أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - -تُصَنعّون من الحمقى قادة. ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟-















المزيد.....

-تُصَنعّون من الحمقى قادة. ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟-


جورج منصور

الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 04:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هذه العبارة ليست لي، بل استعرتها من السياسي والكاتب ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل، لتكون عنواناً لهذا المقال. ما قاله في زمنه البعيد يتطابق إلى حد كبير مع واقعنا في العراق بعد عام 2003، ذلك الواقع الذي يختزل حكمته في جملة موجعة: "الشعوب لا تُحكم إلاَّ بمن يشبهها".
هذه المقولة تعبّر في جوهرها عن فكرة أن الحاكم هو مرآة عاكسة لبيئته ومجتمعه؛ فالسلطة لا تنبثق من فراغ، بل تنشأ من المنظومة القيمية والثقافية السائدة. وهي تصدق بشكل خاص عندما يكون المجتمع راكداً، ومتواكلاً، أو متواطئاً مع ضعفه. فالحاكم لا يشبه شعبه فحسب، بل يشبه أيضاً ظروفه التاريخية وثقافته السياسية.
وعندما يُعيد الشعب انتخاب الفاسدين وغير الأكفاء، أو يُسهم في وصول الجاهلين إلى مراكز القيادة، فإن الخلل لا يقتصر على النخبة الحاكمة وحدها، بل يتعداها إلى الوعي الجمعي الذي سمح بذلك وشرعنه عبر صناديق الاقتراع.
في كل دورة انتخابية، تتكرر المأساة نفسها: يخرج الناس غاضبين من الفساد، متذمرين من سوء الخدمات، ساخطين على النهب والظلم، ثم يعودون إلى صناديق الاقتراع ليُصوتوا للوجوه ذاتها التي سرقتهم بالأمس. لا تتغير النتيجة، لأن الخلل لم يعد في الحاكم فحسب، بل في وعي المحكوم أيضاً.
إن الشعب الذي يختار الفاسدين، أو يتغاضى عنهم، أو يبرر لهم باسم العشيرة أو المذهب أو المصلحة الشخصية، إنما يوقع بيده على استمرار الخراب. فالسياسي الفاسد لا يأتي من فراغ، بل يصعد على أكتاف أصواتٍ منقوصة الشرعية، ووعود زائفة اشتراها بثمن بخس من وعي مغيب أو جوعٍ مزمن.
الانتخابات في جوهرها ليست طقساً شكلياً، بل امتحان للضمير الجمعي. فإذا تحوّل الصوت الانتخابي إلى سلعةٍ تباع وتُشترى، أو إلى وسيلة لابتزاز الدولة بالخدمات، نكون قد استبدلنا الفساد الإداري بفسادٍ شعبّي مقنَّع، وحينها يصبح الحديث عن الإصلاح ترفاً لغوياً لا أكثر.
الفاسد لا يعيش إلا في بيئة تسمح له بالبقاء، وشعبٌ يرفض محاسبته هو شعبٌ يمنحه الأمان. وحين يُكافأً الفاسد بالصوت الانتخابي، تكون رسالة الشعب واضحة: "افعل ما شئت، سنعيدك مهما سرقت". وهذه هي ذروة التواطؤ بين الجهل والسلطة.
في العراق، حيث تغيب الثقافة السياسية عن عامة الناس، يتحول التصويت من فعلٍ وطنّي مسؤول إلى عملية بيع أو شراء، أو استجابة لعصبيات عشائرية أو طائفية أو مناطقية. عندها يفقد الصوت قيمته كموقف وطني، ويتحوَّل إلى وسيلة لتثبيت الفساد لا لمكافحته.
وحين يُقدّم الناخب مصلحته الشخصية أو الفئوية على المصلحة العامة، يفتح الباب أمام الفاسدين ليتسللوا باسم الخدمات الفردية أو الوعود الزائفة. وهكذا تتحول العملية الانتخابية إلى دائرة مغلقة من الفساد المتبادل: السياسي يشتري الولاء، والناخب يبيع صوته، والنتيجة خراب عام.
ويسهم الإعلام الموجَّه، الخاضع للسراق والفاسدين أو للأحزاب، في تزييف الوعي الجماهيري، عبر تقديم الفاسدين بثوب المنقذين أو الوطنيين. فيغدو التمييز بين الكفؤ والفاسد أمراً صعباً على المواطن البسيط، فتختلط المعايير ويُصاب الوعي الجمعي بالتشويش.
