أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة















المزيد.....

مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة


جورج منصور

الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 02:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


شكَّل الوجود المسيحي في بلاد النهرين، منذ نهايات القرن الأول الميلادي، امتداداً طبيعياً لتاريخ البلاد. هنا قامت أولى الكنائس، وتأسست المدارس والرهبانيات، وانطلقت منها الترجمات الأولى التي نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية في العصر العباسي.
لم يكن المسيحيون "أقلية" بالمعنى السياسي الحديث، بل شركاء أصليين في صناعة الحضارة، يسهمون في الطب والترجمة والفلسفة والعمارة والفكر. ومن بغداد والموصل وكركوك والبصرة، كانت الأجراس والأذان تتعانق في فضاء واحد من غير خوف أو استعلاء.
غير أن هذا التوازن بدأ يتآكل حين تحول الدين إلى أداة للهوية السياسية، وصارت الأكثرية معياراً للشرعية، ولم يعد التعدد أساساً للمواطنة. ومنذ منتصف القرن العشرين، مع تصاعد النزعات القومية والإيديولوجية، أخذ الوجود المسيحي ينحسر في مؤسسات الدولة والإدارة والثقافة، حتى جاءت الحروب والحصار لتدفعه إلى حافة الاغتراب.
تشظي الهوية والتمثيل

يضم المكوَّن المسيحي اليوم كنائس وطوائف رئيسة عدة: الكنيسة الكلدانية الكائوليكية، والكنيسة السريانية (بفرعيها الكاثوليكي والأرثوذكسي)، والكنيسة الآشورية الشرقية (النسطورية سابقاً)، والكنيسة القديمة في المشرق، والكنيسة الأرمنية (الكاثوليكية والأرثوذكسية)، إلى جانب الكنائس البروتستانية والإنجلية.

ويشمل المكوَّن اليوم جماعات قومية متقاربة لكنها متميزة: الكلدان (أكبرالطوائف) الذين يعتبرون أنفسهم أحفاد البابليين القدماء وتُعتبر لغتهم الكلدانية من اللهجات الآرامية الشرقية، والآشوريون المنتمون إلى الحضارة الاشورية القديمة ولغتهم السريانية الشرقية والكثير منهم يفضلون تسميتها باللغة الاشورية. والسريان هم حاملو إرث المسيحية السريانية، والأرمن الذين استقروا في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، وهم قومية مستقلة لغوياً وثقافياً.

ويشكل هؤلاء جميعاً ما يُعرف في الدستور العراقي ب "المكوَّن المسيحي"، الذي يُعدّ جزءاً أصيلاً من النسيج التاريخي والحضاري للبلاد.

أزمة القيادة والتشرذم السياسي

عاش المكوّن المسيحي في العراق، منذ عقود، مأزقاً مركباً تداخلت فيه السياسة بالديموغرافيا، والتاريخ بالذاكرة، والهوية بالاغتراب. فبعد أن كان هذا المكوّن ركناً أصيلاً في تكوين الدولة العراقية الحديثة، وشريكاً فاعلاً في حياتها الثقافية والإدارية والتعليمية، وجد نفسه اليوم أمام واقع من التراجع العددي والرمزي، حتى بات الحديث عن "وجوده" ذاته أشبه بالدفاع عن الذاكرة منه بصياغة مشروع للمستقبل.

ليست أزمة المسيحيين في العراق جديدة. فقد بدأت ملامح التراجع مع تصاعد النزعات القومية والطائفية في منتصف القرن العشرين، وما رافقها من عسكرة للدولة وتسييس للهوية. ومع الحروب والحصار والهجرة، انكمش الحضور المسيحي من نحو مليون ونصف إلى أقل من ربع مليون وربما أقل.

بعد سقوط النظام السابق عام 2003، وجد المسيحيون العراقيون أنفسهم أمام واقع سياسي جديد اتّسم بالانفتاح والفوضى معاً. فبعد عقود من التهميش السياسي والإداري، كان من المفترض أن تشكل المرحلة الجديدة فرصة لإعادة تنظيم الصفوف وتأسيس تمثيل سياسي فاعل يعبّر عن هموم هذا المكوّن التاريخي. إلا أنّ ما حدث، في الواقع، كان العكس تماماً: تشتّت في القيادات، وتنازع في المرجعيات، وتضارب في الرؤى والمصالح، ما أفضى إلى أزمة قيادة حقيقية عطّلت أي مشروع جماعي.

في المرحلة التي تلت التغيير، حاولت الأحزاب القومية للمكّون المسيحي أن تجد لنفسها موقعاً ضمن الخارطة السياسية الجديدة. فإلى جانب الحركة الديمقراطية الآشورية والحزب الوطني الاشوري ، ظهرت أحزاب وتشكيلات سياسية بعضها ذو جذور قومية (كلدانية، سريانية، آشورية)، وبعضها حمل شعارات وطنية جامعة.

