|
|
المثقّف العضوي وهموم الناس
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 16:50
المحور:
قضايا ثقافية
د. شيرزاد النجار مفكّر كردي عراقي ومستشار رئيس وزراء إقليم كردستان العراق للتعليم العالي سابقاً.
تمهيد: المثقّف العضوي المثقّفون هم مجموعة من الفاعلين الاجتماعيين الذين يشملهم مصطلح (العضوي) في تعريف غرامشي لـ المثقف العضوي The Organic Intellectual. لا تشمل فئة “المثقّفين” عند غرامشي العلماء والفنّانين أو بمصطلحاته الخاصة “منظّمي الثقافة” فحسب، بل تشمل أيضاً الموظفين الذين يمارسون قدرات “تقنيّة” أو “توجيهيّة” في المجتمع. ومن بين هؤلاء الموظفين نجد الإداريين والبيروقراطيين. علاوة على ذلك، يُصنّف غرامشي هؤلاء المثقفين إلى بُعدين: البُعد الأفقي والبُعد العمودي. على البُعد العمودي نجد “المتخصّصين” و”الخبراء”، أولئك الذين ينظّمون الصناعة بشكل خاص للرأسماليين (بما في ذلك مديرو الصناعة ورؤساء العمال). وفي هذا البُعد نجد أيضاً “الموجّهين” أي منظّمي المجتمع بشكل عام. وعلى البُعد الأفقي، يصنّف غرامشي المثقّفين إما كمثقّفين تقليديّين أو كمثقّفين عضويّين. المثقّفون التقليديّون هم أولئك المثقّفون المرتبطون بالتقاليد الذين لا يرتبطون بشكل مباشر بالبنية الاقتصاديّة لمجتمعهم. وفي الواقع، يتصوّرون أنفسهم على أنهم ليس لهم أساس في أيّ طبقة اجتماعيّة، ولا يلتزمون بأيّ خطاب طبقي معيّن أو خطاب سياسي. من ناحية أخرى، يرتبط المثقّفون العضويّون ارتباطاً مباشراً بالبنية الاقتصاديّة لمجتمعهم بسبب حقيقة أن “كل مجموعة اجتماعيّة تنشأ في تحقيق مهمّة أساسيّة للإنتاج الاقتصادي” تخلق مثقّفاً عضويّاً خاصّاً بها. وهكذا، فإنّ المثقّف العضوي “يمنح طبقته التجانس والوعي بوظيفتها، في المجال الاقتصادي وعلى المستويين الاجتماعي والسياسي”. ومع ذلك، في صراع الطبقة الطامحة إلى الهيمنة، يعمل المثقّفون العضويون الذين خلقتهم تلك الطبقة على مستوى السعي إلى الإجماع المباشر، وبالتالي لا يشغلون أي موقع في الهياكل السياسيّة القسريّة للعمل على أساس قسري. ومن ثم، يبدو أنه في النضال من أجل الهيمنة الاجتماعيّة، يجب على هؤلاء المثقّفين العضويين أن يجادلوا الجماهير وأن ينخرطوا في “حرب مواقع” حاسمة لتعزيز الوضع المهيمن للطبقة التي يتقاسمون مصالحها. وفقاً لـ غرامشي، فإن المثقّفين العضويين هم الأكثر أهميّة لأنهم هم الذين يطوّرون وينشرون الأيديولوجيّة العضويّة. تكمن الأهميّة السياسيّة لهؤلاء المثقّفين أيضاً في حقيقة أن المثقّفين العضويين المنتمين إلى طبقة تقدميّة تاريخيّاً وواقعيّاً سيكونون قادرين على فرض “هيمنتهم” على مثقّفي الطبقات الأخرى، وبالتالي سيكونون قادرين على خلق “هيمنتهم” على مثقّفي الطبقات الأخرى. “نظام التضامن” يتم الحفاظ عليه طالما ظلت الطبقة التقدميّة. وأخيراً، يلعب المثقّفون العضويون دوراً فعّالاً للغاية في صراع الطبقة من أجل الهيمنة. “إنّ إحدى أهم خصائص أي مجموعة تتطوّر نحو الهيمنة هي كفاحها لاستيعاب المثقّفين التقليديين وقهرهم أيديولوجيّاً”. إن المثقّفين التقليديين يمكن أن يكونوا عوامل داعمة في السعي للحصول على موافقة “تلقائيّة” على النظام الاجتماعي. وهكذا، يبدو أيضاً أنّ النضال من أجل استيعاب المثقفين التقليديين هو شرط مهم آخر لنضال الطبقة الشامل من أجل الهيمنة. وعلى وجه التحديد، فإنّ هذا النضال من أجل استيعاب المثقّفين التقليديين سيكون جزءاً من “حرب المواقع”. وفي هذا الإطار فإن توضيح وتفسير العلاقة بين البنية الاقتصاديّة التحتيّة والبنية الفوقيّة، قدم غرامشي مصطلح الكتلة التاريخيّة، والذي يشير إلى التناسق بين البنية الاجتماعيّة (الطبقات الاجتماعية) والبنية الفوقيّة (الأيديولوجيّة والسياسة)، وبالتالي فإنهما منصهرتان انصهاراً عضويّاً، وإن المثقّفين العضويين هم الذين يتكفّلون بإدامة الترابط العضوي بين البنيتَين. إحدى المشكلات التاريخيّة الكبرى التي طرحها غرامشي، والتي لها أهميّة عمليّة كبيرة للبروليتاريا في البلدان الرأسماليّة المتقدمة هي حقيقة أنه “على الرغم من أنّ كل مجموعة اجتماعيّة تعمل على تطوير مثقّفيها العضويين، إلّا أنّ البروليتاريا الصناعيّة اعتمدت في الغالب على المثقّفين التقليديين “المستوعبين” للقيادة”. بالطبع، اقترح غرامشي حلاً لهذه المشكلة. كتب غرامشي في “دفاتر السجن” أنّ الحل هو تزويد العمّال، مباشرة في المتاجر، بالتعليم الفنّي والصناعي بالإضافة إلى التعليم في العلوم الإنسانيّة بحيث من العمل الفنّي يصل إلى العلوم التقنيّة والآراء الإنسانيّة التاريخيّة. ومن الواضح أنه عندها فقط يمكن للطبقة العاملة أن تطوّر وعياً أعلى بنفسها وبالطبقات الاجتماعيّة الأخرى. المفكّر شعبان حاول أن يجد مكانه في هذه التصنيفات حيث مَرّ على أفكار غرامشي وحدّد بأن المثقف العضوي يتماهى مع الطبقة العاملة ويصبح عقلها المفكّر وقلبها النابض، ولكن في نفس الوقت دور المثقّف العضوي تحوّل عمليّاً إلى نوع من الاستلاب للأغلبيّة وشكل من أشكال البيروقراطيّة ونمط واضح من الاستبداد في إطار نظام توتاليتاري. مع ذلك كان غرامشي رائداً في أفكاره عندما دعا إلى وحدة المثقّفين في كل مجتمع من مجتمعات العالم وأن العضويين من ضمن هؤلاء المثقّفين عليهم مسؤوليّة الكاملة في تحقيق أهداف المجتمع، وهؤلاء هم النخبة أو الصفوة Elite. والمفكّر شعبان هو واحد من هذه الصفوة يهدف إلى تغيير المجتمع نحو مجتمع حرّ إنساني ملتزم بحقوق الإنسان والديمقراطيّة، ولذلك هو مثقّف عضوي في تصنيف غرامشي. الوعي الأولي أوّل تساؤل مهمّ يتبادر إلى الذّهن هو: من أين بدأ المفكّر شعبان وعيه الأوليّ وانفتاحه للحياة؟ يجيب بنفسه على التساؤل ويقول: “بدأ الوعي الأوّل ينفتح في أجواء العائلة ومحيطها، وكانت هذه الأجواء شيوعيّة ويساريّة وثقافيّة وأدبيّة.. ولم يكن لنا من مصدر معرفي سوى الكتاب، الذي كان رفيقنا وجليسنا وصديقنا وزميلنا ومعلّمنا. لقد عشت في بيت، وقلْ بيوت من الكتب والمجلات والصحف، وكل ما حولي كان له علاقة بالكتاب موضوعاته ومحتواه”. هذه البيئة دفعته مبكّراً للعمل السياسي الذي كان، بحكم صغر سنّه، يجهل دروبه الوعرة وبناءه الفكري المعقّد، المتمثل بالفلسفة الماركسيّة، لذا نراه يقول: “لم يكن أحد منّا قد قرأ حينها الماركسيّة لكي يقول إنّه اهتدى إليها، كان إحساساً سليقيّاً وجدانيّاً بالظلم من جهة، وبالرغبة في تحقيق العدالة والمساواة والرفاه والتطلّع إلى العصرنة والحداثة من جهة أخرى، هو ما دفعنا للانخراط في العمل السياسي الماركسي”. وهكذا وجد عبد الحسين شعبان نفسه وهو ينخرط في العمل الجماهيري ويشارك في المظاهرات ويلقي أشعاراً وهتافات ثوريّة معبّراً فيها عن آلام الشعب ومعاناته ومطالبه بـ”إسقاط النظام”، وهكذا تكّونت له هُويّة خاصّة هي الهُويّة “الماركسيّة”. ولكن عدم التعمّق في الماركسيّة كان من النواقص والثغرات التي اتّصفت بها “الشيوعيّة العراقيّة”، فقد كانت قراءتها أقرب إلى المحفوظات المدرسيّة التي كان التلاميذ يحفظونها عن ظهر قلب. وهؤلاء هم، كما يؤكد المفكّر الثوري الفرنسي ريجيس دوبريه، “العاطفيّون الداخلون في الشيوعيّة دون أدنى معرفة بالماركسيّة”. ولذلك طرأت تشويهات على الماركسيّة، سواء على الصعيد الفكري أو على الصعيد التطبيقي. وهذا ما حدا بالمفكّر شعبان إلى أن يوجّه انتقاداته إلى “حالة الماركسيّة في العراق”، وهنا يقول: “أعتقد أنني أمارس دوري ضمن منهج نقدي، وهو ليس بعيداً عن الماركسيّة، بل في صلبها. وقد اعتبر ماركس أن المثقف ناقد اجتماعي، وبالتالي فإنني أحلّل الظواهر في ضوء المنهج الجدلي، وأنقدها استناداً إلى الواقع”، واعتبر النقد واجباً على المفكّرين الماركسيين حيث يقول: “وإنْ لم تتمكن قوّة صلبة فكريّاً وسياسيّاً من ممارسة النقد، وبصوت عال، فإن جيلاً جديداً من الماركسيّين سيدفع الثمن أيضاً”. إذن، من دون النقد لا يمكن مواصلة المسيرة وتصحيحها وتعديلها، وعليه يرى الدكتور شعبان نفسه ضمن الماركسيّة النقديّة أو الوضعيّة النقديّة