جورج منصور
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 04:57
المحور:
المجتمع المدني
في بلد يرزح تحت أعباء الأزمات المتكررة ويئنّ تحت وطأة الفساد والمحاصصة، حيث تتهاوى مؤسسات الدولة وتتراجع ثقة المواطن بها، يبرز سؤال جوهري: لماذا يحتاج العراق اليوم إلى منظمات مجتمع مدني مستقلة؟
الإجابة واضحة وصريحة: تمثل هذه المنظمات صمام أمان بين السلطة والمواطن. فهي قادرة على مراقبة أداء الدولة وكشف مواطن الخلل والفساد، كما تمنح صوتاً للفئات المهمشة في خضم الصراعات السياسية، كالنساء والشباب والأقليات.
إن وجود منظمات مستقلة يسهم في نشر الوعي وثقافة المواطنة، ومحاربة الخرافة والأمية الفكرية التي باتت تهدد البنية الاجتماعية، كما يمكنها أن تسد الفراغ الذي تتركه الدولة في مجالات التعليم والصحة والخدمات، عبر مبادرات محلية مرنة وقريبة من الناس.
لكن نجاح هذه المهمة مرهون بشرط أساسي هو الاستقلالية. فإذا خضعت هذه المنظمات لهيمنة الأحزاب أو القوى المتنفذة، تفقد جوهر دورها وتتحول إلى مجرد واجهة أخرى للمحاصصة. وحدها الاستقلالية تمكّنها من بناء جسور الثقة مع الناس، وتقديم نموذج مختلف للعمل العام قائم على الشفافية والمصلحة المشتركة، بعيداً عن الولاءات الضيقة.
إن العراق اليوم، بتحدياته وانقساماته، يحتاج إلى مجتمع مدني قوي ومستقل بقدر حاجته إلى مؤسسات دولة فاعلة. فبدون هذا التوازن، ستبقى الديمقراطية مجرد شعار أجوف، وسيظل المواطن أسيراً لصراع القوى لا شريكاً في بناء الوطن.
الواقع والتحديات: بين الطفرة والاختبار
شهد العراق بعد عام 2003 طفرة في عدد منظمات المجتمع المدني، حيث تأسست الآف المنظمات خلال فترة قصيرة، مدفوعة بالتحولات السياسية والانفتاح على العالم. وبعد صدور قانون المنظمات غير الحكومية رقم (12) لسنة 2010، أزداد عدد المنظمات المسجلة رسمياً، وتوزعت بين منظمات حقوقية وإنسانية وبيئية وشبابية ونسوية وتنموية. وقد عكست هذه الظاهرة رغبة شديدة في بناء الأسس المدنية للدولة الحديثة، وإنّ تركز معظم نشاطها في بغداد والمحافظات الكبرى، بينما بقي محدوداً في المحافظات الطرفية.
لعبت هذه المنظمات أداوراً محورية في الإغاثة الإنسانية، خاصة خلال فترات النزوح الجماعي بعد عام 2006 وبعد اجتياح داعش (2014- 2017). كما ساهمت في التوعية الانتخابية ومراقبة العمليات السياسية، وحملات الدفاع عن حقوق المرأة والطفل وحرية الصحافة. لكن تأثيرها في رسم السياسات العامة أو الضغط على مؤسسات الدولة بقي ضعيفاً، بسبب غياب التنسيق وقلة الخبرة المؤسسية.
واجهت هذه المنظمات شكوكاً جماهيرية، حيث ينظر الكثير من المواطنين إليها على أنها واجهات لمصالح حزبية أو قنوات لجلب التمويل الأجنبي. كما أن حالات الفساد الإداري والمالي أضعفت صورتها العامة. فضلاً عن ذلك، عملت بعض المنظمات، خاصة تلك التي تنقد السلطات أو تتناول قضايا حساسة كحقوق الإنسان والفساد والحريات، تحت ضغوط سياسية وأمنية كبيرة، في أجواء محفوفة بالمخاطر.
إقليم كردستان: استقرار نسبي وتحديات مماثلة
لا يختلف واقع المجتمع المدني في إقليم كردستان كثيراً عن واقعه في العراق ككل. فبعد عام 2005، ومع تثبيت الوضع الفيدرالي للإقليم في الدستور العراقي، شهد طفرة ملحوظة في تأسيس منظمات المجتمع المدني. وقد وفَّر الاستقرار النسبي مقارنة ببقية العراق بيئة أكثر ملاءمة لعملها، خاصة في مجالات الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والتنمية.
لكنها اصطدمت بعقبات مشابهة، حيث شابت الشكوك مصداقية العديد من المنظمات بسبب قربها من الأحزاب الرئيسية في الإقليم. كما لا تزال فئة واسعة من المواطنين تنظر إليها على أنها كيانات نُخبوية أو "واجهات" لاستجلاب التمويل. وتعتمد غالبية هذه المنظمات على مشاريع قصيرة الأمد تمؤّلها منظمات ووكالات أجنبية، مما يربطها بأجندات المانحين أكثر من ارتباطها بالاحتياجات المحلية. أما التمويل المحلي، فما زال ضعيفاً إلى معدوم، في ظل غياب ثقافة راسخة للتبرع الأهلي أو دعم القطاع الخاص، وعدم توفر آليات شفافة لتشجيع التمويل الوطني.
