أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جورج منصور - في ذكرى رحيل مؤيد الراوي.. ذكريات متأخرة














المزيد.....

في ذكرى رحيل مؤيد الراوي.. ذكريات متأخرة


جورج منصور

الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 01:21
المحور: الادب والفن
    


يُعد مؤيد الراوي أحد أبرز الشعراء العراقيين في ستينيات القرن الماضي، وانتمى إلى ما عُرف بـ"جماعة كركوك". عمل في مجال الصحافة، واعتُبِر أحد رموز التجديد في الشعر العراقي الحديث. من بين مجموعاته الشعرية: "احتمالات الوضوح" و"الممالك"، وآخرها "سرد المفرد" التي صدرت قبل يومين فقط من رحيله عن دار "الجمل."
لم يكن بيت مؤيد الراوي يبتعد عن بيتنا في حي "عرفة" بكركوك سوى خطوات معدودة. كانت تلك الأزقة الحجرية والأرصفة المرتبة بإعتناء تختزن في مسامّها روائح الفحم والخبز والدهشة. وكان مؤيد، بشعره الكثيف القاتم السواد ونظارته الداكنة، يمرّ من أمام بيتنا بخطواتٍ متأنية، كأنه يمشي في حقل من الأفكار لا في شارع ضيّق من شوارع المدينة.

كنت صغيراً يومها، لكن صورته ما زالت معلّقة في الذاكرة كلوحةٍ عتيقةٍ في صدر غرفةٍ لا يزورها الضوء إلا نادراً. كان يدخل بيتنا أحياناً، فيتحدث مع أخي الكبير "ناصر" بلغة عربية فصيحة، ممزوجة بنبرةٍ بغدادية رخيمة، بينما كان يخاطب والدتي بالتركية أو بالتركمانية الدارجة، لغة الحياة اليومية في كركوك، وأحياناً بالآشورية. كان يجيد الانتقال بين اللغات كما ينتقل الشاعر بين الصور، بلا تكلّف ولا ارتباك.
وفي بعض الأحيان، كان يلتحق به "جان دمو"، ذلك الكائن المتمرّد الذي لا يعرف معنى للنظام. كان بيته ملاصقاً لبيتنا، لا يفصل بينهما سوى جدار من الطابوق الأحمر. أتذكّره وهو يطرق بابنا في أوقاتٍ غير متوقعة، وكان كثيراً ما يبصق على الأرض أو في الهواء، أينما كان وبلا تردد. وهذا ما كان يغيض والدتي فتثور لتوبخه. لكنه كان يبتسم ابتسامة جانبية غامضة، ويقول لي بصوته الخفيض:
"هلو جورج، خلصت السكائر… روح جيبلي علبة من الكانتين". والكانتين كان مجمعاً تجارياً نظيفاً، يتوفر فيه كل ما يحتاجه الناس.
كنت أركض بحماس لأشتري له السجائر، كأنني أشارك في طقسٍ سريّ من طقوس الشعراء الكبار الذين يسكنون بيننا ولا نعرف قدرهم بعد.
كنت أدرك، وأنا مازلت طفلاً، أن مؤيد الراوي ليس رجلًا عادياً. كان شاعراً وصحفياً وخطّاطاً ورسّاماً، كل هذه المواهب اجتمعت فيه. أذكر أنني زرت بيته ذات مرة برفقة شقيقه الأصغر "فؤاد". وما إن فتح باب غرفته حتى داهمني غبار الدخان، كان كثيفاً كالضباب، لدرجة أنني شعرت بالغثيان. وما إن خطوت إلى الداخل حتى أحاطت بي الألوان من كل صوب: لوحات تملأ الجدران، وخطوط عربية تمتدّ كأنهارٍ من حبر أسود.
وسط تلك الفوضى من الكتب واللوحات والرماد، كانت هناك لوحة "بورتريه" لفتاةٍ آشورية جميلة، تسكن قريباً منه. قيل لنا إنه كان يحبها بصمت، وأنه رسمها مراتٍ عديدة ليحفظ وجهها من شبح النسيان.
كان مؤيد يدخّن سيكارته بشراهةٍ تأملية، يشعلها كما يشعل قصيدة، ثم يدخنها حتى منتصفها فقط، وكأنه لا يريد أن يستهلك جمرها تماماً، ثم يطفئها ويلويها بين أصابعه ويرميها جانباً. كنت أراقب هذه الحركة فأشعر أنها ليست عابرة، بل جزء من طقس يومي لمصالحة نفسه مع عالمٍ لا يرحم.