في العراق الذي شهد حروباً وانقسامات، يستغل السياسيون خوف الناس من المجهول، فيصورون أنفسهم كحماةٍ من الفوضى، حتى لو كانوا هم من صنعها. حينها يُصبح الشعب أسير الخوف، يختار "الشرّ المألوف" على "المجهول المحتمل"، فيستمر الفساد باسم الاستقرار.
وهنا تتحمل النخب الثقافية والأكاديمية جزءاً من المسؤولية. فغياب دورهم التنويري، أو انخراط بعضهم في خدمة السلطة الفاسدة، يترك الجماهير دون بوصلة. فالإصلاح يبدأ من الوعي، والوعي لا يُبنى إلا بالتعليم والإعلام والفكر النقدي.
إن انتخاب الفاسدين ليس مجرد خطأ في التقدير، بل هو خلل أخلاقي وثقافي عميق. فلا يمكن بناء دولة عادلة إلا عندما يُدرك الشعب أن صوته أمانة، وأن المسؤول ليس زعيماً يُقدَّس، بل موظفٌ يُحاسب. فحين ينهض الوعي، يسقط الفساد تلقائياً، لأن الشعب الواعي لا يمنح الشرعية إلا لمن يستحقها.
ما لم يدرك الناس أن أصواتهم هي السلاح الوحيد المتبقي، ستبقى صناديق الاقتراع صناديق دفن للأمل. فالإصلاح يبدأ من الوعي، والوعي يبدأ من السؤال البسيط: لماذا نمنح أصواتنا لمن خذلنا؟
هذه السؤال يحمل مفارقة موجعة، وتكمن الإجابة عليه في لحظة التصويت ذاتها، في تلك "الخيانة الصغيرة" التي تُرتكب بإسم الأمل، وصمت الضمير حين يساوم على الكرامة بثمن بخس.
الديمقراطية ليست ورقة تُلقى في صندوق، بل مسؤولية تُلقى على عاتق الوعي. فإذا غاب الوعي، تحوَّلت الانتخابات إلى مسرح عبثيّ يُعاد فيه تمثيل المأساة ذاتها، ويخرج الناس كل مرة أكثر خيبة وأشد فقراً. الفاسد لا يصعد وحده، بل يُحمل على أكتاف الخوف والطائفية والعصبية والولاء الأعمى.
الخراب يبدأ حين نصغي إلى الوعود الكاذبة ونغضّ الطرف عن السرقات بحجة "كلهم كذلك". يبدأ حين نصمت عن الكذب لأن الكاذب من جماعتنا، ونبرر للظلم لأن الظالم يشبهنا في المذهب أو العرق أو الحزب.
الشعوب التي تنتخب الفاسدين لا تُسرق فقط، بل تُهان؛ فهي تمنح الشرعية للخراب، ثم تبكي على أنقاض ما صنعت بأيديها. ولا خلاص لها إلا حين تفهم أن التغيير لا يولد من الصناديق، بل من الضمائر؛ من شجاعة القول: كفى. ومن الإيمان بأن الكرامة أثمن من خبز ملطَّخ بالذل.
لقد صنع العراقيون بأديهم طبقة سياسية لا تمثّل وعيهم ولا تاريخهم، بل تمثّل انقسامهم وخوفهم وتعبهم الطويل. فمن يختار زعيمه على أساس الطائفة لا الكفاءة، ومن يرفع شعارات الولاء قبل شعارات الوطن، لا ينبغي أن يتساءل بعد ذلك عن أسباب الانهيار.
العراق لم يكن بلداً فقيراً ولا عاجزاً. بل كان غنياً بالثروات والعقول، لكنه أصيب بالعمى الجمعي، فتعوَّد أهله على الرداءة كما يتعوّد المريض على وجعه. وحين تغيب المساءلة، ويصبح الولاء معياراً وحيداً للترقي، يصل الحكم إلى من لا يعرف كيف يُدير مدرسة، فضلاً عن وطن بحجم العراق.
في أرض التاريخ والحضارة، تحوّلت السياسة إلى مهنة بلا علم، وإلى حرفة بلا ضمير. وصار الإعلام تابعاً للسلطة بدل أن يراقبها، واختار الجمهور العيش بين وهم الزعيم وعدالة السماء، متناسياً أن العدالة تبدأ من الأرض، من الموقف، من الكلمة، من الرفض.
إن إعادة بناء العراق لا تبدأ بتغيير الأشخاص، بل بتغيير الوعي الجمعي الذي صنعهم. تبدأ حين يتوقف المواطن عن التصفيق للخطأ، وعن تبرير الفشل، وحين يُدرك أن الصمت خيانة، وأن الخوف ليس فضيلة. فالبلاد التي تريد أن تُشفى، لا تضع مصيرها بيد من كان سبب مرضها. فالأمم لا تنهض بالصدفة، ولا تسقط بالمؤمرات وحدها، بل بخياراتها.