كما تحالفت جماعات مسيحية صغيرة مع فصائل مسلحة، ما أحدث هذا التحالف إرباكاً في وسط المكوَّن المسيحي ذاته: فبينما يرى البعض في هذا التحالف ضمانة للأمان أو النفوذ، يرى آخرون انه خيانة لتاريخ المسيحيين في العراق كجماعة مسالمة تناى بنفسها عن السلاح.

وهكذا، لم تتحوّل هذه التعددية إلى قوة، بل إلى عامل انقسام. فانشغلت الزعامات بالمنافسة على المقاعد النيابية والوزارية، وبصراعات الهوية الداخلية، أكثر من انشغالها ببناء رؤية موحدة لمستقبل الوجود المسيحي في البلاد، أو معالجة ظاهرة الهجرة المتفاقمة. وهكذا، لم يكن تعدد الأحزاب دليلاً على الحيوية، بل مرادفاً للتشرذم، ما أفقد الشارع ثقته بهذه الكيانات، وأدى إلى ضياع البوصلة لدى جماعة تؤمن بالدولة المدنية وبالسلم الاجتماعي.

دور الكنيسة بين الروحي والسياسي

لعبت الكنائس بمختلف طوائفها دوراً محورياً في الدفاع عن حقوق المؤمنين وحماية هويتهم. غير أن تدخل بعض القيادات الكنسية في الشأن السياسي خلق التباساً بين المجالين الروحي والدنيوي، وأثار حساسيات داخلية. ولا يُحبذ المؤمن أن يرى راعيه يجلس إلى موائد السياسيين، يوزع المديح كسلعة، ويقايض الصمت بالصفقات، بينما تُترك هموم الفقراء والمحتاجين على هامش الاهتمام.
المؤمن لا يتمنى أن تتنازل الكنيسة عن صدقها، لأنها بذلك تفقد قوتها الروحية، مهما عظُمَت صروحها أو تعددت ممتلكاتها. فقوتها الحقيقية لا تكمن في حائط أو حجر، ولا في تحالف أو مصلحة، بل في ضمير حر لا ينحني إلا لله. والراعي الحقيقي للكنيسة هو من يقف مع الحق حتى لو كلفه ذلك كل امتياز، ولا يتردد في قول "لا" عندما يصبح الصمت خيانة.
التهجير وهشاشة الوجود

بعد عام 2003 تزايدت حالات الاستيلاء على عقارات ومنازل مملوكة للمسيحيين في بغداد ومناطق أخرى، من قبل عصابات محلية أو جهات نافذة، عبر التزوير في الوثائق والبيع القسري تحت التهديد، وأحياناً باستغلال غياب المالكين بسبب النزوح.

كما تعرَّض المكون المسيحي لضغوط هائلة بعد صعود الحركات المتطرفة، ولا سيما منذ سيطرة تنظيم "داعش" على مساحات واسعة من سهل نينوى. فلم يعد الانتماء الوطني كافياً لتأمين الحماية، كما عجزت الدولة عن فرض مبدأ المساواة بين مواطنيها. وقد تجلَّى ذلك في هدم الكنائس، واغتيال رجال الدين، ونزوح عشرات الآلاف من المسيحيين عن مناطقهم.
أما في إقليم كردستان، فقد شهدت بعض المناطق محاولات ممنهجة لتغيير التركيبة الديموغرافية، تمثّلت في تجاوزات بعض المتنفذين على أراضي القرى المسيحية في محافظة دهوك، والاستيلاء على مساحات شاسعة من بلدات مسيحية، مستغلين في ذلك ثغرات قانون الاستثمار المجحف، لاسيما في بلدة عنكاوا. كما ساهم التوزيع العشوائي للأراضي لغير مستحقيها في تفاقم الأزمة.
وقد امتدت هذه الممارسات إلى بلدات مسيحية أخرى في سهل نينوى، خاصة في ناحية برطلة، حيث لوحظ تغيير ديموغرافي واضح عبر تسجيل عقارات بأسماء جهات جديدة. وقد عبّرت بعض الجهات الحكومية والإقليمية عن قلقها إزاء هذه التطورات.
كشفت هذه الأحداث عن هشاشة الوضع الأمني، وعن غياب قيادة مسيحية موحدة وقادرة على إدارة الأزمة أو التفاوض بصوت واحد حول إعادة الإعمار والعودة، ما دفع بمزيد من العائلات إلى الهجرة.