محاولات التنظيم والإطار القانوني
للتعامل مع هذه "الفوضى الإيجابية"، أنشأت حكومة إقليم كردستان وزارة جديدة تحت مسمى "وزارة الإقليم لشؤون منظمات المجتمع المدني" عام 2006، وقد أُنيطت بي، كاتب هذه السطور، مسؤولية قيادتها، بهدف ان تكون جسراً فعالاً يربط بين المجتمع والحكومة. عملت الوزارة على تحقيق التناغم ودعم عمل منظمات المجتمع المدني في الإقليم، والسعي لتنسيق جهودها مع بعضها البعض، وكذلك فتح قنوات التعاون مع المؤسسات المحلية والدولية.
كما عملت الوزارة على بناء القدرات وتنظيم ورش عمل تدريبية في مجالات الإدارة والشفافية والتخطيط الاستراتيجي، إلى جانب دورها كوسيط بين المنظمات المحلية والجهات المانحة. وشرعت أيضاً في إعداد قاعدة بيانات وصياغة مسودات لأنظمة وقوانين خاصة بتنظيم العمل المدني، الأمر الذي أسهم في تهيئة بيئة قانونية أكثر وضوحاً. وانسجاماً مع التوجه نحو تحفيز المنظمات الفاعلة والاحتفاء بدورها الريادي، جرى بعد تقييم نشاطها السنوي منح "جائزة التمدن" المرموقة في مهرجان خاص تكريماً لجهودها.
رغم هذه الجهود، واجهت وزارة الإقليم تحديات جساماً، أبرزها ارتباط العديد من المنظمات بالأحزاب السياسية، مما حال دون تحقيق الاستقلالية الحقيقية، واستمرار نظرة الريبة من قبل الشارع. ومع ذلك، يمكن القول إن هذه التجربة شكَّلت بداية لتقنين حالة مدنية ناشئة، وساعدت لاحقاً في تمكين المنظمات من لعب أدوار مهمة خلال أزمات النزوح الكبرى بعد 2014.
العلل الهيكلية: من الإقطاعيات إلى احتكار القيادة
تحولت كثير من منظمات المجتمع المدني في العراق، رغم أهميتها المفترضة في دعم الديمقراطية والرقابة وتعزيز حقوق الإنسان، إلى ما يشبه "الإقطاعيات الصغيرة". فبدلاً من أن تكون حاضنة للتجديد والمبادرة الشبابية، أصبحت مرتبطة بأسماء محددة يسيطرون على إدارتها منذ التأسيس، وكأنها ملكية خاصة لا يُسمح بتداولها.
أفرغ هذا الثبات الطويل في المواقع القيادية الكثير من المنظمات محتواها، وحوَّلها إلى أدوات للنفوذ السياسي والاجتماعي أو واجهات للحصول على التمويل، وجعل غياب الآليات الواضحة والشفافة لتداول القيادات. ما جعل هذه المنظمات تدور في حلقة مغلقة من الأسماء والأساليب ذاتها، مما أفضى إلى الركود وفقدان الثقة.
فقد أصبحت المناصب القيادية حكراً على أشخاص معينين، يتوارثون النفوذ داخلها، ويغلقون الأبواب أمام أي محاولة للتغيير وضخ دماء جديدة. وهكذا، أصبحت هذه المنظمات، التي يُفترض أن تمثل التنوع والشفافية والمساءلة، انعكاساً لظاهرة "الزعيم الأبدي" التي تعاني منها السياسة العراقية.
منظمات مدنية حقيقية: أداة للتغيير لا للزينة
إن إصلاح هذا الخلل يتطلب خطوات جريئة، تبدأ بوضع قوانين تنظيم عمل منظمات المجتمع المدني وتمنع احتكارها من قبل أفراد، وتفرض تداول القيادة وفق مدد زمنية محددة، وتشجع على مشاركة الشباب والنساء في إدارتها. فالمجتمع المدني الحقيقي لا يُبنى على الأشخاص بل القيم والأنظمة التي تضمن الاستمرارية والتجدد.
إن التجربة العملية لمنظمات المجتمع المدني، كشفت عن خلل عميق في بنيتها وآليات عملها، جعل الكثير منها يفقد ثقة الجمهور وينحرف عن أهدافه الأساسية: احتكار القيادة، التمويل الغامض، ضعف الكفاءة والفعالية، العزلة عن المجتمع.
إن معالجة هذه الاختلالات تتطلب إطاراً قانونياً جديداً يضمن الشفافية، ويحدد القيادة، ويضع آليات صارمة للرقابة المالية والإدارية. كما يتطلب الأمر تشجيع مشاركة الشباب والنساء، وربط المنظمات فعلياً بالناس عبر مشاريع ملموسة في التعليم، والصحة، وحقوق الإنسان، والتنمية المحلية.
فالمجتمع المدني الحقيقي ليس شعارات ولا مقرات ولا مؤتمرات، بل هو عمل تراكمي شفاف، يضع المواطن في قلب اهتماماته، ويضمن أن تكون المنظمات أداة للتغيير الإيجابي، لا مجرد واجهات شكلية.
#جورج_منصور (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