مستطاعنا أن نقدِّر أن الحقيقة التي نسعى وراءها ستجيء مؤيدةً لأهواء الناس في مجتمع معين" (راسل تاريخ الفلسفة الغربية 1، مرجع سابق، ص-120). والأمر عينه بالنسبة للعدل والمساواة، حيث نجد نيتشه لا يبتعد كثيراً الجد الأول للمثالثة الأخلاقية (أفلاطون)، "ففي الكتاب الأول من الجمهورية يُحاجُّ ثراسيماكوس بأنه لا معنى للعدل إلا مصلحة الأقوى، وأن القوانين تسنها الحكومات لمصلحتها، وأنه ليس هناك مقياس موضوعي تلجأ إليه إذا ما نشب نزاعٌ على السلطان، وكذلك اعتنق كالكيز – فيما يرى أفلاطون في محاورة جورجياس – مذهباً شبيهاً بهذا؛ إذ قال: إن قانون الطبيعة هو قانون الأقوى، لكن الناس أرادوا لأنفسهم راحة البال، فأقاموا من النظم الاجتماعية ومن المبادئ الخلقية ما يشكم القوي" (راسل، تاريخ الفلسفة الغربية 1، مرجع سابق، ص-121) أيضاً يأخذ نيتشه على الفلاسفة (وهذا هو أخطر ما في الأمر بالمعنى الفلسفي) أوهامهم في فهم وممارسة ما يسميه "الروح الحر"، الذي يدعي الجميع أنهم يتمثلونه في التفكير الفلسفي، وهو في الحقيقة مجرد "سوء فهم وتحكيمية عتيقة بلهاء، حجبت الأفهوم بضبابها وبهمّته طويلاً جداً. ففي كل البلدان الأوروبية وفي أميركا أيضاً، من يسيء تسمية نفسه بهذا الاسم، وهو نوع من الأرواح ضيق جداً ومسجون ومكبل بالأغلال، وهو يريد تقريباً عكس ما نريد وما يكمُن في قصدنا وفِطَرِنا. ناهيك عن أنه سيكون بالنظر إلى أولئك الفلاسفة الطالعين الجدد، بالذات، بمثابة نوافذ مقفلة وأبواب مغلقة المزاليج. فأولئك الذين يسمّون خطأ "أرواحاً حرة" ينتمون بعبارة مقتضبة ولاذعة، إلى السواسيين (Nivellirer من سواسية أي لا تفرد لهم)؛ بوصفهم عبيداً (إلى ما يمكن أن نسميه اللاشعور الجمعي) ذوي لسان ذَرِب وأصابع ماهرة في خدمة الذوق الديمقراطي و"أفكاره الحديثة"، (وهم بهذا المعنى) "لا أحرار وسطحيون إلى حد يجعلهم أضحوكة" (المرجع السابق- الشذرة 44). وربما من اقل الدلالات على هذه الكذبة التي يعريها نيتشة، أن جميع النخب السياسية الغربية اليوم (وفي مقدمتهم الصهاينة في فلسطين السليبة)، تمارس القوة في البطش والعدوان بأبشع صوره الأخلاقية والإنسانية؛ تحت مزاعم الدفاع عن قيم العالم الحر!؟ وبالمناسبة "إرادة القوة" في فلسفة نيتشة تعود أصولها إلى المسيحية واليهودية (كما تبيّن معنا آنفاً). ومع ذلك هي واحدة من خمسة حدود في ميتافيزيقا نيتشة حسبما يقول هاديغر: العدمية، العود الأبدي للذاتي، الإنسان الأعلى، العدالة. (راجع: محمد الشيكَر، هايدغر وسؤال الحداثة، ص 82). وعلى العموم، وبشكل أكثر دقة، سقط نيتشه بدوره في "إغراء تحديد ما يؤسس لكل وضع تحت منظور ما، والذي سماه بإرادة القوة. بهذا كررت فلسفته قضية الميتافيزيقا؛ بل لقد أتمم بشكل معاند وتكراري ماهية هذه الميتافيزيقا نفسها؛ لأن ميتافيزيقا الإرادة، التي ختم بها بحثه، هي هاته نفسها التي تحتوي عليها كل أنساق الفلسفة الغربية الحديثة، وهو ما كشفه هايدغر"(انظر: جان فرانسوا ليوتار، في معنى ما بعد الحداثة، ص - 79). فضلاً عن ذلك يأخذ نيتشه على الفلاسفة تناولهم الأخلاق كعلم، "فهم يريدون تأسيس الأخلاق، وقد ظن كل واحد منهم حتى الآن أنه أسس الأخلاق. أما الأخلاق نفسها فقد سلّم بها بوصفها "معطاة". وشتان ما بين صلفهم البليد، وما هو مطلوب من وصفٍ يخيّل إليهم أنه أمر تافه فيدعونه للغبار والعفن، في حين أن أرهف الأيدي والحواس قد لا تكون مرهفة كفاية للقيام به! وبما أن فلاسفة الأخلاق لم يعرفوا الوقائع الأخلاقية إلا بصورة فظة ومن خلال ما أختير اعتباطاً واختُصر مصادفة، وعلى سبيل المثال، من خلال خُلُقِية محيطهم وطبقتهم وكنيستهم وروح عصرهم ومناخهم وموقعهم الجغرافي؛ وبما أنهم كانوا على سوء معرفة بأخبار الشعوب والأزمنة والماضي، وقليلي الشغف بالعلم بها، فإنهم ولذلك بالذات لم يكشفوا عن أي وجه من مشكلات الأخلاق الحقيقية، تلك التي لا تظهر إلا بالمقارنة بين أنماط أخلاق كثيرة. إن "علم الأخلاق" السابق كله، ومهما كان وقع ذلك عجيباً على السمع، لا يزال يفتقر إلى مشكلة الأخلاق نفسها" (ما وراء الخير والشر، شذرة 186، ص 128). كما يأخذ نيتشه على الفلاسفة ادعاء الأبوة في الأفكار والمفاهيم، في حين أنها في الحقيقة "النقدية" إنما هي "تناص" عن ما سبق، وجُلَّ ما يقوم به الفلاسفة هو "التعميق" وأحياناً التنميق لا أكثر. وهذا من جملة ما يندرج في سياق "الرغبة الخفية" الذي يختبئ وراء أطماع الفلاسفة الدغمائية. فهل نظرات نيتشه كارثية؟ وهل تقتصر مآخذه على فلاسفة عصره وسابقيه، أم يمكن تسجيلها برسم لاحقيه حتى يومنا هذا؟ نعم؛ قد يكون الإنسان أحياناً كما وصفه نيتشه، وربما أكثر، وليست أقل العلامات الدالة على ذلك ما يقوم به الكيان الصهيوني من توحش بربري في غزة، مقابل السكوت البشري الجمعي على ما يحصل، كما أشرنا سابقاً. وقد يكون الإنسان ملاكاً، ولكن في الغالب الأعم أن الإنسان بطبيعته البشرية، أي بقواه الحيوية الكامنة في أصل فطرة الخَلْق، ينام تحت إبطه اليمين ملاك وتحت الإبط الآخر شيطان، وأن الظروف الثقافية (وفقاً للمراحل التاريخية المختلفة) هي التي تجعل أحدهما يتقدم على الآخر في السلوك والممارسة؛ بمعنى أنه متى أتيحت لأي منهما الظروف المواتية، يظهر على حقيقته، ويمارس فاعليته الجوهرية الرحمانية أو الشريرة. (انظر كتابنا: من أين ندخل إلى التسامح). أما استحالة توفير "المراعي الخضراء للقطيع كله" فهي مسألة تذهب إلى القطعيات التي تنافيها الفلسفة على واقعيتها بالنتيجة. ولذلك تستدعي إعادة النظر والتفكير فيها بمنظور آخر، وليس تأبيد استحالتها؛ بمقتضى ما يشينه نيتشه نفسه من حيث تأبيد أفكار الفلاسفة السابقين والمعاصرين له. والأمر عينه أو قريب منه على مستوى القاعدتين "الأكثر ابتذالاً"، حسب تعبيره؛ باعتبار أن "المساواة بالحقوق" شأن إنساني خالص، أي أن الذات الحرة، أو ما يسميه نيتشه "الإنسان الأعلى"، أو "الخارق"، فهو يأبى الذل والمهانة أو الظلم لغيره كما يأباه لنفسه؛ إلا إذا كان الأعلى بكل شيء ما عدا النبل الإنساني، الذي يعتبره ديكارت من أهم الشيم التي تؤسس في النفس نزعات العدل والإنصاف والتواضع وقيم المعروف (انظر كتابينا: الخصوصيات الثقافية ودورها في صناعة التسامح.. دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً، والأنسنة والتجديد في فكر العلامة الشيخ عبدالله بن بيه). ولا يختلف