مضت سنونٌ طوال لم أره فيها، حتى جاء اللقاء في برلين ليكسر تلك الحلقة. هناك، في بيته- مرسمه، وجدت عالمه ماثلًا أمامي: جدرانٌ تحمل لوحاتٍ تتنفس فناً، وألوانٌ تعانق بساطة الأثاث في أرجاء الغرفة. إلى جانبه، كانت تقف زوجته الصحفية فخرية صالح، شريكة دربه. لقد نال الزمن من جسده النحيل حتى أوشك على الانحناء، لكن نظراته كانت المعجزة؛ ظلت كنجمين متألقين، يشعان ذكاءً قديماً وحنيناً لا يعرف الزوال.
تحدثنا مطولاً عن كركوك، عن الشعر، وعن الرحيل الذي لا ينتهي. بعد فترة قصيرة، تسلّل المرض إليه، وشلّ حركته شيئاً فشيئاً، ثم خمد صوته كما كانت تخمد سيجارته في آخر الليل.
في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مرت عشر سنوات على رحيل مؤيد الراوي عن 76 عاماً في برلين. لكن روحه ما تزال معلّقة في تلك الأزقة القديمة في كركوك، عالقة بين دخان سجائره وألوان لوحاته وصدى لغاته المتعددة.
اتسمت لغته الشعرية بغموض ظاهر، غير أن بنائه اللغوي تميز بالشفافية والاعتماد على الرمزية من خلال استخدام المحسنات البديعية. وفي ديوانه "سرد المفرد" نقرأ:
الأشياءُ كثيرةٌ
تولدُ الأشياءُ
دوامةٌ يديرُها طبعُ إلهٍ
مَنْسوخةٌ تَمضغُ الأشياءَ
تَغزِلُ من الغيابِ شيَّاكَ
تَضيعُ فيها وتُسجَن
تحرسُها الكواسجُ
لا مقصَّ تُقطَعُ به الخُيوطُ
فتمضي بنا نحو القاعِ
تنحني الكتفُ وتصنعُ الألغازَ
ننشغلُ بها وتَطرُقُنا كَثْرَةُ الرموزِ

سلامٌ لروحك أيها الراوي، ولأيامٍ كنا نعبرها ببطءٍ، كأنها هي نفسها تخاف من أن تنتهي.



#جورج_منصور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاك ...
- برلمان بلا بوصلة: حين يتحول المنصب إلى غاية في ذاته
- الثقافة والفن جسراً للهوية الوطنية في العراق
- -تُصَنعّون من الحمقى قادة. ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟-
- بين المال والسلاح: هل تُسرق الانتخابات العراقية القادمة؟
- هل العراق بحاجة إلى منظمات مجتمع مدني مستقلة؟
- التعليم جرحٌ مفتوح يهدد مستقبل الوطن
- العراق: عندما يتحول الذباب الإلكتروني إلى سلاح للفوضى الناعم ...
- الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة
- العراق: المنصب الدبلوماسي مكافأة لا استحقاق
- المثقف العراقي: مرآة لخيبة نظامين
- في اليسار العراقي.. مجرد رأي
- العراق: حين يُستهان بالعلم ويُحتفى بالخرافة
- -الرحلة-: لم تكن كأي رحلة
- طهران.. ما أشبه اليوم بالبارحة
- -وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض
- جولة حرة في الموصل.. الطيور الهاربة لم تعد إلى اعشاشها بعد
- شكرا لهذا الاحتفاء المُبهر
- (ذاكرة يد).. مدخلٌ إلى جحيم أقبية الموت
- عروض التعازي طقوس درامية


المزيد.....




- التمثيل الشعري للذاكرة الثقافية العربية في اتحاد الأدباء
- الكوتا المسيحية: خسارة ريان الكلداني وعودة الجدل حول “التمثي ...
- مؤرخ وعالم آثار أميركي يُحلل صور ملوك البطالمة في مصر
- -المعرفة- في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبداد
- روزي جدي: العربية هي الثانية في بلادنا لأننا بالهامش العربي ...
- إيران تكشف عن ملصق الدورة الـ43 لمهرجان فجر السينمائي
- هوس الاغتراب الداخلي
- عُشَّاقٌ بَيْنَ نَهْرٍ. . . وَبَحْر
- مظهر نزار: لوحات بألوان صنعاء تروي حكايات التراث والثقافة با ...
- في حضرةِ الألم


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جورج منصور - في ذكرى رحيل مؤيد الراوي.. ذكريات متأخرة