#جورج_منصور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين المال والسلاح: هل تُسرق الانتخابات العراقية القادمة؟
- هل العراق بحاجة إلى منظمات مجتمع مدني مستقلة؟
- التعليم جرحٌ مفتوح يهدد مستقبل الوطن
- العراق: عندما يتحول الذباب الإلكتروني إلى سلاح للفوضى الناعم ...
- الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة
- العراق: المنصب الدبلوماسي مكافأة لا استحقاق
- المثقف العراقي: مرآة لخيبة نظامين
- في اليسار العراقي.. مجرد رأي
- العراق: حين يُستهان بالعلم ويُحتفى بالخرافة
- -الرحلة-: لم تكن كأي رحلة
- طهران.. ما أشبه اليوم بالبارحة
- -وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض
- جولة حرة في الموصل.. الطيور الهاربة لم تعد إلى اعشاشها بعد
- شكرا لهذا الاحتفاء المُبهر
- (ذاكرة يد).. مدخلٌ إلى جحيم أقبية الموت
- عروض التعازي طقوس درامية
- حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س
- لقاء في قم
- بغداد 2003: عندما كشّر الموت أنيابه*
- الفنان الآشوري هانيبال ألخاص كما عرفتهُ


المزيد.....




- لحظة سقوط رافعات شاهقة في باريس وتطاير أسقف المنازل بسبب إعص ...
- ليندسي لوهان تتألق بفستان أبيض بأحدث جلسة تصوير في نيويورك
- صدام حاد بين زهران ممداني وأندرو كومو في مناظرة الترشح لمنصب ...
- وسط الضجة.. كشف أسماء من تبرع لبناء قاعة الرقص لترامب في الب ...
- مشاهد مهيبة.. مصري يستكشف حجرة الحمم في بركان خامد بآيسلندا ...
- كيف تغيّر رعاية الوالدين حياة الشباب؟
- كيف يمكن للعراق أن يحافظ على التوازن بين حليفين خصمين، واشنط ...
- قادة الاتحاد الأوروبي يجتمعون في بروكسل لتأكيد دعمهم لزيلينس ...
- 158 اعتداء على مزارعي الزيتون بالضفة منذ بداية الموسم الحالي ...
- استجواب 3 سجناء هددوا ساركوزي داخل محبسه في باريس


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج منصور - -تُصَنعّون من الحمقى قادة. ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟-