أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - نايف حواتمة - بمناسبة ثورة 23 يوليو 1952 حواتمه في حوار حول التجربة الناصرية والوضع الراهن















المزيد.....



بمناسبة ثورة 23 يوليو 1952 حواتمه في حوار حول التجربة الناصرية والوضع الراهن


نايف حواتمة

الحوار المتمدن-العدد: 550 - 2003 / 8 / 1 - 04:49
المحور: مقابلات و حوارات
    


 

س1: ثورة تموز عام 1952 في مصر، هل مثلت نبراساً لحركات التحرر في المنطقة العربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ؟ السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، أين نبراس العرب في هذه المرحلة ؟
ج1: ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 وبقيادة زعيمها الراحل جمال عبد الناصر قادت سلسلة مذهلة من التحولات في النضال الوطني المصري والقومي والاجتماعي والطبقي والإيديولوجي لدفع مسار المشروع النهضوي القومي التقدمي لعالم القرن العشرين، نحو نهضة حديثة معاصرة، ومثلت رداً على واقع التخلف والانحطاط، الذي امتد مئات السنين نحو مشروع نهضة صناعية، زراعية، وعلمية فكرية ثقافية وسياسية بعد النكبة الفلسطينية العربية الكبرى 1948، ومثلت الثورة والتجربة الناصرية سلسلة من التحولات الثورية البرجوازية والتقدمية العاصفة التي تناولت كل جوانب الحياة الاقتصادية، الاجتماعية، الطبقية، والفكرية، الأخلاقية والسياسية والروحية. إنها عمليات ثورية مترابطة الحلقات بفعل تطور عبد الناصر في مجرى الصراع مع الاستعمار والتوسعية الصهيونية، وفي الداخل المصري والقومي مع قوى الانحطاط والتخلف والإقطاعية، والملكية الاستبدادية والرأسمالية الطفيلية، وتعبيراتها السياسية والفكرية والحزبية. لقد مثلت ثورة عبد الناصر واحدة من الثورات الكبرى في تاريخ مصر والأمة العربية الحديث، والعالم الثالث بكل إنجازاتها العظيمة وأخطائها الكبيرة.
 رحيل عبد الناصر المبكر عن أربعة وخمسين عاماً ترك فراغاً لم يستطع الذين ورثوه في مصر، والذين نسجوا على منواله في تجارب بلدان عربية متعددة ملأه، عكس نفسه تراجعاً إلى الخلف بالتنمية المستدامة والمواجهة مع العدو، مع ما رافقها من تفجر صراعات وحروب أهلية عربية ـ عربية.
 ثورة 23 تموز/ يوليو وتطورها والتحولات العاصفة الطبقية والاجتماعية والقومية، جاءت نتاج مرحلة تاريخية بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت ميزان قوى جديد بين معسكرين دوليين، ونهوض شامل لثورات التحرر الوطني في بلادنا العربية والعالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وإذا كنا مع الجميع نلمس أن الظاهرة لم تتوالد بمثل المواصفات القيادية والفكرية والكارزمية لجمال عبد الناصر، فإن هذا لا يعني بأن شعوب الأمة العربية أصبحت عقيمة لن تنتج ثورات بحجم ثورة 23 يوليو/ تموز، وقادة عظام بحجم القامة الشامخة لعبد الناصر، رغم التراجعات والكوارث الوطنية والقومية بدءاً بهزيمة يونيو/ حزيران 1967، وحروب الخليج الأولى والثانية، وأخيراً دمار واحتلال العراق، ورغم السكون الظاهر، المجتمعات العربية في حالة حراك سياسي، ستنتج على المدى المتوسط تغييرات وتبرز قيادات تأخذ على عاتقها إعادة الروح للمشروع النهضوي القومي الحداثوي والديمقراطي في حركة عصرنا، انطلاقاً من أرضية الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية في مواجهة التوسع الصهيوني والاستبداد والقمع والتبعية والتخلف.

س2: هل أخفقت ثورة تموز في إحياء المشروع القومي العربي، خاصة أنها وصفت بالعروبية لتركيزها على هموم العرب دون تفرقة بين أي من الشعوب العربية ؟
ج2: يحمل هذا السؤال في طياته حكماً ظالماً على ثورة تموز والتجربة الناصرية، والأساس الذي ينطلق منه أي حكم تقييمي، أو أية محاكمة لإنجازات وإخفاقات الثورة والناصرية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف التي كانت محيطة بمصر والأقطار العربية الأخرى، ودون هذا مجافاة لحقائق التاريخ والجغرافيا السياسية.
 منذ تفجر ثورة تموز 1952 شن عليها المعسكر الكبير المضاد لها حروبه العسكرية الشاملة المدمرة، وبجدول زمني كل خمس سنوات حرباً شاملة، فكان العدوان الثلاثي 1956، الانفصال الرجعي في سوريا 1961، حرب اليمن المضادة لثورتي اليمن الجمهورية وثورة 23 تموز/ يوليو من 1962 حتى 1967. حرب 5 حزيران/ يوليو 1967، ثم حرب الاستنزاف التي فجرها الجيش المصري الباسل والتي أثمرت لاحقاً في تعديل ميزان القوى الذي أظهرته نتائج الأيام الأولى من حرب تشرين 1973.
 أفكار الثورة التموزية الناصرية تطورت في مجرى الصراع، لكنها حملت في رحم سياساتها مقتل الثورة. فغياب الديمقراطية الحقيقية ومؤسساتها أوصل لاحقاً قوى الردة إلى مراكز صنع القرار، ومنذ الأيام الأولى لرحيل عبد الناصر ومجيء السادات حصل الانقلاب الكبير على مبادئ الثورة والفكر التقدمي الحداثوي لحركة التحرر والتقدم العربية.
 في العودة إلى كتاب أنور السادات "البحث عن الذات"، نكتشف كيف استطاعت هذه الشخصية العصابية ذات التاريخ الملتبس أن تقود الثورة المضادة، ولتضعنا أمام معادلات إقليمية وعربية ما زلنا ندفع فاتورتها حتى الآن، ورغم كل ذلك تبقى ثورة تموز/ يوليو بقيادة الراحل الكبير عبد الناصر صاحبة الإنجازات الكبرى، تحرير الفلاحين من الإقطاع، النهضة الصناعية الكبرى، الضمانات الاجتماعية، مجانية التعليم في كل مراحله لأول مرة في تاريخ مصر، تأميم قناة السويس، السد العالي، حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967 التي أسست لحرب تشرين 1973، تحرير العديد من الأقطار العربية وفي مقدمتها جزائر المليون شهيد، والدعم الواسع للقضية الفلسطينية. إن تعقد المشكلات وغياب الديمقراطية التعددية، والعود الطري للطبقات الحديثة في المجتمع، واتساع جبهة الإعداد  داخلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً عطل وأعاق الكثير من أجندة الثورة (راجع كتاب "حواتمه يتحدث …" )، لكن هذا لم ينتقص من مشروعيتها وإنجازاتها وإلا ماذا يعني ظهور غابات الصور للزعيم الراحل في كل المظاهرات التي نزلت إلى شوارع المدن العربية وخصوصاً مصر في فعاليات التضامن مع الانتفاضة ضد العدوان واحتلال العراق.

