أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - التعليم جرحٌ مفتوح يهدد مستقبل الوطن















المزيد.....

التعليم جرحٌ مفتوح يهدد مستقبل الوطن


جورج منصور

الحوار المتمدن-العدد: 8487 - 2025 / 10 / 6 - 02:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حتى نهاية القرن الماضي، كان العراق يمتلك واحداً من أكثر الأنظمة التعليمية تقدماً في المنطقة: تعليم إلزامي، وحملات ناجحة لمحو الأمية، وجامعات خرَّجت الاف الأطباء والمهندسين والعلماء الذين أسهموا في نهضة المنطقة والعالم.
لم يكن التعليم في العراق يوماً شأناً ثانوياً، بل شكَّل منذ بدايات الدولة الحديثة ركناً أساسياً في بنائها، ومنارة للعلم في الشرق الأوسط. ففي سبعينيات القرن الماضي، كانت الجامعات العراقية في المنطقة مضرب المثل: رصانة أكاديمية، كفاءات عالية، ومخرجات تعليمية تنافس أرقى دول العالم.
ورغم الحروب والحصار، ظل النظام التعليمي في العراق حتى عام 2003 محتفظاً بحدٍّ أدنى من الانضباط والهيكلية. فقد كان من أوائل الدول العربية التي قضت على الأمية بشكل شبه كامل، فيما مثَّلت جامعات بغداد والمستنصرية والموصل والبصرة مراكز علمية مرموقة في الشرق الأوسط.
لكن مع دخول القوات الأمريكية إلى بغداد في 2003، لم تسقط مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية فقط، بل انهارت معها البنية التعليمية. إذ أدى الغزو وما تلاه من حل للجيش ومؤسسات الدولة إلى فراغ أمني وسياسي جعل المدارس والجامعات عرضة للعنف والنهب والحرق والفساد والتسيييس. فالمكتبات أُفرغت من محتوياتها، والمختبرات تحولت إلى أنقاض. وتشير تقارير إلى أن نحو 200 مدرسة دُمّرت خلال الحرب في ربيع 2003، من أصل أكثر من 13 ألف مدرسة كانت قائمة آنذاك.
وتعرضت الجامعات والمدارس وأساتذتها لموجات عنف طائفية شديدة بين عامي 2006 و 2008، ومرة أخرى مع صعود داعش بعد 2014، حيث اغتيل أو غُيب مئات الأساتذة والأكاديميين البارزين، ما أفقد البلاد عقولها العلمية وخبراتها التراكمية.
معدَّل الأمية بين البالغين قفز بشكل حاد بعد أن كان العراق رائداً في محوها. ففي السبعينات والثمانينات كان معدل الأمية منخفضا جداً، أما بعد 2003 فقد ارتفع وفق بعض التقديرات إلى نحو 47%.
وتشير تقارير اليونيسيف، إلى أن أكثر من 3.2 مليون طفل عراقي في سن الدراسة خارج المدارس، بينهم عشرات الآلاف من النازحين. وفي بعض المناطق المتضررة مثل ديالى وصلاح الدين، تصل نسة الأطفال غير الملتحقين بالمدارس إلى 90%.
اصبح قطاع التعليم ساحة خصبة للفساد: مشاريع وهمية للبنى التحتية، تلاعب بالميزانيات، بيع للمناصب الإدارية، وتسرّب للامتحانات. كما أدى نظام المحاصصة الطائفية والحزبية إلى تعيين مسؤولين على أساس الولاء لا الكفاءة، ما همَّش الكفاءات وساهم في ترسيخ المحسوبية.
وانعكس ذلك على التمويل، فأصبحت المدارس بلا أبواب أو نوافذ، والمكتبات بلا كتب حديثة، والمختبرات بلا أجهزة. وتشير تقديرات إلى وجود أكثر من 87 ألف منصب تدريسي شاغر، وحاجة ماسة لبناء نحو 8 آلاف مدرسة جديدة لسد العجز القائم.
هذا التدهور دفع كثيراً من الطلاب، خاصة من الفئات الفقيرة، إلى ترك مقاعد الدراسة والانخراط في سوق العمل لإعالة أسرهم، فيما أرتفعت معدلات الانتحار بين الشباب بشكل مقلق. ففي تقرير لصحيفة المدى في عددها الصادر في 23 أيلول، يقول: " يشهد العراق ارتفاعا في معدلات انتحار الشباب، حيث سجلت البلاد 700 حالة انتحار في عام 2023 ، مقارنة ب 352 حالة في عام 2022".
إن ما حدث قلب المشهد رأساً على عقب، حتى صار التعليم اليوم عنواناً للأزمة بدلاً من أن يكون رافعة للتنمية. بينما تتسابق الأمم لتحديث مناهجها وبناء أجيال قادرة على المنافسة في القرن الحادي والعشرين، يجلس الطالب العراقي في مدارس متهالكة أو مبنية من الطين، في صفوف مكتظة، على مقاعد قديمة، أمام معلم مُحبط، يُدرّس مناهج عفا عليها الزمن.