الأمر كثيراً فيما يتعلق ب"الشفقة على من يتألم"؛ لأن الشفقة تُعطي الموجود إحساساً طبيعياً بالانتماء إلى الوجود؛ سواء أكان إنساناً أم حيواناً، فضلاً عن حقيقة أنها تعبير صادق عن إنسية الموجود، فمثلاً: "الهُوية، تقال بالترادف على المعنى الذي ينطلق عليه اسم الموجود، إلا أنها ليست تنطلق على الصادق، وهي أيضاً من الألفاظ المنقولة؛ لأنها عند الجمهور حرف وهنا اسم، ولذلك أُلحق بها الطرف المختص بالأسماء، وهو الألف واللام، واشتُق منها المصدر، فقيل: الهُوية من الهو، كما تُشتق الإنسانية من الإنسان"، كما يقول ابن رشد في كتاب "تفسير تلخيص ما بعد الطبيعة"، (ص13). ما يعني أن إنسية الإنسان شرط يلازم كينونته، ملازمة اللازم والملزوم، من حيث التكاملية في النفي أو التواصلية في ما بينها، كما في لغة العرب. وأما ما ذهب إليه على مستوى ركون الفلاسفة إلى منظورات تؤبد النظرة الفلسفية؛ باعتبارها حقيقة مطلقة، فنظن أن نيتشه يقصد بذلك ركون الفلاسفة إلى منطلقات في التفكير من خلال المقولات والمفاهيم الفلسفية، تؤبد مسلمات حسية أو عقلية باتت بمثابة نظريات قطعية، مع التكرار والعادة والتقادم، فأصبحت خارج التفكير أو اللا مفكر به، وكأنها معتقدات أو عادات استحالت إلى أعراف راسخة، وراح اللاشعور يفرضها على الشعور أو الوعي، وكأنها حقيقة واقعية أو عقلانية في التفكير الفلسفي، في حين أنها فقدت فاعليتها في استثارة الاستجابة الإنسانية. وهذه المنطلقات (حسبما نعتقد) يمكن أن تختزلها الثنائيات الفلسفية التقليدية (ثنائيات وجودية: الخالق والمخلوق، المادة والروح، البقاء والفناء.. وغيرها، مشتق عنها ثنائيات جمالية أو أخلاقية: الخير والشر، العدل والظلم، الحسن والقبيح.. وغير ذلك)، وهو ما يفرغ الفلسفة من تفردها، من حيث هي بالضرورة الفلسفية أشكلة متجددة لكل ما يدخل في إطار علاقة الوجود بالموجود الجزئي (الشخص/الإنسان أو الشيء) في كل لحظة من لحظات التاريخ المتوالية بتجدد مستمر من دون انقطاع. ونيتشه في هذا الموضوع وما بعده، يحاول (كما هو حال مع معظم الفلاسفة الغربيين منذ عهد ديكارت) محاربة ما يسمونها أسطورة الدين أو الأخلاق، ليُرسِم محلها أسطورة العقل، أو "إرادة القوة" لا أكثر. وما يسميه نيتشة "الذوق الرديء" من حيث اعتبار التصرفات الأخلاقية لا موضوعية؛ بقدر ما هي جمالية، فهو مصيب في ما ذهب إليه من حيث المبدأ. وما يأخذه في هذا الشأن إنما هو الركون على ما تواضع عليه المعقول والمنقول، وتواطأ عليه جميع الناس، وصاروا يتداولونه من دون إحساس. ولذلك أفهم منه أنه يريد أخلاقاً تستجيب لحاجات الإنسان المادية والمعنوية، التي تتغير وفقاً للتغيرات الوجودية المستمرة بالإنسان وبكل الموجودات عموماً على السواء. ومع ذلك؛ هذا لا يعني التسليم بحقيقة أن الخير لا معنى له من دون الشر، فتُترك الأمور إلى هذه المقابلة التي يمكن أن تنتهي إلى مآلات وعذابات هائلة، تقابلها خيرات عظيمة أو كبيرة، فهذه مفاضلة قاسية وعنيفة، ولا يمكن أن يحتملها نصف البشرية على أقل تعديل، كما تحيلنا إليها هذه المفاضلة. ومن ثم أي معنى يمكن أن يبقى للخير، في ظل هذه الآلام والأوجاع المتمادية بقهرها وتعسفها؟ وبالتالي لا يجوز التسليم بهذا المنسوب للخير والشر. ولذلك نرى؛ من صواب العقل ومعقول المنطق، احترام المحاولات؛ بجد واجتهاد، حول إمكانية البحث لرفع منسوب الخير، مقابل خفض منسوب الشر. وهذا هو دور فلاسفة الأخلاق ومختلف العقلاء والحكماء الإنسانيين، ولا نحيلهم إلى التقاعد. وفي ما يتعلق بمآخذ نيتشه على فلاسفة الأخلاق في زمنه، فهو مصيب إلى حد كبير؛ باعتبار أن القيم الثقافية لا يمكن القطع في تعميمها كأخلاق كونية أو أمثولات معرفية. وطبيعي أن يأخذ عليهم قصورهم المعرفي وعدم الاطلاع الوافي على الثقافات الأخرى، وبالتالي لن يكون بمقدورهم صياغة أخلاق كونية كلية أو معرفة قطعية. وهو ما يحصل الآن على مستوى الأخلال القيمية أو الأخلاقية في الحداثة الغربية الراهنة، التي حاول العلامة الشيخ عبدالله بن بيه أن يرشدها أو يعقلنها، فكانت النتيجة الصد القطعي. (راجع بحثنا "الشيخ ابن بيه وريث العقلانية الإيمانية الرشدية"). وأما في مسألة ادعاء الفلاسفة الأبوة في الأفكار والمفاهيم، فهو مقول حق، ولا يخفى على أحد؛ وبخاصة أهل الفلسفة. ويمكن أن يندرج في إطار ما أحب أن أسميه "اللطشة النرجسية" التي تصيب جميع الفلاسفة؛ حالما يتحصّلوا على قدر معقول من الشهرة أو الرواج. وربما أهم ما في مآخذ نيتشه تلك المتعلقة بالمنظور الفلسفي، الذي قام على أسطرة العقل، وما تأسس عليها من يقينيات حضارية؛ بالمعرفة والعلوم والتقدم والرقي.. انتهت إلى ما ما نشهده اليوم من أخلال عويصة ومشكلات متفاقمة، لا تنفك تتزايد تصدعاتها، وتهدد ما تبقى من إنسية في روح وعقل وغريزة الإنسان. وهذا ما سنحاول الاجتهاد عليه قدر المستطاع في المقالات اللاحقة.
#محمد_وردي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الفلسفة ووظيقتها وشروط التفلسف
-
مآلات الحداثة.. تقدم الفرع وهرم النوع
-
إشكاليات اصطلاحية أم قصور بالمعنى والوعي
-
نتيجة المقارنة بين ابن رشد وابن بيه
-
العقلانية الإيمانية ما بين ابن رشد وابن بيه
-
التنوير بالمحبة والإحسان في بناء الإنسان
-
شيخ الإنسانيين.. التنوير بالحكمة والشريعة
-
سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه
-
سردية السلم والتنوير والأنسنة والغواية العقلانية الإيمانية
المزيد.....
-
البرهان: هدفنا القضاء -نهائيا- على الدعم السريع
-
ترامب: على زيلينسكي الموافقة على خطة السلام في أوكرانيا
-
عبدالله بن زايد يجري اتصالا هاتفيا مع وزير الخارجية الأميركي
...
-
في غارة سابقة.. إسرائيل تعلن قتل 13 عنصرا من حماس جنوب لبنان
...
-
بعد تبادل الانتقادات اللاذعة.. ترامب يستقبل ممداني -بحرارة-
...
-
اختطاف أكثر من 200 تلميذ من مدرسة كاثوليكية في نيجيريا
-
-قائمة أسعار لتصفيتهم-.. موقع مجهول يهدد باغتيال أكاديميين إ
...
-
تحطّم طائرة -تيجاس- الهندية خلال عرض جوي في دبي ومصرع طياره
...
-
التوغو: أحدث محطات الانتشار الروسي في أفريقيا
-
كيف تتأثر مفاوضات الصيد بين المغرب والاتحاد الأوروبي بقرار م
...
المزيد.....
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية
/ د. خالد زغريت
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|