س3: مصر تاريخياً تلعب دوراً مهماً باعتبارها قلب العروبة النابض، إذاً لماذا فشلت ثورة تموز في وضع برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وحدوية تتلاءم مع الواقع العربي وطموحه في بناء نظام إقليمي عربي موحد ؟
ج3: في الإجابة على هذا السؤال لا بد من تدقيق صياغته. هل فشلت ثورة تموز في وضع برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وحدوية، أم أجهضت سياساتها ومشاريعها، فضل ثورة تموز كونها فتحت على الاستقلال الناجز والتحولات الاجتماعية الكبرى، وفك التبعية الكولونيالية والسير بطريق التنمية المستقلة، بعد أكثر من ألف عام في التخلف والانحطاط، عندما تفجرت الثورة كانت المنطقة العربية تعيش حالة هائلة من التباينات والتناقضات والاختلافات في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فبعض هذه الدول كان قد استقل حديثاً، والبعض الآخر كان ما يزال واقعاً تحت الاحتلال المباشر، والجزء الثالث منها نظامه السياسي تحت الوصاية والتبعية. كل هذا مع تواصل النزيف والجراح العميقة التي تركتها النكبة الكبرى في العام 1948 باغتصاب فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني على جزء منها، وأساس التقييم هنا هل كان مطلوباً من ثورة تموز أن تأخذ على كاهلها وحدها أعباء المشروع النهضوي.
 أعتقد أن في هذا إثقالاً يلقى على كاهلها، المقصود منه لاحقاً تحميلها مسؤولية ما آل إليه مصير هذا المشروع النهضوي، إعلاءً لصوت الحقيقة علينا أن ننظر إلى ما يتحمله أصحاب الفكر المتخلف عشرات القرون عن عالم القرن العشرين والانعزالي القبلي في مآل التجربة، حيث شكلت هذه القوى أداة مطواعة للقوى الاستعمارية كرست كل طاقاتها وإمكانياتها لمحاصرة الثورة التموزية والتجربة الناصرية، فدعمت الانفصال عن دولة الوحدة السورية المصرية، وغذت نار الاقتتال في اليمن، ومنعت قيام أي شكل من أشكال الوحدة السياسية أو الاقتصادية بين أقطار الوطن العربي. من هنا يتبين لنا بأن ما بدأت به وأسست له الثورة كان شيئاً عظيماً، لكن تكالب جبهة الأعداء الواسعة داخلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، نال من التجربة وأجهضها، وجاء السادات لينقلب عليها (راجع كتاب "حواتمه يتحدث …" فصل "تحولات الخمسينيات العاصفة"، وفصل "عبد الناصر والناصرية").
إن التساؤل الكبير المطروح: ماذا فعلت التجارب العربية كلها بعد رحيل عبد الناصر ؟ فلها الآن 35 سنة بالنقيض من تجربة عبد الناصر، وضعف مساحتها الزمنية التي توقفت عن الحياة منذ عام 1970 ولم تعش سوى ثمانية عشرة عاماً فقط.

س4: هل صحيح أن التحديات التي واجهت الأمة العربية هي التي أعاقت بناء كيان عربي فاعل أم ماذا؟
ج4: فكرة الوحدة العربية وبناء كيان عربي اتحادي (فيدرالي) ديمقراطي متكامل وفاعل، التي مثلت على الدوام مطلب ومسعى الجماهير العربية، احتلت الرقم الأول في قائمة المطاردين والمطلوبين من الحكومات العربية، التي أقامت أساس نظمها وحكمها على غايات ومصالح ضيقة تمثل مصالح الطبقات والقبليات الحاكمة، وهي أضيق بكثير من المصالح القطرية على محدوديتها وضيق أفقها.
 ورأت هذه الرسميات الحاكمة في الوحدة تهديداً لوجودها، لذلك سعت على الدوام إلى ترسيخ القطرية والنزعات الانفصالية، وبدأت تصطنع الحواجز والحدود، وتحت عنوان الاختلاف والتمايز أخذت تقلل من إيجابيات التكامل العربي، وتضخم من الفروقات في مستويات التطور والخصوصية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا القطر أوذاك. وفي سبيل الحفاظ على الكيانية القطرية ومصالح الفئات الحاكمة رهنت الكثير من الحكومات مستقبل دولها بيد السيد البريطاني ومن ثم الأمريكي الذي احتل مكانه لاحقاً، فكانت الحماية مقابل الانتقاص من السيادة الوطنية، وتكريس التبعية السياسية والاقتصادية. لقد كان على الدوام وعي الحكام متخلفاً عن الواقع، وهو ما أوصلنا إلى حاله عجز وشلل ثقافي وسياسي رسمي جعلتنا نتوقف عن كوننا فاعلين في صناعة التاريخ.
 الصعوبات والتحديات التي واجهت الأمة العربية لم تسع أكثر الأنظمة الحاكمة إلى مواجهتها، بل وجدت فيها فرصة سانحة لتبرير انغلاقها ضمن حدودها الإقليمية. هذا ليس تقليلاً من حجم واتساع وقوة الضربات التي كالها أعداء الأمة لها، لكن ليس من الجائز الحديث عن خسارة معركة دون خوضها أساساً، فنتيجة أي معركة يكون فيها رابح وخاسر. الرسميات العربية لم تكتفِ بالفرار من المواجهة، بل زادت في ذلك أن ساعدت بمصادرة الحريات والديمقراطية التعددية والتداول السلمي للسلطة، وبممارساتها القمعية ضد شعوبها وحركاتها الوطنية في تمرير هذه المشاريع، لكل هذه الأسباب لم تتقدم خطوة واحدة إلى أمام على طريق الوحدة والحداثة والعصرنة والتكامل العربي.

س5: لماذا عجز العرب في التوحد بمواجهة العدو المشترك للأمة العربية وهي إسرائيل ؟
ج5: مرة أخرى أقول: الرسميات العربية لم تمتلك في أي وقت من الأوقات إرادة الوحدة، ومواجهة إسرائيل. الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج عاشت وتعيش لحظة بلحظة مأساة الشعب الفلسطيني وتتفاعل مع هذه القضية التي باتت تشكل أهم مكونات وجدانها ووعيها الجمعي. الإشكالية تكمن في المستوى الرسمي العربي، لذلك علينا أن نميز بين مستويين في القراءة لهذا السؤال، المستوى الشعبي والمستوى الرسمي، لقد تحولت المصالح الأنانية الضيقة للشرائح الحاكمة والحدود الإقليمية إلى أسوار تمنع إمكانية مشاركة الجماهير العربية في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وأعطيكم مثالاً ما زال حاضراً  في الذاكرة عندما وجد الكثير من شباب العرب فرصة في مواجهة العدوان الأمريكي ـ البريطاني على شعب العراق لم يتردد الآلاف منهم من التوجه إلى العراق ودخول المعركة. مواجهة السياسات العدوانية الإسرائيلية لم تمثل أولوية على أجندة عمل أكثر الأنظمة العربية.

س6: هل صحيح أنه تم محاصرة المد القومي العربي والالتفاف إلى المصلحة القطرية ؟
ج6: نسمع الآن كثيراً معزوفة "القطر هذا أو ذاك أولاً"، وظهر هذا الشعار منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي في عديد العواصم العربية، ثم انتشر أسرع من وباء السارس لتغرق به الدول العربية، وأصبح شعاراً انتخابياً في غالب الأحيان، وكثير من الأصوات المغرضة تريد أن تعلق على مشجب القومية العربية كل الممارسات القمعية وغياب الديمقراطية ومؤسساتها، والتخلف والتراجع الخطير على كل الصعد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. لقد تم نهب الثروات وقمع الحريات، وتبرير نشوء الديكتاتوريات تحت عنوان " كل شيء في خدمة المعركة، كل شيء في خدمة الطبقة الحاكمة". لقد كفرت الشعوب بهذه الشعارات وبممارسات وسياسات الحكام، لكنها ما زالت على إيمانها بقضاياها، ونحن هنا أمام إشكالية مركبة تمنع النهوض الجماهيري: مواصلة القمع وغياب الديمقراطية مع دور غير فاعل للقوى السياسية المنظمة في الوطن العربي التي تأخذ على عاتقها قيادة الجماهير وتأطير نضالاتها وتنظيم فعاليتها.
 لقد اختصرت الأوطان والمصالح الوطنية بشخوص التيار النافذ في الفئات الحاكمة إلى درجة كاريكاتورية، جعلت من الأوطان مزارع خاصة، ولكن هذا لن يبقى إلا إلى حين، فالشعوب لا تباع ولا تشترى، وأمام وصول السياسات القطرية إلى الجدار بدأ حراك سياسي، سيفضي بالتأكيد إلى انتزاع مساحات ديمقراطية وأنوية مؤسسات ديمقراطية تعيد للشعوب بعض حقوقها خطوة على طريق انتزاعها لحقوقها كاملة، ونحن على ثقة أنه إذا ما ترك للشعوب حرية الاختيار فإنها ستختار التكامل العربي والوحدة والحداثة باتجاه عصر الديمقراطية والثورة المعرفية بعوالم تقدم البشر، بديلاً للانعزالية وراء جدران القطرية المدمرة.
س7: حرب حزيران عام 1967 وهزيمة العرب، هل مثلت هذه الهزيمة انتكاسة للفكر القومي العربي وكانت بمثابة ضربة قاسية للتوجهات العروبية لثورة تموز ؟
ج7: هزيمة عام 1967 لم تكن هزيمة عسكرية فقط، بل كانت هزيمة لمجموعة من البرامج الوطنية التي أخذت تراوح لسنوات عدة في منتصف الطريق، لذلك كانت أطروحاتنا تتحدد بنقد تجارب الأنظمة العربية التي صعدت فيها شرائح من الطبقة الوسطى إلى الحكم، وطرح البديل الذي يدعو إلى التوجه يساراً بإحلال الديمقراطية التعددية، وبجانبها طرح برنامج يساري للشعب واضح في تحولاته لإعادة بناء وتأطير القوى المتنورة المتقدمة في صفوف الطبقات الشعبية بأحزاب ديمقراطية عصرية تقدمية جديدة تتخطى خارطة الأحزاب القائمة، وخاصة التي صعدت قياداتها إلى الحكم، ومن ثم الشروع بلا تردد في التطهير الواسع لأجهزة الدولة على طريق تجديدها وإنهاء "صيغة دولة المخابرات ومراكز القوى"، التي أعلن عبد الناصر عن سقوطها في مصر ولم تسقط، والتجارب العربية التي حاولت محاكاتها، ما حصل في العام 1967 كان يتطلب برامجاً جديدة أعمدتها الأساسية: إطلاق الحريات، صيانة حقوق الإنسان، التعددية الحزبية، التسليم بنظرية التداول السلمي للسلطة، التمثيل النسبي المنتخب في الهيئات التشريعية والتنفيذية المنتخبة،  وفي النقابات والتحالفات الطبقية والسياسية، بمعنى الأخذ ببرنامج دولة المؤسسات الديمقراطية والقانون، دولة المجتمع المدني على أنقاض دولة مراكز القوى والمخابرات البيروقراطية المتبرجزة، والآن وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً على عبد الناصر، وستة وثلاثين عاماً على الهزيمة ـ المأساة الحزيرانية نجد أنفسنا وقد أفجعتنا نكبات ونكسات أخرى، كان سببها الرئيسي غياب الديمقراطية وتغييب دور الجماهير بالقمع المنظم، ونتيجة هذا كله نراها جلياً في العراق وفلسطين، وباقي الدول العربية الأخرى التي أصبحت كيانات منقوصة السيادة بطابعها الغالب.

س8: لماذا لم يحاول العرب في عام 1973 استنهاض الهمم وتوحيد صف الأمة العربية ؟
ج8: الآثار الإيجابية التي جاءت بها حرب تشرين التحريرية سريعاً ما ذهبت بها تصدعات العلاقة بين رفاق السلاح في الحرب، أنور السادات اختط لنفسه دوراً آخراً شق التضامن العربي " ولو بحالته الشكلية"، فبعد مفاوضات "الكيلومتر 101" كان واضحاً بأنه بدأ يسلم أوراق الحل في المنطقة لليد الأمريكية، وسعى إلى حل منفرد، مسقطاً البعد القومي للمعركة، وجاءت زيارته للقدس المحتلة 20 تشرين أول/ نوفمبر 1977 لتشكل إعلان وفاة للتضامن الإجماعي الرسمي العربي، وأصبحنا أمام ثنائية التغريب بشكل أكثر جلاءً بين ما يقال وما يمارس، انفصام الشخصية السياسية القيادية العربية، ففي الوقت الذي رفضت فيه بعض البلدان الخطوة الساداتية إعلامياً خوفاً من ردود الفعل الجماهيرية، شجعت في الخفاء هذه الخطوة ودعمتها، وخربت على جبهة الصمود والتصدي، التي حاولت محاصرة الحالة الساداتية، ووضعت مقادير المنطقة وشعوبها إلى وقت غير معلوم بيد الإدارات الأمريكية ذات الهوى الصهيوني انطلاقاً من لقاء المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
 الغياب التاريخي للديمقراطية عن الحياة العربية، والموروث السلفي الماضوي الثقيل على قلب وعقل البشر على امتداد البلاد العربية، وضع الشعوب في مقاعد المتفرجين مكبلة، عاجزة عن المبادرة والتقدم إلى أمام، وبهذا تكون الشعوب العربية قد فقدت أملاً عزيزاً على قلوبها بتحقيق وحدة جاءت بها بطولات المقاتلين العرب في خط بارليف والجولان، وباتجاه فلسطين على يد الثورة الفلسطينية، وضاعت فرصة تاريخية بعد أن تشققت جبهة حرب تشرين، وتمزقت وحدة السلاح وسلاح النفط، والتضامن العربي. وهكذا بدأت سلسلة التراجعات وكوارث حروب الخليج وصولاً إلى احتلال العراق.

س9: العالم اليوم يتوجه نحو التوحد، لماذا يسير العرب في اتجاه التفرق والتشرذم ؟
ج9: أوروبا إدراكاً لمصالحها القومية والحيوية وانطلاقاً منها شكلت اتحاداً سياسياً واقتصادياً يسير إلى الأمام بخطى حثيثة، والهدف منه حماية الذات والثقافة والخصوصية الأوروبية في مواجهة الهيمنة والتفرد الأمريكي، وفي العام القادم ستصبح مجموع عضوية دول الاتحاد 25 دولة وسيصبح الناتج القومي لدول الاتحاد مساوياً للناتج القومي الأمريكي.
 الكثير من الحكومات العربية تعتبر أن أساس وجودها يضمنه واقع الفرقة فقط، لذلك لاحظ على سبيل المثال أن التجارة البينية بين الدول العربية شيء لا يذكر، وهنا لا بد من القول بأن طريق التنمية المستقلة ومواجهة الفقر مادياً وثقافياً وتجاوز واقع التخلف والتبعية لا يكون إلا بأشكال وحدوية عربية تعطي الحدود الدنيا المطلوبة من التكامل الاقتصادي والسياسي بين الدول العربية، وإلا فإن البديل سيكون مزيداً من التخلف والتبعية التي قد تكرر ما وقع في العراق حيث عودة أشكال الاحتلال الاستعماري المباشر وسرقة الخيرات والثروات، وتدمير البنى التحتية والعودة إلى صيغ الطائفية والمذهبية المدمرة للنهوض من جديد. إن التقسيم الذي جرى في العراق"التوزيع الطائفي والمذهبي والإثني لمجلس الحكم المؤقت الذي شكله بريمر" أخطر من ذلك الذي جرى في سايكس بيكو.
 أمام الوضع الرسمي الميؤوس منه، فإن على القوى الحزبية السياسية الجذرية وقوى المجتمع المدني أن تصعد من نضالاتها وأن تحتل موقعاً جماهيرياً متقدماً، وهذه مهمات راهنة لا تحتمل التأجيل، وإلا التبعية والتخلف التي لا تورث سوى الهزائم والنكبات.

س10: هل المفهوم القومي العربي اليوم قادراً على التصدي لمشروعات إقليمية مطروحة في المنطقة "مشروع الشرق أوسطي" خاصة إذا علمنا أن إسرائيل ستكون العقل المدبر لهذا المشروع الإقليمي؟
ج10: لا يمكن الحديث عن مفاهيم أو أفكار أو سياسات معلقة في الهواء، تستطيع مواجهة مشاريع معادية، واجب التصدي يقع على البشر والقوى السياسية والمجتمعية التي تحمل وترفع الشعارات والأفكار، وترتقي بها من مستوى النظرية إلى واقع التطبيق، ورغم المشروعية الظاهرية للسؤال فهو موغل في التبريرية.
 بعض العرب يطرحون بأن الشرق أوسطية ممر إجباري، وبأن الفكرة القومية العربية قد سقطت إلى الأبد، ويغيب عن بالهم بأن القومية العربية ليست شعاراً أو عنواناً عاماً، بل هي تعبير عن التكوين التاريخي لشعوب البلدان العربية التي تمثل الحضور والصيرورة العربية.
 إسرائيل ولدت وما تزال وستبقى كياناً غريباً كونها تقوم على فكرة الاحتلال والتوسع على حساب أرض وحقوق الفلسطينيين والعرب، ومشروع الشرق أوسطية بالمفهوم الذي أتى به شمعون بيريز وتتبناه الإدارة الأمريكية مكتوب عليه الفشل، وإليكم مثالاً صارخاً، ما يجري في مصر بعد حوالي ستة وثلاثين عاماً من توقيع اتفاقيات كامب ديفيد برفض شعب مصر العظيم التطبيع، وكذا الحال في الأردن بعد توقيع اتفاقية وادي عربة 1993. وعلى العرب قبل الحديث في أية مشاريع إقليمية أن يحققوا حدوداً معقولة من التكامل الاقتصادي والسياسي، وإلا فإن وضعنا سيكون في زمن العولمة والتكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى كمثل ريشة في مهب الريح.

س11: بعد احتلال العراق يتحدث الغربيون والأمريكيون عن إقامة نظام أمني سياسي اقتصادي جديد في الشرق الأوسط لرسم خطى مستقبل من التعاون الإقليمي، ما هي مخاطر وتداعيات هذا النظام الأمني السياسي الاقتصادي الجديد على الأمة العربية ؟
ج11: في أول مقابلة لي بعد احتلال العراق، قلت بأن المقاومة ستتفجر سريعاً وعلى المدى المتوسط ستشهد تصاعداً وتأخذ شكلاً منظماً، وستؤدي في نهاية المطاف إلى إخراج القوات الغازية، ليس في هذا شيء من النبوءة، بل قراءة سياسية تأخذ بعين الاعتبار تناقض المصالح بين الاحتلال والشعب العراقي. الطائرات والدبابات والمدافع الأمريكية ـ البريطانية لم تدمر العراق وبناه التحتية، ولم تصادر استقلال شعبه من أجل إحلال الديمقراطية، وسريعاً ما سقط وهم المراهنة على الأمريكيين، ويوماً بعد يوم نرى تبلور المقاومة الشعبية الواسعة للاحتلال، رغم صعوبة الظروف لا شيء يدعو للذعر، والمحتل الأمريكي لن يكون مطلق اليد في رسم مستقبل ومصائر شعوب المنطقة، وحدها الشعوب تحدد خياراتها، والمطلوب إطلاقها من سجنها الكبير الذي وضعته فيها الأنظمة الشمولية التيوقراطية والديكتاتورية البيروقراطية. وإذا ما ترك الخيار لهذه الشعوب، فإنها ستصوّت بصدق هذه المرة 99.9% لصالح فك التبعية مع قوى الهيمنة الإمبريالية الجديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وستختار درب التنمية المستقلة.
 الأمريكيون لا يطرحون مشاريع تعاون وتنمية مشتركة، بل ربط المنطقة بعجلة اقتصادهم، وهذا لا يعني سوى مزيداً من الإفقار والنهب لخيرات ومقدرات شعوب المنطقة، وهذا ما يجب أن تأخذه الدول العربية بعين الاعتبار لأنه سينعكس سلباً على التنمية في هذه البلدان وهي بغالبيتها متخلفة اقتصادياً وتقنياً، وهذا سيؤثر على الأمن الاجتماعي، ويفتح على صراعات تقوض الاستقرار في المجتمعات العربية المأزومة أصلاً بفعل تراكم الأزمات، وغياب الديمقراطية والفقر والبطالة وعشرات المشاكل الأخرى. والأمن بالنسبة للأمريكيين هو وقف المقاومة المشروعة للاحتلال والاستيطان والتسليم بالهيمنة الأمريكية والإسرائيلية الكاملة على المنطقة.

س12: ألا تعتقد أن غياب المشروع العربي والإسلامي دفع الغربيون والأمريكيون للتفكير نيابة عن العرب في مستقبل ومصير الأمة العربي، هل هناك أي إمكانية بأن تقوم حركات التحرر العربية بإعادة النظر في تجديد الفكر القومي العربي لاستنهاض الطاقات والإمكانات العربية لمواجهة من نصّبوا أنفسهم أولياء على العرب ؟
ج12: تشهد الآن الكثير من المجتمعات العربية حراكاً سياسياً. سنوات القمع الطويلة أضعفت من حضور قوى حركات التحرر العربية والأحزاب الوطنية التقدمية والديمقراطية وقوى المجتمع المدني، وسرّع من الحراك الداخلي الظروف الخارجية المستجدة، لكن برامج التغيير ما زالت تتخبط وتفتقد إلى الرؤية الشمولية.
 القوى السياسية المنظمة لم تأخذ دورها بعد، والمعارضة الأساسية تأتي في غالب الأحيان من قوى اجتماعية قليلة التنظيم. الحلول السحرية غير موجودة لدى السلطات أو المعارضات، وأمام ممر التغيير الإجباري تظهر بجلاء إشكالية السلطات والمعارضات، فالأولى تفتقد حتى الآن إجراءات التغيير لديها للإرادة والمصداقية، والثانية لم تستطع أن تشكل وتبلور موقفاً شعبياً ضاغطاً ومؤثراً، لكن الأمور لن تبقى في مربعات التراجع، فالحالة في صف الشعوب مأزومة تتطلع إلى التغيير، وإن تباطأت هنا أو هناك وتائر التغيير.
 تجديد الفكر العربي بهذا المعنى ليس جهداً ذهنياً بل نزولاً إلى الجماهير بما يفجر طاقاتها ويسير مع إرادتها نحو الوحدة العربية والديمقراطية، وبناء مؤسساتها، وتجاوز واقع التخلف وضعف التنمية والنظم التوتاليتارية الديكتاتورية ومؤسساتها القمعية، التي أوجدت وخلقت لوظيفة واحدة هي خدمة الحاكم والحفاظ على كرسي حكمه، ومصالح محازبيه ومشايعيه.
 إمكانيات الجماهير وتوقها للبذل والعطاء لا تقف عند حدود، المشكلة تكمن في أن القوى المنظمة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني في الأقطار العربية لم تأخذ دورها بعد، وشرط ذلك انتصار الديمقراطية التعددية أحزاباً ونقابات، أفكاراً وبرامج وسياسات، وإلاّ التراجع والدوران في طواحين الهواء.

س13: هل صحيح أن القومية العربية كإيديولوجية أصبحت في ذمة التاريخ بعد انحسار البعث العراقي والناصرية في مصر ؟
ج13: الإيديولوجيا بما هي نسق فكري حقوقي أخلاقي سياسي ديني يعكس الوعي الاجتماعي انطلاقاً من ظروف المجتمع، تحمل في طياتها صراعاً على أرضية تضاد المصالح.
 الإيديولوجيا القومية العربية لم تقم على الشوفينية وإقصاء الآخر أو التعالي القومي، بل هي وكما قلت في إجابة سابقة تعبير عن التكوين التاريخي لشعوب البلدان العربية التي تمثلت الحضور والصيرورة العربية، فالوحدة العربية ليست وهماً إيديولوجياً، أو كما يرى فيها البعض رداً أخلاقياً حالماً على الهزيمة، وعقدة الاستلاب للآخر وتفوقه وتحكمه بمصير الشعوب العربية. الإيديولوجيا القومية العربية لم تكن إلا منفتحة على الآخر، وهي تمثل حاجة موضوعية ولازمة للتطور المجتمعي العربي، والتنمية العربية المستقلة. إن من سقط هو إيديولوجيا الاغتراب القطرية تحت شعارات قومية، التي لم تنطلق في كل سياساتها من الواقع الاجتماعي العربي بعلاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تتطور إلى برامج عملية لحل المشكلات المركزية: الديمقراطية التعددية، الاقليات القومية، المساواة في المواطنة بدون تمييز في العرق والجنس والدين والمذهب، المساواة بين الرجل والمرأة، التنمية المستدامة … الخ،  وهي التي أوصلتنا إلى الواقع الراهن بكل مساوئه وتراجعاته الكارثية.
 في صيغة السؤال الواردة وضع التجربة البعثية في العراق مع التجربة الناصرية في نفس الخانة ليس جائزاً، ويحدث خلطاً يؤدي إلى قراءات خاطئة. التجربة الناصرية بكل إنجازاتها وعثراتها حملت في رحمها مشروعاً نهضوياً عربياً، وعبد الناصر في حركة تطوره الفكري والسياسي وتحولاته الطبقية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حمل على كاهله أعباء الأمة وشجونها، وقعت الثورة التموزية المصرية بأخطاء كبيرة، لكنها سعت دائماً إلى تطوير نفسها في سياق التجربة، وعلى العكس من ذلك فلقد تحول حزب البعث العراقي من حزب وطني حاكم إلى حزب الحاكم الديكتاتوري.

س14: هناك من يقول أن الذي سقط هو الوجه الاستبدادي للقومية العربية ماذا تقولون ؟
ج14: إجهاض التجربة الناصرية مثّل انكساراً للحلم العربي رغم أنها كرست حكماً لا ديمقراطياً يعتمد الزعامة الفردية، في حين مثّل سقوط النظام الشمولي الديكتاتوري العراقي لحظة الحقيقة التي يجب أن تضعها نصب أعينها. كل الأنظمة التي تختلف بالأسماء وتلتقي بالممارسات مع ما مارسه على الدوام النظام العراقي السابق.
 وهنا يجب أن ندقق الذي سقط في العراق ليس الفكر القومي، ولا حتى فكر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يبقى بمحتواه تقدمي ووحدوي. الإشكالية تجلت على الدوام في الممارسة العملية التي أدت في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية وتزوير إرادة الجماهير إلى نشوء نظام الدولة البوليسية القمعية، وفي هذا درس للجميع، الحزب الحاكم هو الحزب الذي تختاره الجماهير في ظل دستور ديمقراطي يؤمن التداول السلمي للسلطة، وليس الحزب الذي يجعل من نفسه وصياً على الشعب وقائداً له بقوة القمع وأدوات البطش، وحلول آليات الدولة محل الشعب والمجتمع.
 الجماهير العربية التي نزلت إلى الشوارع وآلاف المتطوعين على جبهات القتال، لم يتطوعوا دفاعاً عن نظام الحكم الدكتاتوري الدموي العراقي، بل دفاعاً عن الشعب العراقي وعروبة العراق ضد الاحتلال الغاشم.
 
س15: لماذا يحجم المفكرون والمثقفون عن المراجعة الجدية والشاملة لإيديولوجية القومية العربية ؟
ج15: الإيديولوجيا القومية العربية خضعت على الدوام للمراجعة الجدية والتدقيق من قبل المفكرين العرب ما بين مؤيد ومعارض. الإشكالية دائماً كما قلت سابقاً كانت في اشتقاق البرامج الاجتماعية والديمقراطية والسياسية والثقافية، في تحديد الفواصل بين الوطني والقومي، وتحديد جسور الربط بينهما. الكثير من الأحزاب القومية لم تعكس في ممارساتها عندما تسلمت السلطة شيئاً من منطلقاتها الفكرية والنظرية، وأساءت كثيراً إلى الفكر العام القومي العربي. من هنا يحصل الالتباس والخلط الذي يعكسه هذا السؤال.
 إن تطوير الإيديولوجيا القومية العربية بما هي انعكاس للوعي الاجتماعي يجب أن تنطلق من قاعدة مدى تطابقها وانسجامها مع التطور الاجتماعي العربي نفسه. لقد حُولت الكثير من الشعارات الصائبة إلى مجرد لغو فارغ في سياق الدعاية الديماغوجية للأنظمة الشمولية وأحزابها وغياب الديمقراطية ودولة المؤسسات التي يكون فيها صوت الشعب مقرراً للسياسات، وتكون فيها الحكومات خادمة له لا خادماً لها.

س16: كيف يمكن إصلاح الخلل وتشكيل فكر قومي لوجه إنساني ووعاء للثقافة والحضارة العربية والإسلامية ؟ وما هي مرتكزات الفكر والهوية العربية ؟
ج16: ها أنت تضعنا مرة أخرى أمام سؤال ملتبس يحمل مغالطات وأحكاماً جائرة، أي خلل هذا الذي يتم الحديث عنه ؟‍!! الفكر القومي العربي ومثاله الأبرز تجربة 23 يوليو، تجربة الثورة الفلسطينية، تجربة قوى المقاومة اللبنانية، كان على الدوام ذو محتوى إنساني عميق. الإشكالية تنشأ في التباس علاقة القومية العربية مع البرامج الحديثة، برنامج الدمقرطة والعصرنة، التعددية والتداول السلمي على السلطة، حقوق الإنسان في بلاد العرب، دولة القانون، المساواة في المواطنة، حق الشعب في تقرير مصائره اليومية والتكتيكية والاستراتيجية، قوانين انتخابية ديمقراطية … الخ، والعلاقة مع الآخر، الذي هو هنا بالتحديد الغرب الأوروبي والأمريكي، ففي بداية القرن الماضي حتى أوسط الستينات منه ظلت العلاقة مع الغرب يوترها تضارب المصالح والسياسات الاستعمارية الكولونيالية، التي مارستها مجموع الدول الغربية، لكنها بعد ذلك بدأت بالتمايز بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية التي وقفت على الدوام في الصف المعادي لقضايا أمتنا العربية، وساندت ودعمت كل ما هو ظلامي وشمولي وديكتاتوري في أنظمتنا العربية، الحديث عن صداقات بين الدول لا يكون إلا باحترام المصالح الوطنية، وبعلاقات تبادلية ندية قائمة على احترام حقوق الآخر. إن الذي خلق كل هذا الحقد ضد الولايات المتحدة الأمريكية هو سياساتها الغير متوازنة، والداعمة بشكل مطلق للكيان الصهيوني، والنهب لمقدرات وخيرات البلدان العربية، وأخيراً العدوان الغاشم على شعب العراق واحتلاله.
 إن قمع الحركة الجماهيرية ومنعها من التعبير عن رأيها، منع نشوء حركة جماهيرية علنية منظمة، وأخذ مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب لدورها، لكنه أدى إلى إشكالية للسلطات الحاكمة من نوع آخر، فبديل مأسسة الحياة السياسية والاجتماعية لا يكون إلا قيام مجموعات متطرفة تأخذ تنفيذ الحق الذي تدعيه بيدها، وبطابعها الغالب تكون عرضة لأفكار التطرف الديني، ورأينا نتائجها المدمرة عبر ما مارسته هذه القوى عندما وصلت إلى السلطة في أفغانستان، باكستان … الخ، وحروبها الداخلية كما جرى في مصر، وجرى ويجري حتى يومنا في الجزائر، وكل هذا تحت رايات "تسييس الدين وتديين السياسية"، وأخيراً ممارسات منظمة القاعدة وتفجيرات الرياض والدار البيضاء. لكن علينا الانتباه بأن هذا شذوذ عن القاعدة ولا يصلح أساساً للحكم على طابع الفكر العربي والإسلامي بما هو أهم مرتكزات الفكر والهوية العربية. والذي يبقى بطابعه العام ذو طابع إنساني عميق.