ولذا تحتل الجامعات العراقية مراكز متأخرة جداً في التصنيفات العالمية إن ظهرت فيها أصلاً. فما تزال المناهج في كثير من الاختصاصات تعتدمد على الحفظ والتلقين، وتفتقر إلى التفكير النقدي والإبداعي، فضلاً عن غياب التحديث لمواكبة سوق العمل الحديثة والثورة التكنولوجية.
تراجع الإنفاق على البحث العلمي إلى حدود الصفر تقريباً، مع غياب شبه تام للمختبرات المجهَّزة والدوريات العلمية المحكمة وفرص التطوير للباحثين. كما يعاني التعليم المهني والتقني من إهمال كبير ونظرة مجتمعية دونية، على الرغم من حاجة سوق العمل الماسة للكوادر المهنية المؤهلة. في المقابل، تحولت الدروس الخصوصية إلى ظاهرة عامة بسبب ضعف مستوى التعليم في المدارس الحكومية، ما أضاف عبئاً مالياً إضافياً على الأسر وعمّق الفجوة بين الفقراء والأغنياء.
لقد ساهم إدخال المحاصصة السياسية والطائفية إلى إدارة الجامعات والمدارس في تسييس المناهج وتشويهها، وادى العنف والتهديدات إلى هجرة واسعة للعقول الأكاديمية. وأنعكس انهيار التعليم على بقية قطاعات المجتمع: بطالة متفاقمة، خريجون بلا مهارات، واستشراء التطرف والخرافة. وصارت الشهادة مجرد ورقة شكلية فاقدة القيمة العلمية والاجتماعية، بينما تراجعت مكانة المعلم من رسالة سامية إلى وظيفة مرهقة براتب ضعيف.
الأدهى من ذلك أنَّ التعليم أصبح ساحة لتكريس الانقسام، عبر مناهج مرتبكة ومشوشة، تُكتب وتُعدَّل وفق أهواء سياسية وطائفية، بدل أن تكون ركيزة لبناء وعي وطني جامع. وضاع الطالب بين كتاب ممزق، ومدرسة متهالكة، وواقع يرسّخ الأمية بدل أن يقضي عليها.
كما أن أنتشار المدارس الخاصة والجامعات الأهلية في العراق، بهذا الشكل الملفت، دون ضوابط علمية صارمة أو رقابة حقيقية على المناهج والأساتذة والمستوى الأكاديمي، جعل التعليم يتحول من رسالة إلى تجارة، ومن وسيلة لبناء الأجيال إلى مشروع للربح السريع.
فالأصل أن هذه المؤسسات تُنشأ لتكملة دور التعليم الحكومي وتقديم بدائل نوعية أكثر تخصصاً وابتكاراً، لكن الواقع أنها تحولت إلى "سوق" تُباع فيه الشهادات وتُشترى المقاعد الدراسية لمن يملك المال، بينما يُترك أصحاب الكفاءة الحقيقية على الهامش. وبينما تتكدس الأرباح في جيوب أصحاب هذه المدارس والجامعات، يتدهور مستوى التعليم الرسمي. إنها أزمة أخلاقية قبل أن تكون أزمة تعليمية، لأن التعليم حين يُختزل إلى سلعة، يفقد جوهره الإنساني والوطني.
إن إنقاذ التعليم في العراق يتطلب ثورة حقيقية شاملة، لا مجرد إصلاحات ترقيعية. ثورة تعيد للتعليم مكانته بعيداً عن الصراعات والمحاصصة، وتضع الإنسان في قلب التنمية باعتباره رأس المال الحقيقي المطلوب، تبدأ بإبعاده عن الصراعات السياسية والطائفية، وإعادة الاعتبار للمعلم، وتحديث المناهج بما يتناسب مع عصر التكنولوجيا والمعرفة.
المطلوب رؤية شاملة تعيد الاعتبار للإنسان باعتباره رأس المال الحقيقي، من خلال:
إصلاح البنية التحتية التعليمية وتجهيز الصفوف بوسائل تعليم حديثة. تحديث المناهج وتخليصها من التكرار والحشو والمحتوى غير العلمي وإدخال مواد تنمّي التفكير النقدي والابتكار والقدرة على البحث. رفع مستوى إعداد المعلمين من خلال برامج تدريبية داخل العراق وخارجه. معالجة ظاهرة الأمية والتسرب من المدارس. إشاعة ثقافة البحث العلمي. تقليص البيروقراطية والفساد في وزارتي التربية والتعليم العالي، وتعزيز قيم المواطنة والتسامح في المدارس ومعالجة الخرافة والتفكير الغيبي بتقوية العلوم والمنطق.
من دون هذه الثورة، سيبقى العراق يراوح في دائرة التخلف، فيما العالم يركض مسرعاً نحو المستقبل.



#جورج_منصور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق: عندما يتحول الذباب الإلكتروني إلى سلاح للفوضى الناعم ...
- الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة
- العراق: المنصب الدبلوماسي مكافأة لا استحقاق
- المثقف العراقي: مرآة لخيبة نظامين
- في اليسار العراقي.. مجرد رأي
- العراق: حين يُستهان بالعلم ويُحتفى بالخرافة
- -الرحلة-: لم تكن كأي رحلة
- طهران.. ما أشبه اليوم بالبارحة
- -وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض
- جولة حرة في الموصل.. الطيور الهاربة لم تعد إلى اعشاشها بعد
- شكرا لهذا الاحتفاء المُبهر
- (ذاكرة يد).. مدخلٌ إلى جحيم أقبية الموت
- عروض التعازي طقوس درامية
- حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س
- لقاء في قم
- بغداد 2003: عندما كشّر الموت أنيابه*
- الفنان الآشوري هانيبال ألخاص كما عرفتهُ
- حكايتان من الجبل: الساقية والبغل
- عن الهجوم الكيمياوي على حلبجة كًلستان*
- مشياً على الأقدام بإتجاه الوطن: من موسكو الى قرية نائية .. ه ...


المزيد.....




- هل تساعدنا الزيوت العطرية في الحفاظ على ذاكرة قوية؟
- وفد حماس يصل إلى مصر وتفاؤل قبيل بدء التفاوض
- هل يرسم البيان العربي الإسلامي خارطة طريق للمفاوضات ويدعم ال ...
- غطاء عربي إسلامي يدعم المفاوضين الفلسطينيين في شرم الشيخ
- رغم انطلاق المفاوضات.. عشرات القتلى بقصف إسرائيلي على غزة
- سوريا.. اشتباكات بين الجيش وقوات قسد بريف حلب
- ترامب: محادثات غزة تتقدم بسرعة وهذا موعد المرحلة الأولى
- وفد حماس يصل القاهرة لبحث التهدئة، وترامب يتحدث عن محادثات - ...
- الحرب على غزة مباشر.. شهداء في غارات إسرائيلية على القطاع وم ...
- كيف قامت حماس بهذه المناورة المذهلة؟


المزيد.....

- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - التعليم جرحٌ مفتوح يهدد مستقبل الوطن