أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام














المزيد.....

بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 02:36
المحور: السياحة والرحلات
    


حين تتكلّم الأرض بلغة الماء والضوء
هناك أسفارٌ لا تُقاس بالأميال، بل بالدهشة.
رحلاتٌ لا تبدأ من خطّ على الخريطة، بل من رعشةٍ في القلب حين يستشعر نداء الطبيعة الأولى.
كلّ أرضٍ تسكنها روحٌ، وكلّ روحٍ تبحث عن مرآتها في أرضٍ ما… وهكذا تبدأ الرحلة — لا لنرى الجبال والأنهار فحسب، بل لنرى أنفسنا منعكسة في عيونها.
ليست فيتنام في هذه الصفحات مجرّد بلدٍ على خريطة آسيا، بل كائنٌ حيّ من طينٍ ومطرٍ وذاكرة.
هي أنشودةُ الكدّ والصبر، الحقل الذي لم يتعب من الحروب، والماء الذي ظلّ يغنّي رغم البكاء.
فيها نتعلّم أن الجمال لا يُخلق في المعامل، بل في القلوب التي تعرف كيف تُحبّ الحياة ولو على ضفاف الألم.
سنسير معًا بين حقول الأرز التي تشبه بحارًا خضراء،
وننزل إلى الأسواق المائية حيث تختلط رائحة السمك بالزهور،
ونصعد إلى القرى الجبلية التي تعانق الغيم كأنها أسرارٌ صوفيةٌ تُهمَس في أذن الكون.
سنرى الإنسان هناك — عاملًا، شاعرًا، أمًّا، طفلًا — في صلته العميقة بما حوله،
ففيتنام ليست مكانًا يُوصَف، بل تجربةٌ تُعاش.
هذه النزهة ليست سياحةً جغرافية، بل رحلة في فلسفة البقاء.
إنها تأمل في معنى أن يكون الإنسان ابنَ الأرض لا سيدَها،
وفي سرّ أن تخرج الحياة دومًا من رحم الألم، كما تنبت زهرة اللوتس من الوحل دون أن تلوّثها العتمة.
فلتُفتح الصفحات كما تُفتح النوافذ على صباحٍ جديد.
ولنمضِ بخطى الفكر لا بخطى الجغرافيا،
نستنشق من الطبيعة حكمةً، ومن التاريخ عزيمةً، ومن الإنسان ما يذكّرنا أننا جميعًا…
نسلُ طينٍ واحدٍ وسماءٍ واحدة.

تبدأ الحكاية من خريطةٍ خضراء تتدلّى بين البحر والضباب. هناك، حيث تتنفس الأرض بخطىٍ بطيئة، وحيث المطر لا يسقط بل يهبط كذكرى قديمة على وجه الغابات، تمتدّ فيتنام — خيطًا طويلاً من الندى، يربط بين الهمس الآسيوي والسكينة البحرية.
هي بلدٌ صغير في مقاييس الجغرافيا، كبيرٌ في اتساع المعنى.
من الشمال تُلامس الصين، ومن الغرب تعانق لاوس وكمبوديا، ومن الشرق يبتلعها بحر الصين الجنوبي كما تبتلع الأم طفلها بالعاطفة.
مساحتها نحو 331 ألف كيلومتر مربع، لكنّها في المخيلة تكاد تمتدّ على قارةٍ من الحلم: قارةٌ من الماء والرزّ والضوء.
في شمالها جبالٌ من حجرٍ تغفو في حضن الغيم — “ها جيانغ” و“لاو كاي” و“سابا”؛ مدنٌ كأنها رسائل من السحاب إلى الأرض.
وفي جنوبها دلتا الميكونغ، نهرٌ يتشعّب إلى آلاف الفروع كجذورٍ تغذّي الروح لا التراب.
تبدو البلاد وكأنها تتكوّن من موسيقى العناصر الأربعة:
الهواء يتنفس من الغابات، الماء يغنّي في الأنهار، التراب يلد الخضرة، والنار تومض في قلوبٍ تعلّمت الصبر على الحروب والمطر معًا.
كلّ شيء في فيتنام يتحرّك بإيقاعٍ طبيعيٍّ هادئ؛ كأنّ الزمان هناك يمشي على رؤوس أصابعه.
القوارب تنزلق على سطح الماء مثل أفكارٍ تتأمل نفسها،
النساء يبعن الأسماك على حوافّ النهر، وجوههنّ تحمل ملامح الصبر الذي صار جمالًا،
والأطفال يضحكون في الطين، لا لأنهم لا يعرفون النظافة، بل لأنهم يعرفون الحياة من دون تجميلٍ كاذب.
المناخ هنا ليس مجرّد طقس؛ إنه مزاج الأرض.
فيتنام بلد الفيضانات والمواسم والمفاجآت.
حين تمطر، تفيض الأنهار وتتحوّل الطرق إلى مرايا تعكس وجه السماء.
وحين يجفّ المطر، تنبت الحقول كأحلامٍ صغيرة تتكرّر كل عام.
وهذا التناوب الأبدي بين الفيض والجدب علّم الإنسان الفيتنامي فنّ التكيّف، لا المقاومة.
فهو لا يحارب الطبيعة، بل يسايرها؛ يعرف أن البقاء ليس انتصارًا على الفيض، بل انحناءةٌ أمامه.
تلك الانحناءة هي سرّ الجمال في الشخصية الفيتنامية:
أن تكون قويًا في تواضعك، وأن تجد في الطين طريقًا إلى النور.
هكذا يفهم الفيتنامي الأرض — لا كمصدر رزقٍ فحسب، بل ككائنٍ يبادله الحنان.
حين يزرع الأرزّ، يزرع الامتنان.
وحين يقطع الخيزران، يعتذر للطبيعة في صمته.
إنها فلسفة الماء التي تسري في كلّ تفاصيل المكان.
الماء لا يجادل الجبل، بل يدور حوله.
لا يقاوم، لكنه ينتصر دائمًا — لأنه يعرف أن الصبر أعمق من القوة.
ولعلّ هذا هو سرّ انسجام الإنسان مع نفسه في تلك البلاد:
أن يتقبّل العالم كما هو، لا كما يريد، ثم يخلقه من جديد عبر العمل والسكينة.
وهكذا تبدو فيتنام، في نهاية المطاف، قصيدة مكتوبة بلغة الجغرافيا،
حروفها أنهار وأودية وقرى صغيرة تنام على ضفاف الخضرة.
إنها ليست فقط وطنًا للناس، بل مرآة للإنسانية حين تتصالح مع عناصرها الأولى: الماء، التراب، الضوء، والحلم.
فيتنام، كما تراها العين من بعيد، قطعة أرضٍ تبتسم في قلب آسيا؛
لكن حين تقترب، تكتشف أن هذه الابتسامة صُنعت من وجعٍ قديم وصبرٍ طويل.
تلك الجبال التي تلامس الغيم كانت يومًا حصونًا للمقاومين،
وتلك الأنهار التي تنساب بسلامٍ اليوم كانت طرقًا للجنود، وجسورًا للأمل.
حتى حقول الأرزّ، بسطوحها اللامعة كالمرايا، تُخفي في أعماقها رماد المعارك القديمة.
لقد علّمت الجغرافياُ الإنسانَ هنا أن الصمود ليس حجرًا، بل ماء؛
أن الانتصار لا يُقاس بالسلاح، بل بقدرة الروح على أن تنبت من جديد بعد الفيضان.
هكذا، حين نقرأ تاريخ فيتنام، لا نقرأ سيرة حربٍ فحسب، بل سيرة حياةٍ وُلدت من رحم الطين والمطر.
فالأرض التي شبعت بالماء، شبعت أيضًا بالدم،
لكنها لم تفقد يومًا إيمانها بأنّ الضوء يعود دائمًا إلى النهر،
وأنّ الصبر — مهما طال — يُزهر أرزًا وحرية.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تُنير الآلة طريق القلب — التأمل الروحي والفلسفي في عصر ا ...
- نحو إنسان جديد في زمن الذكاء الاصطناعي — التوازن بين العقل و ...
- المعرفة والوعي بين الإنسان والآلة — حدود الفكر وحدود الروح
- الذكاء الاصطناعي ومحنة الضمير — قراءة في أخلاقيات العقل الصن ...
- الإنسان والآلة — من التنافر إلى التكامل دراسة في البدايات ال ...
- -شظايا الحب في عيون القمر-
- الانتكاسة
- -أنثى تتوضأ بالضوء-
- إلى التي كانت نُورَ النصفِ قرن
- -من رحم الشدائد تولد العظمة-
- حينَ تاهَ العُشّاقُ بينَ الزمانِ والحنين
- تاريخ النقد الأدبي والفلسفي في الثقافات العربية والغربية
- أدب الأطفال كوسيلة للتكيف مع التحديات المستقبلية
- -التجريب والاستكشاف: مفتاح الإبداع لدى الأطفال-
- تأثير الجمال على السلوك الأخلاقي بين الأديان والفلسفة
- الشهداء يصرخون ....... إننا قادمون
- -تأملات فلسفية في تجربة العشق والإنسانية-
- المرأة: الكينونة التي تلد المعنى — قراءة فلسفية وجمالية عبر ...
- -حين تبدأ العقارب من جديد: ولادة تحت الأنقاض-.
- -أجزاء من الدجاج تهدد صحتك-


المزيد.....




- مسؤولون: 6 قتلى في حريق بمستودع للعطور في تركيا والسلطات تحق ...
- كتائب القسام تنتشل جثة ضابط إسرائيلي، وتقارير عن أن الولايات ...
- الجيش السوداني يُسقط مسيّرة للدعم السريع فوق الأُبيّض ومخاوف ...
- تونس: لماذا بدأ معارضون معتقلون إضرابا عن الطعام؟
- مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنا ...
- الشرع إلى البيت الأبيض وسوريا تعود لقلب العالم
- روسيا: بوتين وضع النقاط على الحروف والعمل جار لتنفيذ تجربة ن ...
- لافروف: نعمل على تنفيذ أمر بوتين بالاستعداد لتجربة نووية
- مصادر: رئيس المخابرات المصرية بحث مع الفرنسيين تطورات لبنان ...
- بطلة مسلسل -كارثة طبيعية- الحقيقية .. تعرف على أم الـ7 توائم ...


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - محمد بسام العمري - بلاد الماء والنور نزهة فكرية في جغرافية فيتنام