س17: في حال انتصرت العولمة هل سيموت الشعور القومي العربي أم العولمة ستبرز تيار عربي أكثر راديكالية لمواجهة العولمة ؟
ج17: أنا لا أفترض انتصار العولمة بالشكل الذي تنادي به الولايات المتحدة الأمريكية، فغالبية شعوب وحكومات العالم من موقع إدراكها لمخاطر الفهم الأمريكي للعولمة تعبر نهاراً وجهاراً يومياً عن رفضها المطلق للمفاهيم الأمريكية، في المظاهرات التي راحت تطارد وتحاصر مؤتمرات العولمة في سياتل، ودافوس، وجنوا، ودربان، وروما، ورفضها جعل العالم مزارعاً خلفية للبيت الأبيض، تسرح فيها وترتع الشركات فوق القومية والمتعددة الجنسية المسيطر عليها من كبريات الشركات الاحتكارية الأمريكية.
 الأمريكيون لا يأخذون بعين الاعتبار في طرحهم لمفهوم العولمة ظروف التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي المختلفة لدول العالم وحاجات كل مجتمع، ورؤيتهم تلغي الاستقلالية السياسية، وتضع الدول الأقل تطوراً في دائرة التبعية الكولونيالية مرة أخرى، وتدخل الشركات فوق القومية والمتعددة الجنسية لن يقف عند حدود العبث والنهب الاقتصادي، بل يجعل من هذه الشركات السلطة الفعلية في هذه الدول، تقرر مصائر شعوبها وحتى مستقبل ثقافتها، ويجري الحديث بأن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول أن تساعد دول العالم الثالث للحاق بركب العولمة، عبر تقديم مساعدات كبيرة. إن شروط تقديم هذه المساعدات تعطل إمكانية استفادة هذه الدول من المساعدات، بل على العكس من ذلك تكبلها وتضرب كل برامجها التنموية القومية، وتجعلها كما أسلفت تدور في فلك التبعية السياسية والكولونيالية الاقتصادية للمركز الرأسمالي المتوحش، الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، بما يملكه من إمكانات وقدرات عسكرية واقتصادية أسطورية، لذلك فالحديث عن موت الشعور القومي تهويل، والحديث عن بروز تيار عربي أكثر راديكالية في وجه العولمة افتراض لا يأخذ بعين الاعتبار بأن فرض المفهوم الأمريكي للعولمة يمس كل فئات ومكونات الشعوب العربية، وبالتالي سيلقى مواجهة شاملة من كل مكونات المجتمع وتياراته، على اختلاف المواقع الفكرية والطبقية.
 المفهوم الأمريكي لا يقوم على محتوى اقتصادي سياسي فقط، بل ينطوي على استلاب حضاري وثقافي، وهذا وحده يكفي لتفجير صراع ضده يتوحد فيه الجميع على اختلاف مذاهبهم الفكرية ومشاربهم الثقافية.

 



#نايف_حواتمة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيها - الإسرائيلي - المحتل قف … وفكر
- وجود -إسرائيل - حق تاريخي أم أمر واقع
- في البدء كانت فلسطين وستبقى فلسطين التضامن مع اليهود -الإسرا ...
- حواتمه يجيب على أسئلة دنيا الوطن
- مقابلة نايف حواتمه
- مقابلة مع نايف حواتمه
- تهافت خطاب - صراع الحضارات -و - صراع الأديان - الصراحة عن ال ...
- حوار اللحظة الراهنة مع نايف حواتمة
- الكلمة التي وجهها الرفيق نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الد ...
- حواتمه وقضايا المرحلة في حوار استراتيجي
- رغم إضافات على رؤية بوش خطة اللا طريق الأمريكية أمام الوادي ...
- مقابلة نايف حواتمه مع صحيفة النهار واشنطن لم تستوعب الدرس جي ...
- ما بعد مجازر غزة ونابلس
- ثورة 23 يوليو إنجازات استراتيجية عظمى وأخطاء كبرى
- مشروع الإصلاح الوطني والتغيير الديمقراطي
- اجتياح ومقاومة.. الآن إلى أين؟
- جولات زيني: بين توسعية شارون والخلل الذاتي الفلسطيني والعربي
- الشـــرق الأوســـط وزلـــزال القنــابل الطــائـرة


المزيد.....




- سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك ...
- شاب يبلغ من العمر 18 عامًا يحاول أن يصبح أصغر شخص يطير حول ا ...
- مصر.. أحمد موسى يكشف تفاصيل بمخطط اغتياله ومحاكمة متهمين.. و ...
- خبير يوضح سبب سحب الجيش الأوكراني دبابات أبرامز من خط المواج ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف أهدافا لـ-حزب الله- في جنوب لبنان (فيد ...
- مسؤول قطري كبير يكشف كواليس مفاوضات حرب غزة والجهة التي تعطل ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع ومظاهرات في إسرائيل ضد حكومة ن ...
- كبح العطس: هل هو خطير حقا أم أنه مجرد قصة رعب من نسج الخيال؟ ...
- الرئيس يعد والحكومة تتهرب.. البرتغال ترفض دفع تعويضات العبود ...
- الجيش البريطاني يخطط للتسلح بصواريخ فرط صوتية محلية الصنع


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - نايف حواتمة - بمناسبة ثورة 23 يوليو 1952 حواتمه في حوار حول التجربة الناصرية والوضع الراهن