الماركسيّة، وهنا نلاحظ نوعاً من التقارب في الأفكار مع الأفكار العامة لمدرسة فرانكفورت التي ركّزت على نقد المجتمع البرجوازي انطلاقاً من الفكر الماركسي والنظريّة النقديّة لتجديد الطاقات الراديكاليّة للماركسيّة، وهذا الشيء يتم فقط، حسبما يؤكد الدكتور شعبان، عبر القراءة الحرّة والمتحرّرة لماركس من ماركسيّته، وهذا يعني استخدام الماركسيّة كمزيج للنقد والنقد الضدّي. وهذا الموقف النقدي يمثّل اللّذة الفكريّة لديه ولكن، وهنا القول لـ روجيه دوبريه: “.. تحتاج اللّذات الفكريّة إلى دفعات مسبقة.. كمْ يتطلب أدنى تفكير من شقاء؟ كم تتطلّب فكرة واحدة من ميتات حقيقيّة؟ كم يتطلّب كتاب فلسفة من دموع؟ لا وجود لفكرة سعيدة (هناك على الأكثر، في نهاية المطاف، اغتباطات بفكرة)”. لقد اختار الدكتور شعبان هذا الدرب الصعب، ولكنه مغتبط بطرح فكرة يؤمن بها وتكون أداة “لكشف الواقع بكل عيوبه ومثالبه بهدف تقويمه وإعادة بنائه وفق منظومة فكريّة سداها ولحمتها تحقيق المساواة وقيَم الجمال والحق”. في هذا الإطار، فإن المفكّر شعبان هو المثقّف العضوي النقدي الذي يبني مواقفه وآراءه بحذر ويحتاط في أمر بناء أحكام نهائيّة أو في التعاطي مع الآراء الجاهزة ولا يوجد لديه ما هو بجواب وردّ جاهز، بل بالأحرى لديه مجموعة من أسئلة وتساؤلات يطرحها على نفسه باحثاً عن أجوبة مقنعة، وبهذا فهو مثقّف قلق، بل مغرق في قلقه المعرفي بالإضافة إلى كونه مثقّفاً عضوياً نقدياً. الديمقراطية وكمثقّف عضوي نقدي وقلق معرفيّاً، يبحث الدكتور شعبان عن مواضيع قلقة ومُقلقة، ومنها موضوعة “الديمقراطيّة” التي أخذت من تفكيره الحيّز الكبير وأقلقته كثيراً إلى الحدّ الذي أصدر كتاباً مهماً حول “جذور التيار الديمقراطي في العراق (2007)”، يتناول فيه القضيّة الديمقراطيّة في العراق، ولماذا تبدّد التيار الديمقراطي فيه بعد أن كانت له غصون كثيرة وجذور قويّة وتأثيرات غير قليلة؟ هذا القلق على مصير التوجه نحو الديمقراطيّة في العراق نابع من فهمه وإدراكه أن لا سبيل إلى البناء والتقدّم في العراق سوى محاولة بناء نظام ديمقراطي يحقّق المساواة والعدالة، حيث ناضل الدكتور شعبان في سبيلهما عقوداً من حياته وتحمّل الكثير من المعاناة لبلورة ونشر آرائه في هذا الميدان الفكري والتطبيقي. وفي إطار الدولة يتحدّث شعبان عن الديمقراطيّة، بعدما رأى ما آلت إليه الدولة في النظام الاشتراكي من التضخّم ومن ثمَّ الانهيار، حيث يكتب ما يأتي: “أعتقد أنّ الدولة هي أعظم منجز بشري، إذْ إنّ وظيفتها الأساسيّة هي حماية أرواح وممتلكات المواطنين (الناس، البشر وما يملكون) وثانياً، الحفاظ على النظام والأمن العام، إذْ إنّ غيابها يؤدي إلى الفوضى والاحتراب، كما أنّ تقديسها يؤدي إلى الطغيان”. ويضيف: “وقد تحوّلت الدولة، في ظلِّ التطبيقات الماركسيّة، إلى أوامريّة بيروقراطيّة استبداديّة وأداة القمع، ليس فقط للخصم الطبقي، كما قيل، وإنّما لعموم الشعب..”، ولكن في مواجهة ظاهرة طغيان الدولة ليس أمامنا سوى فكرة الديمقراطيّة التي تتميّز بكونها نقيضاً للطغيان وتقف أمام ظاهرة تضخّم مؤسسات الدولة. وهنا يكتب الدكتور شعبان ما يأتي: “ولعّل النظام الديمقراطي، كميكانيزم حديث ومعمول به في تداول السلطة بصورة سلميّة قائمة على إقرار التعدّديّة والتنوّع ومبادئ المساواة والمواطنة الكاملة وفصل السلطات والقضاء المستقل، يحدّ من تغوّل السلطة وتراثها العنفي عبر التاريخ”. إنَّ مسألة الديمقراطيّة في العراق تمثّل إشكاليّة حسّاسة وخطيرة، حيث إن التمهيد لها في مجتمع يعتبر حاضنة للولاءات العائليّة والجهويّة والعشائريّة والمذهبيّة هي الطاغية والمسيطرة والمهيمنة في عقليّة وإرادة الإنسان (عدا قلّة من المؤمنين بإرادة الإنسان الحرّة وانعتاقه عن كل ما له صلة بالاستعباد والطغيان)، وأدّى إلى نشوء أنظمة استبداديّة شموليّة سلبت إرادة الإنسان العراقي ومازالت. العديد من الباحثين يشيرون إلى تجربة العراق في “الانتقال إلى الديمقراطيّة”، ويستندون في هذا الموقف إلى عدد من الانتخابات التي جرت بعد 2003. وهذا يعني أن هناك علاقة بين الديمقراطيّة والانتخابات، فما رأي الدكتور شعبان في هذا الشأن؟ يقول الدكتور شعبان ما يأتي: “الانتخابات أحد مظاهر النظام الديمقراطي، إذْ لا ديمقراطيّة من دون انتخابات وتداول سلمي للسلطة وتعدّديّة ومساواة واحترام الحقوق والحرّيات، فتلك مؤشرات على وجود النظام الديمقراطي، ولكن الانتخابات وحدها فقط لا تجّسد الديمقراطيّة، حتى وإنْ كانت حرّة ونزيهة، خصوصاً بغياب أو ضعف حكم القانون، وكذلك شّح الحقوق والحريات السياسيّة”. حقوق الإنسان وعندما ينهمك المفكّر شعبان مع هموم ماركسيّة وما آلت إليها من تشويهات وتحريفات وجمود في “البراكسيس”، فإنه لا ينسى كذلك الانشغال الفكري والتطبيقي مع موضوعة مرتبطة مع تطور الفكر الإنساني: حقوق الإنسان. ويؤكّد “أن ثقافة حقوق الإنسان لا تزال متدنّية في عالمنا العربي إلى حدود مريعة وخصوصاً في العراق”، وهذا يعني أن هذه الثقافة وعلى المستوى الدولي متقدّمة جداً عن تلك المستويات الموجودة في المجتمعات المتخلفة. إذن “.. أصبحت حقوق الإنسان واقعاً عالميّاً بحيث بلغ مداها وتأثيرها حدّاً يثير دهشة مَنْ صاغوا إطار المشروع الدولي لحقوق الإنسان”، وهذا الواقع يفسّر مكانة حقوق الإنسان في العالم المعاصر. هنا يبرز تساؤل مهم حول دور الدكتور شعبان في نشر ثقافة حقوق الإنسان وتعميق الممارسات حول ترسيخها؟ يقول المفكّر شعبان بهذا الصدد إنه ومنذ عقود يسعى لتكييف مواقفه في إطار حقوقي وقانوني، ولذلك ساهم في نشاط “المنظمة العربيّة لحقوق الإنسان” التي تأسّست في عام 1983 واستمرّ في هذه الجهود بتأسيس “الشبكة العراقيّة لثقافة حقوق الإنسان والتنمية” في أربيل ولندن وبعض بلدان أوروبا عام 2000، وعقدت الشبكة مؤتمرها الأول في نقابة المحامين ببغداد العام 2004 وانتُخب كأوّل رئيس للشبكة، ولم يقبل مطلقاً بإعادة انتخابه للمرّة الثانية إيماناً منه بوجوب تطبيق قاعدة التداول السلمي في رئاسة الشبكة. في كل هذه النشاطات، كان الدكتور شعبان يؤكد مسألة “نشر ثقافة حقوق الإنسان بين النخب السياسيّة الحاكمة وغير الحاكمة، وخصوصاً من خلال تأكيد سيادة القانون وتطبيقه على الجميع دونما استثناء أو تمييز لأي سبب كان”. مفاهيم الدين والعقل والواقع المفكّر د.عبد الحسين شعبان أصدر كتاباً مهماً تحت عنوان “دين العقل وفهم الواقع” عن مركز دراسات الوحدة العربيّة في بيروت عام 2021، وهذا الكتاب من الكتب ذات قيمة فلسفيّة إجتماعيّة – سياسيّة ومن ضمن حقل “علم الإجتماع السياسي” حسب تصنيف بروفيسور جورج جبور. في هذا الكتاب يحاول د.شعبان أن يقدّم صورة جديدة للدِّين كظاهرة إنسانيّة، اجتماعيّة – سياسيّة، حيث بدأ كتابه بحديث “مقلق” عن الدِّين والتديّن والعلم والقانون بالقول: “مازالت الحقبة المُظلمة تسكن الكثير من عقولنا.. تتحكّم في سلوكنا وتُهيمن على عاداتنا وتقاليدنا لتفرض الركود والرتابة.. لتجرّنا إلى الماضي بدلاً من التطلع إلى المستقبل.” إذن، الكتاب يبدأ بإشارة محدّدة: نحن نعيش في الحقبة المُظلمة، وهذه الحقبة هي عصر من عصور التأريخ بسقفٍ كئيب يعكس أوضاع الإذلال الديني والسياسي والأخلاقي. هذا الوضع يسميه د.شعبان بـ”الوضع الاغترابي” يواجه المجتمع وبالذات الوسط الديني، ويواجه العالم الذي يتعرّض إلى تغييرات هائلة نقف أمامها “مذهولين” لا حيلة لنا تجاهها سوى الخضوع. أمام هذه الصورة القاتمة، فإنّنا بحاجة إلى الانفتاح والاستعداد الفكري لتفهّم واستيعاب وتقبّل ما يجري الآن بعد عقدين ونيّف من القرن الحادي والعشرين. وهذا يعني أنّه علينا أن نفهم “روح العصر” واختيار الطريق الصحيح للتفكير والمتمثل بالعقلانيّة والتحليل. ومن هنا، إذن يتناول د.شعبان ككاتب ناقد ومُنظّر ومُحلِّل في كتابه بالدرس والتحليل مفاهيم الدين والعقل والواقع، أي أنه يبحث عن دين العقل لكي يفهم الواقع، فهل للعقل دين؟ لا يُصنع الدِّين تبعاً لإرادة الإنسان، أو بعمل عقلي محض. فالدِّين في شكله التقليدي ينتج عن ظواهر خارجة عن تلك الإرادة، اللحظات التأريخيّة هي التي تعمل على ظهوره. الدِّين ينطلق من تجربة عميقة فيها معاناة إنسانيّة وجدانيّة وعاطفيّة. إذن، ينطلق من أرضيّة بحث الإنسان عن معنى لوجوده. في تاريخ الفلاسفة الكبار في نهاية العصر الوسيط، اندلعت تجربة اجتاحت أوروبا في وقتها، وهي تجربة النقاش الجدلي بين أصحاب المعتقدات الفلسفيّة. أصحاب المدارس الفلسفيّة المختلفة لم يتركوا أيّ جانب في الحياة دون مناقشة أو جدل وسِجال يتحوّل في أحيان كثيرة إلى صراع حادّ بين المفكّرين، من أصحاب الاجتهادات المختلفة، ومن جرّاء ذلك ظهرت دراسات ومعلومات أثّرت وبِعُمق في حياة المجتمعات وتطورّها. من الممكن الادعاء، بأنّ د.شعبان من خلال كتابه (دين العقل.. وفقه الواقع) يحاول إعادة تلك التجربة ويخوض جدالاً فلسفيّاً - دينيّاً بين الدِّين والعقل، وقد يكون في ذهنه ما طرحه الفيلسوف إمانويل كانت (1724 - 1804) حول الدِّين في حدود العقل. وفي الربط ما بين الدِّين والعقل، فإنه ابتداءً من القرن السابع عشر تحرّر العقل الحديث من مؤثرات خارجيّة، رغماً عن أنّ الدِّين (سواء النصرانية أم الإسلام) أذِنَ للعقل في العمل على كشف أسرار الطبيعة، ولكن دون أن يتعارض ذلك مع العقيدة الدينيّة. فالعقل والعقيدة هما من أشكال المعرفة يتكاملان تدريجيّاً للوصول إلى الوحدة. وطيلة القرون الوسطى (أو الحقبة المُظلمة كما يسمّيها د.شعبان) كانت العقيدة تتقدم على العقل، ولأجل تغيير هذا الترتيب، أعلن ديكارت (1596 - 1650) الخطوة الأولى عندما أكد أنه من الممكن تفسير كل ما يحدث تفسيراً ميكانيكيّاً، وهذا يعني أن العقل بدأ يفسّر كل ما يحدث واقعاً تفسيراً محضاً. وطرح فيورباخ (1804-1872) فكرته الثلاثيّة: الله، العقل، والإنسان. وهكذا رجع العقل إلى وجدان الإنسان، وقد لاحظ ماكس شيلر (1874 - 1928) وجود قانون عام يؤمن كل عقل بموجبه بإله. وكما كتب باكونين (1814 - 1876) مرّة حول الدِّين بأنه “يجب أن لا تعمل سياسيّاً فقط، بل دينيّاً في السياسة، دينيّاً بمعنى الحريّة”. وبالعودة إلى د.شعبان: في كتابه حول “الدِّين والواقع” يقدّم مشروعاً فكريّاً مفتوحاً لأنه يبقى مشروعاً غير مكتمل ويحتاج إلى استمراريّة متفاعلة مع الزمان والمكان لإنجازه، وإنّ عدم اكتماله لا يعني أنّه ناقص كما قد يتصوّر البعض. د.شعبان لا يُشير إلى عدم الاكتمال لمشروعه، بل عمل على الدفاع عنه لفتح أبواب حوارات وسجالات جديدة بشأنه بهدف إغنائه. إنّ عدم الاكتمال ليس عيباً، وإنّما يعني أنّ مشروعه مازال محافظاً على حيويّته وطاقته، ولم يتوقف أو يستنفذ، لذا يكتب د.شعبان “وعلى الرغم من أهميّة المشاريع الفرديّة في نقد الفكر الديني، فإنّني أعتقد أنّ مشروعاً كبيراً كهذا يحتاج إلى جهد جماعي ومثابرة حثيثة وتراكم طويل الأمد وشجاعة استثنائيّة لتحقيقه، مثلما يتطلّب فتح قنوات متعدّدة ومتنوّعة تصبّ فيه وتصل إلى جوهره.” وفي هذا المشروع يتكلم د.شعبان عن دين العقل وهدفه هو إصلاح المجال الديني بإضفاء صفة العقل والعقلانيّة عليه، وخصوصاً لا يوجد فهْم واحد موحّد للدِّين، فإننا إذن بحاجة للعقلانيّة لكي يصبح الدِّين دين المعرفة والعقل لا دين الجهل والخرافة. ويعتبر د.شعبان هذا التحديد ردّاً على أي فهْم خاطئ للدِّين. إذن، ما يقدمه د.شعبان في كتابه “دين العقل وفقه الواقع” هو مشروع نقدي جديد متنوع باختصاصات مختلفة، ويحاول فيه أن يجد مخرجاً للأزمة وتفكيكها. هذه الأزمة المواجهة للأمّة هي أزمة عميقة ومرّكبة وطويلة في ظلِّ قناعات لا تتزعزع رغماً من كل التغييرات التي طرأت على العالم. هذا المشروع التنويري يُطرح في وقت تمّ فيه إفراغ الدِّين من إبداعه الدلالي وواقعيّته السياسيّة والإجتماعيّة. وقد اتخذ د.شعبان من إحكام العقل انسجاماً مع فقه الواقع عبر الوعي بالتأريخ كمدخل عام لمشروعه، الذي فيه يُفَرِّق د.شعبان ما بين الدِّين والتديّن، فالدِّين هو منظومة قيميّة إنسانيّة، بينما التديُّن هو عبارة عن ممارسات وشعائر وعادات. وفي مشروعه يؤكد د.شعبان العدل الذي سيكون ضامناً للدفاع عن الوطن والإنسان، حيث إن هذا العدل يمثّل محتوى المواطنة وجوهرها في الدولة الدستوريّة والقانونيّة الحديثة التي هي دولة المواطنة والحق. ولكن يظهر أنه لحدِّ اليوم لم يقف أحد ناقداً وفاحصاً ومناقشاً، وذلك لأنّ العقل، كما يقول هابرماس في مشروعه الذي لم يكتمل أيضاً “له مَعين لا ينضب لا من الطاقة ولا من الخيال ولا من الطموح، ولأنّ حركة العلم التراكميّة لا تتوقف، وهكذا حركة الزمن لا تتوقف كذلك، هذه هي العناصر الأساسيّة المكونة لبنية الحداثة، ومادامت هذه العناصر لا تكتمل فإنّ الحداثة لا تكتمل كذلك، فالحداثة يمكن أن تنتكس لكنها لا تكتمل”. إن مشروع د.شعبان يمكن تصنيفه كمشروع فكري تنويري ضمن حركة الحداثة التي هي مشروع لم يُنجز بَعدُ، حسب رؤية هابرماس. في هذا المشروع التنويري استخدم د.شعبان منهجاً نقديّاً (يماثل منهج ديكارت) هدفه هو بيان القواعد والإرشادات التي ينبغي أن نتّبعها، وكيفيّة استخدام مَلكاتنا العقليّة على الوجه الأشمل، ويؤسّس على دعائم الشكّ الذي سيصل إلى اليقين. المنهج النقدي العقلاني قاد إلى اكتشافات علميّة، ولأجل تحرير السياسة من الدِّين وتخليص المجتمع من الخرافات، ينبغي اعتماد العقلانيّة، ونقد كل القضايا بما فيها القضيّة الدينيّة. لكن هذا الشرط يحتاج إلى ترسيخ الحريّة الفكريّة. إذن، المشروع التنويري لـ د.شعبان هو دعوة لتجديد الفكر الديني، وتقديم تفسير جديد للنصوص الدينيّة المقدّسة وفق أساس عقلاني. وفي هذا المنهج العقلاني يهدف د.شعبان إلى إقامة مجتمع إنساني وحرّ. من المفيد أن نجري مقارنة هذه الأفكار للمفكّر شعبان مع ما طرحه ماكس فيبر (1860 -1920) قبل أكثر من قرن أفكار حول الدِّين في كتابه الشهير (الاقتصاد والمجتمع). ويترتب على ذلك أن التفسير الاجتماعي للظواهر الدينيّة والمعتقدات الدينيّة كأيّة ظاهرة اجتماعيّة، يأتي من الطريقة التفسيريّة المستندة على الميثولوجي، حيث إن سبب معتقدات الفرد يتطابق مع المعنى الذي تحمله هذه المعتقدات بالنسبة له أو لها. وفقاً لـ فيبر، فإن فئة معيّنة من الناس تلتزم بمعتقد معيّن هو إظهار أن هذه المعتقدات منطقيّة بالنسبة لهؤلاء الأشخاص. لذا تظلّ كتابات فيبر حول علم اجتماع الدِّين ذات صلة بسبب إطارها المنهجي والنظري. على الرغم من أنّ فيبر يطبّق نظريّة الفهْم لتحليل المعتقدات الدينيّة بطريقة واعية ومنهجيّة: التمسّك بأي معتقد، ديني أو علمي وكذلك قانوني، يفسّر من خلال حقيقة أن الموضوع لديه أسباب قويّة للاعتقاد به. لم يكن فيبر وحده من يتبنّى هذا الإطار النظري، المفكّر والمؤرخ الفرنسي الثوري دي توكفيل (1805 - 1859) قبله يشترك في نفس المبادئ النظريّة والمنهجيّة. ويوضح أن الاختلافات العيانيّة التي لوحظت بين الولايات المتحدة وفرنسا في محتوى وتوزيع المعتقدات الدينيّة “مفهومة”. يقول فيبر: إنّ الدِّين يشبه حالة السِّحر، الذي تجنّب دائماً النقاش غير المجدي إلى حدٍّ ما -والذي يزخر به الأدب الأنثروبولوجي الكلاسيكي- حول العلاقات بين الدِّين والسِّحر: هل أحدهما سابق على الآخر؟ إذا كان كذلك؛ أيّهما؟ وهل يكمّل أحدهما الآخر أم يتناقض معه؟ لأن الدِّين، بالنسبة إلى فيبر، يحتوي حتماً على جرعات أكبر أو أقل من السِّحر. علاوة على ذلك، يسعى كلّ من الدِّين والسِّحر إلى أهداف محدّدة جيّداً ويحاولان تحقيقها بالوسائل القائمة على النظريات التي يجدها المؤمن مقبولة. بهذا الصدد يكتب د. شعبان أن هناك “ثمّة فوارق كبيرة بين الدِّين، الذي هو منظومة قيميّة إنسانيّة، والتديُّن الذي هو ممارسات وشعائر وعادات بعضها أقرب إلى ميثولوجيات وخرافات يشترك فيها الكثير من الأديان”. ويضيف: “وإذا كان الأمر قد اقتصر في كثير من الأحيان على تفسير العقائد الدينيّة، التي يتعلّق بعضها بالظواهر الغيبيّة وتعطّش البشر الروحي للشعور بالطمأنينة الداخليّة، ولاسيّما في ظلِّ عجز الإنسان عن تفسير وحلّ الكثير من الأسئلة التي تواجهه..”. إذن لجوء الإنسان المتديِّن للغيبيّة (وفي السِّحر الكثير من المفارقات الغيبيّة) هو لكي يطمئن على وضعه ويرتاح. في السطور الأولى من الفصل الخاص بعلم اجتماع الدِّين في الاقتصاد والمجتمع، يستشهد فيبر بالتثنية: نحن نتبع تعاليم الدِّين “حتى إذا كان الأمر جيّداً معك.. ولكي تطيل أيامك على الأرض”. وفي الفصل الافتتاحي للاقتصاد والمجتمع حول الدِّين، يشير فيبر إلى أن المعتقدات التي تبدو غريبة بالنسبة لنا والتي نسمّيها “غير عقلانيّة” تبدو كذلك بسبب ما أطلق عليه السايكولوجي السويسري بياجيه (1896 - 1980) “مركزيّة المجتمع”. في رأي فيبر تظهر عقلانيّة الفكر الديني أولّاً وقبل كل شيء في حقيقة أنّ المؤمن “مزيّف”. ويختفي الإله الذي لا يؤدي الخدمات المتوقعة منه. إنّ الفلاح متردّد في قبول التوحيد، لأن وحدة الإلهام التي نتوقعها من إرادة إلهيّة فريدة لا تكاد تتوافق مع تقلبات الطبيعة التي يواجهها. تبدو إحدى النظريات، التي وفقاً لها تعد الظواهر هي في الواقع إرادة في منافسة مع بعضها البعض، أكثر اتّساقاً مع ما يراه كل يوم. هذا هو السبب في أنّ كلمة “وثني” تأتي من تبادل الإهانة: أولئك الذين ظهروا متمرّدين تجاه التوحيد كان يُطلق عليهم اسم الوثنيّة. أصبح القدّيسون جزءاً أساسيّاً من الكاثوليكيّة لأنهم سمحوا للنظريّة الدينيّة بالتوافق مع الواقع في نظر الفلاحين. يؤكد فيبر أن تفسير النبوءات يبدو أنه يتكيّف باستمرار مع الواقع. إذن، تترجم عقلانيّة الفكر الديني إلى حقيقة أنّ المؤمن يتبيّن أنه “تَحقَّق”. منذ كارل بوبر، كان للتحقّق من سمعة سيّئة في فلسفة العلم: لا يمكننا التحقّق من صحّة نظريّة، يمكننا فقط “تزويرها”. لكن هذا ينطبق فقط على النظريات التي تتّخذ شكل افتراضات عالميّة. وبصدد العلم يستشهد د.شعبان بالفيلسوف برتراند رسل (1872 - 1970) الذي يقول إنّ العلم لا يستهدف إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبديّة، بل هدفه الاقتراب من الحقيقة، وهذه الأخيرة ليست نهائيّة. وعند المحاولة في كشف العلاقة بين العِلم والدِّين، فإنّ المعرفة بهما تختلف، حيث إن العلم يتحدّد بمقدّمات وتجارب ونتائج، بينما الإيمان مرتبط بالقلب وبالعلاقة بأسماء أو الغيب أو الماوراء. لماذا المناظرات؟ في كتابه “دين العقل وفقه الواقع”، يلجأ المفكّر شعبان إلى مناظرات ومناقشات لاكتشاف حقيقة العلاقة بين الدِّين والعِلم والواقع، وذلك من خلال علاقته بالفقيه أحمد الحسني البغدادي، وهكذا تبدأ المناظرة بين العلمانيّة والدينيّة، ولكنّها مناظرة هادئة أساسها الإقدام وعدم التخوين والبحث عن المشتركات. ومن هنا يؤكد د.شعبان على “علاقة عضويّة سوسيوثقافيّة بين الدِّين والتديُّن أساسها جهل الإنسان بذاته وبالآخر، إضافة إلى جهله بالطبيعة وغموض المستقبل”. هذه القضايا تشغل بال الإنسان وتزيد من قلقه، والمسألة هذه غير محصورة بالفرد أو الأفراد، بل إنها تشمل كذلك الجماعات والمجتمعات خالقة قضايا معقدة منها قضيّة الهُويّة إلى جانب قضايا مهمّة مثل السلام والعدالة والمساواة. هذا الوضع يفسح المجال للصراع والجدل الذي سيتحوّل نحو صراع كوني، حيث تراكمت عبر السنين أفكار ومعتقدات وقناعات اتّخذت بعضها صفة “العلويّة المقدسة”. ولذلك يدعو د.شعبان إلى تعاون ومشاركة ونقد متبادل بين مدنيين حداثيين ودينيين مؤمنين، حيث يجب على الجميع الإيمان بحقّ الاختلاف والحقّ في النقد واحترام الخصوصيات. وفي كل هذا وفي إطار المناظرات يحاول د.شعبان أن يلجأ إلى النقد كوسيلة من وسائل التواصل. ما محتوى هذه المناظرات؟ يُركّز د. شعبان على ثلاث قضايا مهمّة هي: العلاقة المركبّة بين الديني والعلماني. العلاقة بين الدِّين والدولة، وكيف يمكن حلّ التناقض، وهل يصلح الدِّين لكل زمان ومكان، وهل الإسلام فعلاً دين ودولة؟ وما ملامح الدولة الدينيّة؟ وكيف نفرّقها عن الدولة المدنيّة؟ وما موقعها من الحداثة؟ العلاقة بين الاجتهاد ولغة الفكر أو الاجتهاد وفكر اللغة. هذه القضايا الجوهريّة في مناظرات د.شعبان أثارت جدلاً واسعاً، وخصوصاً عند تناوله مسألة الدِّين - العقل، مشيراً إلى حوارات مهمّة لفلاسفة كبار ومنهم هيغل (1770 - 1831) الذي يفسّر الدِّين بوصفه الرغبة في السموّ الإنساني، نحو الأعلى والأكمل، ومن خلالها يتجسّد الإله. وعلى العكس قام فيورباخ بنقد ذلك، ومنه استمدَّ ماركس رؤيته في شأن الدِّين. لقد استند د.شعبان على حقائق مهمّة في مشروعه التنويري، والتي (الحقائق) تدور حول سلبيات رجال الدِّين وخشيتهم في محاولة توعية الناس واستبدال المفاهيم القديمة البالية بمفاهيم وسلوكيات واقعيّة تنسجم مع التحوّلات الكبرى في العالم والقائمة على الحقّ والعطاء والحريّة، وهذا يخلق بيئة مضادّة وكارهة للأفكار التنويريّة. لذلك يكتب “من أجل أن يكون عنصر تحرّر وتغيير لا عنصر سكون وخضوع، وعليه لا يمكن قراءة النص الديني والقرآني تحديداً قراءة ماضويّة محدّدة وتأويلاً واحداً، ففي ذلك إساءة إلى حريّة الفكر والتفكير، وهو ما فعلناه مع الفارابي وابن سينا وابن رشد الذين قرأناهم بطريقة دوغمائيّة، وحتى القراءات المتأخّرة لهؤلاء ولنصوص دينيّة تحاول حبسها في فهْم خاص وضيّق، مثلما تحاول حبس إدراكنا وقراءتنا لها، إلى درجة أن القرآن أصبح للتلاوة والترتيل والإعادة والحفظ، في حين إنه أهم كتاب إسلامي جامع ومفتوح وقابل للتأويل والقراءة المفتوحة، وهو ليس مُلكاً لأحد، لفقيه أو عالِم دين أو شيخ أو قارئ أو مرتّل، بقدر ما هو مُلك الإنسان الذي يستطيع قراءته وفهْم معانيه وتمثل قيمه الإنسانيّة”. في الختام أخلص إلى القول إنّ هذه المناظرات والنقاشات، فضلاً عن إنتاج شعبان الفكري تؤكّد أنه مثقّف عضوي نقدي بامتياز، استخدم النقد كوسيلة من وسائل التواصل والتجاذب، وكما يؤكد، يُعتبر أفضل أداة تنمويّة وتطويريّة اكتشفها الإنسان، وهو نقد يقوم على التمايز والخصوصيّة من جهة والقِيَم الإنسانيّة من جهة أخرى.
- مساهمة البروفيسور الدكتور شيرزاد النجار في كتاب جمر الحروف الذي صدر عن دار سعاد الصباح تكريمًا لدكتور عبد الحسين شعبان في يوم الوفاء 2024.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مع المفكّر الأديب العراقي الكبير عبد الحسين شعبان/ النا
...
-
أين مشروع اليسار العربي؟ (الحلقة الأولى)
-
حين توجد إرادة توجد طريقة
-
واحة اسمها شعبان
-
جيل الستينيات: رؤية جديدة
-
البارزاني ثلاث مفارقات وثلاثة دروس... وثمة ذاكرة
-
قطر بين فاعلية القانون الدولي وتفعيله
-
الثقافة مزهرة من بغداد إلى بغداد
-
أرادنا نسخة أفضل من أنفسنا
-
عودة إلى -مزرعة الحيوانات-
-
لا نقول وداعًا إنما نقول اشتياقًا - محمد بن عيسى: للحياة مع
...
-
نموذج المفكر الراقي.. نموذج الفكر النشط
-
داوننغ ستريت ووعد بلفور
-
الإنسان والمفكر
-
صفاء الحافظ وصباح الدرّة: دائرة النسيان ودائرة الضوء
-
المفكّر عبد الحسين شعبان.. نظرة شخصيّة
-
عبد الحسين شعبان لجريدة المستقل: أنا حزين وحزني لا يعادله ثق
...
-
مبادرة -أوجلان- تاريخية... والكرة الآن في ملعب الأتراك
-
الهوّية وأدب المنفى
-
شعبان.. من ثِمارِه تعرفونه
المزيد.....
-
مجلس الأمن يعتمد قرارا أمريكيا بشطب اسم أحمد الشرع من قائمة
...
-
السعودية تسعى لاتفاق دفاعي أمريكي يتجاوز صفقات السلاح ويصمد
...
-
إسرائيل تعيد رسم صورتها في أميركا... حملات رقمية بملايين الد
...
-
غياب الولايات المتحدة وإسرائيل عن كوب 30: اختبار حقيقي لقدرة
...
-
-حوار لا بد منه مع الجزائر-.. وزير الخارجية الفرنسية يؤكد مس
...
-
مسؤولون أمريكيون: كازاخستان بصدد الانضمام إلى الاتفاقيات الإ
...
-
مجلس الأمن يرفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع قبل زيا
...
-
المناخ : الكوكب بانتظار إنجاز التعهدات
-
مقتل 5 أشخاص في إطلاق نار على الحدود الأفغانية الباكستانية و
...
-
آسيا الوسطى: ما هي نوايا واشنطن؟
المزيد.....
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية
/ د. خالد زغريت
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
المزيد.....
|