المواطنة الشكلية والكوتا الرمزية

سعى النظام السياسي في العراق بعد عام 2003 إلى تمثيل المسيحيين عبر منحهم "كوتا" سياسية في البرلمان. غير أن هذه الكوتا تحوّلت مع الزمن إلى أداة للصراع بين الأحزاب، ولا سيما المتنفذة منها، لاحتكار مقاعدها والاستئثار بها عبر استغلال أصوات ناخبين من خارج المكون المسيحي. وهكذا، لم يعد الهدف تمثيلهم بقدر ما أصبحت الكوتا أداة لتزيين خطاب "التنوع" وإضفاء شرعة زائفة على المشهد السياسي، بينما يزداد واقع الحال بؤساً.
فكيف لجماعة أن تكون حاضرة في النصوص الدستورية وغائبة على الأرض؟ وكيف تُختزل ذاكرة ألفي عام في مقاعد انتخابية قليلة؟.
وراء هذه الأسئلة يكمن المأزق الحقيقي: مأزق الوجود لا في السياسة فقط، بل في الوجدان الوطني. لم يعد المسيحي يشعر بأنه مواطن متساوٍ، بل ضيف مهدد في وطنه.

الخلاصة: نحو وعي جديد

يتأرجح الخطاب المسيحي اليوم بين البحث عن "ضمانات خاصة" داخل نظام المحاصصة الطائفي، والتمسك بمشروع وطني جامع. غير أن هذا الخطاب يصطدم بواقع لا يعترف إلا بمنطق القوة العددية.

إنّ المكون المسيحي في العراق اليوم بحاجة ماسة إلى مراجعة نقدية شجاعة. المطلوب ليس توحيد الأحزاب تحت راية واحدة، بل بناء "جبهة تنسيقية" تتبنى برنامجاً وطنياً مشتركاً يضع المصلحة العامة فوق المصالح الضيقة. كما أن استعادة الثقة بين القيادات والجمهور تشكل المدخل الضروري لأي نهضة.

فالقيادة الحقيقية لا تُقاس بعدد المقاعد، بل بقدرتها على صون الوجود والدفاع عن الكرامة، وإعطاء الأمل للجيل الجديد بالبقاء. المسألة ليست فقط حماية وجود جماعة، بل إعادة بناء التوازن الوطني على أساس المواطنة المتساوية.

المأزق اليوم ليس في قلة العدد، بل في ضياع المعنى. فأن تبقى أقلية لا يعني أن تفقد دورك، لكن أن تُختزل في رمزية عاطفية بلا مشروع وطني، فذلك هو الفناء البطيء.

ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً ما دام ثمة من يكتب، ويؤمن، ويستذكر أن هذه الأرض شهدت أولى الترانيم المسيحية، وأن بين أنقاض نينوى وبابل مازالت اصوات النواقيس تسمع ، وتراتيل صلوات الرهبان تهمس بلغات لم تمت بعد.



#جورج_منصور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برلمان بلا بوصلة: حين يتحول المنصب إلى غاية في ذاته
- الثقافة والفن جسراً للهوية الوطنية في العراق
- -تُصَنعّون من الحمقى قادة. ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟-
- بين المال والسلاح: هل تُسرق الانتخابات العراقية القادمة؟
- هل العراق بحاجة إلى منظمات مجتمع مدني مستقلة؟
- التعليم جرحٌ مفتوح يهدد مستقبل الوطن
- العراق: عندما يتحول الذباب الإلكتروني إلى سلاح للفوضى الناعم ...
- الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة
- العراق: المنصب الدبلوماسي مكافأة لا استحقاق
- المثقف العراقي: مرآة لخيبة نظامين
- في اليسار العراقي.. مجرد رأي
- العراق: حين يُستهان بالعلم ويُحتفى بالخرافة
- -الرحلة-: لم تكن كأي رحلة
- طهران.. ما أشبه اليوم بالبارحة
- -وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض
- جولة حرة في الموصل.. الطيور الهاربة لم تعد إلى اعشاشها بعد
- شكرا لهذا الاحتفاء المُبهر
- (ذاكرة يد).. مدخلٌ إلى جحيم أقبية الموت
- عروض التعازي طقوس درامية
- حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س


المزيد.....




- من بينها مصر والمغرب: ما هي أفضل أماكن مشاهدة كسوف الشمس الق ...
- تقارير عن لقاء بين كوشنر وأبو شباب.. وواشنطن تنفي
- اتهامات بالتجارب النووية ترفع مستوى التوتر: روسيا تعلن استعد ...
- ملفات جيفري إبستين.. غيسلين ماكسويل تسعى لطلب تخفيف عقوبتها ...
- اقتراب أكبر حاملة طائرات من سواحل أميركا اللاتينية يثير توتر ...
- عكس التوقعات.. العراق ينتخب بمشاركة قياسية وسط تغيرات اقليمي ...
- الجفاف والحشرات الغازية يقوضان غابات الصنوبر التاريخية في لب ...
- حاملة طائرات أمريكية تصل أمريكا اللاتينية.. وفنزويلا تعلن عن ...
- ماكرون يؤكد لعباس أن ضم الضفة -خط أحمر-.. وتشكيل لجنة مشتركة ...
- شاهد: تحطم طائرة عسكرية تركية في جورجيا قرب الحدود الأذربيجا ...


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة